تصنيف الأزمات في النظام

  • إن التقدّم مُمكن للغاية. قد يُسفر التحوّل الاجتماعي عن إنشاء نظام عالمي اشتراكي يقوم على المساواة والديمقراطية. ويمكن أن يكون نظاماً يتسع للأنماط الثقافية المتعدّدة التي أثبتت البشرية القدرة على توليدها. وغنيٌّ عن القول إن نظاماً كهذا سوف يستند إلى هياكل مؤسّسية جديدة من المستحيل التنبؤ بشكلها لأنها لم تُبتكر بعد.
     
  • الطريقة التي يمكن أن تقود بها التحوّلات إلى نقيض التقدّم بسيطة للغاية. ففي استطاعة المدافعين عن الامتيازات الخاصّة في فترة الانتقال القيام بالاستيلاء على أدوات التغيير، لا للجم التغيير ولكن لتوجيهه نحو نظام آخر، يختلف عن النظام الحالي شكلاً، ولكنه مثله يستأثر بالامتياز.

الأزمة في النظام - العالم

توحي مقولة «تصنيف الأزمات» بوجودِ عدّة أنماط من الأزمات. ومع ذلك، تجادل هذه الورقة بأنه، من الناحية المكانية-الزمنية، لا وجود سوى لأزمة واحدة تتجلّى هيكلياً في ثلاثة ميادينٍ مختلفة من ميادين النشاط الاجتماعي. يتعيّن علينا البدء بالإشارة إلى ما يُعنى بكلمة «أزمة». إنه اصطلاحٌ يُستخدم بإفراطٍ، ويُكَرَّس بانتظام للتدليل على كلّ تراجعٍ لأيِّ منحنى دوري على أي مقياس. وهو فضلاً عن هذا مصطلح ينطوي على دلالاتٍ سلبية. والمعنى الغالب على الأزمة يؤشِّر على أمرٍ يرغب المرء في المسارعة إلى «تجاوزه» مخافة تسبّبه في عواقب وخيمة وغير محدّدة في الغالب.

غير أن هذا ليس ما أعنيه بكلمة «أزمة». سوف أستخدمها للإشارة إلى حالة نادرة، وهي حالةٌ تَطّور فيها النظام التاريخي إلى درجة أنّ الأثر التراكمي لتناقضاته الداخلية يجعل من المستحيل على النظام «حل» معضلاته بواسطة «ضبط» أنماطه المؤسسية القائمة. الأزمة حالةٌ يُقْطَعُ فيها بزوال النظام التاريخي القائم، وتضع المنضوين في إطاره أمام خيار تاريخي حقيقي: ما هو نوع النظام التاريخي الجديد الذي ينبغي بناؤه أو ابتكاره؟

ولكي نكون على ضوء بما نناقشه، اسمحوا لي أن أستعرض فرضياتي هنا. إن  هذا التوصيف الموجز للأزمة ينطوي في ثناياه على ستة فروض:

أولاً؛ إن حقل التحليل الاجتماعي المعني هو نظامٌ تاريخي، عملية دائبة من التقسيم الاجتماعي للعمل تحكمها بعض المبادئ الأساسية أو ما يُسمّى أحياناً «نمط الإنتاج». هذا النظام التاريخي موجود في المكان والزمان الحقيقيين، وهما يدخلان في تعريفه ومن اللازم تحديدهما. لا يظل المكان على ما هو عليه في كلّ الأزمنة. وهذا يعني أن النظام قد «يتوسّع» أو «ينكمش». إن الحديث عن «تقسيم العمل» يشير إلى مجموعة من العمليات الإنتاجية المنظّمة التي تقع في إطار سياسي مُعين ويُعبَّر عنها ثقافياً على نحو غير مباشر بالضرورة.

لكلّ نظام تاريخي حياة أو بداية، وتطوّر أو نهاية. وفي حين تتباين مُدّة الحياة بلا شكّ، فإنّ العديد من الأنظمة العالمية عمّرتْ من 400 إلى 500 سنة، أو أكثر

ثانياً؛ لكلّ نظام تاريخي حياة أو بداية، وتطوّر أو نهاية. وفي حين تتباين مُدّة الحياة بلا شكّ، فإنّ العديد من الأنظمة العالمية عمّرتْ من 400 إلى 500 سنة، أو أكثر. تشكّل الهياكل التي تقوم عليها هذه الأنظمة التاريخية دورة شديدة البطء تحدّث عنها بروديل، تنطوي على عمليّات دورية تضطلع بتشكيل الظروف. إن التمييز بين العمليات الظرفية والعمليّات الهيكليّة، أي بين الإيقاعات الدورية والاتجاهات العامة لنظامٍ تاريخي معيّن، يمثّل عنصراً حاسماً في التحليل.

ثالثاً؛ تنطوي جميع الأنظمة التاريخية على تناقضات. ولا نعني بالتناقضات الصراعات الموجودة بطبيعة الحال. تشير التناقضات إلى الضغوط الهيكلية التي تضطر المجموعات إلى التحرّك في اتجاهين متعاكسين في الآن نفسه. ولأن المجموعات عادة ما تكون حصيفة ونفعية وليست فصامية، فإن السبب في تحرّكها في اتجاهين متعاكسين في الوقت نفسه يكمن في أن مصالحها المباشرة تتعارض مع مصالحها طويلة المدى. ومن أجل التغلّب على تلك المشاكل المباشرة المُنبثقة عن الإيقاعات الدورية، فإنهم ينخرطون في سلوك يقود بدوره إلى خلق اتجاهات عامة تقوِّض قابلية النظام التاريخي للحياة.

رابعاً؛ لا مفرّ من التناقضات، وينجم عن ذلك أن كل نظام تاريخي يقوض في النهاية قدرته على البقاء. من هذه الناحية يجوز الحديث عن الزوال الحتمي للأنظمة التاريخية. ومهما يكن من أمر، تبدو هذه العملية بطيئة من منظار الحياة الفردية، لكن تستطيع المجموعات الاجتماعية في حدود معيّنة أن تعمل على تسريع وتيرة الزوال المحتوم عبر نوع من «القفزة العظيمة إلى الأمام». بيد أن هذا لا يعني أن المعارضة المنظمة لا وظيفة لها ضمن إطار النظام التاريخي. بل إن المعارضة المنظمة بالأحرى هي ذاتها نتاج النظام، وجزء لا يتجزأ من التطور العمومي لهياكل النظام.

خامساً؛ عند مستوى معين من الشدة تبلغه التناقضات، يصير في استطاعة المرء أن يقول إن النظام التاريخي يدخل في «أزمة». وهذا يعني أنه قد بات من الواضح نسبياً أن التطور المستمر للنظام على امتداد الخطوط التي كان يسير عليها - وما زال في الواقع - لن يكون قادراً على الاستمرار لمدةٍ أطول. تلوح النهاية في الأفق. وتبدأ التعديلات التي تهدف لحلّ المصاعب الدورية المستمرة في تحويل البنى الآخذة في التفكك، على نحو يشبه ارتجاج السيارة وتفكّكها بعد وصولها إلى مستوى معيّن من السرعة. ويمكن لفترة الأزمة أن تُسمّى بالفترة الانتقالية كذلك. وفي نظام تاريخي موجود منذ 500 عام أو يزيد، قد يستغرق هذا الانتقال قرناً أو أكثر من ذلك.

