Preview Christophe Colombos Men of Glod

كولومبوس وأرض الذهب الجديدة

«قد لا يتبادر إلى الذهن وجود أي صلة بين مسألة الذهب وبين أحداث عدّة جرت قرابة العام 1492، كتوحيد مملكتيْ قشتالة وأراغون، وسقوط غرناطة، وطرد اليهود، والتنصير الإجباري للمسلمين. لكن الواقع يشير إلى عكس ذلك».
بيار فيلار

«أريتُهم سيفاً فأمسكوه من حدِّه عن جهالة وجرحوا أنفسهم. لا يعرفون ما هو الحديد. رماحهم من قصب… إنّهم مؤهّلون ليصبحوا خدماً من الطراز الرفيع… لا نحتاج لأكثر من خمسين رجلاً لإخضاعهم وإجبارهم على فعل ما نريد».
كريستوفر كولومبوس

على الرغم من إسقاط عشرات التماثيل لكريستوفر كولومبوس في الولايات المتّحدة احتجاجاً على تصويره كرمز وطني، ما زالت الهالة التاريخية التي تحيط بشخصيّته حاضرة في مختلف أرجاء العالم. وما زالت صفة «مُكتشف أميركا» هي الصفة الأساس التي تتبادر إلى الأذهان عند ذكر اسمه. ومن يعلم القليل عن قصّته، يُحدِّثك عن محاولته الوصول إلى الهند عبر الإبحار غرباً واكتشافه القارة الأميركية عن طريق الخطأ. وقد يضيف بعض النقّاد جرائمه بحقّ السكّان الأصليين. أمّا قصّة البحث عن الذهب كأحد الدوافع الرئيسية للرحلة وكعنصرٍ فاعلٍ في رسم نهايتها، فما زالت مطويّة بين صفحات كتب التاريخ مع أن كولومبوس نفسه يأتي على ذكر كلمة «ذهب» في مذكّراته أكثر من 65 مرّة.

ساهم البحث المحموم عن الذهب من كولومبوس والقوى المالية والسياسية الداعمة له في بروز أشكال جديدة من الاستيطان وعلاقات الإنتاج المبنية على الرقّ والسخرة لخدمة اقتصاد استخراجي مُدمِّر للبنية الاجتماعية وللبيئة الطبيعية. وساهم كذلك في عملية التراكم الأولي لرأس المال التجاري في أوروبا، وتكريس مبدأ الاستثمار الطويل الأمد في مشاريع عالية المردود والمخاطر في آنٍ معاً. وقد أدّى ذلك إلى تأجيج الصراع بين قوى الرأسمالية التجارية في شبه الجزيرة الإيبيرية (إسبانيا والبرتغال حالياً) حول احتكار التجارة عبر الأطلسي وتقاسم الثروات والنفوذ. وهو صراع لم يسلم منه كولومبوس وورثته. 

ساهم البحث المحموم عن الذهب من كولومبوس والقوى المالية والسياسية الداعمة له في بروز أشكال جديدة من الاستيطان وعلاقات الإنتاج المبنية على الرقّ والسخرة لخدمة اقتصاد استخراجي مُدمِّر للبنية الاجتماعية وللبيئة الطبيعيةلقد كان البحث عن الذهب من الدوافع الرئيسة التي أعلنها كولومبوس لكسب التأييد الملكي لمغامرته وجمع المال اللازم لتمويلها. وقد أُعطِي هذا التفويض في العام 1492. من هناك بدأت الرحلة، من معسكر «سانتا في» أثناء حصار جيوش مملكتيْ قشتالة وأراغون لغرناطة.

صفقة غرناطة: مغامرة محسوبة

لم تكن رحلة كولومبوس وليدة لحظة تجلٍّ، بل نتيجة تضافر عوامل تاريخية عدّة في النصف الثاني من القرن الخامس عشر.

