فاشية الكوليرا: عوارض لمرض بنيوي
تفشّي الكوليرا في لبنان ليس الحدث المقلق الوحيد، فالجرثومة معروفة وكذلك أساليب علاجها والوقاية منها. يكمن القلق الفعلي في دلالات تفشّيه، وما يكشفه لجهة تنامي الفقر والبؤس الاجتماعي واهتراء البنية التحتية المائية وأجهزة المراقبة الصحية والإدارة ككل لمجتمعٍ يرزح تحت وطأة الانهيار وكوارث لا متناهية.
في أواخر شهر آب/ أغسطس 2022، ظهرت حالات كوليرا في مناطق حلب ودير الزور السورية، ما دفع منظّمات الأمم المتّحدة إلى التعبير عن قلقها من تفشّي الوباء بعد أكثر من عقدٍ من الحروب المتواصلة التي قضت على البنى التحتية السورية وأنهكت مجتمعاً يكافح من أجل البقاء. بعدها بنحو ستة أسابيعٍ، أُعلِنت أول حالة كوليرا مؤكّدة مخبرياً في منطقة عكار الحدودية، وهي الأولى المسجّلة في لبنان منذ ثلاثة عقود.
لم يتفاجأ أحد بفاشية الكوليرا الحالية سوى وزارة الصحّة اللبنانية، خصوصاً أنّ ظهور الكوليرا في دولٍ تفتك بها الحروب والأزمات ليس حدثاً غير مألوفٍ بل متوقّع. عدا أن تخوّف منظّمة الصحّة العالمية من توسّع العدوى في سوريا وامتدادها إلى لبنان بفعل تردّي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلدين، كانت مُعلنة منذ الأيام الأولى لظهور الوباء في سوريا. وها نحن اليوم، بعد تسجيل أكثر من 35 ألف حالة مشتبهة في سوريا منذ شهر آب/أغسطس، ونحو 3,838 حالة في لبنان منذ شهر، نغوص في حلقة جديدة من سلسلة أحداث مأساوية.
فكيف وصلنا إلى هذه الحال؟ تكثر الأجوبة البيولوجية ولكنّها تبقى منقوصة، خصوصاً أنّ السياسة والاقتصاد هما عاملان وازنان في علم الأوبئة وفاشيات الكوليرا في القرن الواحد والعشرين.
لم يتفاجأ أحد بفاشية الكوليرا الحالية سوى وزارة الصحّة اللبنانية، خصوصاً أن ظهور الكوليرا في دولٍ تفتك بها الحروب والأزمات ليس حدثاً غير مألوفٍ بل متوقّع
ما هي الكوليرا؟
تعيش بكتيريا فيبريو كوليرا في المياه التي تحتوي على عوالق، وهي كائنات مائية لا يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة، تلتصق بها الكوليرا لتتمكّن من التنقّل، وتفرز مادة لاصقة لحماية نفسها. يصاب البشر بعدوى الكوليرا من خلال شرب المياه الملوّثة بهذه الجرثومة أو تناول مأكولات غُسلت أو رُويت بهذه المياه. تنتقل العدوى بين البشر بشكل مباشر نتيجة غياب تدابير النظافة، وبشكل غير مباشر من خلال تسرّب مياه الصرف الصحي الملوّث إلى مياه الشّرب. يحتضن الجسم البكتيريا لمدة يوم أو يومين قبل ظهور عوارض المرض. عند دخولها إلى الجهاز الهضمي، تتكاثر الكوليرا في الأمعاء وتفرز مادةً سامة تُجبر خلايا المصران على ضخّ مياه الجسم في المصران، ما يسبّب إسهالاً حاداً قد يؤدّي إلى الموت نتيجة جفاف الجسم في غضون أيام عند الأطفال والعجزة والذين يعانون من اختلالات في جهاز المناعة.
من هنا، يمكن بسهولة استخلاص أساليب الوقاية من الكوليرا وهي التأكّد من فعالية البنى التحتية المخصّصة لنقل مياه الشرب ومياه الصرف الصحي ومعالجتها، وتعقيم خزّانات المياه بشكل مؤقّت بالكلورين، وغلي مياه الشّرب والطبخ، والتقيّد بإجراءات النظافة الشخصية من تنظيف اليدين والأسطح وتفادي الاحتكاك المباشر بالمصابين.
