نهاية الهيمنة المالية؟

  • التسليم بأن الأسعار ليست ظواهر طبيعية وجوهرية، وإنّما بالإمكان وينبغي إدارتها لتفادي الألم غير الضروري، يمكن أن يكون له آثار بعيدة المدى. أصبحت سياسات الأسعار والائتمان والاستثمار مرّة أخرى أدوات مشروعة تستعين بها الحكومات. هذا التجريد من جنسية السوق هو إعادة فتح مهمّة لحيّز السياسة.
     
  • إحدى السمات المُميّزة للوضع هي الارتفاع المفاجئ في الأرباح إلى جانب الانخفاض في قيم الأصول. ولهذا نتيجتان. أولاً، المعركة من أجل زيادة الأجور الحقيقية هي قضية ملحّة للغاية. ولكن ثانياً، لا ينبغي الخلط بين هذا والعداء العام للتضخّم المُعتدل بشقّه المعادي للريع.
     
  • يتوقّع البعض في مجتمع الاستثمار أن القمع المالي والقمع الاقتصادي سوف يؤدِّيان إلى انتعاش إنتاجي للتراكم. يطمح اليسار إلى أمر آخر: بعد عقود من الهذيان السلعي، سيكون التحوّل إلى التخطيط الديمقراطي - توجيه الاستثمار بما يتوافق مع الاحتياجات الاجتماعية والحدود البيئية - بمثابة انتقام القيمة الاستعمالية.

خلف أرقام التضخّم الشامل - أعلى من 8% في أميركا للربع الثالث من العام 2022، وأكثر من 11% في الاتحاد الأوروبي - ثمّة علامات لا يرقى إليها شكّ، تشير إلى أن هناك نظاماً اقتصادياً كلياً جديداً في سبيله للتشكّل. يتناقض ارتفاع الأسعار تناقضاً صارخاً مع الاتجاهات الانكماشية التي تَلَت الأزمة المالية في العام 2008، أو ما يُسمّى بالاعتدال العظيم طويل المدى خلال التسعينيات. مع تسارع ارتفاع الأسعار خلال العام 2022، خسر معسكر «فريق المؤقَّت» أرضه.* في نيسان/ أبريل، وبناء على تقييم الوضع، حذّر بنك التسويات الدولية (BIS) من تداعيات الأسعار عبر القطاعات وفيما بين الأسعار والأجور، وأن العوامل الهيكلية التي أبقت على التضخّم منخفضاً قد تتقلّص بالارتباط مع انحسار العولمة. وكشف المدير العام للـ (BIS)عن تحولٍ في السياسة: «لن يكون تعديل أسعار الفائدة المُرتفعة بالأمر اليسير. لقد اعتادت الأُسَر والشركات والأسواق المالية والجهات السيادية على معدّلات الفائدة المُنخفضة والشروط المالية المُيسّرة، وهو ما يتكشّف في المستويات المرتفعة تاريخياً للدَّيْن الخاص والعام. إن التحوّل المُزمع في اتجاه البنك المركزي لن يكون تقليدياً. ومع هذا، فقد سبق للبنوك المركزية أنْ اختبرت هذا. إنهم على دراية تامّة بأن التكاليف قصيرة المدى المُتصلة بالنشاط والتوظيف، تُمثل الثمن الذي يتعيّن دفعه تجنّباً لارتفاع التكاليف في المستقبل. كما تُمثل هذه التكاليف استثماراً في المصداقية الثمينة للبنوك المركزية، التي تعطي ثمارها على المدى الطويل».

منذ ذلك الحين، نبّه نظرائه من بنك الاحتياطي الفيدرالي والبنك المركزي الأوروبي وبنك إنكلترا لاستمرار ارتفاع الأسعار، كما توقّع ارتفاع معدّلات البطالة نتيجة التحوّل العالمي نحو النظام النقدي الأكثر صرامة. وساق صندوق النقد الدولي في «آفاقه الاقتصادية» لعام 2023 هذه الرؤى الحالكة، مشيراً إلى أنه «بالنظر إلى أن البلدان التي تمثّل نحو ثلث الاقتصاد العالمي سوف تجابه الإنكماش في خلال هذا العام أو في العام المقبل، فإن الركود في العام 2023 سوف يكون واسع النطاق. إن الاقتصادات الثلاثة الأكبر، الولايات المتّحدة والصين ومنطقة اليورو، سوف تواصل تعثّرها. وبصفةٍ عامّة، سوف تعيد صدمات هذا العام نَكىءْ الجراح الاقتصادية التي لم تلتئم تماماً بعد الوباء. وفي عبارة موجزة، الأسوأ لم يأت بعد، وسوف تعاني الكثرة من الركود في خلال العام 2023».

لقد تراجع القطاع المالي، ويتنامى القلق بشأن قدرته على استعادة الاستقرار في مواجهة هذا الموقف المُتشدِّد. في تشرين الأول/ أكتوبر 2022، لاحظ روبن بروكس، كبير الاقتصاديين في معهد التمويل الدولي (الرابطة العالمية للخدمات المالية) أثناء عودته من اجتماعات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، أنه لم يكن هناك إجماع حول السياسة النقدية: فبينما أرادت الغالبية من راسمي السياسات الحفاظ على وتيرة الارتفاع العدائية، عبّر كلّ المشاركين في السوق عن رغبتهم في أن تتوخّى البنوك المركزية التأني. غرّد بروكس: «عندما أقود سيارتي خلال الضباب، فإنني أسير على مهل… ثمّة غموض عالمي عام، فتمهل!». في اليوم نفسه، لبّى ماكرون النداء بهجوم سافر على البنك المركزي الأوروبي، مُعرباً عن قلقه تجاه الفاعلين في السياسة النقدية الأوروبية»، موضحاً أنه «يجب علينا تحطيم القيد الأوروبي لاحتواء التضخّم بصورة أنجع».