على الصعيد الشخصي، قضى كولومبوس قسماً كبيراً من شبابه في الإبحار في المتوسّط والشاطئ الغربي لأفريقيا تحت راية التاج البرتغالي. لكنه كان تاجراً في المقام الأول. فرحلاته على متن السفن لم تكن بصِفَة بحّار أو قبطان، بل كوَكيل تجاري لبيوتات جَنَوة مثل آل نيغريني. وهو في الأصل إبن حائك جَنوي تزوّج من إبنة أحد ملّاكي الأراضي الزراعية البرتغاليين في إحدى الجزر التي شكّلت نموذجاً لمزارع العبودية في أميركا لاحقاً. كان كولومبوس كذلك مُطَّلعاً على كتابات ماركو بولو حول ثروات الشرق الأقصى، وعلى نظرية كرويّة الأرض والقدرة على الوصول إلى الشرق عبر الإبحار غرباً، التي نادى بها عالم الخرائط الفلورنسي فرانشيسكو توسكانيللي. حاول كولومبوس إقناع التاج البرتغالي بفكرة الإبحار غرباً لسنوات عدّة من دون جدوى. وعندما يئِس من المحاولة، سعى إلى إقناع خصومهم، الإسبان. فلماذا قَبِل هؤلاء ما رفضه البرتغاليون؟

في الربع الأخير من القرن الخامس عشر، تحالفت مملكتان رئيسيتان في شبه الجزيرة الإيبيرية: قشتالة في الشمال الأوسط وأراغون في الشمال الشرقي. توطّد هذا التحالف عن طريق عقد قران ملكة قشتالة إيزابيلا على ملك أراغون فرديناند في العام 1469. وقد عُرفت مملكة قشتالة في تلك الفترة بتمرُّسها في فنون الحرب والغزو، وهي التي شَنّت حملات السطو على الأساطيل البرتغالية في الأطلسي إلى حدود حصن المينا، وأغارت تحت راية الكنيسة الكاثوليكية على معاقل قوى المسلمين المغاربة في الأندلس والشاطئ الأفريقي. في المقابل، نسجت مملكة أراغون علاقات تجارية واسعة مع محيطها المتوسّطي، واستضافت خُبُرات مالية من المدن الإيطالية ومن بينها مستشار فرديناند المالي فيانيلو (من البندقية)، الذي أثار اهتمام فرديناند في ثروات أفريقيا. هكذا، اجتمع البأس العسكري والنبض التبشيري لقشتالة مع الحسّ الاستثماري والخبرة المالية المتنوّعة لأراغون، ممّا خلق مناخاً مؤاتياً لوضع فكرة كولومبوس حيّز التطبيق.

لم يكن كولومبوس غريباً عن البلاط الإسباني. تشير المؤرِّخة هيلين نادر إلى وجود سِجلّات رسمية تُرجِّح قيام كولومبوس بوظائف عدّة لحساب البلاط، في مقابل عُمولات قبل رحلته المشهورة. ومن بين تلك المهمّات تسهيل عمليّات بيع الغنائم الذي كان البلاط يستولي عليها في حروبه مع ممالك المسلمين في الأندلس، وتضمّن ذلك بيع المستعبَدين من الأسرى لدى تاجر الرقيق الفلورنسي - والمقيم في إشبيلية - خوانوتو بيراردي، الذي موّل لاحقاً رحلة كولومبوس وبقي شريكاً تجارياً له إلى حين إعلان إفلاس الأوّل ووفاته في العام 1495. وربّما ساهم كولومبوس أيضاً في ترتيب تجهيز الزفاف لإحدى كريمات القصر من الأمير البرتغالي.

وبحسب المؤرِّخ الإسباني غيمينيز هرنانديز، لعبت حلقة ضيّقة من مستشاري الملك فرديناند الماليين دوراً محورياً في استعمار القارة الأميركية. ومهما تكن صحّة ذلك من عدمه، فبحسب بيار فيلار، لا شكّ أنّ ثلاثة رجال مقرّبين من فرديناند قاموا بالإشراف على تمويل بعثة كولومبوس إلى الشرق، وهُم: أمين خزانة الملك لويس دي سانتاغِل، وهو من يهود الأندلس الذين «اعتنقوا» المسيحية خوفاً من محاكم التفتيش، وسكرتير الملك البلنسي خوان دي كولوما، والطلياني برناردو بينالو الذي عُيِّن لاحقاً المدير المالي لأسطول رحلات كولومبوس. فيما  تولّى مصرفي فلورنسي تعريف كولومبوس على دوق مدينا دي صيدونيا، وهو من كبار أثرياء الإسبان ومحظي لدى البلاط. 

