Preview رأسمالية الابارثايد

ماركس ضد سبنسر
ضد رأسمالية الآبارثايد و«الفاشية الفوضوية»

«إن وحدة القادة الفاشيين تُلْحَم فقط بخوفهم المشترك من الشعب الذين يمارسون الطغيان عليه وبالرهبة من القدر المشؤوم الآتي» - ماكس هوركهايمر

يحاول البعض أن يربط بين الحرب الإسرائيلية على غزّة وبين المستوى الاقتصادي، سواء عبر اعتبار أهداف الحرب أو مسبِّباتها أو مفاعيلها مرتبطة ببعض المشاريع «الجيواستراتيجية»، مثل الطريق الهندي، وقناة إيلات، وغاز غزّة، واستبدال مرفأ بيروت بميناء حيفا، وغيرها من الأمور، التي هي بحدّ ذاتها إمّا غير حقيقية مثل أسطورتيْ استبدال المرافئ أو قناة إيلات، أو لا علاقة مباشرة لها بهذه الحرب مثل الطريق الهندي (وإن كان أيضاً تنفيذه دونه عراقيل كثيرة) أو غاز غزّة. 

الأجدى في خضم هذه الحرب، التفكير في ماهية الرأسمالية الإسرائيلية اليوم، وكيف تتماهى هذه الرأسمالية مع الحرب على غزّة. فالسؤال الذي يطرح نفسه: هل يمكننا فهم ما يحدث أو استشراف ما سيحدث في فلسطين ومنطقة الشرق الأوسط من دون أن نبحث في الطبيعة (المتغيّرة طبعاً) للرأسمالية الإسرائيلية والاقتصاد السياسي الإسرائيلي؟ عندها فقط ربّما يمكن الربط بين هذه الرأسمالية وامتداداتها الخارجية، إن عبر التجارة أو خطوط النقل أو الاستثمار الخارجي، أو التمدّد أو التنافس القومي على الموارد وغيرها. 

في هذا الإطار، لا شكّ أن هناك تحوّل على المستوى العالمي إلى رأسمالية أكثر تناقضاً مع الديمقراطية بعد أن زاد الاستقطاب الطبقي في الدول الرأسمالية في الأربعين سنة الماضية، ويذهب يانيس فاروفاكيس إلى اعتبار أن الرأسمالية تُستبدل الآن بالإقطاعية التقنية (technofeudalism). كما أن الرأسمالية في بعض الدول الأوروبية والهند والولايات المتّحدة في عهد ترامب، الذي قد يعود في الانتخابات المقبلة، اتجهت إلى رأسمالية شعبوية يمينية معادية للعولمة والليبرالية، والآن في الأرجنتين حصل صعود يمين ليبرتاري متطرّف مُعاد للديمقراطية، وأعلن الرئيس المنتخب فيها أن إسرائيل هي شريك أساسي للأرجنتين. هذه المتغيّرات تحصل اليوم معلنة انتهاء ما يمكن أن نسمّيه الآن حلم المفكّر الأميركي فرانسيس فوكوياما بانتصار الليبرالية الرأسمالية في العالم، الذي أطلقه في بداية التسعينيات بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والأنظمة الاشتراكية في أوروبا الشرقية. اليوم حتى فوكوياما نفسه أعلن إلى حدّ كبير انتهاء هذا الحلم. 

في العالم العربي، وفي الوقت نفسه تقريباً الذي أعلن فيه فوكوياما «نهاية التاريخ»، ومع محادثات مدريد وأوسلو في بداية التسعينيات، كانت هناك «أحلام» أخرى تتشكّل عن فلسطين والشرق الأوسط، تتمثل بقيام واحة اقتصادية ليبرالية في المنطقة تضم إسرائيل وما كان سينتج عن أوسلو من شكل للدولة الفلسطينية والدول العربية. اليوم، وكما انهارت أحلام فوكوياما، انهارت هذه الأحلام الشرق أوسطية أيضاً. وفي هذا الوقت الضائع، أي بين أوسلو واليوم، تثبتت طبيعة الرأسمالية الإسرائيلية، التي اعتبرتها هذه المشاريع مثالاً يحتذى لليبرالية والديمقراطية، بوصفها رأسمالية الآبارثايد، وأضحت أيضاً على مشارف الرأسمالية الفاشية.

الشرق الأوسط الجديد؟

ربما، لم يعد هناك إلا القليل من الفلسطينيين الذين يؤمنون بعملية السلام التي ابتدأت مع اتفاقية أوسلو. لكن بسبب العودة بين الفينة والأخرى إلى مفهوم الشرق الأوسط الجديد، وموجة التطبيع الأخيرة التي انتهت بما عرف بـ«المعاهدات الأبراهيمية»، من المهم العودة إلى ما كُتب في تلك الفترة لنرى الفارق الكبير بين الدعاية والواقع عند الحركة الصهيونية، التي حتى عندما تتحدّث عن السلام هي تعني الحرب والسيطرة. 

الحرب اليوم سيكون لها انعكاسات كبيرة على هذا التناقض، فإمّا يتراجع اليمين، وامّا ستنتقل الفاشية إلى الداخل، وبالتالي تصبح النهاية التاريخية للمشروع الصهيوني هي رأسمالية آبارثايد وفاشية

في أعقاب اتفاق أوسلو صدر كتاب شيمون بيريز «الشرق الأوسط الجديد» في عام 1993، وفي هذا الكتاب تجلي واضح لهذا التناقض الكبير بين المعلن والواقع. أولاً، كتب بيريز أن اجتياح 1982 للبنان كان خطأ، ولكن بعد ثلاث سنوات فقط، عندما كان رئيساً للوزراء، بدلاً من أن ينسحب من لبنان، شنَّ عدوان ما سمِّي «عناقيد الغضب»، وارتكبت القوات الصهيونية جريمة مجزرة قانا الذي ذهب ضحيتها المئات من المدنيين في مجمع الأمم المتحدة هناك.