لمحة تاريخيّة
برزت الكوليرا كجرثومة قاتلة في القرن الثامن عشر، حين انتقلت من دلتا نهر الغانج في الهند التي كانت مستعمرة بريطانية آنذاك، إلى لندن التي حوّلتها الثورة الصناعية المُستحدثة إلى جحر من البؤس والاكتظاظ السكّاني. حصدت الكوليرا أكثر من 40 مليون حالة وفاة منذ ذلك الحين. لكن، مع تطوّر علم الأوبئة وتحضّر الدول، تراجعت الجوائح وندرت الفاشيات واستقرّت الجرثومة في مناطق سمّيت "موبوءة" وتعاني من الفقر والبؤس اللذين يعدّان من العوامل المواتية لنموّ الوباء وتكاثره مثل أفريقيا وجنوب شرق آسيا.
حالياً يُعدُّ ظهور حالة واحدة من الكوليرا في منطقة "غير موبوءة" بمثابة انتشار للوباء، ما يعزّز طابعه الاستثنائي نتيجة الأساليب البسيطة للوقاية منه. فالمجتمعات التي تتمتّع بحدّ أدنى من الرفاهية، وتصلها المياه النظيفة التي تُفحص بشكل دوري، وتنعم بأبسط معايير النظافة الذاتية والمجتمعية، لن تعاني من انتشار الكوليرا، حتى لو ظهرت حالة واحدة بفعل تناول مأكولات بحرية ملوثة بالوباء، إذ يتمّ احتواؤها وتنتهي مع شفاء حاملها.
انتشر الوباء في 20 من أصل 25 قضاءً في لبنان، وترجّح التوقّعات أن تصل الإصابات إلى 300 ألف حالة، إذ لم تكن كلّ الظروف المرتقبة والمؤشرات وحتى التنبيهات المباشرة كافية لتفادي انتشار الكوليراصناعة القنابل الصحيّة
لا تقتصر العوامل المُحفّزة أو الواقية من المرض على العوامل الجينيّة وجودة العلاجات الطبية المتوفرة، إنّما تشمل أيضاً مُحدّدات اجتماعية تولّدها السياسات العامة والموروثات الثقافية.
وفق منظمة الأمم المتّحدة، يعيش 90% من اللاجئين السوريين في لبنان في حالة فقر مُدقع، غالبيّتهم عاطلين عن العمل، وأكثر من 92% منهم يعملون في القطاع اللانظامي بحيث يُحرمون من أبسط حقوق العمّال الصحية والاجتماعية. تقترن هذه الأرقام بحالة المواطنين اللبنانيين الذي يعاني 78% منهم من الفقر المُتعدّد الأبعاد، و36% من الفقر المُدقع، فيما 30% منهم عاطلين عن العمل، ويعمل 61% منهم في القطاعات اللانظامية. هذه الحالة المُعمّمة من الفقر المستشري تعرّض المجتمع ككلّ لشتى أنواع المضاعفات الصحّية وتردّي مؤشّراته الصحّية. وتتزايد الخطورة بالنسبة للاجئين الذين تتركّز غالبيتهم في مخيّمات مزدحمة تفتقر لأدنى المعايير الصحّية والبنى التحتية اللازمة.
سياسة الإنكار
على الرغم من شيوع المعلومات حول هذا الواقع المرير وتبعاته المحتومة، إلّا أن سياسة الإنكار غلبت على الواقع الصحّي، ولم تُتخذ أي إجراءات استباقية لتحسين المُحدّدات الاجتماعية للمرض أو أي إجراء وقائي طارئ بعد إعلان تفشّي الكوليرا في سوريا، بدءاً من الفحوص الاستباقية لمصادر المياه، وتوزيع معدّات التعقيم والتنظيف على الأفراد الأكثر عرضةً للإصابة، وصولاً إلى طلب لقاحات الكوليرا استباقياً، إذ وصلت دفعة واحدة منها بعد أن انتشر الوباء في 20 من أصل 25 قضاءً في لبنان، وترجّح التوقّعات أن تصل الإصابات إلى 300 ألف حالة، إذ لم تكن كلّ الظروف المرتقبة والمؤشرات وحتى التنبيهات المباشرة كافية لتفادي انتشار الكوليرا، وهو دليل صارخ على الغياب الكامل لإدارة المجتمع بحيث يُترك الناس ومصائرهم.
الكوليرا وليدة التقشّف
يقتصر التحليل العلمي لتفشّي أي مرض بدراسة خصائص الجرثومة البيولوجية والعوامل الاقتصادية والاجتماعية التي تؤدّي إلى ظهور المرض وتفشّيه. ومن غير المقبول أن يرتكز هذا التحليل إلى الآفات الاجتماعية والفردية التي يتمّ اللجوء إليها من التيّارات الشعبوية لتبرير إخفاقات الأنظمة، مثل أن "الناس قذرون" أو "الناس عاجزون عن الالتزام بالتوصيات"، بل لا بدّ من معرفة العوامل والخيارات التي أوصلت لبنان لأن يصبح أرضاً خصبة لتفشّي الكوليرا بعد ثلاثين عاماً من شفاء آخر حالة فيه.