كمّيات الذهب المستخرجة من الكاريبي والمرحّلة إلى إسبانيا

وضِعت الترتيبات النهائية للصفقة في معسكر «سانتا في» أثناء حصار غرناطة. وقد زاد سقوط المدينة  من عزيمة إيزابيلا وفرديناند على المضي قدماً في المشروع. فالملك والملكة بُهِرا بما وجداه داخل أسوارها من ثراء في الأسواق والمقتنيات الآتية  من الشرق كالحرير والسيراميك والبهارات. ولم تفُتهما الحاجة إلى تحصيل نحو  24 مليون مارفيديس في خلال سنة لدفع الدِيّة التي وعدا حاكم غرناطة بها في مقابل استلام المدينة من دون قتال. معنوياً، غذّى سقوط غرناطة الإيمان بالدعم الإلهي، وحثّ رهبان الفرنسيسكان إيزابيلا، المعروفة بحماسها المُفرط لنصرة الدين، إلى اغتنام الفرصة، وتبنّي طرح كولومبوس من أجل إنقاذ أرواح الآلاف في بلدان بعيدة عبر تنصيرهم.

وهكذا، بعد جولات من التفاوض، صدر في 30 نيسان/ أبريل 1492 مرسوماً ملكيّاً سرّياً يتضمّن شروط الصفقة من داخل أسوار غرناطة بعد سقوطها، وبات يُعرف لاحقاً بـ«امتيازات غرناطة». بحسب المرسوم، تكفّل البلاط بتجهيز سفينتين وتمويل 90% من التكاليف في مقابل الحصول على 90% من العائدات. فيما  حصل كولومبوس على حصة 10% من عائدات الرحلة، بما فيها المناطق المُستكشفة وما قد يستكشف فيما بعد، ونال أيضاً لقب أدميرال البِحار، وحقّ تولّي الحكم بالوراثة في المناطق التي يسيطر عليها، بالإضافة إلى حصوله  على ثُمن صافي الأرباح في حال استثمر ثُمن التكلفة.

قُدِّرت تكاليف الاستثمار بحوالي 1,6 مليون مارافيدي (أي نحو 15 كيلوغرام من الذهب). ساهم التاج القشتالي بحوالي 1,14 مليون منها، وتكفّل كولومبوس بثُمن ما تبقّى، فيما شاركت طبقة النبلاء في الأندلس في رسملة التكلفة الباقية. أمّا بالنسبة للسفينتين التي تكفّل بهما البلاط، فقد قامت عائلتي بينزونيس ونينيوس من مدينة «بالو» بتجهيز مركبين متوسِّطي الحجم لترافقا السفينة الأمّ كتعويض للبلاط من جرّاء عمليّات القرصنة التي كانت تنطلق من مرفأ المدينة الصغير. هكذا انطلق كولومبوس على متن السفينة الأم «سانتا ماريا» برفقة المركبين «بينتا» و«نينيا»، ووعد بتحقيق ثلاثة أهداف: إيجاد طريق بديل للتجارة مع الشرق الأقصى، وإقامة علاقات دبلوماسية مع ممالك الشرق، وحيازة الذهب.

غزو «الجنة»1

في فجر 12 تشرين الأول/أكتوبر 1492، وبعد 33 يوماً من الإبحار في مياه الأطلسي، رأى أحد أعضاء الطاقم، واسمه رودريغو، شاطئاً من الرمل الأبيض المُتلألئ تحت أشعة القمر. صرخ عالياً معلناً الوصول إلى اليابسة علّه يكسب المكافأة المرصودة لمن يرى اليابسة أوّلاً (10 آلاف دوكات). لكن كولومبوس، بحسب المؤرِّخ الأميركي هاورد زِن، ادّعى أنّه رأى ضوءاً في اليوم السابق واحتفظ لنفسه بالمكافأة. 