على مستوى القضية الفلسطينية والشرق الأوسط، يتحدّث بيريز عن رؤيته لشرق أوسط يعمُّه السلام والرخاء الاقتصادي. وقد تحمّس البنك الدولي أيضاً في تلك الفترة ليكون له دور في إقامة هذه «الجنة النيوليبرالية»، ليس في فلسطين فقط بل في الشرق الأوسط كلّه. يقول بيريز بعد نقده النظام الشيوعي في الاتحاد السوفياتي إن «مبادئ السلطة التوتاليتارية لن تكون هي في مركز عالم الغد. بل مبادئ الجدارة أو القيادة المبنية على المعرفة المُحقّقة في الجامعات ومراكز الأبحاث ستكون هي المسيطرة. إن الجمع الطبقي أو القومي لن يكونا أساس التنظيم الاجتماعي، لكن الفرد سيرتفع إلى مستوى المسؤولية. والأهداف الوطنية لن تكون مبنية على السيطرة والتوسّع بل مبنية على تحسين جودة الحياة ورفع مستوى المعيشة وزيادة معدل عمر الإنسان». وعن غزّة، يقول بيريز إن «إسرائيل ليس لديها الموارد لإعادة إنعاش قطاع غزّة ولا تحسين وضع سكانها السيء… ما الجيد في السيطرة إذا لم نستطع تحسين الظروف؟ ما هي مسؤولية إسرائيل الأخلاقية؟... شمشون في زمانه أخذ الخطوة القصوى بتهديمه أعمدة الهيكل في غزة. ليس هناك من سبب لإعادتنا الأمر نفسه». وأخيراً، يقول في خطابه (الملحق في الكتاب) أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 28 أيلول/سبتمبر 1993: «غزة بعد 7000 عاماً من العذاب، تستطيع أن تحرّر نفسها من العوز». اليوم، وأمام العالم كلّه إن ما يحدث في فلسطين وفي غزّة هو نقيض كل ذلك حرفياً!

كيف انتقلنا إلى ما نحن عليه اليوم؟

هذا الوصف، الذي يعد بالسلام وشرق أوسط اقتصادي وانتشار الديمقراطية، كان حتى في الكتاب، وليس فقط في ما قامت إسرائيل به منذ ذلك الوقت من حروب وعدوان واستيطان واستمرار للاحتلال، من المستحيل تحقيقه في ظل أربعة أمور تحدّث عنها الكتاب. فبيريز رفض أربعة أشياء. أولاً، تخلّي إسرائيل عن السيادة على القدس، وبالتالي عدم الاعتراف بأن المستوطنين في القدس الشرقية هم مستوطنون. ثانياً، عدم الاستعداد للقبول بدولة فلسطينية مستقلة والاكتفاء بإقامة كونفدرالية فلسطينية-أردنية تكون فيها الأراضي الفلسطينية منزوعة السلاح. ثالثاً، عدم الاستعداد لتفكيك الاستيطان في الضفة. رابعاً، نفي حق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى فلسطين الـ48. كل هذا يعني أن هذا المشروع حتى في أكثر أوجهه «الليبرالية» ولد ميتاً، وحضّر الأجواء السياسية لصعود اليمين.

في هذا الإطار، يمكن القول إن الخطيئة الأولى كانت اتفاق أوسلو، إذ استعملته الأحزاب الصهيونية المختلفة المشارب من أجل عدم تحقيق الآمال الوطنية للشعب الفلسطيني في الدولة المستقلة، فقد استمر الاحتلال والاستيطان والاعتقالات والقتل، وتحوّلت إسرائيل أكثر وأكثر إلى اليمين واليمين المتطرّف، وفي هذا إعادة إحياء أو تأكيد على «القومية» التي زعم بيريز أن لا مكان لها في عالم الغد، فعادت القومية الصهيونية في أسوأ صورها، وهذه الأمور تأخذ شكلها الأكثر بشاعة في ما يجري اليوم في فلسطين وغزّة. 

لكن على المستوى الاقتصادي، كانت البذرة أيضاً زرعت لإقامة رأسمالية آبارثيد ضد الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية بدلاً من تلك الوعود الوردية الواردة في الكتاب. وهنا يمكن القول، وخلافاً لطروحات بيريز، إن «الطبقية» عادت أيضاً، ولكن بشكلها الأكثر تطرفاً في نظام الآبارثيد ضدّ الفلسطينيين، وحتى ضدّ الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 48، إذ يبلغ الناتج الفردي عندهم نحو 17 ألف دولار في مقابل المعدل العام البالغ نحو 38 ألف دولار في عام 2017. ويعكس هذا الفارق بحسب آدم تووز «التمييز البنيوي في المجتمع العربي في إسرائيل». أمّا في الضفة الغربية، هناك مؤشر واحد كافٍ لاستبيان ذلك. يقول بيريز في الكتاب إنه في عام 1993 كان هناك 120,000 مستوطن في الضفة وهو لم يحسب الذين في القدس الشرقية والبالغ عددهم آنذاك أكثر من 150,000. اليوم هناك حوالى 500,000 مستوطن في الضفة و230,000 في القدس الشرقية. وهذا النمو غير المتساوي بين القدس والضفّة يعني أن الإسرائيليين صعّدوا الاستيطان في القدس في المرحلة الأولى (front-loading)، ومن ثم فعلوا الشيء نفسه في الضفّة. وهذا يعكس بشكل فاضح واقع رأسمالية الآبارثيد. فليست ديناميكية الأسواق الحرة ولا الليبرالية الرأسمالية هي التي جذبت هؤلاء المستوطنين، بل هم جزء من المشروع الاستيطاني الصهيوني الذي استمر وتكثّف بعد أوسلو. في هذا الإطار، إن ما يمكن أن نسمّيه «اللاءات الأربعة» تعني أنه حتى لو لم توضع العراقيل اللاحقة أمام أوسلو لكان الوضع على ما عليه الآن. يقول البعض إن عملية السلام ماتت مع رابين. في الحقيقة هي ولدت ميّتة.

