Preview الخسائر والأضرار

حبر «صندوق الخسائر» على ورق قمّة المناخ

تحتاج البلدان الفقيرة والنامية، ما عدا الصين، إلى استثمارات بقيمة تريليون دولار أميركي في عام 2025، لتعزيز قدرتها على الصمود في مواجهة الكوارث الطبيعية، وتمويل التكيّف مع تغيّرات المناخ، وتمكين هذه البلدان من تنفيذ التنمية المنخفضة الكربون. وبحلول العام 2030، سيكون هذا الرقم قد تضاعف ليصل الى ما بين 2 تريليون و2.8 تريليون دولار سنويا، وفق تقديرات البنك الدولي.

هذه التقديرات شاملة، وهي مبنية على التفاعل بين الاستثمارات المتعلّقة بتغير المناخ وتلك المتعلّقة بالتنمية. إلا أن الاستثمارات المتعلّقة بالمناخ فقط تبقى هي الأكبر، وتقدّر بما بين 1.2 تريليون و1.7 تريليون دولار سنوياً في العام 2030. في حين أن كلفة تمويل إجراءات التكيّف وحدها، في قطاعات الزراعة والمياه والنظم الإيكولوجية والقطاعات الشاملة، ستبلغ في غضون 6 سنوات نحو 250 مليار دولار على الأقل، ويرجّح أن تتجاوز 400 مليار دولار سنوياً بحلول العام 2050، وفق تقديرات برنامج الأمم المتّحدة للبيئة.

صندوق الخسائر والأضرار

مهما كانت تقديرات الحاجات التمويلية وشمولها، فهي تشير إلى حقيقة ثابتة مفادها أن البلدان الفقيرة والنامية التي ساهمت بأقل قدر من الاحتباس الحراري العالمي، والتي لديها قدرة وصول إلى التمويل محدودة جداً، هي التي تنوء تحت ثقل أعباء تفوق ناتجها المحلي الإجمالي.

تكشف هذه التقديرات الضخمة المسؤوليات بوضوح، فمن يمتلك القدرة على التمويل هو المساهم الأكبر في الأزمة المناخية، وعليه أن يتحمّل القسط الأكبر من الأعباء. إلا أن القادة وممثليهم المشاركين في قمّة المناخ (COP28) المنعقدة في دبي ما انفكّوا يتنازعون على كيفية تمويل «صندوق الأضرار والخسائر»، الذي أقرّوه في قمّة المناخ (COP27) في العام الماضي في شرم الشيخ، بعد أكثر من ثلاثين عاماً من المماطلة.

البلدان الفقيرة والنامية التي ساهمت بأقل قدر من الاحتباس الحراري العالمي، ووصولها إلى التمويل محدود جداً، هي التي تنوء تحت ثقل أعباء تفوق ناتجها المحلي الإجمالي

يهدف هذا «الصندوق» إلى دفع البلدان الغنيّة للمساهمة في تمويل البلدان الفقيرة بالموارد والمتأثرة بالتغير المناخي وتمكينها من مجابهة هذه التغيرات والتصدّي لها. إلا أن المؤتمرين في قمّة دبي الحالية احتفوا بتعهّدات مالية لا تتجاوز قيمتها 700 مليون دولار أميركي، وهو ما يعادل 0.2% فقط من الخسائر التي تكبّدتها الدول الفقيرة حتّى الآن بسبب الاحتباس الحراري.

الدول الصناعية الغنية، المسؤولة الأولى عن انبعاثات الكربون والأزمة المناخية، لديها سجلّ حافل في عدم الإيفاء بالتزاماتها المناخية وإمعانها في نشاطها الأحفوري وصناعاتها الملوّثة. لذلك، توجد شكوك واسعة وعميقة في نواياها المتعلقة بتفعيل «صندوق الخسائر والأضرار» ووضع آلية فعّالة لتمويله وإدارته من أجل مساعدة الدول المتضرّرة من التغيرات المناخية، ولا سيما أن غالبية الدول التي تحتاج إلى التمويل، هي دول ضعيفة في ميزان القوى العالمي، وتتعرّض لعواقب كثيرة من جراء استفحال الخلافات بين الصين والولايات المتّحدة على مسألة تحديد المسؤوليات فيما يتعلّق بالتسبّب بالانبعاثات كمدخل لتمويله، وصولاً إلى الريبة التي تثيرها مسألة توكيل البنك الدولي مهمة إدارته على الرغم من معارضة الدول النامية لهذا الأمر.