سادساً؛ في حين أن لا مفرّ من الزوال، نظراً لعدم وجود مفرّ من التناقضات، فإن ما يجيء في أعقاب الانتقال يظل مفتوحاً على التاريخ. لا يتضمّن التاريخ البشري خطّاً محتوماً يضمن أن تكون المرحلة اللاحقة أكثر تقدّماً من المرحلة السابقة، بل قد يكون العكس هو الصحيح. ونحن نعرف العديد من النماذج الساطعة التي تساوت فيها الأنظمة اللاحقة مع الأنظمة السابقة أخلاقياً، بل إن بعضها كان يشكّل إنحداراً صريحاً. ولكننا من جهة أخرى نعرف أيضاً تلك الحالات التي شهدت تقدّماً. والتقدم ليس مجرّد أمر حتمي بل إنه ممكن للغاية.

وفي حين أن دور «التسريع» الإرادي للتناقضات يتقلّص في مجال العمليّات الهيكلية المستمرّة لنظام تاريخي، نجد أن دور الاختيار الأخلاقي السياسي يتوسّع بصورة كبيرة في لحظة التأزم أو اللحظة الانتقالية. تلك هي اللحظات التي يمكن أن يقال فيها عن حقٍّ إن «الإنسان يصنع تاريخه».

في ضوء تلك الفروض الستة، فإني أجد صعوبة في الرضا عن صيغة السؤال «أزمة عالمية أم تحوّل عالمي؟»، فالأزمة كما حدّدتها تعني التحوّل بالضرورة. السؤال الجدير بالطرح هو إلامَ يتحوّل العالم بفعل الأزمة العالمية؟ وهل سيكون النظام (أو الأنظمة) التاريخية اللاحقة أسوأ من القائم أم مثله أم أفضل؟ ذلك أن خيارنا التاريخي هو خيار حقيقي، وهذا هو ما يسوّغ الندورة الحالية المتعلّقة بـ«الفكر الاجتماعي الجديد».

لا يتضمّن التاريخ البشري خطّاً محتوماً يضمن أن تكون المرحلة اللاحقة أكثر تقدّماً من المرحلة السابقة، بل قد يكون العكس هو الصحيح

حتّى الآن لا تزال معالجتي مجرّدة بعض الشيء. لقد كنت أعالج الكيفية التي يعمل بمقتضاها النظام التاريخي العام. بيد أننا لا نعيش في نظام تاريخي عام، وإنما في عالم محدّد للغاية، وهو اقتصاد العالم - النظام الرأسمالي الحديث. لذلك، اسمحوا لي أن أعيد صياغة فروضي الستة في سياق السمات الخاصّة بهذا النظام التاريخي المعيّن.

أولاً؛ النظام - العالم الحديث، هو عالم - اقتصاد رأسمالي. هذا وصفٌ يتعلّق بهيكله الجوهري وطريقة إنتاجه، حيث لا سبيل  إلى فصل أحدهما عن الآخر. إنه اقتصاد - عالم، وذلك بالنظر إلى أن حدود التقسيم الاجتماعي للعمل واسعة وتغطّي بقاعاً ثقافية عديدة ومن ثم «العالم»، ولكنه لا يتوافر على بنية سياسية واحدة موحدة. وعليه، فهو ليس «عالم- إمبراطورية». لكنّه يتوفر على بنية فوقية سياسية تمثّل شبكة من «الدول المستقلة» المُحدّدة والملتحقة بـ«نظام دولي» واقعه الاجتماعي والسياسي وأهمّيته أكبر بكثير ممّا قد يوحي به جهازه التنظيمي البالغ الرقّة.

هذا الاقتصاد - العالم رأسمالي، من حيث أنه يخضع لمفعول «قانون القيمة»، الذي يضمن مكافأة أولئك الذين يعطون الأولوية للتراكم اللانهائي لرأس المال. ولا يعني هذا أن الكلّ يعمل على أساس قانون القيمة، بل أن الآليّات المؤسّسية الخاصة بالعالم-الاقتصاد مُعَدّة بحيث تكافئ وتعاقب مادياً على أساس الالتزام أو عدم الالتزام بهذه المبادئ.

لقد طور الاقتصاد-العالم الرأسمالي مجموعة من الضغوط الثقافية المنهجية المُصمّمة لتعزيز عمله. وتتمثّل الضغوط التي تستهدف التحكّم في القوى العاملة فيما نسمّيه بالعنصرية والجنسانية. أمّا تلك الضغوط التي تستهدف التحكّم في الكوادر العالمية أو الطبقات «الوسطى» فتتمثّل فيما نطلق عليه اسم العقلانية أو العالمية أو «العلم».

هذا العالم-الاقتصاد الرأسمالي ليس النظام التاريخي الأول من نوعه، لكنّه أول نظام من نوعه يستمرّ لتلك الفترة من الزمن. ومن ثمّ فقد كان النظام الأوّل الذي يسمح لنمط الإنتاج الرأسمالي بالتحقّق والتكشّف بالكامل. إن العلّة في اضمحلال العالم-الاقتصادات السابقة ترتبط بالاضمحلال الجوهري لهذا الشكل التنظيمي في مواجهة العالم-الإمبراطوريات. أمّا السبب في بقاء هذا النموذج الملموس وازدهاره وقضائه في نهاية المطاف على العالم-الإمبراطوريات، فهي قصّة مُعقّدة تخرج عن نطاق عرضنا الحالي.

ثانياً؛ تشكّل العالم-النظام الحديث على امتداد القرن السادس عشر في أوروبا بالأساس، عن طريق سلسلة من العمليات الداخلية، واستمر هذا النظام في التوسّع لكن ضمن حدود، إلّا أنه بحلول منتصف أو نهاية القرن التاسع عشر كان قد أمسى بمقدوره دمج سائر المناطق الجغرافية على الأرض في التقسيم الاجتماعي للعمل، خالقاً بذلك ظرفاً تاريخياً جديداً. إنّها المرّة الأولى في تاريخ البشرية التي يعمّ فيها الأرض نظام تاريخي واحد ولا غير. يشكّل هذا الأمر كما سنرى تالياً أحد العوامل العديدة التي سوف تتسبّب في نشوب «الأزمة» لاحقاً. وهذا العالم-الاقتصاد الرأسمالي لا يزال قائماً حتى اليوم ولا تزالت كل المناطق الجغرافية على الأرض تخضع لتقسيمه الاجتماعي للعمل. وفضلاً عن ذلك، ما من دولة في يومنا هذا توجد خارج المنظومة الدولية التي لا تزال تشكِّل البنية الفوقية السياسية للعالم-الاقتصاد الرأسمالي. لا تزال الضغوط الثقافية التي أشرنا إليها آنفاً تتغلغل في الحقائق الاجتماعية على نطاق العالم بأكمله.