إتفاق باريس والتهميش

حتى على الصعيد الاقتصادي، وهو ما اعتبره بيريز المحدّد الرئيسي للرفاه بدلاً من السياسة، فإنه منذ البداية كان الفرق الشاسع بين ما روّج عن اقتصاد الشرق الأوسط الجديد وبين مندرجات إتفاقية باريس للعلاقة الاقتصادية التي وقعت في 1995 وأصبحت جزءاً من أوسلو. فبروتوكول باريس جعل الفلسطينيين فعلياً خارج هذا الاقتصاد الجديد المزعوم حتى لو تم بناؤه، وهذا ما ترجم في الوقائع الاقتصادية لاحقاً. فعلى الرغم من النمو الاقتصادي الذي حصل في الضفة الغربية (وليس غزّة) في الثلاثين سنة الماضية، لم يكن هذا النمو بأي شكل من الأشكال ما يمكن توقعه في بلد خارج من الاحتلال أو الحرب. وقد كان هذا النمو مدفوعاً أساساً بالمساعدات الخارجية كما يقول البنك الدولي. وأدّى بحسب مقالة لهنا حسين في الميدل إيست مونيتور في 2018 إلى اعتماد المناطق الفلسطينية على التجارة مع إسرائيل التي يعتريها عجز تجاري كبير، ما يعني أن المساعدات الخارجية تتسرّب إلى الاقتصاد الإسرائيلي. واستعملت إسرائيل أيضاً سلطاتها المالية والضرائبية الممنوحة لها في بروتوكول باريس لمعاقبة الشعب الفلسطيني بتأخير، وحتى الامتناع عن، دفع المستحقات متى تشاء، في ظل تراجع حصتيْ الصناعة والزراعة في الاقتصاد الفلسطيني. إذاً، حوّل اتفاق أوسلو الاقتصاد الفلسطيني إلى اقتصاد معتمد على الاحتلال، وعلى المساعدات الخارجية وإلى اقتصاد ريعي. وأكثر تحديداً، ففي تقرير للبنك الدولي صدر في عام 2017، قال إن الاقتصاد في الضفة الغربية كان سيكون أكبر بنحو 36%، وفي غزة أكبر بنحو 40% بحلول عام 2025 لو تم العمل على معالجة ما اعتبره التقرير أربعة «تقييدات خارجية»، وهي تحسين الإجراءات الإسرائيلية على معابر الحدود، وإعادة النظر بلائحة السلع المزدوجة الاستعمال أي الحربية والمدنية، ورفع التقييدات الإسرائيلية على المنطقة ج (التي تشكل 60% من الضفة!) وأخيراً رفع الحصار عن غزّة. أين الأسواق الحرّة من كل هذا؟ هذا جلياً يعكس اقتصاد آبارثايد.

نيوليبرالية الأمن القومي

كتب آدم تووز في 5 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي مقالاً بعنوان «نيوليبرالية الأمن القومي في إسرائيل تحت الاختبار»، تناول الاقتصاد السياسي الإسرائيلي قبل وبعد 7 أكتوبر. يستعرض تووز في المقال نظرية الأستاذ في جامعة تل أبيب آري كرامبف، التي يقول فيها إن إسرائيل، وبعد الانتفاضة الثانية في العام 2000، قرّرت تغيير نموذجها الاقتصادي المعتمد على الخارج وإنهاء الرهان على اقتصاد السلام وبنت «النيوليبرالية الصقورية» أو «نيوليبرالية الأمن القومي»، فتم التقليص من دور الدولة والتحوّل إلى نمو عبر التصدير ومُقاد من القطاع الخاص وتزايد الاستثمارات الخارجية، وهذا هو الجانب النيوليبرالي. وهذه النيوليبرالية تعايشت مع عزل غزة والاحتلال والاستيطان في الضفّة وعدم قيام الاقتصاد الإقليمي المبني على السلام، فأصبحت النيوليبرالية الأمنية. وقد بنت إسرائيل في هذه الفترة، أي في العشرين سنة الماضية، قطاع التقانة العالية الذي نما في كنف هذه النيوليبرالية الاقتصادية. أخيراً، في الوقت الحالي، بالإضافة إلى الخلافات داخل الحكومة حول السياسة الاقتصادية في خلال الحرب، هناك تزايد في الانقسام حول الاقتصاد السياسي الإسرائيلي وهناك تيار يحاول الحد من نفوذ اليمين الديني. كما أن مستقبل قطاع التقانة العالية يزداد ضبابية بعد 7 أكتوبر، بسبب مفاعيل الحرب وانتقال الكثير من موظّفي هذا القطاع للخدمة في الاحتياط، خصوصاً الذين يعملون في الشركات المتعدّدة الجنسيات، ما يهدّد مكانة هذا القطاع في جذب الاستثمارات الخارجية أو حتى قد يؤدّي إلى انسحابها.

… إلى الفاشية؟

في مقالة لآدم تووز أيضاً قبل الحرب، في 6 آب/أغسطس 2023، قسّم التاريخ الإسرائيلي إلى أربع مراحل ذات خصائص مختلفة: مرحلة البناء من 1948 إلى 1967، مرحلة الحروب والأزمة من 1967 إلى 1985، لحظة عملية السلام والعولمة من 1985 إلى 2000، وأخيراً المرحلة التي تحدثنا عنها وهي مرحلة نيوليبرالية الأمن القومي من 2000 وحتى الآن. إذاً، السؤال الذي يطرح نفسه في خلال الحرب على غزّة وبعدها: هل ستستطيع نيوليبرالية الأمن القومي أن تصمد؟ أم سيكون هناك انتقال إلى مرحلة خامسة جديدة؟ 

الفاشية في إسرائيل ستكون أكثر تمزّقاً، تتصارع فيها مصالح المستوطنين والألترا-أرثوذكسيين والجيش وبعض الرأسمال والأحزاب الدينية والقومية، وربما الحرس القومي الذي دعا إلى تشكيله وزير الأمن اليميني المتطرّف بن غفير

