الاشتراكية والتقدّم الاقتصادي
«نقاشات الموز»
«الفقر ليس الاشتراكية»
دينغ شياو بنغ
لم يكن الموز متوفّراً بكثرة في ألمانيا الشرقية. هذا الأمر معروف، وقد أصبح من التاريخ اليوم، لكن في الآونة الأخيرة، أثار البعض مسألة وجود الموز أو إنتاجه في أي نظام اشتراكي مُقبل. بالفعل، تفاعل النقاش في هذا الموضوع في منصّة X، وانقسم المشاركون بين من يقول نعم ومن يقول لا، أو بالأحرى لماذا على الاشتراكية ألا تنتج الموز بكثرة. وقد وصلت الأمور إلى تناول بعض المجلّات في الولايات المتّحدة هذا النقاش.
يمكن بشكل عام تقسيم الجانبين في النقاش إلى معسكرين: الأول يؤيّد أن الاشتراكية يجب أن تكون أكثر إنتاجية وبين فريق يعتقد أن الاشتراكية يجب أن تأخذ بالاعتبار مسائل مثل العدالة بين الطبقات أو الدولقد يبدو السؤال سخيفاً، إلّا أن النقاش حوله ذكّرني بنقاشات التصنيع التي جرت في الاتحاد السوفياتي في عشرينيات القرن الماضي عن الطريقة المثلى للتصنيع في بلدٍ كان بأكثريته فلاحياً عشية الثورة البولشفية في أكتوبر 1917. بالتالي، اليوم، في ظل أزمة الرأسمالية على صعد عدّة، أبرزها التغيّر المناخي وعودة المشروع الاشتراكي إلى تشكيل ليس فقط بديلاً أخلاقياً بل المشروع التاريخي البديل، يرتدي هذا النقاش التويتري أهمّية عن ماهية الاشتراكية، وهل الاشتراكية هي نمط إنتاجي متقدّم على الرأسمالية، ليس كما يعتقد البعض على مستوى المساواة والعدالة، وإنّما على المستوى الاقتصادي تحديداً؟ حيث أن النمو والإنتاج وحتى الاستهلاك سيكونون أكبر منه في الاشتراكية من الرأسمالية. أي أنه مثلاً سيكون لدينا هواتف آيفون أكثر في الاشتراكية منه في الرأسمالية وليس موزاً أكثر فقط. وهنا، يمكن بشكل عام تقسيم الجانبين في النقاش إلى معسكرين: الأول يؤيّد هذا الطرح، أي أن الاشتراكية يجب أن تكون أكثر إنتاجية وبالتالي سيكون لدينا موزاً (أو هواتف آيفون مثلاً) أكثر فيها ممّا لدينا الآن، وبين فريق يعتقد أن الاشتراكية يجب أن تأخذ بالاعتبار مسائل مثل العدالة بين الطبقات أو الدول، بالاخص بين ما يسمّونه دول الشمال العالمي ودول الجنوب العالمي، أو الحفاظ على البيئة وغيرها من القيم التي يجب رفعها عالياً في الاشتراكية أكثر ممّا تفعله الرأسمالية اليوم.
هل سيوقف العمّال الأميركيون أكل الموز؟
تناولت ثلاثة مقالات هذا النقاش في مجلّات أميركية. تحت عنوان «هل سيكون هناك موز في الاشتراكية؟» في New York Magazine، يلخّص إريك لفيتس هذا النقاش بدءاً بتغريدة للصحافي والناقد مالكولم هاريس الذي أطلق النقاش، رابطاً بين إنتاج الموز في العالم الذي يحصل في الدول النامية أو «عالم الجنوب» مثل الإكوادور، وبين الرأسمالية حيث قال فيها «لا داعي لأي أخلاقيّات هنا (مثل أن نعتبر: عندما تأكل موزة، فأنت سيئ) ببساطة... لن يكون هناك موز. لأنّه لا يوجد أي منطق آخر غير ذلك الذي هو (الآن) وفقاً للرأسمالية لإنشاء بنية أساسية يومية للموز تغطّي العالم من أجل أشخاص في كولومبوس، أوهايو». ويضع لفيتس النقاش كما ذكرت بين اليسار المؤيّد للنمو، وبالتالي أهمّية زيادة الموز في الاشتراكية، وبين تيّار «عكس النمو» (degrowth) نما في الفترة الأخيرة في الدول الرأسمالية كمشروع لإنقاذ الأرض والبشرية من التغيّر المناخي، وعبّر هذا التيّار عن الحاجة إلى وقف التركيز على النمو وتغيير أنماط الاستهلاك في الدول الغربية وفي العالم من أجل تحقيق هذه الأهداف (أنظر كتابات جايسون هيكل الذي على حدّ علمي لم يدخل النقاش إلّا عبر ريتويت لتعليق إيجابي على تغريدة هاريس). في هذا الإطار يصبح هذا الطرح أيضاً مرادفاً لتحقيق العدالة الاقتصادية بين الشمال (حيث يستهلك الموز) والجنوب (حيث ينتج الموز). في هذا الإطار، يلخص لفيتس موقف هاريس حين يقول «في غياب إكراه النظام الرأسمالي، لن يكون العمّال في الإكوادور وكولومبيا مستعدّين لزراعة الموز للتصدير على المنوال الحالي؛ في الواقع، لن يكونوا مستعدين للانخراط في أي شكل من أشكال الزراعة أحادية المحصول. لذلك، في ظل الاشتراكية، سيحتاج الأميركيون إلى تعلّم العيش من دون موز. وهذا مجرّد مثال حيّ واحد على الطرق التي لا تعدّ ولا تحصى التي سيحتاجها العمّال في الشمال العالمي من أجل تعديل استهلاكهم لاستيعاب متطلّبات العدالة الاقتصادية».