ثالثاً؛ التناقضات الخاصّة بهذا النظام عديدة ومُعقّدة. لكن بين التناقضات العديدة يبرز تناقضين حاسمين، أحدهما في المجال الاقتصادي والآخر في المجال السياسي. في المجال الاقتصادي، يكمن التناقض الأساسي في القانون المزدوج الغريب المرتبط بتراكم رأس المال. من جهة، يدخل مُراكِم رأس المال في تنافسٍ مع كلّ مراكمٍ آخر، الأمر الذي يدفعه إلى العمل دائماً إلى توسيع الفجوة في بين «تكاليف الإنتاج» و«سعر البيع في السوق» داخل مشاريعه. ويقوده هذا إلى انتهاج سبيل خفض التكلفة الذي يتضمّن الرغبة المستمرّة في تقليل تكاليف العمالة، وفي رفع الأسعار الذي يشتمل على الاستعانة بالآليات السياسية وشبه السياسية في دفع السوق نحو الاتجاهات الاحتكارية المرغوبة. ينبغي على الرأسمالي الحقيقي أن يكون رأسمالياً متوحّشاً، وينبغي على كلٍّ من القوى العاملة ومراكمي الرأسمال الآخرين أن يكونا خصمه الطبيعي.

ومن جهةٍ أخرى، يرتكز الأداء النموذجي للنظام على ضمانات سياسية-ثقافية معيّنة لحفز هذا المسلك التنافسي الذي يدفع بصاحب المشروع الخاص في اتجاه التوسّع في خلق الطلب الفعّال بما في ذلك الزيادة في الحصة العالمية من دخول الطبقات العاملة، والتنسيق مع روّاد الأعمال المنافسين للحدّ من اضطراب النشاط الاقتصادي، سواء كان ناجماً عن الاضطرابات العمّالية أو عن التنافس «غير الاقتصادي» بين الدول.

رابعاً؛ وهنا ثمّة تناقض. حيث يتعيّن على مراكِم رأس المال أن يخفض من تكلفة العمل ويزيدها، وأن يتنافس مع غيره من مراكمي رأس المال وأن ينسّق معهم. في الواقع، إن التناقض يعمل تلقائياً من الناحية الزمنية. فالتراكم الرأسمالي أنانيّ على المدى القصير، «متعاون» على المدى المتوسط. وعلى المدى الطويل، يتقوّض النظام لأن السمة الجوهرية للنظام الرأسمالي تتمثّل في أن عوامل الإنتجا - الأرض والعمل ورأس المال - ليست «حرّة» تماماً في التدفّق كما تشاء إلى سوقٍ خالصة مفترضة. أمّا الجوانب «غير الحرّة» فليست مجرّد بقايا وآثار؛ إنّها آليّات لخفض التكاليف الحقيقية وزيادة أسعار البيع الحقيقية وبالتالي توسيع هامش الربح.

في حالة مواجهته للانكماشات الاقتصادية قصيرة المدى، يميل التراكم الرأسمالي، بوصفه طبقة، إلى التحرّك في انتهاج سبيله «التعاوني» المتوسّط ​​المدى. ويتجلّى هذا بصورةٍ خاصّة حين يسمح فردياً بإعادة توزيع فائض القيمة على الطبقات العاملة بقصد إعادة خلق وتوسيع الطلب الفعّال، ومن ثمّ السماح بالتوسّع مجدّداً. وهو ما يوفّر حلاً لمشكلة المدى المتوسّط. إلّا أنّ هذا يعني «تحرير» عوامل الإنتاج على المدى الطويل، وهو ما يعني انخفاض الهامش الربحي في المدى البعيد.

ينبغي على الرأسمالي الحقيقي أن يكون رأسمالياً متوحّشاً، وينبغي على كلٍّ من القوى العاملة ومراكمي الرأسمال الآخرين أن يكونا خصمه الطبيعي

ليس هذا هو التناقض الأوحد، على الرغم من أنه بحدّ ذاته يُعدُّ تناقضاً هائلاً. إذ تترتب على الحلول المتوسّطة الأجل للركود قصير المدى نتائج سياسية. فإن التحوّلات الاقتصادية التي تنجم عنها تدفع باتجاه تآلف الطبقات المضطهدة بالإضافة إلى أنها تلقي بالمزيد من الضوء على  استخراج الفائض، وتحديداً عبر «تحرير» عوامل الإنتاج. ومع مرور الوقت تغدو الطبقات المضطهدة بالتالي أكثر قدرة على التمرّد وأكثر استعداداً للقيام به. بحلول القرن التاسع عشر، ارتفع مستوى الإمكانية والإرادة إلى النقطة التي بدأنا نشهد فيها انبثاق الحركات المناهضة للنظام في شكليها الكلاسيكيين أي الحركات الاشتراكية والحركات القومية.

شكّل هذا التطوّر السياسي تهديداً لمنطق نظام التراكم اللامتناهي للرأسمال من ناحيتين. أولاً، عمل على مؤازرة الطبقات العاملة على مستوى العالم في المعركة الدائمة حول توزيع فائض القيمة، وهو ما شكّل تهديداً لهوامش الربح على المدى الطويل. ثانياً، من أجل مواجهة الطبقات العاملة سياسياً، اضطر مُراكِمو رأس المال إلى التخلّي عن حصّة أكبر من فائض القيمة لعملائهم والمدافعين عنهم، الكوادر أو الطبقات «الوسطى»، وهو ما يشكّل تهديداً إضافياً للهامش الربحي على المدى الطويل.

خامساً؛ لقد تبلور الوضع الذي يمكن أن نسمّيه «أزمة» العالم-الاقتصاد الرأسمالي، نتيجة التقاء اتجاهين تشكّلا بداية من الحرب العالمية الأولى والثورة الروسية، وتسارعا بصورة كبيرة بعد العام 1945، وهما: الاتجاه الاقتصادي العام إلى التسليع الكامل، على عكس التسليع الجزئي، بالإضافة إلى استنفاد المجالات الخارجية للتوسّع وبالتالي تقليص النسبة الإجمالية للتسليع. والاتجاه السياسي العام للضغط المضاعف على هوامش الربح طويلة المدى، على عكس الهوامش قصيرة المدى. من بعض الوجوه، يكون هذا أقل وضوحاً من الناحية الاقتصادية ممّا هو عليه سياسياً وثقافياً. لقد نَمَت «عائلة» الحركات المناهضة للنظام على النطاق العالمي على نحوٍ أقوى وأكثر جرأة وتنوّعاً واستعصاءً على الاحتواء من أي وقت مضى. وما زالت والمعارضة مستمرّة وواسعة الإنتشار. وبالتأكيد يتخذ الأمر أشكالاً مختلفة في الصين والولايات المتحدة وإيران والسلفادور. إنني لا أقترح أي تجانس فجّ لتعدّد أشكال المعارضة - حركات التحرّر الوطني، والتمرّد البروليتاري، والنهضة الحضارية، والثقافات الموازية، وتجديد الأديان. لكن الشعور بـ«الأزمة» بين المدافعين عن الوضع الراهن في العالم يعكس استياءهم من تنامي تلك الاتجاهات التي تبدو على وشك الخروج عن السيطرة.