في الواقع، لم تنفق الحكومات اللبنانية المتعاقبة بين عامي 1992 و2017 سوى 6.8% من مجمل إنفاقها العام الذي بلغ 216 مليار دولار، على بناء البنى التحتية وصيانتها. فيما بالبنى التحتية الصحية، فقد أُنفق 1.4 مليار دولار على مياه الشرب، ونحو 543 مليون دولار على الزراعة والرّي، و1.1 مليار دولار على الصرف الصحي، و371 مليون دولار على الصّحة. من الواضح أن الاستثمار الزهيد في هذه البنى التحتية لم يكن نتيجة شحّ في الموارد إنّما قرار سياسي واضح في التقشّف لصالح سداد خدمة الدين العام، التي بلغت قيمتها ثلث الإنفاق العام، على حساب حماية المجتمع ورفاهيته.
بعد عام على الانهيار الاقتصادي، حذّرت اليونيسف من انهيار شبكة المياه اللبنانية بشكل تامّ، وكرّرت هذا التحذير عام 2022، مشيرة إلى أن نصف المقيمين الذين يعتمدون على شبكات المياه العامة عاجزين عن تلبية احتياجاتهم من المياه، فيما يعاني النصف الآخر من ضغوطات متزايدة بسبب ارتفاع تكلفة صهاريج المياه والمياه المعلّبة. وبحسب التقرير نفسه، انخفض متوسّط استهلاك المياه اليومي للفرد إلى 35 ليتراً بغضون سنة وهو الحدّ الأدنى المقبول من حيث الكميّة، فيما ارتفعت كلفة صهريج المياه 6 مرّات والمياه المعلّبة 3-5 مرات. أشار التقرير أيضاً إلى أن غالبيّة مؤسّسات المياه تحتاج إلى مشاريع إعادة تأهيل كُبرى، لا سيما بعد أنّ أدّى انقطاع المحروقات بحكم الأزمة المالية إلى تعطّل شبكة المياه التي تعتمد في تشغيلها على مولّدات الفيول، فيما يُساهم اهتراء شبكة أنابيب المياه وتداخلها مع الصرف الصحي في هدر 40% من المياه المنتَجة.
لم تبدأ سمات تفكّك شبكة المياه مع الانهيار بل هي النتيجة الحتمية لإهمال متعمّد استمرّ طوال ثلاثين عاماً، بحيث أتت الأزمة لتعطّل أداة تكيّف شبكة كانت تتفكّك تدرّجياً بفعل الغياب المُزمن للاستثمار وإعادة التأهيل. تداعيات هذا التفكّك معروفة مسبقاً، حتّى أن تقرير اليونيسف لعام 2021 حذّر تحديداً من خطر تفشي أمراض مائية معدية بسبب بؤس الشبكة، وهذا ما نشهده اليوم.
سياسات التقشّف التي يروَّج لها اليوم بزخم على أنها السبيل للخروج من الأزمة هي التي أسفرت عن تفشّي الكوليرا في لبنان. إن تقييد إنفاق الدولة على المجتمع المفترض أن ترعاه يعني عدم فحص مصادر المياه بشكل دوري، وعدم تأهيل شبكات نقلها وتخزينها، فضلاً عن غياب الوقاية من أي أزمة صحيّة محتملة. باختصار، التقشّف هو القبول بتعريض المجتمع لمخاطر حالية ومستقبلية بغية توفير المال اللازم لخدمة مصالح متموّلين أقرضوا الدولة فجعلوا منها رهينة.
وظيفة الدولة حماية المجتمع
سُجّل نحو 29 فاشية كوليرا في العالم هذه السنة، وهو رقم قياسي يتجاوز المعدّل السنوي المُسجّل سابقاً والذي يبلغ 20 فاشية سنوياً. وهذا دليل على عبثيّة التعامل مع الفاشيات على المستويين الوطني والعام. وبالتالي إن التعامل مع واقع المنطقة الجديد بما فيه تفكّك الدولة والمجتمع في سوريا والعراق لضبط مفاعيل الأزمات والحروب التي تصيب منطقتنا لن يكون مُمكناً باتباع السياسات النيوليبرالية والعنصرية، بل علينا استخراج عبرتين من هذا المشهد المأساوي، أولاً عبر إعلان القطيعة مع سياسات التقشّف التي أودت بنا وبالعالم إلى هذا الحال، وثانياً التأكيد على الوظيفة التي نريد أن تؤديها الدول وهي حماية المجتمع.