وعد كولومبوس بتحقيق ثلاثة أهداف: إيجاد طريق بديل للتجارة مع الشرق الأقصى، وإقامة علاقات دبلوماسية مع ممالك الشرق، وحيازة الذهبمنذ اليوم الأوّل لوصوله إلى جزر الكاريبي، جَهِد كولومبوس، عبر الترغيب والترهيب، لمعرفة أماكن تواجد الذهب وكيفية الحصول عليه، بعد أن رأى السكّان الأصليين - الذين استقبلوه بحفاوةٍ وكرمٍ - يرتدون الحلي المُذهّبة، وبعد أن أهداه أحد قادة القبائل قناعاً من ذهب. كتب كولومبوس للبلاط في مدريد يعِدَه، في حال أعانه بشكل أكبر على تجهيز رحلة ثانية، أن يجلب له «كلّ الذهب الذي يحتاجه» و«الرقيق الذي يطلبه». فالسكّان الأصليون، كما يروي كولومبوس، «يتعاملون بحرِّية مع ممتلكاتهم بشكل يصعب تصوّره… وعندما تطلب منهم شيئاً يملكونه، لا يرفضون قط. على عكس ذلك، يتشاركونه مع أيّ كان».

وقد ترك المُبشِّر بارتولوميو دي لاس كاساس، الذي ساهم في غزو «العالم الجديد» وعاش فيه لعقود، شهادة حيّة ومُفصّلة عن تحرّر شعوب جزر الكاريبي، على تعدّدهم وتنوّعهم، من العلاقات التجارية ومفاهيم الملكيّة الخاصّة وعدم وجود الجشع - أو الطموح - بينهم. وأشاد بمهارتهم في السباحة، وخصوصاً النساء منهم، ووصف عيشهم في مساكن جماعية على هيئة أجراس مصنوعة من الخشب المقوّى، ومسقوفة بورق النخيل، وتَسَع المئات وتُشبه في تنظيمها الاجتماعي العاميّات أكثر منها العمران المعاصر في أوروبا وسائر المتوسّط. وقد وصف كولومبوس خصوبة التربة في تلك الأنحاء وجمال الجبال الخلّاب والسهول الغنيّة بأماكن الرعي، فقد عرف أهلها زراعة الكاسافا (من فصيلة البطاطا) والذرة التي أخذها عنهم الأوروبيون وباتت غذاءً عالمياً.

تفاجأ لاس كاساس بطبيعة العلاقات بين الجنسين فكتب: «لا وجود لقوانين زواج. والنساء مثل الرجال، يخترن شركاءهن الجنسيين ويتركنهم متى أردن من دون غيرة أو غضب أو شعور بالإهانة. والنساء الحوامل يعملن حتى اللحظات الأخيرة وينجبن من دون ألم يُذكر. ففي اليوم التالي من الإنجاب، يغتسلن في النهر ويستعدن عافيتهن وكأن شيئاً لم يكن. وإن مللن من رجالهن، يتناولن الأعشاب للإجهاض. ينظر كلا الجنسين إلى العري الكامل بعينٍ عادية وكأنهم ينظرون إلى يدٍ أو رأسٍ». وكانت جبال إحدى الجزر معقلاً لمجتمع نسائي من المحاربات الشديدات.

لا يعني ما تقدّم غياب الهرمية الاجتماعية. فقد كانت جزيرة إسبانيولا (هاييتي والدومينيكان حالياً) معقلاً لخمس ممالك. وكانت رعية كلّ مملكة مُقسّمة إلى جماعات تحت إمرة زعيم. وإن كان بعض شعوب الأراواك مُسالماً، كشعب التاينو الذي كان يقطن البهاما عند وصول كولومبوس، فالبعض الآخر، كشعب الكاريب (الذي باتت المنطقة تعرف باسمه)، كان شديد البأس ويُغير على غيره من الأقوام كالتاينو. ونتيجة هذه المقاومة الشرسة، شيطن الأوروبيون الكاريب عبر وصفه بأنه من أكلة لحوم البشر (من هنا اشتُقّت كلمة «كانيبل» (cannibal) بالإنكليزية). استخدم الغزاة الإسبان هذه الصِفة كحجّة لتبرير استعباد شعب الكاريب من دون أي شعور بالذنب. والمفارقة أن طقوس أكل لحوم البشر بين الكاريب، إن وُجدت أصلاً في مناسبات دينية أو حربية مُحدَّدة، فهي لا تقارَن، لا من قريب أو من بعيد، بالتوحّش الأوروبي الذي أدّى إلى فناء مئات الآلاف وربّما ملايين البشر بما فيهم شعب التاينو المسالم على يد المستعمرين الإسبان، وأوّلهم كولومبوس.