ولا يمكن لمراكمي رأس المال إلا أن يتصرّفوا على المنوال نفسه. أي التعامل مع هذه الثورات كجزء من المصاعب قصيرة المدى يعالج من خلال الحلول متوسّطة المدى، حلول «التعاون» الفعّالة في المدى المتوسط.فكّر في المزاج الذي ساد العالم في الفترة ما بين 1968 و1970، والمزاج الذي تلاه بعد ذلك بنحو 15 عاماً. بيد أن هذا «التعاون» يشكّل على المدى الطويل عملية تهاجم كُلاً من الركائز الاقتصادية والسياسية للنظام، وهو الدور الذي لعبه المحافظون المتطرّفون منذ فترة طويلة، المحقّون في تنبؤاتهم، لكن المخطئون فيما يخصّ الاعتقاد بوجود بدائل حقيقية متوسّطة المدى للطبقات الحاكمة.

سادساً؛ انطلاقاً من هنا نقول إننا نعيش في «مرحلة انتقالية»، وهي فترة الانحدار الحتمي و«الزوال النهائي» للاقتصاد العالمي الرأسمالي. لكن إلى أين نتجه؟ ربما نتجه نحو «نظام عالمي اشتراكي». بالتأكيد هذا هو الاتجاه الذي يطالب قسم كبير من «عائلة» الحركات المناهضة للنظام العالمي أن نسلكه. وفي الواقع، فإن الغالبية منهم تؤكّد أننا نمضي فعلاً ومن دون ريب في هذا الاتجاه. أستميحكم عذراً أن أختلف حول معنى الحتمية.

هناك تناقض داخلي في طريقة عمل الحركات المعادية للنظام نفسها. وهناك تناقض داخلي في طريقة عمل البنى العاكسة للعالم، الـعلم. هذان التناقضان يتعارضان مع التفاؤل التبسيطي لعصر الأنوار. إنهما يؤسّسان حقيقة خيارنا التاريخي. وبالتالي، ينبغي على هاتين «الأزمتين المشتقّتين» - أزمة الحركات وأزمة العلوم، أن تكون الشغل الشاغل لأولئك الذين يرغبون في تغيير العالم. إن «الأزمة» الأساسية، أزمة الاقتصاد العالمي الرأسمالي مباشرة وبسيطة نسبياً. فإن هذا النظام سوف ينتهي. لكن، ما سيأتي بأعقاب هذا، يعتمد على كيف نحلّ أزمة الحركات وأزمة العلوم، ونحن نمتلك صوتاً حقيقياً في هذا الصدد.

أزمة الحركات

إن «أزمة الحركات» ليست مجرّد تقلّبات دورية. حقّاً لقد كانت هناك على الدوام «لحظات» أو «فترات» من الهزيمة النسبية كما من الانتصار النسبي للحركات. هذا أمر طبيعي. «أزمة الحركات» هي الأزمة المتولّدة عن انتصاراتها وليس عن هزائمها. والأزمة بنيوية لا أخلاقية. أي أنه ينبغي تفسيرها لا بـ «الخيانات» وإنّما بـ«الضغوط الموضوعية» في المقام الأول.

عندما انطلقت تُنظّم نفسها في القرن التاسع عشر، جُوبهت الحركات بمشكلة في منتهى الدقة: ما عساه يكون مسار النشاط السياسي الفعّال؟ بدا واضحاً لكلّ من الحركات الاشتراكية والقومية أن بؤرة السلطة السياسية الحقيقية إنما تكمن في الدولة، في الهياكل الحكومية لمختلف الدول المستقلة. أو على الأقل كان الأمر يبدو واضحاً بنظر غالبية النشطاء. إذا صحّت هذه النظرة، نجم عن ذلك منطقياً أن الأسلوب الأمثل لتحويل النظام إنما يتمثل في السيطرة على سلطة الدولة بصورةٍ أو بأخرى. أو كما قال كوامي نكروما في الخمسينيات: «ابحثوا أولاً عن ملكوت السياسية…». هذه الإستراتيجية السياسية، التي تجعل الأولوية للاستحواذ على سلطة الدولة، أصبحت هي الإستراتيجية المعتمدة والمطبقة لدى سائر الحركات الكبرى المناهضة للنظام، وقد ظلت كذلك حتى عهد قريب جدا. وحتى اليوم، ما تزال هي الاستراتيجية المقبولة لغالبية الحركات.

كان لهذه الاستراتيجية معارضوها في القرن التاسع عشر. حيث عبّر البعض، ولا سيما خلال السنوات الأولى من الحركات، عن شكوكٍ عميقة في سلطة الدولة، حتى حين يكون الزمام بين يدي الشعب كما يُنتظر. كان يطلق على هذا البعض اسم «الأناركيون» أو «القوميين الثقافيين» في صيغةٍ أخرى. لكن هذه المجموعة المعارضة مُنيت بالهزيمة في الجدل الداخلي بين الحركات لأنها لم تستطع البرهنة على أدنى طريقة عملية لتغيير العالم طالما أن أجهزة «السلطة الشرعية» تقع في أيدي المدافعين عن  الوضع القائم. أما أولئك الذين دافعوا عن الإستراتيجية المتمحورة حول الدولة فقد جادلوا بأنّ المهمة إنما تتمثل في انتزاع سلطة الدولة ومن ثم إلغاؤها. كانت حجة قوية، وقد أقنعت أغلب النشطاء. بمجرد حسم هذا الجدال، وقد حُسم عملياً بحلول أواخر القرن التاسع عشر، لم يكن يتبقى سوى السؤال الاستراتيجي حول الطريق المؤدية إلى انتزاع سلطة الدولة، وحدود الدور المنوط بالتمرد المسلح وإلى أي مدى يعد عنصرا أساسياً. فكان الحجاج المشهور: بين الإصلاح والثورة، بين الأممية الثانية والثالثة، بين إنهاء الاستعمار الدستوري وحرب العصابات طويلة الأمد.

أزمة الاقتصاد العالمي الرأسمالي مباشرة وبسيطة نسبياً. فإن هذا النظام سوف ينتهي. لكن، ما سيأتي بأعقاب هذا، يعتمد على كيف نحلّ أزمة الحركات وأزمة العلوم، ونحن نمتلك صوتاً حقيقياً

إن المسح الخاطف للتاريخ السياسي للقرن العشرين يبين أن الحركات المناهضة للنظام، وخصوصاً منذ العام 1945، قد نجحت بشكل ملحوظ في بلوغ هدفها المرسوم في القرن التاسع عشر والمتمثل في الاستيلاء على سلطة الدولة. في البلدان الصناعية الغربية، ظفرت الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية بـ«الحق» في الحكم لـ 50% من الوقت، ربّما أكثر وربما أقل. كان هذا الحق يعني أن في استطاعتهم القيام بتعديلات تشريعية أساسية عُرفت عموماً باسم دولة الرفاه، والتي أفادت الطبقات العاملة في تلك البلدان بطرقٍ مختلفة كما يمكن للمرء أن يبيّن.