أمّا المقالة المنشورة في Jacobin بقلم بن بورغيس بعنوان «الاشتراكيون بحاجة فعلاً للحديث عن الموز»، فقد مالت إلى دعم الجانب في النقاش الذي قال أنه سيكون هناك بالطبع موز في الاشتراكية، لأن الاشتراكية هي ليس عودة إلى الوراء تاريخياً، وإنّما التقدّم إلى الأمام على المستوى المادي، قائلة: «لم يسبق لأي مجتمع أن تراجع طوعاً إلى مستوى أدنى من الإنتاجية، ومن غير الواقعي أن نتوقّع حدوث ذلك في المستقبل. إذا كانت الاشتراكية، بمعنى توسيع الديمقراطية إلى الاقتصاد سيّئة في ناحية الاستهلاك، مثل الاشتراكية التي كانت موجودة في أماكن مثل ألمانيا الشرقية، فإنها لن تصبح أبداً نمط الإنتاج المهيمن عالمياً. بدلاً من ذلك، يجب أن تكون رؤيتنا هي جعل الوفرة مُعمّمة حقّاً».
الاشتراكية يجب أن تكون أكثر إنتاجية من الرأسمالية، وهي ليست عودة إلى الوراء بل بالعكسفي مقال في مجلّة Dissent بعنوان «موز للاشتراكية»، وهذه المرّة من أحد الخبراء في مجال الغذاء آرون جوبتا، نظر إليها من ناحية التحوّل في الاشتراكية من أنظمة الزراعة الأحادية المتبعة الآن في الرأسمالية في زراعة الموز إلى الزراعة المتنوّعة حيث سيكون هناك أنواع عديدة من الموز أكثر ممّا هو موجود في الرأسمالية اليوم، كما ينطبق هذا على الأنواع الأخرى من المنتجات الغذائية، ويقول: «في أي مستقبل اشتراكي يستحق العيش فيه، سيكون هناك العديد من أنواع الموز المتاحة (والأطعمة بشكل عام)، وطرق زراعة وأشكال توزيع واستهلاك أكثر تنوّعاً».
في النهاية، يطرح لفيتس المسألة على أنها أساسية بالنسبة لليسار في الولايات المتحدة، وكيفية إقناع الأكثرية بأن تدعم هكذا مشروع للعدالة على المستوى العالمي، الذي قد يكون ثمنه هو تخفيف الاستهلاك لديها، وهو ما يعتقده بأنه غير واقعي حين يختم المقال قائلاً: «في غياب مثل هذا الدعم من الغالبية، لن يكون لدى اليسار الأميركي السلطة لرفع مستوى معايير العمل العالمية. وإذا أخبرت الشعب الأميركي أنه لا يمكنه أكل الموز، فإنه لن يرغب في أن يكون جزءاً من ثورتك».