محرقة الكاريبي

في رحلته الثانية التي فاقت الأولى حجماً وتسليحاً بأضعاف، كان على كولومبوس أن يعود مُحمّلاً بالكنوز التي بالغ في وصفها لإيزابيلا وفرديناند بعد عودته من رحلته الأولى. جال كولومبوس بين سواحل جزر الكاريبي مثل كوبا (ظاناً أنها اليابان) وإسبانيولا (ظاناً أنها الصين)، وأرسل بعثات استكشافية إلى المناطق الداخلية للتواصل مع قادة السكّان الأصليين وإجبارهم على تزويده بالذهب والرقيق. وبالفعل قبض كولومبوس على آلاف الأشخاص، ووضعهم في أقفاص تحرسها الكلاب، وأرسل «أفضلهم» رقيقاً إلى أوروبا، فمات منهم الكثير في البحر، وبيع من نجا منهم في أسواق المدن الإسبانية وعلى رأسها مدينة إشبيلية. أمّا الذهب، فقد أمر كلّ من تجاوز سن الـ14 في مقاطعة تشيكاو في هاييتي بجمع كمّية مُحدّدة من الذهب كلّ ثلاثة أشهر. وكان يعطيهم رموزاً من نحاس عند تسليمهم تلك الكمّيات، وإن وجد بينهم من لا يملك الرمز، قطع يده وتركه ينزف حتى الموت. هذا غيضٌ من فيض ما رواه لاس كاساس عن ما قام به الإسبان عموماً، الذين  ارتكبوا  مجازر جماعية في قرى بأكملها، وتفنّنوا في وسائل التعذيب، بما فيها بقر البطون بالفؤوس، وحرق الناس أحياء على نار هادئة، وإعدام الأسرى، وانتزاع الرُضّع من بين أحضان أمهاتهم ثمّ رطْم رؤوسهم بقوّة على الصخور أو رميهم في الأنهار، واستعباد النساء لأغراض جنسية. وقد حدا ذلك أحياناً بالسكّان الأصليين إلى هجرة قُراهم أو الإقدام على الانتحار الجماعي عند سماعهم باقتراب الأوروبيين من ديارهم.

في رحلته الثانية التي فاقت الأولى حجماً وتسليحاً بأضعاف، كان على كولومبوس أن يعود مُحمّلاً بالكنوز التي بالغ في وصفها لإيزابيلا وفرديناند بعد عودته من رحلته الأولىلم تقتصر إبادة شعوب الكاريبي على الممارسات المتوحِّشة التي كالها لهم الغزاة بشكل مباشر، بل حوَّل  نظام العمل الجائر ما تبقّى منهم إلى مستعبدين في أوطانهم. أرسل المستعمرون الإسبان الرجال لاستخراج الذهب في المناجم تحت ظروف سيّئة، ونقل الأحمال الثقيلة لمسافات طويلة - وأحياناً كانوا يركبون على ظهورهم للتنقّل - فيما أجبروا النساء على القيام  بأعمال مُضنية في فلاحة الحقول، ونقلوا أهالي بعض الجُزر بشكل قسري إلى جزر أخرى للتعويض عن نقصٍ في عديد العمّال. أدّى انفصال الرجال عن النساء لفترات طويلة إلى تفكُّك أواصر الأسر وانخفاض مُعدّلات الإنجاب بشكل كبير، فضلاً عن  انتشار الأمراض التي جلبها الأوروبيون. بالنتيجة، تناقصت أعدادهم بوتيرة مُرعبة أفرغت جزر كوبا وجامايكا والبهاما وبورتوريكو بشكل شبه كامل. وفي إسبانيولا، انخفض عدد سكّان الجزيرة، الذي يقدّره المؤرِّخ زِن بربع مليون، إلى النصف في خلال سنتين. وبحسب تقرير صدر في العام 1650، لم يعد هناك وجود لشعب الأراواك الأصلي أو مُتحدّرين من سلالته.