ما لا شك فيه أن مفترق طرق تاريخي سيبرز في خلال الحرب وبعدها، وسيعتمد على نتائجها. فالحرب وضعت هذه النيوليبرالية الأمنية أمام مأزق، وهي على وشك الانتهاء والانفصال إلى صراع بين النيوليبرالية وبين الأمني فيها. في هذا الإطار، تعتبر إسرائيل الـ«startup nation»، وكما ذكر سابقاً فهي بنت القطاع العالي التقانة الذي يعتبر معقل الليبرالية، وقد أدّت الحرب على غزة إلى اهتزاز هذا القطاع. ولكن هذا الاهتزاز بدأ فعلياً قبل الحرب. فقد أصبح هذا القطاع، إلى حد ما، مركز التوتر السائد بين التيارات الليبرالية واليمين، والتي وصلت إلى ذروتها في التظاهرات التي حصلت حول صلاحيات المحكمة العليا في خلال السنة الماضية. ويعكس هذا الأمر كون القطاع ليبرالياً (كما هو في الولايات المتّحدة ولذلك يعتبر السيليكون فالي هدفاً مفضّلاً لشعبوية ترامب)، كما أنه شديد التأثر بالتغييرات السياسية والقانونية. يقول مقال في النيويورك تايمز في 24 شباط/فبراير 2023 إن شركات عديدة في هذا القطاع كانت تفكر آنذاك في المغادرة نتيجة الصراع القانوني الذي شنّته الحكومة واليمين على المحكمة العليا، لأنه اعتبر أنه يزعزع أسس حكم القانون، كما بحسب أحد الاقتصاديين الإسرائيليين يعكش هذا الصراع «إعادة توزيع من القطاع العالي التقانة إلى الأقليات الدينية والقومية وستحوّل إسرائيل إلى بلد غير ليبرالي». بالفعل، فقد بدأ منذ ذلك الوقت هروب رؤوس الأموال. وفي مقالة أخرى في الفايننشال تايمز بعنوان «قطاع التقانة الإسرائيلي يطلق الإنذار حول تغييرات بنيامين نتانياهو القضائية» في 3 آب/أغسطس الماضي، ذكر أن 68% من شركات start ups قد اتخذت إجراءات لنقل أعمال او أموال إلى الخارج منذ بدء المعركة القضائية، كما أن الاستثمار في قطاع التقانة، الذي يشكّل سدس الاقتصاد ونصف الصادرات، كان 67% أقل في النصف الأول من العام الماضي مقارنة بالعام الذي قبله (وإن كان هذا يعكس أيضاً منحى عالمي إلا أنه كان أكبر من التدني في أوروبا والولايات المتحدة). كما أن التداعيات السياسية لا تزال ماثلة، وحتى كانت منذ البداية، ففي 29 تشرين الأول/أكتوبر دعا الرئيس التنفيذي لشركة موبايل آي لتكنولوجيات النقل الذاتية، وهي من أكبر شركات التقانة العالية، إلى استبدال نتانياهو وحكومته.

ولكن هذا الموقف السياسي لليبراليين لا يزال هشّاً، وإذا كان الانفصال بين النيوليبرالية والأمني سيتجه إلى أشكال أكثر تطرّفاً تصل إلى الفاشية، فإن مقدرة الليبراليين على منع ذلك ستكون ضعيفة. فالفاشية تجر وراءها الليبرالية والرأسمالية كما حدث في ألمانيا، وقد تدعمها بعض الفئات الرأسمالية المختلفة، بالإضافة إلى الفئات الأخرى مثل البروليتاريا الرثة، وفي حالة إسرائيل هي مزيج من ذلك ومن المستوطنين والمتدينين المتطرّفين. فهل ستستطيع الرأسمالية الإسرائيلية الإفلات من عزم الفاشية وجماحها؟ الحرب ستلعب دوراً هنا. طبعاً للحرب آثار اقتصادية مباشرة وخسارة في الناتج المحلي، ولكن هذا الأمر لا يجب النظر إليه فقط من زاوية استطاعة أن تتحمّل إسرائيل الحرب من دون النظر إلى الاقتصاد السياسي لها. هناك، في هذا الإطار، أسئلة تطرح نفسها: هل الرأسمال يريد الحرب والتحوّل إلى اليمين أكثر؟ وهل قوته السياسية قوية نسبة إلى اليمين القومي والديني؟ وهل يريد الرأسمال العودة إلى مرحلة «عملية السلام والعولمة» التي قال عنها كرامبف: «إن العلاقة بين المصالح الاقتصادية والأمنية (الحمائمية لبيريز بحسب كرامبف) كانت أيضاً مبنية على مصالح القطاع الخاص، والذي كان متوقعاً أن يستفيد من تحقيق رؤية الشرق الأوسط الجديد» (من مقالة لتووز أيضاً في 1/1/2024). هذه هي الأسئلة الأساسية وليس إذا انخفض الناتج المحلي بنسبة مئوية ما. والحرب اليوم سيكون لها انعكاسات كبيرة على هذا التناقض، فإما يتراجع اليمين، وإما ستنتقل الفاشية إلى الداخل، وبالتالي تصبح النهاية التاريخية للمشروع الصهيوني هي رأسمالية آبارثايد + فاشية.