عدالة مناخية مع وقف التنفيذ

طُرِحت فكرة إنشاء صندوق لتمويل عمليات مكافحة التغيّر المناخي للمرّة الأولى في العام 1991، في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ في جنيف في سويسرا. يومها، طالبت الدول النامية بتقديم الدعم لها من أجل التعامل مع آثار التغير المناخي، ومعالجة الخلل بين دول الشمال والدول الغنية المسؤولة الأكبر عن انبعاثات الكربون وبين دول الجنوب النامية والفقيرة التي لا تملك ضمن تركيبة اقتصاداتها نشاطات كثيفة الانبعاثات ولكنها تتحمّل تبعات التغيرات المناخية أكثر من غيرها. ومع ذلك، لم يرد مصطلح «الخسائر والأضرار» في أي وثائق رسمية لمؤتمر الأطراف حتى العام 2007، عندما أصبحت مناقشة المسؤوليات المناخية والتعويضات جزءاً أساسياً من جداول الأعمال السنوية للمؤتمر، وتصاعد أصوات الدول النامية نتيجة تعاظم معاناتها مع تداعيات أزمة المناخ.

توجد شكوك واسعة وعميقة في نواياها المتعلقة بتفعيل «صندوق الخسائر والأضرار» كون سجل الدول الصناعية الغنية، المسؤولة الأولى عن انبعاثات الكربون والأزمة المناخية، حافل في عدم الإيفاء بالتزاماتها

ولكن، بقي التقدّم بطيئاً. وبعدها بعامين، في خلال مؤتمر الأطراف الخامس عشر في العام 2009، أُعلن عن تأسيس «صندوق المناخ الأخضر»، حيث التزمت البلدان المتقدّمة تمويله بمبلغ 100 مليار دولار بحلول العام 2020. لكن هذه الدول فشلت حتى الآن في الوفاء بالتزاماتها، ليس لأن هذا المبلغ غير كاف وتخضع استثماراته لمصالح الدول المانحة ونظامها العالمي، بل أيضاً لأن قيمة التمويل المحقق «لم تتجاوز 83 مليار دولار في العام 2020»، وفق منظّمة «أوكسفام». 

استمرّت المماطلة بتحديد المسؤوليّات المناخية كمنطلق لتوزيع تمويل تداعياتها. ففي حين واصلت الدول النامية الضغط من أجل إنشاء صندوق لتمويل الخسائر المرتبطة بالمناخ والتعافي من الأضرار، بقيت الدول الغنية تتملّص من هكذا التزام. وبعد أكثر من ثلاثين عاماً من المماطلة، أقرَّت قمّة المناخ العام الماضي في شرم الشيخ انشاء «صندوق الأضرار والخسائر»، واعتبر من أهم إنجازاتها، لا بل إنجازاً تاريخياً. ولكن ما حصل في غضون السنة الأولى حتى قمة دبي لا يوحي بجدّية هذا القرار.

تقاذف المسؤوليات عائق أمام التمويل

ثمة عوامل عديدة مهّدت الطريق لقبول الدول الغنية بإنشاء الصندوق في قمة العام الماضي، أبرزها أنه لم يضع العبء المالي عليها وحدها، بل نصّ على أن يأتي التمويل من مجموعة متنوّعة من المصادر، بما في ذلك المصادر العامة والخاصة. والأهم أنه لم يحدّد الدول المسؤولة عن تمويله، وإن كان سيتم تطبيق تعريف «الدولة المتقدّمة» الوارد في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ، أم هل سيُطلب من البلدان النامية التي لديها مستويات عالية من الانبعاثات أن تساهم أيضاً.

في الواقع، لم يوافق الاتحاد الأوروبي على إنشاء الصندوق إلا بشرط اعتبار الاقتصادات الكبيرة والمصدّرة للانبعاثات من الجهات المانحة المُحتملة، حتى ولو صنِّفت تقنياً كدولة نامية بموجب اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ، في إشارة ضمنية إلى الصين، التي تعد واحدة من أكبر الدول المصدّرة لانبعاثات الغازات الدفيئة في العالم حالياً، ومع ذلك لا تزال مصنّفة كدولة نامية بموجب اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ. 