وبالنظر إلى حجم المصاعب التي تواجه الطبقات الشعبية والبلدان المُنخفضة والمتوسّطة الدخل ذات المستويات المُقلقة من الديون المُتعثِّرة، تبدو اللحظة غير مناسبة للفرح بمصائب الآخرين. كما أنه من المستبعد أن يخرج الاشتراكيون بفائدة من تلك الانقسامات بين أجزاء رأس المال في هذه الظروف شديدة التقلّب. ففي السياسة كما في التمويل، يقود عدم الاستقرار إلى زيادة المخاطر. إننا ندخل في لحظة عالية المخاطر، ومن الضروري أن نعي منطق الحركات التكتونية الجارية. تؤدّي الأزمات المالية والبيئية والجيوسياسية المتفشّية، والتي تفاقمت على خلفية الوباء والحرب في أوكرانيا، إلى تأجيج حالة الاضطراب الراهنة. لا يعطينا هذا أكثر من الخلفية التي انبعث عليها التضخّم من جديد، لكن يظل للظاهرة منطقها الخاص. إنها تنطوي على ثلاث آليّات متميّزة، تتطابق مع ديناميكيات سياسية اقتصادية:

أولاً، الصدمات الخارجية والاختلالات الناجمة عن تعطيل الوباء لسلاسل التوريد العالمية، على نحو تعزيز الطلب من خلال الدعم الحكومي الهائل، وصدمة الطاقة المركّبة التي شَحَنَتْها الحرب في أوكرانيا.
ثانياً، الصراعات التوزيعية بين رأس المال/العمل، التي أشعلتها الطفرة الأولية في الأسعار وتفاقمت بسبب انخفاض الأجور الحقيقية والتلاعب في أسعار الشركات.
ثالثاً، انحلال رأس المال الوهمي المُفرط في التراكم، وهو ما يُمثِّل السمة الهيكلية في التضخّم المُنبعث؛ إنه يهدّد النمط القائم للهيمنة المالية.

وفيما يلي، نفحص كل من السمات الثلاث على حدّة. ولكن، قبل أن نبدأ، دعونا نسوق ملاحظة موجزة عن الهيمنة المالية. تمثّلت القاعدة التي تبلور عليها القطاع المالي، بدءاً من تحرير أسعار الصرف بعد العام 1971 وتحرير صناديق الادخار الكبرى، إلى نمو دراماتيكي في نظام صيرفة الظلّ والمشتقّات وتداول العملات الأجنبية وانفجار الديون العامة والخاصة، في استنفاد الديناميكية الإنتاجية في الاقتصادات المتقدّمة وتحوّل رأس المال بعيداً من الاستثمار الإنتاجي المحلّي، سعياً وراء مكاسب أعلى من خلال الأرباح المالية وسلاسل الإنتاج المعولمة، واستغلال العمالة الرخيصة. منحت الرافعة المالية للائتمان مهلة للاقتصادات الراكدة، ما أدّى إلى زيادة الاستهلاك بما يتجاوز قدرة الأجور الحقيقية الراكدة. ولكن الاستقلال الذي تتمتّع به المالية نسبي، فلا تستطيع أن تتحرّر تماماً من الحقائق الاقتصادية الأساسية، كما أنها تتحرّك خلال الصدمات والانفجارات التي تستلزم تدخّلاً عاماً أكبر من أي وقت مضى. منذ انهيار العام 2001، اعتمد التمويل على الدعم السياسي المستمر. وفيما عدا الاستثناء الجزئي للقطاع الرقمي، لم يعد التمويل المُتضخّم عاملاً ديناميكياً في التراكم، بل أصبح عبئاً ثقيلاً على إعادة الإنتاج الاجتماعي ككلّ.لكن التمويل مبتزٌ بارع. فمنذ أزمة العام 2008، استطاع الحفاظ على مكانته المُهيمنة بفضل عمليّات الضخّ النقدي غير المنقطعة من المصارف المركزية. ما أتاح له مواصلة التقييمات المنفصلة عن الواقع، وقد تجلّى ذلك في آذار/ مارس 2020، حين تمّ تفادي الانهيار المالي الذي يتولّد منطقياً عن عمليات الإغلاق، وقد تحقّق ذلك عن طريق عمليّات الشراء الضخمة والمنظّمة للأصول العامّة والخاصّة التي قامت بها البنوك المركزية. لكن في السياق التضخّمي الجديد، بلغ هذا الضمان النقدي أخيراً أقصى حدود فعاليته. وإذا أصرّت البنوك المركزية على متابعة موقفها المتصلّب، سوف سينجم عن ذلك أزمة مالية هائلة. وعليه، فإن النتيجة الأكثر ترجيحاً ستكون انخفاضاً حقيقيا لقيمة الأصول المالية عبر أزمة «رالينتادو»، تتّخذ شكل تضخّم مستدام متوسط ​​المستوى. ربما تتسم وتيرة التحوّل بالاعتدال النسبي، إلا أنّه من غير الممكن تفادي آثاره الهيكلية. إذا كانت الهيمنة المالية آخذة في الزوال، فمن سيرتقي إلى العرش الشاغر؟ يتعيّن على العمّال والإيكولوجيين أن يناضلوا من أجل النظام الجديد.

الصدمات والاختلالات

إن العوامل المباشرة لعودة التضخّم لا تستدعي الخلاف: إنها ليست شيئاً آخر سوى تضخّم التكاليف. عندما ضربت عمليّات الإغلاق وقيود كوفيد-19 المصنع العالمي ونظام النقل، تبيّن أن «إدارة المخزون التجاري في الوقت المناسب»، التي أشاد بها رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي آنذاك، كانت مكلفة للغاية. منع الهيكل المرن لسلاسل التوريد، شبكات الإنتاج واللوجستيات المعقّدة، من الدخول في ركود، وأصبح هذا سبباً رئيسياً للصدمة عندما أغلقت المصانع وتوقّف الشحن ولزم العمّال منازلهم وأفرغت الموانئ على خلفية تفشّي الفيروس. وبمجرّد تحطّم هذه الروابط، تبيّن أنّه من المتعذّر إصلاحها. فضلاً عن ذلك، قاد التكيّف الاستراتيجي للشركات مع الوضع الناشئ إلى تشديد الاختناقات، وهو ما نتج عنه «تأثير السوط»**؛ أدّى النقص الأولي إلى توقّع مشكلات الإمداد في المستقبل، وبالتالي إلى التخزين الاحترازي على طول سلسلة التوريد. أفضت سياسة الإغلاق الصينية، التي أثّرت على مراكز الإنتاج الرئيسية في العالم، إلى استمرار هذه القيود حتى العام 2022.