في مجموعةٍ ثانية من البلدان والتي تمتد من أوروبا الشرقية إلى شرق آسيا، وصلت الحركات المتجذرة في الأممية الثالثة إلى السلطة وخلقت دولاً اشتراكية. بمعنى أنها توفرت على وسائل إنتاج مؤممة و انخرطت في برنامج للتصنيع السريع نسبياً. كما عُنيتْ بتعظيم الامتيازات الاجتماعية للمواطنين. وفي مجموعة ثالثة من البلدان، تغطي نطاقاً واسعاً في جنوب وجنوب شرق آسيا، والشرق الأوسط، وأفريقيا، وأميركا اللاتينية، ومنطقة البحر الكاريبي - وأحياناً ما تسمّى بالثالوث القاري أو الجنوب - وصلت الحركات القومية وحركات التحرر إلى السلطة في كثير من الأحيان أو في معظم الأحيان بالفعل. لقد دشنت هذه الحركات للتبعية السياسية بتقصيرها في التأميم الكافي للموارد الأساسية وفي تطوير البنية التحتية، وبسبب افتقارها إلى النفوذ السياسي الجماعي على الساحة العالمية. يمكن القول بكل ثقةٍ أن هذه التغييرات قد زادت من «فرص الحياة» بالنسبة لتلك الطبقة الحضرية والحائزة على قدرٍ من التعليم.

بنظرة إجمالية، يمكن للمرء أن يقول إن الحركات قد نجحت نجاحا رائعا. علاوة على ذلك، فإن استمرار هذا النمط يبشر بالمزيد من هذه «النجاحات» في دول أخرى. ومع ذلك، فلا يخفى على أحد أن ثمة سخط عالمي بالغ تجاه (أ) الاشتراكيين الديموقراطيين في السلطة، (ب) الشيوعيين في السلطة، (ج) القوميين في السلطة. إنني أتحدث عن السخط لا على نحو ما عبرت عنه القوى المحافظة، وإنما على نحو ما تبدى في صفوف واسعة من المؤيدين والمقاتلين في الحركات المناهضة للنظام.

تتركّب الشكوى الأساسية من ثلاثة أوجه. الشكوى الأولى، بقطع النظر عن قائمة الإنجازات التي حققتها الحركات المناوئة للنظام بعد أن حازت السلطة، إلا أن ثمة شرائح واسعة من السكان قد حُرمت ثمار هذه الانجازات. تلك الشرائح المستبعدة تُعرَّف على أنها هامشية اجتماعياً بالقياس إلى نواة الدعم السياسي للحركات المعادية للنظام: الأقليات العرقية/القومية، السكان المهاجرون، النساء، الفلاحون. في باديء الأمر أمكن القول إن هذه الظاهرة مؤقتة. لكن مع مرور الوقت، بدأ الكثيرون يتساءلون عما إذا كانت ظاهرة «هيكلية» الطابع، ما يعني أنها ناجمة عن الاستراتيجية الأساسية للحركات. الشكوى الثانية تقول إن الحركات قد جرى استمالتها، بمعنى أنها لم تعد تلعب دوراً ثورياً، حتى وإن كانت كذلك في السابق. والدليل على ذلك يتمثل في أن الحركات داخل السلطة قد قللت من تضامنها الحقيقي مع الحركات خارج السلطة، أو حتى عدلت عنه بالكلية. في البداية، بدت هذه الظاهرة وكأنها مستوحاة من حكمةٍ تكتيكية مُؤقَّتَة. مع مرور الوقت، بدأ الكثيرون يتساءلون عما إذا كان هذا «الانسحاب التكتيكي» يمثل الشرط الضروري لتولي سلطة الدولة داخل المنظومة الدولية.

الشكوى الثالثة تقول إن الحركات في السلطة، على الرغم من أنها تحكم باسم الطبقة العاملة أو الشعب، إلا أنها انخرطت في سلوكٍ يمكن اعتباره قمعياً أو استغلالياً نيابة عن مجموعة أصغر تتقاسم تلك السلطة. في البداية، أمكن القول إن القمع كان موجهاً ضد القوى المعادية للثورة. مع مرور الوقت، بدأ الكثيرون يتساءلون عما إذا كان القمع في حد ذاته نتيجة التعاون، والذي بدوره كان نتيجة إقصاء الكثيرين عن العملية الثورية منذ البداية.

وكانت نتيجة تراكم الشكاوى الثلاثية. أولاً، تبلورت في المناطق الرئيسية الثلاث للنظام العالمي حركات جديدة باتت تتخذ من «الحركات القديمة في السلطة» هدفا رئيسيا لها. في البلدان الغربية، اتخذت هذه الحركات الاجتماعية الجديدة شكل مجموعة من المنظمات غير الخاضعة لهيكل تنظيمي واحد: حركات الأقليات، والحركات النسائية، والحركات المناهضة للحرب، والحركات الخضراء والبيئية، والحركات الچندرية، إلخ. في المعسكر الاشتراكي، ارتدت هذه الحركات الجديدة أيضاً أشكالاّ متنوعة: حركات «الإصلاح» داخل الأحزاب الشيوعية (الثورة الثقافية، الشيوعية الإنسانية، حتى تفكيك الستالينية، والآن البيريسترويكا)؛ وحركات خارج الحزب (وخصوصاً التضامن، وحركة السلام). وفي القارات الثلاثة، غالبا ما اتّخذت الحركات الجديدة شكل حركات التجديد الديني.

ما يجمع بين هذه الحركات الجديدة هو شكوكها العميقة في الحركات القديمة التي وصلت إلى السلطة، وإحساسها بأنها باتت بيروقراطية تخضع لمجموعاتٍ يتعذر التمييز بين أهدافها الحالية وبين أهداف المدافعين عن الوضع القائم في العالم-النظام.

النتيجة الثانية بالتالي هي ارتباك عميم، ففي كل مكان يتعرض اليسار القديم للهجوم من قوى اليسار الأحدث المختلفة. وقد أدى ذلك إلى مجموعة من الانفجارات المفاجئة لـ «الحماسة الثورية» في جميع أنحاء العالم (على سبيل المثال إيران في الفترة التي سبقت وتلت سقوط الشاه أو بولندا من 1980-82) كما أدى إلى مرحلة طويلة نسبيا من التسريح، ولا سيما بين مقاتلي الحركات الأقدم والأحدث.

