العقار كرأس مال مُتخيَّل
كان ماركس وإنجلز يعرفان أن سعر الأرض يعتمد على المضاربة. فما الذي يعنيه ذلك بالنسبة إلى الإيجارات؟
يا لها من أيام رائعة يعيشها المستثمرون. ارتفعت أسعار العقارات في العالم كلّه في السنوات الماضية، وفي مقابل الأرباح الإضافية التي يجنيها أصحاب الأملاك، تصبح الكلفة أثقل بالنسبة إلى من يحاولون شراء بيت أو استئجاره. على الرغم من ذلك، فإن الأسعار الحالية مُهدّدة بالانهيار ممّا يؤدّي إلى كارثة جديدة في الاقتصاد العالمي. وبالنسبة إلى فقّاعة الأسعار الحالية، والإيجارات التي لا تتوقف عن الارتفاع، فالملام واحد، وهو «أمْوَلَة» قطاع الإسكان. تسبّبت مضاربات صناديق الاستثمار والشركات في رفع أسعار العقارات بدرجة هائلة، لكن هذا وجه واحد فقط للمسألة، أمّا الوجه الآخر فهو أن المستثمرين لم يحوِّلوا بيوتنا إلى موضوعات للمضاربة، بل العكس، بما أن سعر الأرض يستند أساساً إلى التخمين والمضاربة، فإنه يصبح ميداناً مثالياً لاقتحام رأس المال الاستثماري.
تمتّعت سوق العقارات بازدهار طويل عقب الأزمة العالمية في 2008، وحفّز هذا الازدهار أساساً الانخفاض الكبير في سعر الفائدة، ما أدّى إلى جعل قروض الإسكان أقل كلفة، ومن ثمَّ ارتفع الطلب على العقارات. تدفّقت رؤوس الأموال في الوقت نفسه إلى سوق العقارات لأنّ المستثمرين تمكّنوا من تحقيق مكاسب أعلى بسبب معدّلات الفائدة المنخفضة، وقد نجحوا فعلاً في مسعاهم. المستثمرون الذين وضعوا أموالهم في صناديق الاستثمار العقارية حقّقوا عائداً بلغ 13.5% سنوياً في العقد الماضي، بحسب تقديرات جاي پي مورغان، وهذا عائد أكبر بكثير من عوائد السندات الحكومية في الفترة نفسها (2.3% سنوياً)، أو صناديق التحوّط (6.3%)، أو أسهم الأسواق الناشئة (10.9%).
لكن بدأت الأمور بالتدهور منذ فترة قصيرة. في ألمانيا مثلاً، تلحظ مؤسسة الدراسات الاقتصادية (DIW) أنّ «مزيداً من المناطق وشرائح السوق أصبحت تدخل تحت طائلة المضاربة والمبالغة في التقييم». وفحص بنك يو بي إس السويسري نحو 25 سوقاً للعقارات في العالم، وخلص إلى أن 9 منها تقع في منطقة «خطر الانفجار الفقاعي»، وعلى رأس هذه الأسواق تأتي فرانكفورت وتورونتو. وبحسب البنك التجاري الألماني، فإن «أسعار العقارات تنخفض منذ تموز/ يوليو الماضي، بعد أن تمتعت بازدهار طويل»، والسبب الأهم لهذا الانخفاض المفاجئ «هو على الأرجح معدلات الفائدة المرتفعة»، نظراً لارتفاع معدلات الفائدة على القروض العقارية بأجل 10 سنوات من 1.3% مطلع العام الجاري إلى نحو 4% في اللحظة الحالية.
لهذا أعلنت صحيفة «ذي إيكونوميست» البريطانية عن «عرض كوكبي للرعب العقاري». هذه مشكلة كبيرة للاقتصاد العالمي، أولاً بسبب تحميل العديد من الأسر ديوناً ستصبح خدمتها أغلى مستقبلاً، بسبب ارتفاع أسعار العقارات، وهو ما يهدّد بالإفلاس ويضع حملاً إضافياً على نظام مصرفي عالمي يعتمد أساساً على الرهونات العقارية. وثانياً لأن انخفاض السعر يصحبه نزع للقيمة، فبحسب شركة الاستشارات العقارية البريطانية «سافيلز ريسيرش»، تشتمل الثروة العالمية على نحو 260 تريليون دولار في العقارات السكنية و60 تريليون آخرين في العقارات التجارية، وهذه قيم أعلى بكثير من حجم الثروة الممثلة في الأسهم (110 تريليونات دولار) والسندات (123 تريليون دولار).