في غضون ذلك، قاد تدخّل الدولة النشط في البلدان الرأسمالية المتقدّمة، بهدف إيقاف دوّامة الفقر والإفلاس الجماعي، إلى إغراق اقتصاداتها بالسيولة. في أميركا، بلغت قيمة التحفيز المالي الاستثنائي الذي شهدته الفترة بين آذار/مارس 2020 وآذار/مارس 2021 أكثر من 5 تريليونات دولار، أي ربع الناتج المحلّي الإجمالي. كانت الاستجابة المالية في الاتحاد الأوروبي كبيرة كذلك، مع الأخذ في الاعتبار أن نصف حجم حزم ترامب - بايدن كنسبة من الناتج المحلّي الإجمالي، يشكّل عنصراً مؤثّراً في حساب قوّة التعافي للاقتصاد الأميركي والفروق في الديناميكية التضخّمية على ضِفَّتيْ الأطلسي. عمل هذا التحفيز غير المسبوق للطلب على الانتعاش بسرعة كبيرة، مُعزّزاً بتراكم المدّخرات لدى النصف الأكثر ثراءً من السكّان، وذلك عقب شهور من المجاعة الاستهلاكية نتيجة الإغلاق والقيود. تضخّم الدفع الكمّي للطلب عن طريق تغيّرٍ نوعي. وبعد أن عدّل المستهلكون إنفاقهم وفقاً لمعايير التباعد الاجتماعي، حوّلوا الطلب من الخدمات إلى السلع المُصنّعة، ممّا زاد الضغط على المصانع وخدمات النقل والتجزئة. تُقدّم المجلة التجارية لصناعة السيّارات، موتور تريند، مثالاً مُعبِّراً عن الآليّات الكامنة وراء ارتفاع الأسعار في هذا القطاع:

«ترجع الأزمة إلى آذار/مارس من العام 2020 عندما اضطرت شركات صناعة السيّارات تحت ضغط الوباء إلى إغلاق المصانع وتعليق الطلبيّات من الموردين بصفة مؤقّتة. في الوقت نفسه، لاقت صناعة الإلكترونيات زيادة في الطلب على الهواتف المحمولة وأجهزة التلفزيون وأجهزة الكمبيوتر والألعاب والأجهزة المنزلية من العملاء الذين لازموا منازلهم. أعاد صانعو الرقائق توجيه إمدادهم صوب صناعة الإلكترونيات، ممّا كشف عن الاستعداد لدفع المزيد نظير رقائق السيليكون. عندما عادت صناعة السيّارات على نحو أسرع ممّا كان يُتوقّع في صيف العام 2020، اكتشفت أن الرقائق المطلوبة غير متوفرة، في حين كان الموردون سعداء بعقودهم المُربحة مع الآخرين. لا سبيل إلى التعجيل بتلبية الطلبات الكبيرة، فحتى أكثر أشباه الموصلات بساطة يستغرق صنعه نحو ثلاثة أشهر».

نتيجة حرمانهم من هذه المكوّنات الأساسية، لم يتمكّن صانعو السيّارات من تلبية الطلب المُتزايد. وعلى الرغم من تخفيف القيود الصحّية في العام 2021، هبط عدد تسجيلات السيّارات الجديدة في الولايات المتّحدة إلى مستوى لم يُر منذ خمسينيات القرن الماضي، هذا إلى جانب نقصٍ في الإنتاج العالمي يُقدّر بأكثر من 11 مليون سيّارة وخسائر بقيمة 210 مليارات دولار للصناعة على نطاق العالم. على خلفية هذا الوضع العصيب، بدأت شركات صناعة السيّارات العالمية في تجاوز مورِّديها الأساسيين والتواصل مباشرة مع صانعي الرقائق على أمل تخزين هذه المدخلات الاستراتيجية، ممّا زاد من حدّة النقص. تكشف حالة أشباه الموصلات عن نقطة أكثر عمومية. كانت الاختناقات شديدة ولا سيّما في الصناعات الأولية مثل المواد الخام والطاقة والنقل. يقيناً بأن الديناميكية تتسم بخصائص لكل حالة على حدة، إلّا أن التداعيات المُترتبة على ارتفاع أسعار المنتجات الأولية تشمل الاقتصاد برمّته. 

في حالة أسعار الطاقة، التي كانت تدفع التضخّم حتى قبل غزو أوكرانيا، فإن صبّ الوقود على الأسواق التي كانت مُشتعلة بالفعل بسبب التحدّي المُتمثّل في تحويل الكربون، كان له تداعيات بعيدة المدى. كان لفكّ الارتباط المرير لأسواق الطاقة الأوروبية عن روسيا انعكاسات هائلة في مستويات الأسعار، حيث تتالت التكاليف المرتفعة والإيجارات الانتهازية عبر سلاسل الإنتاج وصولاً إلى المستهلكين؛ بحلول تشرين الأول/ أكتوبر 2022، كانت معدّلات التضخّم السنوية تصل إلى 11.6% في ألمانيا، و 12.6% في إيطاليا وأكثر من 20% في بحر البلطيق. يُظهر التدهور الدراماتيكي في الميزان التجاري لمنطقة اليورو، من الفائض الهيكلي إلى العجز الكبير، أنّ الارتفاع المفاجئ في أسعار الطاقة يُشكّل تكلفة على عاتق الاقتصاد الأوروبي بأكمله، وهو ما يتوافق مع تدهور شروط التجارة. الجهات النظيرة هي الفوائض القياسية التي سجّلتها الدول المُصدِّرة للنفط مثل المملكة العربية السعودية وإيران وروسيا.