المسح الخاطف للتاريخ السياسي للقرن العشرين يبين أن الحركات المناهضة للنظام، وخصوصاً منذ العام 1945، قد نجحت بشكل ملحوظ في بلوغ هدفها المرسوم في القرن التاسع عشر والمتمثل في الاستيلاء على سلطة الدولة

ويشكل التسريح النسبي نتيجة سلبية. ومع ذلك، فهناك نتيجة ثالثة أكثر إيجابية. لقد حطم الارتباك القشرة الأيديولوجية تحطيماW جزئياً وقاد (أو يقود) إلى إعادة التفكير في الاستراتيجية الأساسية. إن المسألة ليست ما كان ينبغي القيام به في ستينيات القرن التاسع عشر (أو حتى في خمسينيات القرن العشرين)، إنها مسألة ما يتعين القيام به في التسعينيات وما يليها. القضية التي فُتحت، أو بالأحرى أعيد فتحها، هي قضية السبيل الأساسي للتحويل الاجتماعي للعالم وهل تتمثل في استيلاء الحركات على سلطة الدولة بشكل مستقل في كل دولة على حدة.

تكمن المشكلة بالطبع في غياب البديل الملموس، على نحو ما يستبين من المناقشات الجارية في عدة مواقع مثل حركة التضامن وحركة الخضر الألمانية، والجماعات الثورية الإيرانية. وعلى غرار العديد من الحركات الأخرى ضمت هذه الحركات عددا من الذين نبذوا سلطة الدولة كهدف، فضلا عن بعض المتعاطفين معها على استحياء. لذا فإن السؤال يظل مطروحاً. لا توجد حتى الآن استراتيجية جماعية بديلة. إنني أقول فحسب أنها على جدول أعمالنا.

الأزمة في العلم

لا تختلف الأزمة في العلوم عن أزمة الحركات كما قد يخال المرء لأول وهلة. لقد كان ينظر إلى  ظهور العلم الحديث وظهور العالم- النظام الحديث على أنها ظواهر مترابطة ارتباطاً وثيقاً. يشكل العلم كما نعرفه التعبير الفكري الأول عن الحداثة. ويبدو أنه يتوافر على ثلاث فرضيات أساسية. الأولى، هي أن كل الأشياء في العالم الحقيقي قابلة للمعرفة. ومعنى هذا أن كل ظاهرة تجريبية تعد قابلة للتفسير الذي يتطلب القيام بتعميم البيانات المتصلة بالعمليات. كما أن الظواهر التجريبية ليست صوفية أو ملغزة، بحيث أنه بالمستطاع اكتشاف التعميمات التي تفسرها في النهاية، حتى وإن كانت مجهولة حاليا.

الفرضية الثانية هي أنه كلما كان التعميم أوسع كلما كان أفضل، ويمكن الاشارة بهذا الصدد إلى القوانين العالمية التي تطبق بغض النظر عن المكان- الزمان، والتي يُنظر إليها بمعنى ما على أنها ظرفٌ محايد للواقع التجريبي بدلاً من كونها جزءاً من هذا الواقع التجريبي.

الفرضية الثالثة هي أن طريق العلم هو الطريق الأوحد الذي يمكن من خلاله معرفة العالم الحقيقي وأن الأشكال الأخرى المزعومة لا تتعدى كونها أمرا ذاتيا لا سبيل إلى التحقق منه ولا أهمية له. وينجم عن ذلك أن الأسلوب الأوحد الذي يمكن استخدامه في التلاعب بالوعي الحقيقي عن العالم- ويفترض أيضا أن العالم يمكن التلاعب به في الواقع- هو عن طريق العلم.

مثلت هذه الفروض موضوعاً للنزاع، وكانت المعركة دفاعاً عن سيادتها  طويلة وشرسة، وأُحرز النصر فيها بشكل أساسي بحلول منتصف القرن التاسع عشر. 

خط الدفاع الأخير الذي يتعين دكه كان يتمثل في تطبيق هذه المبادئ على ذلك الشطر المحدود من العالم الموضوعي الذي يمس البشر مباشرة - التنظيم الاجتماعي للنشاط البشري. لم يظفر التاريخ والعلوم الاجتماعية بـ«حقوق النشر»  إلا في القرن التاسع عشر. فإلى ذلك العهد ترجع نشأة جل مصطلحاتنا المفاهيمية، بما في ذلك أسماء ما يدعى بالتخصصات.

هناك ملاحظتان ينبغي مراعاتهما حول نشأة ما أسميه العلوم الاجتماعية التاريخية. شكّلا إلى حد بعيد التعبير المستمر عن الثورة الأيديولوجية التي استلزمتها الثورة الفرنسية كظاهرة تاريخية عالمية. وقد عكسا كذلك الطابع المزدوج الأساسي للثورة الفرنسية كظاهرة كانت تمثل تطوراً طبيعياً في إطار الاقتصاد العالمي الرأسمالي، ولكنها بجانب هذا شكلت أولى الحركات الجادة المعادية للنظام في تاريخ الرأسمالية الحديثة.

شكّلت الثورة الفرنسية لحظة التطور التاريخي للاقتصاد العالمي الرأسمالي التي تبلورت خلالها الصيغة الأيديولوجية أخيرا للتعبير عن الحقيقة الموجودة منذ زمن طويل عن الرأسمالية بوصفها نمط إنتاج. ومما أبرزته الأيديولوجية الجديدة حقيقة أنه في الاقتصاد العالمي الرأسمالي، لم تكن البنية الفوقية السياسية مجرد بناء اجتماعي (كلا من الدول المستقلة والنظام الدولي) بل هي بنية اجتماعية تتعدل ويعاد بنائها بلا انقطاع. أما المصطلح الذي تجلببت به هذه الحقيقة فكان مصطلح «سيادة الشعب»، الذي شكّل وسيلة لإضفاء الشرعية على السيولة مقابل صلابة البنى السياسية. عن هذه السيولة ورثنا تناقض المجتمع/ الدولة، وفي معيِّته التفاعل و/أو الصراع المفترض بين المجتمع والدولة، الذي يشكل البؤرة المركزية للنشاط العلمي للعلوم الاجتماعية التاريخية.

فيما يتعلق بالازدواج السياسي للثورة الفرنسية، ففي وسعنا القول إنها كانت، من ناحية، لحظة سعى فيها قِسْمٌ من الطبقة العليا الفرنسية/البرجوازية إلى تحديث الدولة الفرنسية وإعادة بنائها لكي تلعب بالنيابةِ عنهُ دوراً أكثر فعالية في الاقتصاد-العالم. ومن ناحية أخرى، فقد اتسمت الثورة بتمرد المنتجين المباشرين الفرنسيين على الحرمان الشديد من الحياة الذي فرضه عليهم تكثيف العمليات الرأسمالية.