وهنا تكمن الخطورة الكبرى، حيث ستستكمل الدولة الإسرائيلية تحوّلها إلى دولة توتاليتارية فاشية، تعمل على أسس ما كتبه الاقتصادي الماركسي رودولف هيلفردينع في الثلاثينيات، إذ تُخضع الدولة المصالح الطبقية لمصلحتها و«تقبض على المجتمع» وتتحوّل إلى اقتصاد حرب مدعوم بالشعارات القومية. وهكذا فإن الفاشية في إسرائيل ستكون «سياسية» وليست «اقتصادية». في هذا الإطار، إن الفاشية الإسرائيلية لن تكون «ليفياثا»، أي أن تكون دولة توتاليتارية قوية، بل دولة «بيهيموث»، أي حكم الاضطراب والفوضى (أيضاً من توماس هوبز). كما وصف أحد مفكّري مدرسة فرانكفورت الماركسية فرانز نيومان النازية في عام 1942 بأنها تحكمها مصالح مختلفة وتتسم بنوع من الفوضى. فإذا كانت الفاشية في ألمانيا النازية هكذا، فإن الفاشية في إسرائيل ستكون أكثر تمزّقاً، تتصارع فيها مصالح المستوطنين والألترا-أرثوذكسيين والجيش وبعض الرأسمال والأحزاب الدينية والقومية، وربما الحرس القومي الذي دعا إلى تشكيله وزير الأمن اليميني المتطرّف بن غفير. وهذا التحوّل، وإن جعلها أقوى أمنياً، إلا أنه سيجعلها أضعف اقتصادياً. فمثلاً الألترا-أرثوذكسيين لديهم نظامهم التعليمي الخاص الذي سيؤثر سلباً على الناتج المحلي للفرد بنسبة 5% في العقد القادم و10% في 2050 (نقلها تووز عن دراسة لمؤسسة إسرائيلية). هذا، بالإضافة إلى مفاعيل الحرب الحالية، سيجعل إسرائيل أكثر عدائية، فسياسات الدولة التوتاليتارية الضعيفة أكثر حربية بحسب هيلفردينغ، وتؤدّي إلى مزيد من الحروب. اليوم، تتجلّى إرهاصات هذه الدولة الفاشية في حرب الإبادة الجماعية والتدمير الممنهج والتطهير العرقي في غزة، وفي جرائم الحرب التي ترتكبها عمداً ضد المدارس والمستشفيات والأماكن السكنية والمدنيين أينما كانوا، وتتجلى أيضاً في مواقف القادة الفاشيين ومؤيديهم حول العالم ضدّ غزة والفلسطينيين وحقيقة قضية فلسطين، وضدّ كل من ينتقد إسرائيل أو يدعم الفلسطينيين في العالم، من شعوب ومنظمات وشخصيات ومفكرين وحتى الأمم المتحدة والصليب الأحمر، والحملة التي تشنّ حول العالم في الجامعات ضدّ الأكاديميين والطلاب من أجل محاولة مساواة معاداة الصهيونية بمعاداة السامية ومساواة استعمال كلمة الانتفاضة أو رفض الصهيونية أو رفض يهودية الدولة أو الدعوة إلى فلسطين حرة من البحر إلى النهر بالدعوة إلى إبادة اليهود، وهي كلها بالطبع غير ذلك تماماً، وتتجلّى إرهاصات هذه الدولة الفاشية في محاولة إسكات الأسرى المحرّرين ومنع الاحتفالات واقتحام منازل الأهالي، وفي الحملة ضد وقف إطلاق النار، وفي إحدى المظاهرات التي شهدتها واشنطن في 14 تشرين الثاني/نوفمبر وتحدّث فيها رئيس الكونغرس الأميركي مايك جونسون رافضاً وقف إطلاق النار، ما حمل الجماهير المحتشدة على الهتاف تكراراً «لا وقف لإطلاق النار»، وهو يهزّ برأسه موافقاً. كل هذا يعكس تصرف جماعي لا يمكن وصفه إلا أنه يعكس مقولة هوركهايمر.

من الداخل إلى الشرق الأوسط وبالعكس

السؤال الذي يطرح نفسه أيضاً: ما هي مصلحة الرأسمال الإسرائيلي على مستوى الشرق الأوسط؟ في هذا الإطار، شكّل الوجه التقني المتقدّم لإسرائيل رأس حربة حتى في عام 1993 في مشروع الشرق الأوسط الجديد لبيريز، ويمكن القول إن الاتفاق مع الفلسطينيين آنذاك كان العرض الجانبي (side show)، أما العرض الحقيقي هو دمج إسرائيل اقتصادياً في المنطقة العربية، والذي بسبب تفوّقها التكنولوجي والاقتصادي، يستطيع الرأسمال من خلاله أن يحقّق الريوع العالية في امتداداته العربية خصوصاً نحو الخليج العربي. لقد قضت الحرب، مهما كانت نتائجها، على كل مشاريع الشرق الأوسط الجديد وآخرها مشروع نتانياهو (وهي كانت للمفارقة نتاج لها)، وبالتالي على هذا الأمل بالتوجّه الخارجي للاقتصاد الإسرائيلي وقطاعه العالي التقانة بالأخص. كما أن إحدى مفاعيل الحرب هو عودة القضية الفلسطينية إلى الأجندة السياسية حول العالم وحصول تضامن كبير من شعوب العالم ومن التيارات اليسارية والنقابية والتقدّمية والإنسانية، وحتى طرح دول أوروبية بجدّية حلّ الدولتين مثل إسبانيا وبلجيكا. وبالتالي، فإن هذه التحوّلات قد تكون الدافع لليمين المتطرّف أن يوسّع الحرب لجعلها حرباً شاملة، كما فعلت ألمانيا عندما شنّت الحرب على الاتحاد السوفياتي لتحقيق فكرة «الفضاء الحيوي» للشعب الآري. لكن المعضلة بالنسبة لإسرائيل أن «الفضاء الحيوي» هو المجال الاقتصادي للدول العربية ولم يعد التمدّد الجغرافي خارج فلسطين. لقد ظن نتانياهو أنه أخيراً استطاع أن يحقّق ذلك التمدد بالتطبيع من دون دفع الثمن، وهو الدولة الفلسطينية، وكأنه يجمع بين النيوليبرالية تجاه الخليج العربي خصوصاً، وبين الجدار الحديدي لجابوتنسكي تجاه الفلسطينيين، وكاد يحصل بذلك على «أفضل العوالم». الآن، هذا لم يعد ممكناً. لقد دمّر نتانياهو بنفسه جدار جابوتنسكي كما جاء في مقالة في هآرتس في 8 تشرين الثاني/نوفمبر. هنا إذاً المعركة اليوم. الكثيرون يتحدثون عن مصير نتانياهو بعد الحرب، لكن السؤال الأساسي: ما هو مصير الرأسمالية في إسرائيل خلال الحرب وبعدها بعد انهيار هذا «الحلم»؟