من المسلّم به أن محافظي البنوك المركزية سيظلون يندفعون، عند الحاجة، لإصلاح الأنابيب في نظام سباكة مالي غير مصرفي مفرط المديونيةإذا كانت عمليات الإغلاق والحرب هي المُسبِّبات الوحيدة لارتفاع التضخّم الراهن، إذن فمن الجائز أن تكون ظاهرة مؤقّتة. بل يمكن أن تنعكس بقوّة، لأن القوى نفسها التي ضاعفت «تأثير السوط» يمكن أن تعجّل بانخفاض الأسعار بمجرّد القضاء على النقص وتوفير المخزونات على طول سلاسل التوريد، وقد يؤدّي وقف إطلاق النار وبدء المفاوضات من أجل إنهاء الحرب في أوكرانيا إلى خفض أسعار الطاقة، أو دفعها إلى الهبوط، إذا تزامن ذلك مع تباطؤ في الصين. أمّا إذا كان التضخّم متأصِّلاً في اختلالات ذات طبيعة مؤقّتة بين القطاعات، فلا يمكن فعل الكثير على المدى القصير لتمديد العرض. هذا لا يعني أن ارتفاع التضخّم غير مؤلم، أو أنه لا يوجد بديل سوى التقشّف أو الانتظار والترقّب. بدلاً من ذلك، لا يمكن التعامل مع التضخّم قصير الأجل المدفوع بالتكلفة بشكل مرضٍ من خلال التشديد المالي أو النقدي من دون إضافة ألم لا لزوم له.

مع ذلك، بالنسبة للشركات، فإن لحظة التضخّم التي تدفع التكلفة هي فرصة عظيمة للتلاعب في الأسعار. يستفيد المنتجون في القطاعات ذات الصلة من هذه الاختناقات عبر زيادة هامش ربحهم. وتُعدُّ الأرباح غير العادية لشركات الطاقة والشحن مثالاً على ذلك. نتيجة مثل هذا السلوك هي اضطراب أكبر بكثير: لا يتضرّر النقص الحقيقي فحسب، بل إنّ وكلاء الشراء يعانون أيضاً من تدهور ميزانيتهم العمومية بسبب هذه الفواتير المرتفعة، والتي يتردّد صداها في جميع أنحاء الاقتصاد وتضغط على الدخل الحقيقي، ممّا يؤدّي في النهاية إلى الركود.

هجوم رأس المال

لا يوزّع مستوى الأسعار المتغيّر توزيعاً متجانساً بين القطاعات والوكلاء. إنه ينطوي دائماً على تغيير في مصفوفة الأسعار النسبية: يخسر بعض القطاعات والوكلاء ويفوز البعض الآخر. وهنا تلوح لنا علائم على ظهور نظام اقتصادي كلّي جديد، يختلف عن هذه الصدمات المباشرة في العرض والصدمات المضادّة للطلب: تشير أدلة السنتين الماضيتين إلى انتقال رأس المال من الأداة القطاعية للصدمات غير المُتكافئة، إلى هجوم عامٍ على دخل اليد العاملة.

من خلال الاستفادة من قوّتها السوقية، استخدمت الشركات الزيادة في التكاليف كذريعة لزيادة أسعارها. إنهم صريحون تماماً بشأن هذا عند التحدّث إلى المستثمرين. يوضح أندريه شولتن، الرئيس التنفيذي لشركة بروكتر أند غامبل، أنه «نتيجة قوّة علاماتها التجارية، فإنها تطبّق بعناية زيادات في الأسعار المُخصّصة». يتوقّع ميغيل باتريسيو، الرئيس التنفيذي لشركة كرافت وهاينز، «الاستمرار في تقديم أسعار إيجابية». في غضون ذلك، يستغرق العمل المُنظّم وقتاً للردّ على الوضع الجديد. على خلفية ضعف الحركة العمّالية المُستمرّ منذ عقود، استفادت الشركات من ميزة المُحرّك الأول، حيث تأخّرت النقابات شهوراً في المطالبة بزيادة الأجور وهي تفتقر إلى القوّة اللازمة لفرض فهرسة الأجور على الأسعار. وبالتالي، فإن الشركات تسجِّل فارق الأسعار، ممّا يرفع المعدّل العام لاستغلال القوى العاملة. ارتفعت أرباح الشركات الأميركية - كان العام 2021 أفضل عام لها منذ العام 1950 - وتوزّع الشركات الكبرى أرباحاً قياسية.

فيما يتصل بالعمّال الأميركيين، كانت العواقب المباشرة مُختلطة. فمن ناحية، انخفضت الأجور الحقيقية للعمّال. انخفض متوسّط دخل القطاع الخاص في الساعة بنسبة 4.2% بين كانون الثاني/يناير 2021 وتشرين الأول/أكتوبر 2022. ومن ناحية أخرى، جرى تعويض دخل العمالة بواسطة التحويلات المالية الضخمة خلال الجائحة. لم تعمل تحفيزات ترامب وبايدن على إنقاذ مستويات الربح واثراء الأثرياء فحسب، بل ساعدت أيضاً أفقر العمّال على التعامل مع ارتفاع الأسعار، في وضعٍ لم تكن فيه قوّتهم التفاوضية كافية للدفاع عن حصّهم. عموماً، وعلى الرغم من انخفاض الأجور الحقيقية، فقد أعان هذا على حدوث تغيير في دينامية العمالة لصالح العمّال ذوي الأجور المنخفضة. وأيضاً أدى التحفيز إلى ارتفاع الضغط الاقتصادي، ممّا سمح للإنتاج والعمالة بالانتعاش. هذا هو جوهر الحجّة التقليدية المُتشدّدة لرفع أسعار الفائدة - إضعاف موقف العمّال في المساومة على الأجور من خلال ترويع الاقتصاد، وإقصاء الناس عن العمل، وتعريض الأسر لتأثير بارتفاع الأسعار.