أن الأسلوب الأوحد الذي يمكن استخدامه في التلاعب بالوعي الحقيقي عن العالم- ويفترض أيضا أن العالم يمكن التلاعب به في الواقع- هو عن طريق العلم

تجلى هذا الازدواج في الصراع المستمر حول تحديد مهمة ومجال العلوم الاجتماعية التاريخية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. من جهة، شكّلت العلوم الاجتماعية التاريخية تطوراً للبنية الفوقية الأيديولوجية للاقتصاد العالمي الرأسمالي، حيث وفّرت آلية أكثر فاعلية لإضفاء الشرعية على ذلك النظام التاريخي، الذي كان أقل فائدة للسواد الأعظم من سكان العالم، وأكثر لكوادره الذين  كانوا، إلى جانب الطبقة الرفيعة من مراكمي الرأسمال الكبار، المستفيدين الرئيسيين. من جهة أخرى، وفرت العلوم الاجتماعية التاريخية للحركات المناهضة للنظام اللغة القادرة على اكتشاف (فضح) الطريقة التي يعمل هذا النظام التاريخي، والوقوف على تناقضاته، وبالتالي على نقاط ضعفه. هذا ما قاله ماركس وإنجلز، على سبيل المثال، عندما أصروا على تسمية ما كانا يقومان به من كتابة وفعل بـ«الاشتراكية العلمية».

قلنا أنه كان على الحركات أن تتخذ قراراً استراتيجياً بصدد التغيير، وكان قرارها العمل على انتزاع سلطة الدولة. وبالمثل، توجّب على علماء الاجتماع والتاريخ الذين أدركوا دورهم الفعال في التحويل الاجتماعي للعالم أن يتخذوا خيارا استراتيجيا فيما يتعلق بالإتجاه الذي يجدر بهم أن يستثمروا فيه طاقاتهم العلمية.

كان القرار الأساسي أنْ يُقدّموا نموذجاً لتحليل الواقع الاجتماعي يختلف تماما عن النموذج الذي قدمته البرجوازية أو مؤسسة العلم الاجتماعي التاريخي- نموذجاً، كما جادلوا، في استطاعته تفسير هذا الواقع بشكل صحيح أو كافٍ، وأقدر على الإرشاد إلى كيفية حثّ التحويل الاجتماعي في العالم.  أحد هذه النماذج، وأهمها بلا جدال، كان الماركسية.

ومثلما كانت سلطة الدولة كاستراتيجية سياسية معقولة للغاية، كذلك كان وضع نموذج مضاد كاستراتيجية فكرية ليس معقولا فحسب، بل وفعالاً كذلك.  لقد ساهم في الحشد السياسي دون أن يساهم في صياغة تكتيكات ذكية في النضال.

ومع ذلك، ومثلما كان نجاح الحركات في الاستيلاء على سلطة الدولة مجهول العواقب، كذلك كان الإعداد الناجح لنموذج مضاد. كان النموذج المضاد على درجة من المنطقية والقوة بحيث أنه تسلل حتى إلى مؤسسة العلم الاجتماعي. لقد تحول عالم العلوم الاجتماعية التاريخية إلى الماركسية، حتى حينما يحاول نفي ذلك وإخفاءه بواسطة التعبير عن الأفكار الماركسية بواسطة المصطلحات غير الماركسية. قادت هذه «الماركسية الزاحفة» إلى تغيير جذري في سياسات النظام العالمي في فترة ما بعد العام 1945، تماما كما حدث إبان سيطرة الحركات المناهضة للنظام على سلطة الدولة.

ومع ذلك، فقد تمثل الجانب الآخر من العملة في استخدام الماركسية في كثير من الأحيان في تبرير الوضع القائم بقدر ما تخدم كوسيلة لتدميره، وكوسيلة لتدميره فهي بالغة القوة، لأنها من الناحية النظرية تجهر بكونها أيديولوجية مضادة للنظام. لماذا حدث هذا؟  لقد حدث ذلك نتيجة الاستراتيجية الفكرية المعتمدة. أسفر التركيز على صياغة نموذج مضاد عن قرارين ثانويين: القبول بمقدمات العلم الحديث، والقبول بالخطوط العريضة للتاريخ السائد وإعادة سرد ما حدث بالفعل.

لكن مقدمات العلم الحديث وعلم التأريخ المهيمن لم تكن أكثر حيادية من النماذج. فقد استكنّت الأفراخ في الحظيرة في فترة ما بعد العام 1945، حيث واجه العلم الاجتماعي المؤسسي والعلم الاجتماعي الماركسي صعوبة متزايدة في تفسير العالم الحقيقي، وهذا ما يفسر المسار الفعلي للانتقال التاريخي صوب اللحظة المعاشة. كثيرا ما يُشَخَّص هذا اليوم على أنه أزمة في الماركسية. لكن هذه النظرة ضيقة للغاية. والأدق أن يقال إنها أزمة في العلوم الاجتماعية التاريخية، بل وأبعد من ذلك، أزمة في العلم نفسه.

إن الجدال حول الفرضيات ينتشر لا بين علماء الاجتماع التاريخي فحسب، بل وبين الفيزيائيين والكهنة المفترضين لدين العلم الحديث كذلك. فيُقال لنا إن البحث عن القوانين والتناظر الأبدي قد مُني بالإخفاق وأن لا يوجد في الواقع سوى الجسيمات المتطورة والعمليات الخاصة بكسر التناظر. ويُقال لنا إن «تعذر العكس هي الآلية التي تخرج النظام من الفوضى»، تعذر العكس وليس القابلية للعكس. ويُقال لنا إن «الرهان الجريء على التقليد الأرسطي المهيمن أصبح بالتدريج إصراراً دوغمائياً». ةيُقال لنا إن «تعذر العكس، سهم الزمان، إنما تعني العشوائية ضمناً». ويقال لنا إن «هذا يعيدنا من جديد إلى المسألة الأنطولوجية المركزية، العلاقة بين الوجود والصيرورة، وإلى الاستنتاج القائل بإن الوجود لا يعارض الصيرورة؛ بل إنهما يعبران عن جانبين للواقع لا انفصام لهما».

لم تكن البنية الفوقية السياسية مجرد بناء اجتماعي (كلا من الدول المستقلة والنظام الدولي) بل هي بنية اجتماعية تتعدل ويعاد بنائها بلا انقطاع

ولكن، إنْ كان ذلك كله صحيحاً، فلا مناص من استبعاد المنهجية الأساسية التي ألهمت جُل العلم الاجتماعي التاريخي بما فيه العلم الاجتماعي الماركسي، بقدر ما سعى إلى القوانين الأبدية، والتناسق، والقابلية للانعكاس، وبالتالي يقين المستقبل. ربما تحتم علينا التخلي عن ذلك الجزء من التقليد الأرسطي الذي تبلور في سياق البحث عن الأسباب النهائية. وقد نضطر حتى إلى الاعتراف بوجود معرفة بخلاف المعرفة العلمية وقبلها. والحق أن العلم كما نعرفه هو اختراعٌ لعالمنا الحديث يواصل الخطوط الجوهرية للتقليد الفلسفي الغربي المحدد. وبقدر ما تنعكس أزمة النظام العالمي في المشروع الحضاري، فإن العالم يعيد اكتشاف ثروته من الصيغ البديلة للمعرفة. إن هذه المعادلة صحيحة في علم التاريخ. ولطالما حذرنا من التاريخ المتمركز حول العِرْق. وقد قيل لنا مراراً وتكراراً أن تاريخ القرن التاسع عشر يروي قصة الحكام على نحو ما يراها الحكام وأنه قد غض الطرف عن المحكومين، الطبقات العاملة، والأجزاء غير الغربية من العالم. وهذا لا شائبة فيه وهو يخضع للعلاج اليوم. حيث بات يُعرض علينا تاريخ المحكومين، أي الطبقات العاملة، والنواحي غير الغربية من العالم، وطبقاً للصورة التي يراها هؤلاء. وهذا ولا مراء تنقيح بالغ الفائدة لنظراتٍ في غاية الضيق، لم يمر عليه أكثر من ثلاثين عاما أو نحوها.  ولكن بقدر ما يتشاطر هذا التاريخ الجديد الأساطير التاريخية الأساسية للتاريخ القديم، فإن التوسع في نطاق تغطيتنا لن يقود إلا إلى تعقيد المشكلة.