نمطُ إنتاج يستبدل نمطَ حياة

مع مرور الوقت وعلى أثر بعض الاعتراضات، حاول البلاط في إسبانيا إقرار قوانين تُنظِّم علاقات المستعمرين مع السكّان الأصليين بشكل أرحم، أقلّه رسمياً. في البداية، خضعت  هذه العلاقات لنظام العمل الاستعماري المعروف بالإنكومياندا. صُمِّم نظام الإنكومياندا من أجل مكافأة القادة الغزاة عبر منحهم الحقّ الحصري - والقابل للتوريث - للاستفادة من قوّة عمل مجموعة مُحدّدة من السكان الأصليين (غالباً في المزارع أو المناجم) في مقابل تأمين «الحماية» للشعوب الأصلية (من أنفسهم؟) وتعليمهم أصول الدين المسيحي. استوحِي نظام العمل هذا من القوانين الذي طُبِّقت على غير المسيحيين في مناطق الأندلس التي استعادها الإسبان من ملوك الطوائف الأندلسية، وإنّما  مع فارق أساسي، وهو أن «أصحاب الحقوق» في الأندلس كانوا مُلّاكاً للأراضي، وبالتالي شكّلوا قوّة إقطاعية بذَل فيرديناند وإيزابيلا جهوداً لتطويعها. في المقابل، حرِص الملك والملكة على إبقاء ملكيّة الأراضي المُستعمرة في الكاريبي باسم البلاط مع إعطاء حقّ الاستثمار لقادة البعثات الاستعمارية فقط، لمنع بروز طبقة إقطاعية جديدة. 

على أرض الواقع، تحوّل نظام الإنكومياندا إلى نظامٍ شبه استعبادي، فأصدر البلاط في العام 1542 قوانين أقرّت نظاماً جديداً وهو «ريبارتيميانتو». وبموجب هذا النظام، خسر أصحاب امتيازات العمل تحت نظام الإنكومياندا حقّ توريث الامتياز، وبات حقّ امتلاك قوّة العمل غير محصور بأشخاص مُحدّدين، بل التزاماً من كلّ جماعة من السكّان الأصليين بتوفير عدد مُحدّد من اليد العاملة في خلال فترات معيّنة (أسابيع أو شهور) في المزارع أو المناجم أو وِرَش العمل أو أعمال البنى التحتية، ممّا يجعله بمعنى آخر نظام سخرة. ونظراً لتضاؤل أعداد السكّان الأصليين، فرضت القوانين الجديدة الفصل الاجتماعي بين السكّان الأصليين وبين المستعمرين، بحيث تمّ تجميع السكّان الأصليين وحصرهم في مساحات مُعيّنة، أي «معتقلات»، بعد أن كانوا يتنقّلون بين أرجاء جزرهم من دون قيود. وأعطاهم القانون نوعاً من الإدارة الذاتية في مقابل خضوعهم كرعايا للتاج الإسباني، ولنظام العمل الجديد، والتزامهم بعدم خرق العادات والقيم الأوروبية. دقّ هذا الواقع  المسمار الأخير في نعش أسلوب الحياة الذي كانوا يتّبعونه، وجعل مصيرهم منوطاً بمصير مستعمريهم.

مصير كولومبوس والغُزاة الجُدد 

عاد كولومبوس من رحلته الأولى إلى الكاريبي ظافراً. استُقبِل استقبال الأبطال، وحرِص على استعراض الغنائم أمام حاشية الملك والملكة، بما فيها «عيّنات» من السكّان الأصليين والببّغاوات الملوّنة والطابات التي ترتدّ عن الأرض بشكل تلقائي (كانت تلك  المرّة الأولى التي يرى فيها الأوروبيون المطّاط). وبالنتيجة، استحصل، كما اشتهى، على لقب أدميرال البِحار وترقّى إلى طبقة النبلاء. تهافت التُجَّار والمستثمرون للمساهمة في رحلته الثانية، وأولاه البلاط كلّ اهتمام ورعاية، فتمّ تجهيز أسطول ضخم لا يقلّ عن 17 سفينة ومئات البحّارة بتمويل ملكي ورأسمال خاصّ. لكن الوئام لم يدم طويلاً. برزت خلافات عميقة بين كولومبوس وبين شريحة كبيرة من المشاركين في حملته الثانية بعد الوصول إلى جزيرة إسبانيولا، على خلفية طبيعة الحكم وتنظيم الحياة اليومية في بلدة «إيزابيل» المستوطنة الأولى على أرض الذهب الجديدة. تُفسِّر المؤرِّخة نادر هذا الصراع كالآتي: أراد كولومبوس أن يحكم «إيزابيل» على طريقة الجَنويين الذين كانوا يكتفون بتشييد مناطق التجارة الحُرّة والمُحصّنة على السواحل، وأن يحتكر القرار لنفسه وأعوانه وعلى رأسهم أخيه بارتولوميو. في المقابل، ارتكز الحُكم القشتالي على سلطة المجالس البلدية في تسيير أمور الرعايا، وخصوصاً في بؤر الاستعمار، حيث تسهّل لامركزية القرار عملية الاستيطان. تفاقم هذا التناقض مع نيّة إيزابيلا وفرديناند استعمار جزر الكاريبي على نطاقٍ واسع، وقد أرسلوا مع كولومبوس عدداً كبيراً من المزارعين والحرفيين والبنّائين، بالإضافة إلى المواشي والأحصنة والنباتات الزراعية مثل الزيتون وحبوب القمح والشعير. لم يلائم الطقس الاستوائي هذه الزراعات، وقضى العديد من المستعمرين تحت وطأة الأمراض والجوع ومقاومة السكّان الأصليين. ولما رفض كولومبوس فتح أبواب مخزن الغذاء في حصن المُستعمرة، والاعتراف بأي مستوطنة تُبنى في الجزيرة من دون موافقته، نشب تمرّدٌ لم يُخمد إلّا بعد أن أرسل البلاط مبعوثاً لفضّه. حكم المبعوث لغير صالح كولومبوس َوأرسله مُكبّلاً بالأغلال إلى إسبانيا.