في أوروبا، ارتفعت أرباح الشركات كذلك، مدعومة بمخزونات الطاقة. بيد أن الوضع كان أسوأ بكثير بالنسبة لليد العاملة، وذلك نتيجة سياسات الاقتصاد الكلّي الأقل دعماً في أميركا، وزيادة التعرّض لصدمة الطاقة المُتمثّلة في فكّ الارتباط عن روسيا. يحذّر البنك المركزي الأوربي من أن منطقة اليورو تجتاز أزمة غلاء المعيشة، مع انخفاضٍ في الأجور الحقيقية بأكثر من 4% بين صيف 2021 (الربع الثالث) وربيع 2022 (الربع الثاني). في حين أن الأكثر فقراً كانوا في الوقت نفسه الأكثر تضرّراً من التضخّم، حيث ارتفعت الأسعار في سلة استهلاكهم بصورة أسرع من أسعار الميسورين. وعلى المدى المحدود الذي توجد فيه حركة مستقلّة لتسارع الأسعار في منطقة اليورو، بما يتجاوز صدمات العرض، فهي ليست دوّامة سعرية للأجور، بل دوّامة لولبية لسعر الربح، تتطلّب لا تشديداً نقدياً، وإنما سياسة انضباطية لرأس المال، إلى جانب وضع حدّ أقصى لزيادات الأسعار المُرتبطة بديناميكية تكاليف الإنتاج. على العكس من ذلك، يجب أن يركِّز دفاع الطبقة العاملة أولاً على الأجور والمزايا الاجتماعية، وأن يشمل أيضاً إيلاء اهتمام مفصَّل لأنماط الاستهلاك الحقيقية الكامنة وراء مؤشّر الأسعار والتركيز على القدرة على تحمّل تكاليف السلع والخدمات الأساسية.

الشوكة ضدّ التمويل

الشوكة، في الشطرنج، هي موقع يتيح للقطعة أن تهدّد قطعاً مُتعددة للخصم في الوقت نفسه. وفي الواقع يشكّل التضخّم سلاحاً من هذا النوع ضدّ التمويل. فمن جهة، يستدعي التضخم اتباع سياسة نقدية تقييدية وتقليص السيولة ممّا يحرم الأسواق المالية من الدعم المستمرّ الذي تلقته على مرّ السنين في عمليّات الإنقاذ والتيسير الكمّي؛ يمكن أن يقود إلى جفاف مفاجئ للسيولة وإثارة الهلع المالي. ومن جهة أخرى، يقلّص التضخّم من سعر الديون المُتراكمة وسعر الفائدة الحقيقي، ممّا يغيّر العلاقة بين المدين والدائن إلى مصلحة الأول. وتآكل قيمة الدَّيْن يعني أن المبلغ الذي يجب على المدين سداده يتضاءل بالقيمة الحقيقية، ممّا يؤدي إلى إفقار الدائنين - أي مالكي الأصول المالية - تبعاً لذلك. تكمن مثل هذه الآلية في ثنايا العبارة الذائعة لكينز التي تدعو إلى «القتل الرحيم للريعيين». في كلتا الحالتين، سوف تتضاءل الهيمنة المالية. أما بالنسبة للقطاع ككل، فإن الشوكة التضخّمية تعني الاختيار بين السكتة الدماغية وآلام الحركة البطيئة.

لكن على الرغم من وجود الكثير من المواقف الراهنة التي تُذكّر بموقف فولكر البطولي ضدّ الضغط التضخّمي في العام 1979، إلّا أن هناك أسباباً جدّية للشكّ تجعلنا نستبعد احتمالية تكراره، إلّا إذا كان على صورة مهزلة. حتّى لو كانت الهيمنة المالية آخذة في الضعف، لكنها لا تزال لاعباً قوياً يتمتّع بموقع هيكلي مركزي. على الرغم من تشدّد المصارف المركزية، فإن التكلفة الحقيقية للاقتراض - أي سعر الفائدة الاسمي مطروحاً منه معدّل التضخّم - لا تزال سلبية على جانبي المحيط الأطلنطي. مع ذلك، فإن مؤشّرات الضائقة المالية آخذة في الارتفاع بالفعل. وصل مؤشّر غولدمان ساكس، الذي يعكس توافر التمويل، ويغطّي أسعار الفائدة فضلاً عن أسعار الصرف وتقلّبات الأسهم، إلى مستويات لم نشهدها منذ العام 2009. ولكن هذا لا يعني أن هناك أزمة مالية كبيرة على وشك الاندلاع، بل يعني أن البنوك المركزية سوف تغيّر مسارها.

يتوافق تدخّل بنك إنكلترا بعد ردود فعل السوق على ميزانية Truss-Kwarteng المصغّرة في أيلول/ سبتمبر 2022 مع هذا النمط. بعد عمليّات البيع المُفاجئة للدَّيْن العام البريطاني من جانب المستثمرين، والانخفاض الحادّ في قيمة الجنيه الإسترليني، كانت سيولة صناديق التقاعد البريطانية في خطر بسبب الطلبات المتعلقة بعقود المشتقّات المرتبطة بحركة الذهب، والتي تديرها شركات مثل بلاك روك. ولتحطيم حلقة الهلاك، تحوّل بنك إنكلترا في غضون ساعات من التشديد الكمّي إلى برنامج شراء جديد. وأشار كبير المعلّقين الاقتصاديين «إننا نرى مخاوف القطاع المالي تتجاوز مخاوف السياسة النقدية». وأشار تحقيقٌ دقيق - مفيد للبنك - إلى أنه تدخل ليس لإنقاذ صناديق التقاعد أو مديري الأصول العمالقة، ولكن لمنع سوق السندات الحكومية من الانزلاق نحو الفوضى مع كلّ الزيادة المُرتبطة في علاوات المخاطر البريطانية التي قد تتضمّنها.