تنطوي حكاية الاقتصاد- العالم الرأسمالي على أسطورتين أساسيتين، حكاية الطبقة الجديدة، الطبقات الوسطى، التي أطاحت الأرستقراطية الإقطاعية القديمة. وهي قصة حلقات النشاط الاقتصادي الآخذة في الاتساع شيئا فشيئاً، وصيرورة الاقتصادات المحلية إلى اقتصادات وطنية تلاقت بعد ذلك في الساحة الدولية. أما الآن فثمة أسطورة بديلة تُحكى: تقول إن الطبقات الوسطى الجديدة كانت وستبقى على الدوام التَّجسُّد الرمزي للأرستقراطية الإقطاعية القديمة؛ وأن تطور الاقتصاد- العالم الرأسمالي كان تكثيفا واثراءً للنظام العالمي وليس نموا بطيئا لهذا النظام من نواة داخلية.

إن التشكيك في المقدمات العلمية والأساطير التاريخية السائدة لا يعد السبب في أزمة العلم، بل إنه يشفّ بالأحرى عن هذه الأزمة، ويعكس حقيقة المحنة المتفاقمة للعلم، الذي تعذر عليه استيعاب الواقع المتغير (على حين أنه كان خليقاً بالعلم أن يكون أقدر على استيعابه، وذلك طبقاً للمنطق الداخلي لفروضه المعتمدة).

لكن التحدي لم يقد إلى نصاعة الرؤية. بل لقد تسبب في بلبلة كبيرة وعدم يقين كبير. والبلبلة وعدم اليقين في العلم، كما هما في الحركات، نتاج أزمة النظام- العالم. فكل هذه الأزمات متزامنة، يستتبع بعضها البعض، ولا سبيل إلى حلها خارج إطار الكل الذي يشملها جميعا. 

توقع

السؤال الرئيسي هو إلى أين نمضي؟ وأول ما يجب قوله هو أننا لا نستطيع التأكد. البعض يرى ذلك مثيرا للقلق والبعض الآخر يعزوه إلى التشاؤم. بالقياس إليِّ أراه باعثا على الطمأنينة على المدى الطويل (وإن كان مقلقا في الوقت نفسه). إذا لم يكن ثمة خيار للبشر، فلماذا تلعب اللعبة؟ إن وجود الخيار يفترض عدم الإيقان بالنتيجة، أو فليطبق الخيار في مكان آخر. ربما يكون هذا الجموح البروميثي للإنسانية هو تأكيد للحقيقة الجوهرية للاختيار الأساسية. ولكنها في النهاية وجهة نظر أقرها كل تقليد ديني وفلسفي يتضمن مفهوم المسؤولية الإنسانية. لا يمكنك أن تكون مسؤولاً  إلا عما يسعك التأثير فيه.

إن التقدم ممكن للغاية. قد يُسفر التحول الاجتماعي عن إنشاء نظام عالمي اشتراكي يقوم على المساواة والديمقراطية. ويمكن أن يكون نظاما يتسع للأنماط الثقافية المتعددة التي أثبتت البشرية القدرة على توليدها. وغني عن البيان أن نظاما كهذا سوف يستند على هياكل مؤسسية جديدة تماما من المستحيل التنبؤ بشكلها، لأنها لم تُبتكر بعد.

وبقطع النظر عما إذا كنا سنشهد هذا النظام العالمي في القرن المقبل أم لا، فإنه يمثل برأيي دالة لكيفية حل «الأزمتين» الثانويتين: «أزمة الحركات» و«أزمة العلم». وهذا يعني، من وجهة نظري، أن المعارك الحاسمة تدور في هذه الساحات، وعلى نتائجها يتوقف مسار التحول.

كثيرا ما يُشَخَّص هذا اليوم على أنه أزمة في الماركسية. لكن هذه النظرة ضيقة للغاية. والأدق أن يقال إنها أزمة في العلوم الاجتماعية التاريخية، بل وأبعد من ذلك، أزمة في العلم نفسه

أما عن البديل المؤسف. فليس من المستبعد أن يتحول النظام العالمي الحالي، الاقتصاد- العالم الرأسمالي، إلى شيء آخر، إما إلى نظام واحد وإما إلى عدد من الأنظمة المستقلة التي لن تعرف لا المساواة ولا الديمقراطية. قد يكون النظام (الأنظمة) التالية أسوأ من النظام الحالي. هذا ما اختبرناه ذات مرة عندما قمنا بالانتقال (في أوروبا) من الإقطاع إلى النظام الرأسمالي، والذي لم يكن تقدما فحسب، بل كان تدهورا كذلك من نواحٍ عديدة.

الطريقة التي يمكن أن تقود بها التحولات إلى نقيض التقدم بسيطة للغاية. ففي استطاعة المدافعين عن الامتيازات الخاصة في فترة الانتقال القيام بالاستيلاء على أدوات التغيير، لا للجم التغيير (أي ليس للإبقاء على نظام آفل من المحال الإبقاء عليه) ولكن لتوجيه التغيير صوب  نظام آخر، يختلف عن النظام الحالي شكلا، ولكنه كمثله يستأثر بالامتياز.

هذا الاختيار متاح وحقيقي، شأنه شأن الخيار الآخر تماماً. وهذا هو ما يعلل حقيقة النضال الاجتماعي، ويفسر تركزه بالدرجة الأولى داخل الحركات وداخل العلوم. ولهذا السبب فإن ظهور فكر اجتماعي جديد لا يمثل مسألة نظرية، بل يمثل ضرورة وجودية عميقة. وهذا هو السبب في أن السؤال ليس «أزمة عالمية أم تحول عالمي؟»، بل ما هو نوع التحول الذي يسعنا إنجازه باعتباره الطريقة التي تنحل من خلالها «الأزمة». إن «مسعانا الحضاري» الجماعي يتوقف في الواقع الطريقة التي نؤثّر بها.

ورقة معدة لندوة بعنوان «أزمة عالمية أم تحول عالمي؟» برعاية مشروع جامعة الأمم المتّحدة «الفكر الاجتماعي الجديد»، 1984.