بعد أكثر من ثلاثين عاماً من المماطلة، أقرَّت قمّة المناخ في شرم الشيخ انشاء «صندوق الأضرار والخسائر»، واعتبر من أهم إنجازاتها، ولكن ما حصل في غضون السنة الأولى حتى قمة دبي لا يوحي بجدّية هذا القرار

تسعى الصين إلى حصر مساهمتها بتعزيز قدرة الدول النامية الأخرى على التخفيف والتكيّف عبر تنفيذ أو تمويل أو الاستثمار بمشاريع الطاقة المتجدّدة وتكنولوجيات المناخ. وتنطلق الصين من مبدأ أن مستويات الانبعاثات المرتفعة المسؤولة عنها هي حديثة العهد بالمقارنة مع الانبعاثات التاريخية للدول الصناعية المتقدّمة والاستعمارية مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.

التمويل المناخي: فتات لا يفي بالمطلوب

توجد مواقف متضاربة من «صندوق الخسائر والأضرار». وفي مطلق الأحوال، يعتمد نجاحه على تمويله وتشغيله. فالخلافات المثارة حوله في القمة الحالية المنعقدة في دبي، التي أدّت إلى رفده بأقل من 700 مليون دولار فقط، يعزّز الشكوك بوظيفته ونتائجه، ويدعم الآراء التي تعتقد أن البلدان المسؤولة عن التمويل لن تحيد عن تقاعسها المقصود السابق، إذ يفيد برنامج الأمم المتّحدة للبيئة أن نسبة تدفّقات تمويل التكيّف الدولي إلى البلدان النامية بقيت طيلة الفترة الماضي ولا تغطّي سوى ما بين خمس إلى عُشر الاحتياجات المقدّرة. 

لم تتطرّق القمة المنعقدة في دبي إلى آلية إدارة الصندوق، ولم تحسم المسائل الخلافية التي كانت مُثارة عشية انعقاد القمة، ولا سيما لجهة تسمية الدول المسؤولة عن تمويله، وما إذا كانت المساهمة اختيارية أو إجبارية، فضلاً عن تحديد الجهات المستفيدة. جُلّ ما أُعلن عنه، إلى جانب تلك المبالغ الضئيلة، هو تولي البنك الدولي مهمّة إدارته بعد أن كانت تسمية الجهة التي ستتولّى الإدارة من الأمور الخلافية أيضاً. ووفق رئيس البنك، أجاي بانغا، فإن تخصيص الأموال سيكون مهمّة مجلس حكّام لا يزال ينبغي إنشاؤه وسيمثل المانحين والمستفيدين، مُشيراً إلى أن مهمّة البنك ستكون بمثابة «المؤتمن على الأموال».

تنطلق الصين من مبدأ أن مستويات الانبعاثات المرتفعة المسؤولة عنها هي حديثة العهد بالمقارنة مع الانبعاثات التاريخية للدول الصناعية المتقدّمة والاستعمارية مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة

وإلى جانب «الريبة» التي يثيرها دخول البنك الدولي على الخط وعدم اتضاح طبيعة عمله بسبب سجله الحافل وسياساته المضرّة لاقتصادات الدول النامية، فإن عدم تحديد «هوية» مجلس الحكّام، كما عدم حسم المسائل الخلافية أعلاه لا ينبئ إلا بمزيد من المماطلة ويجعل من مسألة تشغيل الصندوق وتفعيل عمليات التمويل بعيدة المنال. وإلى ذلك، تضاف الإشكالية المستمرّة المتمثّلة بتهرّب الدول الغنية من مسؤولياتها بتمويل مكافحة التغير المناخي. 

وإلى حين البت بهذه الخلافات، ستواجه الدول الفقيرة وحدها تداعيات الانهيار المناخي. يكفي التذكير بأن باكستان شهدت في خلال الفترة الماضية خسائر بقيمة 30 مليار دولار أميركي نتيجة الفيضانات الشديدة، على الرغم من أنها تصدر أقل من 1% من الانبعاثات العالمية، فيما ستضطر البلدان الأفريقية، التي لا تساهم إلا بقدر ضئيل جداً من الانبعاثات، إلى إنفاق ما يصل إلى 5 أضعاف ما تنفقه على الرعاية الصحية على التكيّف مع أزمة المناخ، في حين أن دول مجموعة العشرين المسؤولة عن حوالى 75% من انبعاثات غازات الدفيئة العالمية تستمر بسياساتها الكارثية وترفض تحمّل مسؤولياتها لإنقاذ الكوكب.