حتى لو لم يكن أحد يعرف على وجه اليقين أين سيقع الانفجار التالي، فليس هناك شكّ كبير في أنّ القنابل الأخرى على وشك الانفجار. أسواق الإسكان تتعثّر، وإنّ كان ذلك بعد ارتفاع حادّ جرى بالتزامن مع الوباء. والأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أن الضغط غير المُعتاد على الفرنك السويسري على أثر بعض الانتكاسات في Credit Suisse يوضح مدى توترات السوق. من المسلّم به أن محافظي البنوك المركزية سيظلون يندفعون، عند الحاجة، لإصلاح الأنابيب في نظامِ سباكةٍ مالي غير مصرفي مفرط المديونية. اتخذ البنك المركزي خطوة وقائية في هذا الاتجاه في تموز/ يوليو 2022 عندما وضع، في منتصف دورة من التشديد النقدي، «أداة حماية النقل» لدعم الدَّيْن العام للدول الأعضاء، مخافة أن يندرج هذا تحت نمط الضغط الذي عانى خلال الأزمة الأوروبية. من خلال اتخاذ هذا القرار، أقرّ المصرف ضمنياً بأولوية الاستقرار المالي على استقرار الأسعار.

وبالإضافة إلى ذلك، بالقياس لبعض اللاعبين المهمّين، فإن الشوكة التي يمسك فيها التضخّم بالتمويل ذات شُعبة واحدة. فعلى خلاف المُقرضين على المدى الطويل، مثل البنوك، فإن مديري الأصول الكبار أكثر هدوءاً بشأن التضخّم، وهم يفضّلون ذلك مقارنة بارتفاع أسعار الفائدة. يجادل محلّل في شركة بلاك روك (ومصرفي مركزي كندي سابق) بأن الاقتصاد العالمي يمرّ بعملية ضخمة لإعادة تخصيص الموارد الهيكلية ربما تستغرق خمس سنوات أو أكثر، وذلك بالنظر إلى صدمة كوفيد، وانقطاع أوروبا عن الهيدروكربونات الروسية والانتقال إلى الطاقة المُتجدّدة، التي سوف تشقّ طريقها من خلال خلق اختناقات تضخّمية في بعض القطاعات والركود في قطاعات أخرى. ما دامت الأجور  «راسية» - أي طالما أنها لم تبدأ في اللحاق بالأسعار - يجب «استيعاب» التضخّم الناتج عن إعادة التخصيص القطاعي. ارتفاع الأسعار هو طريقة السوق للتعامل مع هذه التعديلات؛ إن محاولة سحقها برفع أسعار الفائدة لن يؤدّي إلّا إلى إطالة أمد العملية الأليمة.

وفي حين أن تركيز بلاك روك على البعد الخاص بقطاع مُحدّد للتضخّم صحيح، إلّا أنه لا يحكي القصّة الكاملة. يفسِّر الاقتصاد السياسي للتمويل سبب تفضيل مديري الأصول موقفاً مناسباً نسبياً. «هذا ليس رأس المال المالي لجدّك»، كما يلاحظ بنيامين براون:

«بالنسبة لمديري الأصول فإن المتغيّرات ذات الأهمّية الأكبر هي أسعار الأصول الإجمالية. وذلك لأن الرسوم التي يفرضونها تُحسب كنسبةٍ مئوية من القيمة الحالية لأصول العميل. اعتماداً على محفظة أموال مدير الأصول الكبيرة، فإن تأثير أداء الصناديق الفردية على نمو الأصول الخاضعة للإدارة أقل بكثير من تأثير التطوّرات الإجمالية في أسعار الأصول. ومن هنا جاء تفضيل بلاك روك لسياسات الاقتصاد الكلّي التي تحافظ على ارتفاع أسعار الأصول، وهو ما يتّضح بقوة من خلال الضغط الاستراتيجي والمستمرّ من أجل السياسة النقدية التوسّعية». 

وكما يمضي براون في الشرح، فإن هذه الأهمّية المتزايدة للأسعار الإجمالية للأصول مقابل العائدات تنطوي على آثارٍ كبيرة على الاقتصاد السياسي للسياسة النقدية.

«لطالما عُومل القطاع المالي على أنه أكثر المشجّعين تحمّساً للأموال الصعبة لأن التضخّم يخفّض من قيمة المطالبات الاسمية للبنوك ضدّ المقترضين. وعلى العكس من ذلك، يخشى مديرو الأصول من خفض قيمة قاعدة أصولهم أكثر ممّا يخشون التضخّم، ما يجعلهم مشجّعين أقوياء للمال السهل. وإن علاقات بلاك روك العميقة مع البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم هي لإماطة اللثام عن هذه النقطة». 

هل يمكننا قياس التدهور المالي؟ كعلاقة بين القوى - سواء داخل إطار رأس المال أو في مواجهة العمل والدولة - لا سبيل إلى اختزال الهيمنة المالية في مقياس واحد. ومع ذلك، فإن إحدى طرق تقدير كثافتها هي النظر إلى حجم التقييم المتوقّع، مقاساً بقيمة الأصول المالية مقارنة بالحجم الاسمي للاقتصاد. شكّل التحوّل في أسواق الأسهم بعد ارتفاع دام عقداً من الزمان المؤشّر الأول في هذا الصدد. منذ تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، انخفض مؤشر ويلشاير 5000 - أوسع مؤشّر للسوق الأميركية القابلة للاستثمار - بنسبة 17.5%. وبقياسه إلى الناتج المحلّي الإجمالي، فإن هذا التطوّر جدير بالملاحظة: انخفض إجمالي القيمة السوقية في أميركا من 200% من الناتج المحلّي الإجمالي إلى 150%، أي دون مستوى ما قبل الوباء. والاتجاه مماثل في أوروبا: حيث انخفض مؤشّر stoxx Europe 600 بنسبة 12.6% خلال الفترة نفسها. وبشكل أكثر دراماتيكية، فإن انهيار أسواق العملات المشفّرة - حيث جرى تداول فئة الأصول الأكثر مضاربة - يعكس الإغلاق المفاجئ للحدود المالية الجديدة.