لا تضمن العقارات الاستقرار، وتتميّز قيمتها بالحركة المستمرّة ارتفاعاً وهبوطاً، لكن هذا لم يحدث بسبب تورّط المستثمرين الماليين، إذ أن هؤلاء يستغلّون مجالاً مُمهدّاً لنشاطهم بالفعل. يستغل المستثمرون كون أسعار المنازل تعتمد على عوامل مختلفة تماماً عن أسعار السيارات أو غيرها من البضائع في النظام الرأسمالي، لأن قيمة البيت لا تتضمّن فقط تكلفة بنائه وتشغيله، وإنما قبل كل شيء سعر الأرض نفسها، وهذا أمر حاسم. لهذا يخبرنا مكتب الإحصاء الفيدرالي أن أسعار البناء ارتفعت بنسبة لم تزد عن 30% بين 2010 و2020. وفي المقابل، تضاعفت أسعار الأراضي، بل زادت بمقدار ضعفين في برلين في الفترة نفسها.
كيف يتحدّد إذن سعر السوق بالنسبة إلى سلعة لم يتكلف إنتاجها شيئاً، ولم تُنتج من الأصل، بل هي موجودة فقط؟ يقدّم كارل ماركس الإجابة: ما يُدفع مقابل الأرض "ليس سعر شرائها، وإنما قيمة الريع الذي تنتجه". يفتح هذا باباً واسعاً للمضاربات العقارية، قبل حتى أن تدلف صناديق الاستثمار إلى السوق.
هكذا يقدم أصحاب الأراضي إلى السوق فقط نوعاً من العلاقة القانونية. كل من هؤلاء يمتلك رقعة أرض، وتتمثّل هذه الملكية في قدرتهم على منع الآخرين من الولوج إلى هذه الأراضي أو استخدامها، وبهذا يتحوّل المتر المربع من الأرض إلى مصدر دخل بسبب أن الآخرين يحتاجون إليه من أجل العيش أو الإنتاج. في مقابل هذا الحق، يحصل أصحاب الأراضي على سعر يكافئ الجزية أو الإتاوة من وجهة النظر الاقتصادية، أو كما يكتب ماركس: «يحصل جزء من المجتمع هنا على إتاوة من الجزء الآخر، مقابل حقّ السماح بالعيش على الأرض، مثلما تتضمّن ملكية الأرض حقّ مالكها في استخدام سطحها وباطنها والهواء أعلاها، ومن ثم الحفاظ على الحياة المستقرة عليها، واستغلالها».
يستغل المالك واقعة أن الأرض لم تُنتَج، ولم تتكلف شيئاً كي توجد، أما سعر المتر المربع فيعتمد حصراً على نوايا مستأجريه المحتملين. تتطلّب المشاريع أرضاً لكي تبدأ، ويتلقّى ملاك الأراضي قسماً من أرباح هذه المشاريع على هيئة ريع، ويتطلّب الأجراء أرضاً للعيش عليها، وعليهم من ثمَّ التضحية بقسم من أجورهم أيضاً لصالح ملّاك الأراضي. يعتمد دخل ملّاك الأراضي إذن على الأجور والأرباح، ومن ثمّ يعتمد السعر الذي يطلبونه في الأرض على الأجور والأرباح.
إذن يتطفل ملّاك الأراضي على عمل الآخرين فقط، ويرون في قيمة الإيجار ثمرة لملكية الأرض، وعلى أساس هذه القيمة يتمكّنون من تقدير قيمة الأرض بصورة افتراضية. يمكن لمالك أرض أن يقيّم مثلاً سعر أرضه عن طريق المقارنة مع معدلات الفائدة في السوق، ولنفترض مثلاً أن مبلغ مليون يورو سيضمن معدل فائدة 2%، أي 20 ألف يورو سنوياً، وكانت الأرض تقدّم سنوياً 40 ألف يورو مقابل حق الانتفاع، فإن هذا يعني أن قيمة الأرض، بالقياس، تساوي مليوني يورو. يتعامل ملّاك الأراضي إذن مع دخلهم من الإيجار باعتباره فائدة، ويقرّرون بالتبعية قيمة رأسمالية مزيّفة للأصل المتمثّل في الأرض، وهذا هو السبب الذي جعل ماركس يتحدث هنا عن «رأس مال متخيَّل»، بالمقارنة مع «رأس المال الحقيقي»، كالمصنع مثلاً، حيث تُستخدم قوة العمل فعلاً في عملية الإنتاج.