هناك اليوم تحدي تاريخي أمام الدول العربية لإنهاء هذه التراجيديا، ليس لسبب أخلاقي فقط، بل لأن المكانة العربية أيضاً تتطلّب أن يمتلك الشعب الفلسطيني القوة والثروة

في السياق الحالي، هذه المعركة من الصعب حسمها في الداخل. فاليسار المعادي للصهيونية والاحتلال ضعيف، والخط الليبرالي، الذي أصلاً في تاريخه لم يرد رفع الاحتلال، إما يهاجر (رأسمالاً وبشراً) أو يتحوّل إلى اليمين أو يهمش الآن، وبالتالي فإن التناقض كما وضعه أحد الناشطين اليساريين آساف آديف في مقالة في 2011 (كما ذكرت في مقال تووز) «إسرائيل منقسمة بين مخيّمات اللجوء في نابلس وبين مقاهي تل أبيب»، أي بين الاندماج الاقتصادي بالعولمة التي تمثله البورجوازية المدينية وبين الوضع الأمني الذي يمثله الاحتلال والمستوطنون، يبدو اليوم أنه داخلياً يحسم لصالح الأمني. من هنا، فإن التغيير يجب أن يكون «خارجياً»، كما أكد دائماً الصحافي في هآرتس جيدعون ليفي، الذي يرى أن «التانغو الصهيوني» يتأرجح بين اليمين واليسار ولا أمل من التغيير الداخلي. لكن حرب غزة دفعت بإسرائيل إلى المأزق في ظل حكومة إسرائيلية يمينية متطرفة ترفض حل الدولتين، وقد يكون هناك مجال لتشكل معارضة تستشعر مخاطر هذه الأزمة الوجودية، وقد تحصل على دعم أميركي خصوصاً إذا شعرت الولايات المتّحدة أن مشروع إسرائيل الكبرى سيهدّد مصالحها في المنطقة، فهناك اعتقاد بدأ يتنامى أن إسرائيل على شفير خسارة الولايات المتحدة، كما قال مؤخراً الاقتصادي الأميركي جيفري ساكس. إذاً الولايات المتحدة سيتنازعها مسارين: الاستمرار في سياسة العسكرتاريا التي بدأها المحافظون الجدد، ودعم الستاتيكو الذي قد ينجم عن حرب غزة، أو الأسوأ وهو دعم الحرب الشاملة لليمين الصهيوني، وبالتالي المزيد من الهزائم المادية والسياسية والمعنوية في العالم العربي، أو أنها ستتراجع وتنهي بنفسها اليمين الصهيوني.

لكن بغض النظر لمن ستحسم الأمور، فإن الدول العربية لم يعد بإمكانها أن تبقى في موقع المتلقي للقرارات الإسرائيلية والأميركية، التي أصبح لديها احتكار لمشاريع الشرق الأوسط من بيريز 1993 مروراً بالمحافظين الجدد في عهد بوش وحرب العراق وصفقة القرن لترامب وأخيراً مشروع نتانياهو. كما لا يمكن أن تبني خياراتها على وعود جديدة من الليبرالية، إن حصلت، ولا على وعود من الولايات المتحدة الأميركية. في هذا الإطار، إن دخول الدول العربية اليوم في المعركة مع المشروع الصهيوني، سيكون أكثر تعقيداً من السابق، أي من حروب 1956 و1967 و1973. وهنا تصبح المسؤولية التاريخية للدول العربية أعمق. فمنذ نهاية حرب 1973، التي يُمكن اعتبارها آخر صيحات البورجوازية الصغيرة التي استلمت الحكم من الليبرالية البورجوازية الضعيفة بعد سقوط الأمبراطورية العثمانية، حتى الآن، لم يكن لدى الدول العربية المصلحة الوطنية أو الطبقية لمواجهة إسرائيل مادياً. كما أن إسرائيل بعد حرب 1967، وبالتحديد بعد مؤتمر جنيف الذي عقد بعد شهرين من حرب 1973 برعاية سوفياتية-أميركية، الذي أعلنت فيه رفضها المبدئي الانسحاب إلى خطوط 1967، قد حكمت على نفسها بالمسيرة الحديدية نحو الآبارثايد والفاشية. اليوم مع صعود الدولة التوتاليتارية الحربية الإسرائيلية والحروب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني التي تهدّد بالتوسّع وشمول منطقة الشرق الأوسط، بدأت تبرز هذه المصلحة العربية. بالتالي، المطلوب اليوم مشروع عربي نهضوي جديد يدعم مادياً موقف موحّد للشعب الفلسطيني وقواه السياسية، الذي يمكن أن يكون على أساس العودة إلى البرنامج المرحلي المقر في عام 1974، الذي حاد عنه مسار أوسلو، إن عبر مبادرة وطنية فلسطينية جامعة أو عبر توسيع منظمة التحرير الفلسطينية، وتحديد هدف المرحلة الحالية في حل الدولة الفلسطينية الواحدة العلمانية الديمقراطية للجميع أم في حل الدولتين حسب المبادرة العربية للسلام التي هي نسخة مجدّدة لمبادرة الزعيم السوفياتي ليونيد بريجينيف في 1981/1982. وفي موضوع حل الدولتين هناك خمسة أمور يجب الانتباه لها: أولاً، التنفيذ السريع لأية اتفاقية من دون المماطلة أو التعرجات أو الغموض أو «خوارط طريق» حتى لا تتكرّر مأساة أوسلو، فما فعلته أوسلو ليس فقط تأجيل حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، إنما وربما الأهم أنها أضعفت الحركة الوطنية الفلسطينية، وتأتي بعض الطروحات مثل تلك الصينية والسعودية في هذا السياق مؤكدة على ضرورة أن تكون الحلول مرتبطة بخطوات ملموسة. ثانياً، التأكيد على أن حل الدولتين يعني حق العودة إلى فلسطين 48 وإسقاط يهودية الدولة، ويعني في المقابل الدولة الفلسطينية المستقلة في حدود 1967 وعاصمتها القدس، وهذا الأمر الأخير يجب أن يكون شرطاً مسبقاً، فكما ذكر مؤخراً المؤرخ رشيد الخالدي، والذي كان مستشاراً للوفد الفلسطيني في محادثات مدريد وواشنطن، أن الولايات المتحدة لم تقبل أبداً بهذا التفسير لحل الدولتين، واليوم عندما تقول الولايات المتحدة وغيرها إن حل الدولتين هو الطريق يجب الانتباه إلى ذلك أيضاً، كما يجب رفض أن تكون الدولة الفلسطينية من دون جيش، كما ذكر بايدن مؤخراً، أو منقوصة السيادة بأي شكل من الأشكال كما يُروج الآن أيضاً. ثالثاً، رفض «الاستعلاء الأخلاقي» الصهيوني (الذي انتهى فعلياً اليوم ولم يعد أحد في العالم يأخذه على محمل الجد)، وبالتالي يجب رفض التصريحات والمواقف الإسرائيلية التي تتحدث عن اتخاذهم «قرارات صعبة» وغيرها من الأساطير الصهيونية التي لعبت على مشاعر الغرب سابقاً، إن في التفاوض مع منظمة التحرير أو الانسحاب الشكلي من بعض الأراضي أو تفكيك المستوطنات أو إطلاق الأسرى وغيرها. كلا، من أخذ ويأخذ وسيأخذ القرارات الصعبة هو الشعب الفلسطيني في أي حل مقبل. رابعاً، قد يكون حل الدولتين قد فاته القطار بعد بدء وتوسيع الاستيطان في الأراضي المحتلة عام 1967 وحصول واقع الدولة الواحدة على الأرض كما يعتقد البعض، وبالتالي الحل الوحيد الممكن الآن يجب أن يكون دولة فلسطينية واحدة للجميع مع حقوق متساوية. أخيراً، يجب أن يكون للعرب والفلسطينيين شروطاً لتأكيد حقوق العائدين وحقوق فلسطينيي 1948 الحاليين الذين يخضعون أيضاً لنظام آبارثايد فعلي عبر التمييز ضدهم وعبر التهميش الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وتتعرّض مدنهم لعملية تهويد من قبل القوميين المتطرفين كما يحدث مثلاً في مدينة اللد، كما يتعرّضون اليوم في خلال الحرب للقمع وكم الأفواه والعنف الفاشي من قبل الشرطة والمتطرّفين، كما أنهم الأكثر تعرّضاً للتهديد من صعود الفاشية إن من قبل الدولة مباشرة أو من قبل الجهات اليمينية المتطرفة في دولة البيهيموث الصاعدة. 