ومن المؤشّرات الأخرى على ضعف الوضع المالي هي انخفاض حصّته من مجموع الأرباح. انخفضت أرباح القطاع المالي في أميركا من ذروة 27% في بداية العام 2019 إلى 15% فقط في الربع الثاني من العام 2022؛ وفي منطقة اليورو، انخفضت من 10 إلى 6%. وعلى مستوى أعمق، تكمن «قوة التمويل» في السيولة، ممّا يجعل من التمويل نشاطاً مستقلاً. تجسِّد السيولة مطالبة القطاع بالقيمة - وقدرته على تأديب الوحدات الإنتاجية والجهات الفاعلة الحكومية من خلال تحريضها ضدّ بعضها البعض. وهكذا، كلّما اتسع نطاق السيولة - أي كلّما كانت الأسواق المالية أكثر مرونة وتكاملاً - زادت قوّتها. وإلى جانب هذا، يؤثِّر استنزاف السيولة، في السياق التضخّمي الجديد، على الهيمنة المالية. وبالطبع، فإن التضخّم مع الجفاف المالي يتفاقم بسبب السياسة النقدية الأحكم تقييداً.

وخوفاً من تأثير ارتفاع أسعار الفائدة الفيدرالية على «سيولة نظام مُفرط التأموْل»، ومعرّض بشدّة للأصول المحفوفة بالمخاطر، تساءل أحد مديري الاستثمار عن «مخزون وتدفّق الميزانية المالية الإجمالية للنظام» - أي البنك المركزي والبنوك التجارية مُجتمعة - عن «حجمها بالنسبة للمتطلّبات وهل هي تنمو أم تتقلص؟» يتابع: «حجتي هي أن حجم الميزانيات العمومية ليس العامل الوحيد المهمّ، بل تركيبها أيضاً. والآن، فإن التركيب يفوق الحجم أهمّية. إنّ التحوّل في تكوين الميزانية العمومية للاحتياطي الفيدرالي من الاحتياطيات المصرفية إلى التزامات rrp، يستنزف السيولة من النظام المصرفي الواسع الذي يتسم بالمخاطرة، ويحوّله إلى نظام ضيّق للغاية يقوم على المخاطرة. إن التحوّل في تكوين الميزانيات العمومية للمصارف التجارية من التداول المالي إلى التداول الصناعي بقصد دعم اقتصاد اسمي أكبر يقلّل من السيولة المتاحة للأسواق المالية. ويحدّ الضغط التنظيمي من قدرتها على توسيع نطاق المخاطرة. ومن دون مقدّمات، بدأت فكرة السيولة الزائدة في النظام تبدو هزيلة للغاية، لا سيما من منظور السوق المالية.

بالتوازن مع «منظور السوق المالية»، يبدو معقولاً أن الصدمة الناجمة عن جمود الاقتصاد المُعولم التي تَكشّفت خلال الوباء، بالتوازي مع التوتّرات الجيوسياسية المتزايدة، قد ساهمت في إعادة تقييم مزايا القطاع، ممّا أدى إلى تخفيضها النسبي من جانب صانعي السياسة والرأسماليين الحذرين على حدّ سواء. في غضون ذلك، ضخّ التشريع الفيدرالي - قوانين الرعاية والبنية التحتية والرقائق - رأس المال في القطاع الإنتاجي. 

 دروسٌ مؤقّتة

في العام 1879، في عمق الكساد الطويل، قال ماركس مازحاً أنه من الضروري دراسة مسار الأشياء حتّى تبلورها قبل أن يتمكّن المرء من «استهلاكها بشكل منتج، يعني من الناحية النظرية». إن بومة مينيرفا ليست مستعدّة بعد لإصدار حكمها على المنطق الأساسي للظروف شديدة التقلّب التي نعيشها. سوف نتعلّم المزيد. ولكن، ربما أمكن استخلاص ثلاثة دروس مؤقّتة، كميزانية وسيطة للعام الماضي.

أولاً، فيما يتعلّق برسم السياسة النقدية مقابل ضوابط الأسعار: كانت إيزابيلا ويبر محقّة في القول بأن التشديد النقدي كان استجابة خاطئة، وضارّة، للتضخّم المدفوع بالتكلفة. تُعدُّ ضوابط الأسعار الاستراتيجية وسيلة أكثر فعالية لمنع التضخّم من التصاعد من دون انهيار الاقتصاد. على الرغم من أنها ليست ترياقاً سحرياً، إلّا أنها أثبتت قيمتها مراراً وتكراراً كأداة لإدارة الضرر. تعرّضت حجّة ويبر للهجوم في البداية من قبل أمثال بول كروغمان، لكنّها جذبت منذ ذلك الحين الكثير من الاهتمام إليها. بالنسبة للحكّام الأوروبيين، الذين يتأرجحون بين تعهّداتهم للناتو وبين أزمة غلاء المعيشة التي تعصف بناخبيهم، فإن متطلّبات الوضع الحالي قد أخضعت جزءاً عنيداً من الحكمة الاقتصادية السائدة لنقدٍ قاسٍ. تعود سياسة الأسعار للتعامل من جديد مع أزمة الطاقة، وهو ما يشكّل منعطفاً أيديولوجياً. إن التسليم بأن الأسعار ليست ظواهر طبيعية وجوهرية، وإنما بالإمكان وينبغي إدارتها لتفادي الألم غير الضروري يمكن أن يكون له آثار بعيدة المدى. أصبحت سياسات الأسعار والائتمان والاستثمار مرّة أخرى أدوات مشروعة تستعين بها الحكومات. هذا التجريد من جنسية السوق هو إعادة فتح مهمّة لحيِّز السياسة. 

صحيح أن الاتحاد الأوروبي كافح للاتفاق على آليّة للتحكّم في الأسعار، لكن بروكسل تتخطّى منطقة روبيكون. وبما أن الحدّ الأقصى للأسعار يجب أن يُستكمل بآليات غير سعرية لخفض الطلب وتجنّب النقص المُتفاقم، فإن بعض التسييس لتخصيص الموارد أمر لا مفرّ منه، وهو مسار يشكّل النقيض من مبدأ النيوليبرالية.

عندما ينهار السوق، يجب التفاوض على «أهداف واضحة واقتسام عادل للأعباء»، من أجل استيعاب الطلب لقيود العرض، باستخدام أدوات مثل التسعير التدريجي والتخطيط ذي الأولوية للتوزيع في حالات الضغوط الكبيرة. لقد بات هذا النوع من المفاوضات حقيقة واقعة في أوروبا اليوم. 