هكذا تُقيَّم الأراضي إذن بصورة عكسية، إذ تجيء قيمة الأرض تابعة لقيمة الدخل عنها، أو الذي تعد بتقديمه. ولأن الأرض تمثّل حقّاً أو وعداً بدخل ما سيأتي لاحقاً، فإن المستقبل وحده هو ما يهم بالنسبة إلى قيمتها. هكذا تبتلع هذه القيمة كل مؤثّر مستقبلي محتمل يمكن أن يؤثّر على حجم العائد منها، فانتقال الناس المتوقّع من مكان إلى آخر، وانتقال الأعمال، والنشاط الاقتصادي المحتمل في منطقة بعينها، ووسائل المواصلات المخطّط إنشاؤها، وغير ذلك من أشياء كلها قد ترفع من العائد المتوقّع للأرض، ومن ثمّ ترفع سعرها. وتدخل هذه العوائد المتوقّعة في مقارنة مع العوائد المتوقّعة من الاستثمارات الأخرى كالأسهم والسندات، ومن هذه التكهنات يتقرّر سعر الأرض. بهذه الطريقة يصبح السكن جزءاً من السوق الأكبر للتجارة والاستثمار، وفي هذه السوق ينشط المستثمرون المحترفون: البنوك وصناديق الاستثمار والشركات المساهمة.
يعتمد سعر الأرض إذن على مقارنة العائد المستقبلي المتوقّع منها، مع العوائد المُحتملة لاستثمارات أخرى، ويصبح من ثمَّ عرضة للتقلّبات. وفور تحديد سعر الأرض بهذه الطريقة، يتحدّد كذلك حجم الإيجار المطلوب من أجل استخدامها، حتى يحقّق رأس المال المتخيَّل هذا العائد فعلاً. هكذا يكتب عالم الاجتماع الحضري أندري هولم أن «أسعار الإيجار في ميونخ ليست أعلى بكثير من الأسعار في كيمنتس لأن أرض ميونخ أغلى في ذاتها، وإنما العكس هو الصحيح، فأسعار الأراضي في ميونخ مرتفعة جداً لأن أصحابها يتوقعون إيجارات أعلى هناك».
أصبح السكن جزءاً من السوق الأكبر للتجارة والاستثمار، وفي هذه السوق ينشط المستثمرون المحترفون: البنوك وصناديق الاستثمار والشركات المساهمة
يعني هذا بالنسبة للمستأجرين، باعتبارهم أجراء، أنهم لا يعتمدون على رأس مال صاحب العمل فقط من أجل عملهم وأجرهم المتواضع غالباً، وإنّما يتحمّلون كذلك مسؤولية تحقّق العوائد المتوقّعة من رأس المال المُتخيَّل لأصحاب الأراضي والعقارات التي يستخدمونها. لهذا يتحتم بالتبعية أن قسماً كبيراً من البشر يجد صعوبة أو يعجز تماماً عن تحمّل كلفة السكن الجيّد، على الرغم من أن الدولة تضع ضوابط على ملّاك العقارات. ولن تُحل هذه المشكلة بالمزيد من البناء، لأن كل بناية جديدة ستظل ملزمة بتحقيق العائد الذي يتوقّعه منها أصحاب الأراضي. أما على جانب المستأجرين فلا شيء يتغيّر، لأن الفقر نفسه يستمر نتيجة دائمة للعمل المأجور.
لهذه الأسباب استنتج فريدريش إنجلز أن «أزمة السكن الخاصة بالعمّال وقطاع من البرجوازية الصغيرة، والتي تتميّز بها مدننا الكبيرة الحديثة، هي واحدة فقط من عثرات كثيرة صغيرة وثانوية ناتجة عن نمط الإنتاج الرأسمالي المعاصر. ليست هذه الأزمة نتيجة مباشرة لاستغلال رأس المال للعامل باعتباره عاملاً، وإن كان هذا الاستغلال هو أصل كل الشرور التي تسعى الثورة الاجتماعية إلى إنهائها بإنهاء نمط الإنتاج الرأسمالي»، وبحسب إنجلز، فإن حل المسألة الاجتماعية لا يعتمد على حل مسألة السكن، وإنما «فقط عن طريق حل المسألة الاجتماعية، أي عن طريق إزالة نمط الإنتاج الرأسمالي، سيمكن حل مسألة السكن في الوقت نفسه».
نُشِر المقال في أوكسي في 14 كانون الثاني/يناير 2023.