صُمِّم نظام الإنكومياندا من أجل مكافأة القادة الغزاة عبر منحهم الحقّ الحصري - والقابل للتوريث - للاستفادة من قوّة عمل مجموعة مُحدّدة من السكان الأصليينأفرج البلاط عن كولومبوس عند عودته إلى إشبيلية، ولكنّه جرّده من حقّه في حاكمية «العالم الجديد»، وقلّص امتيازاته ولا سيما  حصّته من الأرباح من دون أن يلغيها. على الرغم من تقليص تلك المنافع، جنى كولومبوس أرباحاً طائلة في السنوات الأخيرة من عمره قُدِّرت  بأكثر من 15 مليون مارفيديس، وخصوصاً بعد إيجاد كمّيات لا بأس بها من شذرات الذهب في نهر أوزامو في جزيرة إسبانيولا، والذي حدا بالمستوطنين إلى بناء مستعمرة سانتو دمونيغو على مصبِّه في الشطر الجَنوبي للجزيرة. لكن في العام 1504 قرّر البلاط كسر احتكار التجارة عبر الأطلسي وفتحها أمام جميع رعاياه (باستثناء تجارة الذهب والفضّة والرقيق والقمح والأحصنة)، وهو ما اعتبره كولومبوس جائراً بحقّه لأنه سوف يخفّف من نسبة الريع التي يقتطعها. أما قلقه الأكبر، فقد تمثّل بالحفاظ على ما تبقّى له من امتيازات لذرّيته من بعده. لم تكن حقوق الملكية المتوارثة محفوظة لغير القشتاليين أمثاله، فسعى كولومبوس إلى الاستحصال على ضمانات من العرش، بداية عبر وسطاء ولاحقاً عبر التماس الموافقة الملكية شخصياً، لكنه توفّي في طريقه إلى البلاط بعد أن أقعده المرض، وكان ذلك في مثل هذا اليوم من العام  1506. 

تمكّن وَلَدا كولومبوس، دييغو وفيرناندو، من استعادة بعض تلك الامتيازات، فحَكَم دييغو إسبانيولا لبرهةٍ من الزمن، واستمتع فيرناندو بدخلٍ وفيرٍ من اقتناء حوالي 300 مستعبَد في «العالم الجديد»، وهو ما سمح له بشراء آلاف الكتب، وتدوين سيرة والده لإثبات حقوقه تلك. لكن في نهاية المطاف، سحب العرش تلك الامتيازات، واكتفى بتأمين معاشٍ تقاعدي حُدِّد بنحو 10 آلاف دوكات. أمّا ما تبقّى من ثروات هائلة في أرض الذهب الجديدة ما وراء الكاريبي، فكانت من نصيب غزاة جُدُد، وعلى رأسهم هرنان كورتيز غازي المكسيك وفرانشيسكو بيزارو غازي البيرو. للقصّة بقية.

  • 1عنوان لفيلم عن كولومبوس من إخراج ريدلي سكوت وبطولة جيرار دي بارديو.