نحو إقامة مشروع تنموي عربي جديد

في هذا الإطار، وإن لم تدخل حتى الآن في الوعي السياسي العربي، فإن الدول العربية لديها القوة الاقتصادية والسياسية لتحقيق ذلك (وليس عبر سلاح النفط الذي لم يعد مؤثراً). يقول آدم تووز إن «الاقتصاد الإسرائيلي ليس الاقتصاد الوحيد في المنطقة الذي شهد طفرة تنموية في العقود الأخيرة. إذ يبلغ حجم الاقتصاد التركي ضعف حجم الاقتصاد الإسرائيلي تقريباً، واقتصاد المملكة العربية السعودية أكبر بثلاث مرّات من إسرائيل، وحتى اقتصاد دولة الإمارات العربية المتحدة اليوم يلعب في الدوري نفسه الذي تلعب به إسرائيل. وإذا كانت إسرائيل قد تموضعت بشكل أنها تستطيع نسبياً مقاومة الضغوط التي تمارسها واشنطن، فإن جيرانها فعلوا ذلك أيضاً. إنهم يتبعون سياسات خارجية إقليمية مستقلة ويقيمون علاقات مع كل من الصين وروسيا، وهي علاقات بعيدة كل البعد عن إرضاء واشنطن. وهذا يوفر فرصاً جديدة للاستراتيجيين الإسرائيليين. ولكن أيضاً، كما يشير التقارب الذي توسّطت فيه الصين بين المملكة العربية السعودية وإيران، هناك مخاطر جديدة. إذا كان هناك أي شيء تم تعلمه من السنوات الـ 75 الماضية، فهو أنه لن تكون مسألة ليبرالية إسرائيل هي التي ستكون حاسمة، بقدر ما ستكون الطريقة التي تتنقل بها في مجال القوة هذا».

الدول العربية لم يعد بإمكانها أن تبقى في موقع المتلقي للقرارات الإسرائيلية والأميركية، التي أصبح لديها احتكار لمشاريع الشرق الأوسط 

يقول نعوم تشومسكي إن «جزءاً من تراجيديا الفلسطينيين أنهم لا يملكون الدعم الدولي… لماذا؟ لأنهم لا يملكون القوة والثروة… هكذا يعمل العالم». اليوم هبّت القوى النقابية الطالبية والشبابية والإنسانية والأحزاب اليسارية وغيرها حول العالم لدعم قضية الشعب الفلسطيني ووقف العدوان على غزة. ومن الأمور الملموسة التي حصلت كان على رأسها الدعوى التي قدمتها جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية والتي أصابت إسرائيل في الصميم، مهما كانت نتائجها في النهاية، لأنها أتت من دولة كانت نموذج الفصل العنصري في العالم والتاريخ وتحمل الآن الإرث الأخلاقي لإسقاط هذا النظام الذي تقتنع دول ومؤسسات وأفراد أكثر وأكثر في العالم أن إسرائيل هي التي تمثله الآن: نظام فصل عنصري شبيه بنظام الآبارثايد البائد في جنوب أفريقيا؛ كما تزايد الحديث عن حلّ الدولتين واستعداد بعض الدول للاعتراف بدولة فلسطين وكل هذا لا يريد نتانياهو ولا اليمين الصهيوني حتى سماعه. إذاً، هناك اليوم أيضاً تحدي تاريخي أمام الدول العربية لإنهاء هذه التراجيديا، ليس لسبب أخلاقي فقط، بل لأن المكانة العربية أيضاً تتطلّب أن يمتلك الشعب الفلسطيني القوة والثروة. في هذا الإطار، يقول بيريز إن اجتياح لبنان كان الحدث الذي أدى إلى أن تصبح منظمة التحرير الفلسطينية نداً سياسياً لإسرائيل، وبالتالي عبّد الطريق إلى الانتفاضة الأولى وإلى التفاوض معها. بالطبع، أجهض كل ذلك في أوسلو. اليوم، إن الحرب على غزة قد تكون الخطأ الثاني الذي ارتكبه الاحتلال فتتكون الفرصة التاريخية الشبيهة بعام 1982 لتعود الحركة الوطنية الفلسطينية إلى الساحة السياسية، وهذه الفرصة التاريخية اليوم يجب ألا تهدر وذلك عبر أن تمتلك المقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني القوة هذه المرة. إن الوقت لم يعد لمصلحة إسرائيل، ونتنياهو واليمين الإسرائيلي أنهوا فعلياً ما يمكن أن نسمّيه مشاريع الشرق الأوسط «القديم» وحكومة اليمين الصهيونية هي اليوم كما وصف ماركس الرأسمالية «تشبه الساحر الذي لم يعد قادراً على التحكّم في قوى العالم السفلي التي استدعاها بتعويذاته».

