ما أوّل ما يخطر على بالك إذا قلت حساب جاري؟
عندما تعمّقت الأزمة المالية اللبنانية عام 2019 آخذةً بالتسارع وتظهير تداعياتها، لم يكن اللقاء بأشخاص مُنخرطين بنقاشات حول أسباب بؤس حالنا أمراً نادراً كما الوضع اليوم. في هذه اللقاءات، استخدم بعضهم مصطلحات مثل المنتجات المالية والأسهم والسندات والمطلوبات والأصول والضمانات، أو حتى اختصارات أسوأ، جعلت المشكلات المُلحّة التي تواجهها البلاد والديناميكيات التي أوجدتها هذه المشكلات عصيّة على الفهم.
في ذلك الوقت، كنت أنا وصديقي نسخر من النقاشات الدائرة حول التمويل والتي كانت أشبه بالسحر والشعوذة. بالنسبة للمبتدئين مثلنا، ألقت هذه النقاشات ستاراً على عالم المال بأسره، وجعلت الأمولة، أي عملية خلق المال من المال الملازمة لتوسّع النيوليبرالية والتي ميّزت بنية الاقتصاد اللبناني، مُبهمة وغير قابلة للخرق. لكن ماذا لو أخذنا المسألة بجدّية أكبر، ماذا لو كانت لغة الأمولة مثل السحر فعلاً، وعبارة عن تداول بكلمات ومفاهيم ذات أصول ودلالات غامضة تملك تأثيراً واضحاً على العالم؟ في مواجهة استبداد الخبرة واحتكارها وطغيانها، وابتكارها لغة خاصة كوسيلة للإقصاء والتخطيط، يحاول هذا المقال إعادة التفكير في بعض المفردات المالية، لا من ناحية الممارسات المفاهيمية التي تدخل في إنتاجها بل في آثارها الاجتماعية والسياسية والثقافية. ترسم الكلمات بمجملها شبكات من الروابط الهادفة بين الأشخاص والأشياء، وغالباً يكون طرح الأسئلة البسيطة حول المصطلحات التي نستخدمها بمثابة تمرين دلالي. على سبيل المثال، ما هو الحساب الجاري؟ كيف نحصل أو نمتلك حساباً مماثلاً؟ بأي طرق يربط الحساب الجاري الأفراد بالمجتمع والدولة والعالم بأسره؟ وإلى أي مدى وتحت أي تأثير؟
لسنوات طويلة، كنا نميل إلى ربط مصطلح "الحساب الجاري" بالأزمة المالية التي فاجأت غالبيتنا العظمى. بالنسبة لنا، نحن الذين نملك حسابات مصرفية ونستخدمها لدفع فواتيرنا وإجراء تحويلاتنا المالية، سطت المصارف على حساباتنا الجارية والأموال المودعة فيها، وسرّعت الكارثة الاجتماعية والاقتصادية التي انعكست بشكل سيء، إن لم يكن أسوأ، على من لا يملكون حسابات مصرفيّة أصلاً، أولئلك الذين يلجأون إلى الخدمات البديلة عن المصارف لإجراء معاملاتهم المالية مثل شركات تحويل الأموال أو الدفع عبر الموبايل. الجدير ذكره على الهامش أن الشركة الوحيدة التي تملك ترخيصاً من المصرف المركزي لتنظيم وتشغيل المدفوعات عبر الموبايل هي Areeba، ونقاط الدفع المعتمدة لديها هي مكاتب LibanPost، والشركتان مملوكتان لعائلة ميقاتي. أيضاً، قد يذكّرنا مصطلح "الحساب الجاري" بالتحرّكات الأخيرة التي نظّمها عددٌ من المودعين لاستعادة أموالهم المشروعة بوسائل غير تقليدية إلى حدّ ما، أو ربّما مثيرة للجدل. ولكن إذا أردنا توسيع آفاقنا المرجعية، نستكشف طرقاً عدّة سحرنا بها "الحساب الجاري" ودفعنا نحو عمليّات أخرى.
لم يكن العمل المأجور علامة دامغة على الطبقة الاجتماعية على عكس الحساب المصرفي، لا سيما الذي يسمح لصحابه بمستويات عالية من الاستهلاكانطلاقاً من هنا، سوف أطرح الفكرة التالية، ومفادها أن الحساب الجاري هو عبارة عن عملية واحدة تربط حياتنا اليومية بالأسواق الدولية وأنماط اشتغال الرأسمالية العالمية، لا بل عمليّة مضمنة فيها ومعتمدة عليها. أتسأل/ين كيف؟ فيما يلي ثلاث طرق مختلفة يمكن للحساب الجاري أن يعملها بموجبها وعلى مستويات متفاوتة وإنّما مترابطة.
