
الوصفة التقشفية وآثارها المدمّرة
تتميز الكثير من البلدان التي تلجأ لصندوق النقد بعجز كبير في الموازنة العامة، أي أن نفقاتها تزيد كثيرًا عن إيراداتها. عادة ما تذهب رواية الصندوق التشخيصية إلى أن هذا بسبب غياب الكفاءة الاقتصادية، فالدعم يذهب الى غير محله، والجهاز الإداري للدولة متضخم ويبتلع الكثير من الموارد المالية المحدودة للدولة.
لتحقيق ما يسمى ب"ضبط أوضاع المالية العامة" financial consolidation، يشترط صندوق النقد الدولي على البلدان المقترضة عادة خفض الإنفاق الحكومي لتخفيض عجز الموازنة وتحقيق الانضباط المالي، بشكل مباشر من خلال تخفيض أوجه الدعم، خاصة على الطاقة، وبشكل غير مباشر من خلال تقليص أوجه إنفاق الحماية الاجتماعية الأخرى، مثل معاشات الضمان الاجتماعي والتعليم والصحة. من المثير للتأمل أن صندوق النقد لا يوصي ابدا بخفض الإنفاق العسكري أو الأمني.
ينطوي ضبط المالية العامة أيضًا على زيادة حصيلة الدولة من الموارد، وعادة ما يعتمد الصندوق في هذه الحالة على ضرائب الاستهلاك غير المباشرة، والتي تعد من أكثر أشكال الضرائب تراجعية، أي أن عبئها يزيد كلما قلّ الدخل.
يتناسب هذا التوجه الضريبي مع ما يسمى ب"اقتصاديات جانب العرض"، التي تعد من أركان الفكر النيوليبرالي، وتعني أن العرض هو الذي يخلق الطلب، فبزيادة العرض عن طريق منح مزايا وتسهيلات للمنتجين، سيزيد الرفاه و الإنتاج والثروة في المجتمع. يتناقض هذا مع اقتصاديات جانب الطلب، التي تعود أصولها إلى فكر كينز، التي ترى أن الطلب هو الذي يخلق العرض، وبالتالي بدلًا من تقديم المزايا والمنح للمنتجين، يجب أن نزيد من القوة الشرائية للطبقات المستهلكة (وهي الفئات قليلة ومتوسطة الدخل كما سنشرح أدناه).
حجّة التقشّف الواهية
يرفض صندوق النقد استخدام مصطلح "التقشف" ويفضل المصطلح الملطف "ضبط أوضاع المالية العامة"، لأن التقشف يحمل دلالات عن تخفيض عجز الموازنة عن طريق خفض الإنفاق الاجتماعي الموجه للفئات المهمشة بالأساس، مع عدم المساس بأوجه الإنفاق الأخرى كما اشرنا أعلاه، بينما يوحي "ضبط أوضاع المالية العامة" باستهتار الحكومات في الإنفاق، وهو الخطاب الذي يحاول أن يروج له صندوق النقد بخصوص البلدان التي تمر بأزمات.
لكن عندما نرى بالأرقام سنجد أن البلدان التي يستهدفها الصندوق بأقسى إجراءات (البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل)، عادة ما تكون البلدان التي تنفق حكوماتها نسبة أقل كثيرًا من ناتجها المحلي مقارنة بالبلدان الأغنى. وفقًا لأرقام صندوق النقد الدولي نفسه، تزيد نسبة الإنفاق الحكومي في أغلب دول الشمال الغنية عن 40% من الناتج المحلي الإجمالي، أي أن ما يقترب من نصف حجم الاقتصاد يتمثل في إنفاق الحكومات، في حين أن النسب في أفريقيا جنوب الصحراء مثلا تتراوح ما بين10 و20%، وهناك علاقة طردية واضحة بين مستوى الإنفاق الحكومي والتنمية.
هل منح المزايا للرأسماليين يزيد من الإنتاج؟
هل فعلا يخلق العرض الطلب؟ تشير الأدلة إلى إن منح المزايا للراسماليين المنتجين تزيد بالفعل من الإنتاج، لكن بسبب انخفاض الأجور والقوة الشرائية للطبقات المستهلكة يحدث عدم توازن مستمر بين العرض والطلب. من الخصائص المميزة للرأسمالية هو أن في عصور ما قبل الرأسمالية كانت الأزمة تعني الندرة، مثل في حالات الجفاف والمجاعة، ولكن في ظل الرأسمالية أصبحت الأزمة تعني الوفرة الزائدة، أي وجود سلع كثيرة لا يقابلها طلب كافي، ما يعرف بالركود والكساد، فالمشكلة إذن ليست في الإنتاج لكن في الاستهلاك والطلب. التقشف في هذه الحالة يدمر الطلب بشكل واضح مما يؤدي لتعميق الأزمات بشكل كبير.
يحدث هذا جزئيًا بسبب المزايا الكبيرة التي تحصل عليها عمليات الإنتاج من جانب، بالتزامن مع انخفاض الأجور والقوة الشرائية للطبقات المستهلكة من جانب آخر. تسببت الوصفة التقشفية واقتصاديات جانب العرض في إغراق الأسر في الديون، بسبب تحايلها على انخفاض الطلب عن طريق مسكّن الائتمان، بحيث أصبح الائتمان يعوض عن جزء كبير من الطلب المفقود، ويستهلك جزءا كبيرا من الإنتاج الزائد. في الولايات المتحدة على سبيل المثال زاد الدين الأسري من حوالي 20% من الناتج المحلي الإجمالي في ستينات القرن العشرين إلى أكثر من 75% حاليًا. وليست الولايات المتحدة باستثناء في هذه الحالة فنرى أن تلك النسبة زادت في أغلب بلدان العالم.
يحدث هذا بسبب تجاهل برامج صندوق النقد التقشفية واقتصاديات جانب العرض لقانون اقتصادي بسيط وهو الميل الحدي للاستهلاك. يذهب هذا القانون ببساطة أن كل زيادة في الدخول الأدنى يذهب جزء أكبر منها على الإنفاق، خلافا للزيادات في الدخول الأعلى التي يميل أصحابها إلى الادخار، أو بعبارة أخرى فإن زيادة دخول فئات الدخل الأدنى تنعش الاستهلاك، امّا زيادة أرباح فئات الدخل العليا تؤدي للمزيد من حبس الأموال في صورة مدخرات.