قال كارل ماركس أيضاً إن «سلاح النقد لا يمكن أن يستبدل النقد بالسلاح، والقوة المادية لا تسقطها إلا القوة المادية». إذاً، القوة المادية الصهيونية اليوم بحاجة إلى قوة مادية عربية تواجهها. اليوم هناك بالتحديد فرصة تاريخية للذهاب أبعد من المقرّرات والخطوات التي نتجت عن القمة العربية-الإسلامية في الرياض (والتي عكست أيضاً دوراً للدول الإسلامية المحيطة مثل تركيا وايران) وحتى أبعد من لعب الأوراق أو إعادة التموضع العربي في العالم المتعدّد الأقطاب كما يدعو إليه البعض أو حتى رفع «سعر التطبيع». فلقد بدأت الظروف الخارجية لإسرائيل بالتبدل، وبدلاً من أن يُسمح لها بالإبحار في «مجال القوة»، الذي تكلّم عنه تووز، عبر التطبيع لتلعب دور «إمبريالية محلية» ولتجد «فضاءها الحيوي» ولترسّخ الاحتلال وتعمّق التطرّف، الذي بالتأكيد لم يكن لمصلحة الفلسطينيين، كما لم يكن لمصلحة السلام، واليوم يتبيّن أنه ليس حتى لمصلحة الدول المطبّعة، على الدول العربية وقفه (أو إعلان دفنه لأنه بالفعل انتهى بعد 7 أكتوبر)، وعكسه وإقامة مشروعها الجديد الذي يعيد مكانة العالم العربي. هذا المشروع يجب أن يؤسّس لنظام عربي جديد يفتح آفاق التقدّم للمنطقة كلها وينهي حقبة حطام انهيار السلطنة العثمانية التي ما زلنا نعاني منها حتى الآن. فقد فشلت النهضة العربية في القرن التاسع عشر، كما فشلت الاشتراكية العربية وإن أقامت لفترة نظم صناعية واجتماعية متقدّمة، وفشلت الليبرالية الرأسمالية التي أتت بعدها، كما فشلت الرأسمالية الريعية التي أتت بعد فورة النفط، والأخيرة على الرغم من إقامتها بعض الواحات من الرفاهية في الخليج العربي. اليوم، المطلوب التاريخي هو أعمق بكثير. وربما التاريخ الأبعد يعطينا بعض الدلائل. فلقد كانت العلوم العربية يوماً ما منارة للعالم كله في خلال العصر الذهبي في العصر العباسي الذي قال عنه الفيزيائي البريطاني-العراقي جيم الخليلي إنه حفظ العلوم القديمة وأنتج عصر النهضة في أوروبا. اليوم لا يمكن بالطبع حرفياً إعادة هذا التاريخ، ولكن لتكن هذه اللحظة «لحظة سبوتنيك» عربية تدفع نحو إقامة مشروع تنموي عربي جديد يلقي جانباً بالرأسمالية الليبرالية والريعية والهيمنة الأيديولوجية الفوقية الفاشلة للبنك الدولي ولصندوق النقد الدولي، ويضع نصب عينيه تطوير العلوم والتكنولوجيا ويؤسّس القاعدة المادية للتطوّر الديمقراطي والاجتماعي في العالم العربي نحو آفاق اشتراكية جديدة. وهو أيضاً مشروع لنهضة فكرية عربية جديدة مبنية على الأفكار العالمية التي أنتجتها الحضارة الغربية بعد حملها شعلة التقدّم التاريخي من الحضارة العربية-الإسلامية. وهذه النهضة العربية الجديدة، بكونها تحمل الافضل في تلك الحضارتين الكونيتين، هي مضادة للإمبريالية والصهيونية والتفرقة المذهبية وتحوي جميع الأعراق والأديان ومنفتحة على الدول الإسلامية المحيطة. وهو المشروع الذي يفتح آفاق التعاون مع الصين العميقة في التاريخ، كما هم العرب، والأخذ من نموذجها الاقتصادي، والذي يقوده الحزب الشيوعي الذي يحمل الفكر الأكثر تقدّمية منذ عصر التنوير: الماركسية. لقد بدأت تتشكّل منذ فترة بعض البذور لهكذا مشروع لكن المطلوب اليوم بعد هذه الحرب وتداعياتها السياسية والاقتصادية والتاريخية أن يتم بناؤه، وعندها ديالكتيك المقاومة والنظام العربي الجديد والتضامن العالمي سيحاصر رأسمالية الآبارثايد والفاشية، التي اضحت النهاية المنطقية والتاريخية للمشروع الصهيوني، من أجل إنهائها لإنهائه، إذ من دون ذلك لن يكون هناك سلام حقيقي في المنطقة أو أي حل للقضية الفلسطينية مهما كان شكله. هذا هو رهان العصر، هذا هو مشروع الشرق الأوسط الجديد.