ماذا قال ماركس؟ وماذا ناقش السوفيات؟
في إحدى التغريدات في النقاش يقول أحد المغرِّدين «شخصياً، الجزء المفضّل لديّ من Bananas Discourse الحالي هو كيف يُظهر مدى قلّة تفاعل اليساريين على تويتر مع ماركس. كان ماركس مؤيّداً للحداثة الصناعية! ولم يكن يعتقد أن زيادة القدرة الإنتاجية أمراً سيّئاً! لقد أحبّها حقّاً في الواقع!». ويضيف: «هو لم يعتقد انه في المرحلة الآتية من الرأسمالية يمكن القول: حسناً الآن يمكننا العودة إلى مستوى معيشة الإقطاعية... من أين تأتون بهذه الأفكار؟»
بالفعل كان ماركس كذلك، فهو لم يرَ في الرأسمالية إلا مرحلة ضرورية في تاريخ البشرية من أجل تطوير القوى المنتجة إلى حدّ يصبح الانتقال إلى الاشتراكية مُمكناً. فماركس لم يكن مثالياً كما يظن الكثيرون، ولم ينتقد الرأسمالية من النواحي الأخلاقية، ولكنّه رأى نهاية الرأسمالية عندما تستنفذ مهمّتها التاريخية في تطوير القوى المنتجة وتصبح عائقاً أمامها. يقول ماركس: «لا تضمحل أية تشكيلة اجتماعية أبداً ما لم تُتم كل القوى الإنتاجية التي لها من الاتساع ما يمكنها من استيعابها. ولا يمكن أن تحتلّ مكانها علاقات إنتاجيّة جديدة أرقى قبل أن تنضج الظروف المادية لوجود هذه العلاقات في صلب المجتمع القديم بالذات». بالتالي، عندها فقط يمكن الانتقال إلى الاشتراكية على مستوى مادي أعلى، أي أن الاشتراكية يجب أن تكون أكثر إنتاجية من الرأسمالية، وهي ليست عودة إلى الوراء بل بالعكس. في هذا الإطار، عندما ثبَّت الشيوعيون السوفيات سلطتهم السياسية كان التحدّي أمامهم اقتصادياً من ناحية كيفية الانتقال إلى اقتصاد متقدّم في رأسمالية غير متطوّرة محاطة بمجتمع فلاحي. فكان ما عرف بـ«نقاشات التصنيع» في العشرينيات من القرن الماضي بين بوخارين من جهة وبين بريوبراجينسكي من جهة أخرى. وكان السؤال الأساسي الذي تم طرحه من قبل بريوبراجينسكي: من أين ستأتي الموارد للتصنيع، وبالتالي التقدّم الاقتصادي؟ وكان جوابه من القطاع الزراعي. هذا السؤال يمكن إعادة صياغته في ظل نقاشات الموز الحالية كالتالي: هل نريد موزاً أكثر؟ وهل نبقي الموز مع الفلّاحين الروس أم نستعمل جزءاً منه للتصنيع؟
«وداعاً لينين»
بالعودة إلى ألمانيا الشرقية لأنها برزت مرّات عدّة في هذا النقاش. في عام 1989 لم يذهب الألمان الشرقيون إلى ألمانيا الغربية لأنهم ربّما كانوا يهربون إلى الحرّية بل لأنهم ربّما بالفعل أرادوا موزاً أكثر وليس توزيعاً أفضل للموز، ولم يحدث العكس بحيث تدفّق الألمان الغربيون إلى ألمانيا الشرقية لأنهم يريدون موزاً أقل أو توزيعاً أفضل للموز. وهذا الأمر يجب أن يؤخذ بالاعتبار عند الماركسيين، على الرغم من أن الأحداث عكست أيضاً موقف الاتحاد السوفياتي، الذي أعطى الضوء الأخضر لتوحيد الألمانيتين، كما موقف الكثيرين في ألمانيا الديمقراطية الذين كانوا يريدون تطوير الاشتراكية لا التخلّي عنها، إلا أن الحقيقة الواضحة أن ألمانيا الغربية تفوّقت اقتصادياً على ألمانيا الشرقية.
لم يذهب الألمان الشرقيون إلى ألمانيا الغربية لأنهم ربّما كانوا يهربون إلى الحرّية بل لأنهم ربّما بالفعل أرادوا موزاً أكثر وليس توزيعاً أفضل للموزمن الصعب بمكان طبعاً أن نجري محاكاة للماضي على طريقة «لو» (what if)، لكن كما ذكرت في مقالتي «لحظة النيب الحاضرة دوماً» فإن الانتقال من «النظام الاقتصادي الجديد» إلى «وحدة السياسة الاقتصادية والاجتماعية» في زمن هونيكر، الذي أعطى التوزيع أهمّية أكبر، قد يكون هو السبب في تفوّق ألمانيا الغربية في النهاية، ولو استمرّت سياسة والتر ألبريخت لكان الأمر ربّما مختلفاً. وهنا يكمن السؤال: متى تنتهي فترة النمو وتطوير القوى المنتجة وتبدأ مرحلة إعادة التوزيع، أو جعل «الوفرة مُعمَّمة»، كما ورد في مقالة Jacobin؟ هذا السؤال ليس لديه جواب مطلق، وإنّما يخضع للمرحلة التاريخية لكنّنا نستطيع أن ننظر إلى ما يحدث في الصين اليوم.