الدرس الثاني للتضخّم الجديد هو درسٌ كاليكيانيِّ. في نموذج العام 1962، حدّد ميشال كاليكي ديناميكية ثلاثية لتوزيع الدخل بوسعها أن تلقي الضوء على تجربة العام الماضي. أشار كاليكي إلى الطابع الطبقي للتضخّم: ارتفاع أرباح الشركات الكبرى، وانخفاض الأجور الحقيقية، والإفقار (النسبي) للأجراء. كما أشار: «الأجور الحقيقية عادة ما تنخفض، وحقيقة أن مستواها أقل بكثير من المُعتاد يمكن رؤيتها من خلال توزيع الناتج القومي». ظاهرة أخرى تتجلّى فيها ألا وهي إفقار الريعي. والمقابل لذلك هو الأرباح الهائلة لأصحاب المشاريع بشكل عام والشركات الكبرى على نحو خاص.

ومن ثم، فإن إحدى السمات المميّزة للوضع هي الارتفاع المفاجئ في الأرباح إلى جانب الانخفاض في قيم الأصول. ولهذا نتيجتان. أولاً، المعركة من أجل زيادة الأجور الحقيقية هي قضية ملحّة للغاية. ولكن، ثانياً، لا ينبغي الخلط بين هذا والعداء العام للتضخّم المعتدّل بِشقّه المعادي للريع.

الدرس الثالث، الذي علّمته سوزان دي برونهوف، هو أن استمرار التضخّم قد يكون له بُعدٌ نقدي. وكما أوضحت في أواخر الستينيات، «لا يمكن لأي سياسة نقدية أن تلغي الأسباب الاقتصادية للضغوط المالية؛ الاستقلالية النسبية التي تجعل من الممكن للسياسة النقدية أن يكون لها تأثير تحدّد في الآن نفسه حدود مجال عملها».

منذ العام 2008، حافظت البنوك المركزية على قيمة الأصول المالية من خلال سياساتها النقدية الموسّعة. وقدّمت تحقّقاً نقدياً لتوقّعات القطاع الخاص لمالكي الأصول المالية، وتوقّعات تتعلّق بالتقييم الحقيقي في المستقبل وتعتمد على تعدد عمليّات العمل غير المؤكّدة والمتفرّقة التي لم تتحقّق بعد. وبما أن هذا النشاط النقدي لم يقابله طفرة في الاستثمار الإنتاجي، فإن التحقّق المُسبق تجاوز بكثير القدرة الفعالة للنظام على خلق فائض في القيمة.

إن التصاعد الحالي للتضخّم يكشف أن التحقّق النقدي لرأس المال المالي من قبل البنوك المركزية كان، في الواقع، تحققاً زائفاً. هذا ما كانت تشير إليه دي برونهوف عندما كتبت أن «التضخّم - رسمياً - له خصائص الأزمة وليس بديلاً عنها (لا توجد معجزة تضخّم). لكن «تأثير عدم التحقّق يخفَّف ويوسَّع». وبعبارة أخرى، التضخّم هو أزمة مالية بطيئة الحركة. ومن هذا المنظور، لا تقتصر أُسس التضخّم الجديد على اقتران الوباء والتوترات المادية الناشئة عن التحوّل الأخضر والحرب في أوكرانيا.

إنه يشير جزئياً إلى أثر الأزمة المالية لعام 2008 والازدهار المالي الذي أعقبه في العام 2010 على النظام النقدي، تغذّيه السياسات النقدية غير التقليدية. من خلال التخفيض الحالي لقيمة الأصول المالية، يتمّ هضم رأس المال الوهمي المُتراكم ببطء. ومن المتصوّر أن يحدث «الانكماش الكبير في الأسواق المالية» الذي تم تأجيله منذ العام 2008 بطريقة منظّمة نسبياً.

بعد لوي ألتوسير، يقترح الإطار التنظيمي أن الرأسمالية «لديها وحدة هيكلية حاكمة». بعد العلاقة بين الأجور والعمل في حقبة ما بعد الحرب، كان رأس المال المالي هو العنصر المُهيمن في النظام على مدى العقود القليلة الماضية. إنّ عهده يضمحل، ممّا يفتح المنافسة على العرش. من غير الواضح ما قد يكون المكوّن الرئيسي التالي للبنية، ولم يتم تحديده بعد. يمكن أن يوفّر الانتشار الواسع للمحتكرين الفكريين مرتكزاً منهجياً، وقد يؤدّي إلى نمط إنتاج «تقني إقطاعي» رجعي. بدلاً من ذلك، يتوقّع البعض في مجتمع الاستثمار أن القمع المالي والقمع الاقتصادي سوف يؤدّيان إلى انتعاش إنتاجي للتراكم. يطمح اليسار إلى أمر آخر: بعد عقود من الهذيان السلعي، سوف يكون التحوّل إلى التخطيط الديمقراطي - توجيه الاستثمار بما يتوافق مع الاحتياجات الاجتماعية والحدود البيئية - بمثابة انتقام القيمة الاستعمالية.

نُشِر المقال في New Left Review في عدد تشرين الثاني/ نوفمبر - كانون الأول/ديسمبر 2022. 


ملاحظات المترجم
* أسفر النقاش حول مآل التضخّم في المستقبل عن بروز معسكرين: المعسكر المعروف في الولايات المتّحدة باسم «فريق المؤقت» يرى أن الارتفاع الأخير في معدّلات التضخّم ذو طبيعة وقتية عابرة. أمّا ما يُسمّى بـ«فريق الدائم» فيحذّر بدوره من تغيير نظام التضخّم تغييراً جذرياً مستداماً.
** تأثير السوط (Bullwhip effect)‏ هو ظاهرة لوحظت في قنوات التوزيع التي تحرّكها التوقّعات. يشير إلى وجود اتجاه لتقلّبات أكبر وأكبر في المخزون نتيجة الاستجابة للتغيّرات في الطلب. ظهر هذا المصطلح للمرّة الأولى في كتاب «الديناميات الصناعية» لـ «جاي فوريستر» (1961)، وبالتالي يعرف أيضاً بأنه تأثير فورستر.