أولاً، وبطريقة لا تختلف عن الحسابات الجارية للأفراد، هناك حساب جاري للبلد ككلّ، تُسجّل فيه أنشطة الإيداع والتسليف، والصادرات والواردات، وتدفّقات الأموال من التحويلات أو المساعدات الخارجية، والنفقات المدفوعة للمستثمرين الأجانب. ويعكس هذا الحساب علاقات البلد الاقتصادية مع بقية بلدان العالم. لطالما سجّل الحساب الجاري للبنان عجزاً، وفي حين حاجج الكثير من الاقتصاديين بصوابية إنفاق البلاد أكثر مما يملكه فعلياً، ومن ثمّ تمويل الفجوة بالديون - لا سيّما في فترات التوسّع الاقتصادي أو في فترات إعادة إعمار – يبقى المنطق السليم معاكساً لهم تماماً، لأن الارتباط بديون دائمة يفرض قيوداً لا مفرّ منها، وكذلك الاستمرار في التمويل اللامتناهي لنفقات مُفرطة إلى الحدّ الذي يصبح فيه هذا النمط عنصراً هيكلياً في الاقتصاد نفسه. طبعاً هذا كلّه ليس دليل عن الحظ الجيّد، ويصحّ لبنان مثالاً حيّاً للدلالة.
ثانياً، وانطلاقاً من هذه الحالة والظروف، أي إنفاق أكثر مما نملك، يتبيّن أنّ زيادة الحسابات الجارية الفردية في المصارف المحلية، تزيد المبالغ النقدية لدى هذه المصارف، ما يمكّنها من زيادة حجم ونطاق التضحيات المستقبلية التي يمكنها تقديمها. بمعنى أكثر حسيّة، يمكن للمصارف استخدام هذه الأموال لإعطاء قروض للسكّان المحلّيين لتمويل الاستهلاك الخاص، وبناء المراكز تجارية وإطلاق المشاريع وغيرها من النشاطات، ولكن أيضاً لابتكار منتجات مالية غالباً يستفيد منها المستثمرون الكبار مثل كبار المودعين والمستثمرين الأجانب والمحلّيين. أكثر تبسيطاً، الحساب الجاري هو إحدى الطرق التي تسمح للمصارف بخلق المال من خلال المال نفسه في الأسواق المحلية والدولية على حدّ سواء.
ثالثاً، وهذة النقطة مهمة. تعدّ الحسابات الجارية الفردية علامة على الانتماء إلى طبقة اجتماعية معيّنة. قبل الأزمة، كان امتلاك حساباً مصرفياً دليلاً على الانتماء إلى الطبقة الوسطى. لكن، وكما يحاجج فواز طرابلسي في كتابه عن الطبقات الاجتماعية والسلطة السياسية في لبنان، تُعدّ الطبقة الوسطى غير مُتجانسة، ويُفضّل الإشارة إليها بالطبقات الوسطى. هناك القليل من البحوث الذي أجرِيت حول الطبقات الوسطى في البلاد ونطاقها وطبيعتها: كيف تُحدّد هذه الفئات غير المُتجانسة كمّاً ونوعاً؟ من هم هؤلاء؟ أين يعيشون؟ وكيف يعيشون؟ كيف يكسبون لقمة العيش؟ هل هم عمّال بأجر أم يستحوذون على حصّة من المال المنتج من رأس المال؟ إنها أسئلة مهمّة لم يكن لدينا يوماً إجابة عليها (ولكن لا بدّ من الحصول عليها!). مع ذلك، هناك ما يمكن استخلاصه. قبل الأزمة، لم يكن العمل بأجر بالضرورة علامة دامغة على حالة الطبقة الاجتماعية، على عكس امتلاك حساب جاري في مصرف ما، ولا سيّما حساب يسمح لصاحبه بمستويات معيّنة من الاستهلاك. إنها طريقة أخرى يمكننا من خلالها ربط مصطلح "الحساب الجاري" بالرأسمالية العالمية. في الخطاب الشعبي والسياسات والموجزات الصادرة عن المؤسّسات المالية الدولية، تعرّف الطبقة الوسطى كإحدى الطرق المُستخدمة لتحديد مجموعة معيّنة من العلاقات الاجتماعية برأس المال المالي، لا بكونها تجسيداً لطبقة اجتماعيّة مُحدّدة وإعادة إنتاج لها. وبالتالي، من غير المستغرب أن تتكشّف الأمولة في لبنان في فترة إعادة الإعمار بوصفها سردية عن التقدّم والتطوّر والاستهلاك الوفير وبروز الطبقة الوسطى.
إنّه مجرّد مثال على سحر الأمولة والطريقة التي تعمل بها. حاجج عالم الأنثروبولوجيا المعروف جيمس جاي فريزر في كتابه "الغصن الذهبي" (The Golden Bough) بأن جميع الثقافات، من "البدائية" إلى "المتحضّرة"، تطوّرت في ثلاث مراحل مختلفة: السحر أولاً، ثمّ الدين، وأخيراً العلم. كان العلم دقيقاً وصحيحاً، بينما السحر (مثل الشعوذة) والدين (جاذبية الكائنات الروحية العليا) كانا مخطئين وناقصين. يصحّ نقد عمل فريزر الذي اعتبر أنّ تطوّر الفكر الاجتماعي يتبع مساراً خطّياً نحو الأحسن دائماً، إذ ثبت خطأه، لا بسبب عنصريته فحسب.