الصين مرّة أخرى
إن إحدى تجلّيات هذه الثنائية: تطوير القوى المنتجة-إعادة التوزيع، تحدث اليوم في الصين. فبعد الإصلاحات التي جرت منذ عام 1978 لم يُعطَ البعد التوزيعي الأهمّية، وتمّ التركيز على النمو الاقتصادي، وازدادت حصّة الفرد من الناتج المحّلي بأكثر من 23 مرّة، ولكن في الوقت نفسه ارتفع عدم المساواة في الصين ليصبح كمثيله في الولايات المتّحدة. بدأ الحزب الشيوعي الصيني في معالجة هذا الأمر منذ عام 2021، حين أطلق مسيرة «الرخاء المشترك» من أجل تخفيف عدم المساواة. طبعاً، أتى ذلك في سياق التوجّه أكثر وأكثر في عهد شي جين بينغ إلى التأكيد على الهدف الاشتراكي للصين، وهذا يعكس أن الصين قد طوّرت قواها المنتجة إلى درجة يمكن بها البدء بإعادة التوزيع. ولكن هذا الأمر في ظل قوّة اقتصادية لقوى السوق والقطاع الخاص سيخلق معضلة أو تناقضاً بين الأرباح وإعادة التوزيع.
الموز أو الانتاج بشكل عام لهما بُعد كمّي من ناحية كمّية الإنتاج، وبُعد توزيعي: أي من يحصل على ماذا؟ الماركسية ربطت بين الاثنين ليس بشكل مطلق بل تبعاً للمرحلة التاريخيةتقول الإيكونوميست في 17 آب/أغسطس الماضي «تحت شعار الرخاء المشترك، سعى (الرئيس) شي إلى زيادة الحراك الاجتماعي والحدّ من عدم المساواة. لكن الكثير من هذا أدّى إلى نتائج عكسية. ومن خلال ملاحقة مطوّري العقارات وشركات التكنولوجيا وصناعة الدروس الخصوصية، ألحق الضرر بأصحاب العمل الأكثر موثوقية للخرّيجين الجدد». قد يكون هذا الأمر صحيحاً أو لا (وهو يأتي في سياق حملة مركّزة من الإعلام الغربي مؤخّراً على النموذج الاقتصادي الصيني). بأي حال، فإن هذا الأمر، يبرز أهمّية تطوير «الملكية العامة» بالتزامن مع إعادة التوزيع، ومع التأكيد على المسار نحو دولة اشتراكية عصرية في عام 2049.
في مقرّر الاقتصاد السياسي الذي أدرِّسه في الجامعة أبدأ بصورة مُركّبة لقرد يتصدّر غلاف مجلّة فوربس تحت عنوان «أغنى قرد في العالم». وبجانب الصورة نصٌّ يقول «لو اختزن قرد موزاً أكثر ممّا يستطيع أكله بينما القردة الآخرين يجوعون، فإن العلماء كانوا سيدرسونه لمعرفة ما الخلل به. ولكن لو فعل ذلك إنسان لوضِع على غلاف مجلّة فوربس». إذاً، تختلف «مسألة الموز» في عالم الإنسان عنها في عالم القردة، فكما رأينا أن الموز أو الانتاج بشكل عام لهما بُعد كمّي من ناحية كمّية الإنتاج، وبُعد توزيعي: أي من يحصل على ماذا؟ الماركسية ربطت بين الاثنين ليس بشكل مطلق بل تبعاً للمرحلة التاريخية، بحيث أن الرأسمالية تنتج موزاً أكثر من الإقطاعية، ولكن الاشتراكية ستنتج موزاً أكثر من الرأسمالية. وعندها يمكن لتوزيعه أن يكون مُعمّماً أكثر. أما اليسار غير الماركسي فإن نظرته غير تاريخية، ويقدّم مسألة العدالة والأيكولوجيا بغض النظر عن المرحلة التاريخية، وهنا يكمن الفرق بين من كان في النقاش يقول سيكون هناك موز أكثر وبين من يعتقد أنه علينا أن ننتج موزاً أقل. إختر الجانب الذي تريد!