خدعة حقوق الإنسان
بينما كنتُ أتحدّث إلى صديقة لي قبل أيام، وأنا مستغرقة في أحلام اليقظة والتمنّي، أبدَيتُ لها مدى إحباطي من التداعيات التي خلّفتها التحرّكات المباشرة. ففي الأسابيع الأخيرة الماضية، كثّفت جماعات الناشطين اللاسلطويين وحلفاؤها في مدينة مونتريال، حيث أُقيم، من تحرّكاتها الرامية إلى توعية الرأي العام والضغط على الحكومة والمؤسّسات الخاصّة للمطالبة بوقفٍ دائم لإطلاق النار في غزّة. نجحت هذه الجماعات نجاحاً باهراً في إغلاق طرقات عامّة وخطوط سكك حديدية واقتحام مكاتب وزير الخارجية ورئيس الوزراء، كما تمكّنت من تنظيم اعتصامات أمام مصارف كبرى استثمرت في شركات التكنولوجيا العسكرية مثل شركة «إلبيت سيستمز» الإسرائيلية القذرة، وهي مزوّد الأسلحة الأول للجيش الإسرائيلي.
قلتُ لصديقتي إنّ الحراك المباشر، على الرغم من رمزيّته القويّة، لا يعدو كونه مشهدياً أكثر منه فعّالاً. وعندما سألتني عن سبب هذا الاعتقاد، أجبتها بأنّ مثل هذه التحرّكات تتطلّب من جمهورها الاحتكام إلى الضمير، وأنا لا أقول إنّ ضميرهم ميّت، بل إنّ قلّة الوعي أو المعرفة ليست ما يُبقي الناس صامتين. وتابعتُ قائلةً إنّ الصدمة لا تدفع الناس بالضرورة إلى التحرّك، مُكرّرةً عبارة قرأتها منذ زمن طويل في كتاب لريموند ويليامز وعلقت في ذهني، وهي أنّ «الهيمنة ممارسة».
إذا كانت الحكومتان الفيدرالية والمحلّية لا تكترثان للمعلّمين/ات والممرضين/ات وأسرهم، وإذا كان مأكل ومسكن العمّال والعاملات وأطفالهم غائباً عن حسابات السياسيين، فلمَ نعوّل عليهم للالتفات إلى سكّان غزة الذين ليسوا في نظرهم إلّا غرباء من عرق آخر؟
وفيما كنّا مسترسلتين في نقاشنا، ذكّرتها بأن الإضرابات، في أوج التحرّكات العمّالية قبل عصر النيوليبرالية، كانت تؤتي بثمارها لأنّها تمكّنت من تعطيل الممارسة والعمليات، متسبّبةً بخسائر هائلة على أصحاب السلطة ومؤسساتها. وعندها تمّنيت بحسرةٍ لو أنّ النقابات هنا (أي في الغرب) تستطيع الإضراب. لكنّ صديقتي، وهي أستاذة جامعية في المملكة المتّحدة، بدَت مستسلمةً أكثر منّي، وقالت «العمّال في الغرب غير قادرين على الإضراب حتى من أجل مطالبهم الخاصّة. فنحن في إضراب منذ سنة للمطالبة بأجور وظروف عمل أفضل ومستوى أعلى من الأمان الوظيفي، ولكن بلا جدوى».
في خلال الأسابيع الأخيرة، وبينما بدأ يتبيّن أنّ قتل الشعب الفلسطيني في غزّة نابعٌ عن قرار شرعي عابر للحدود، أو ما يمكن وصفه بتفاهم دولي للأقوياء، أصدرت الحكومة الفيدرالية وحكومة مقاطعة كيبيك، إلى جانب المجلس البلدي لمدينة مونتريال، عدداً من القرارات المُجحفة بحق المجتمع: تحرير سوق الإيجارات، بما يؤدّي إلى رفع الحماية الاجتماعية عنها، وبالتالي حرمان الكثيرين من الإسكان في المقاطعة، خصوصاً مونتريال؛ إهمال تام لمطالب نقابات المعلّمين/ات والممرّضين/ات المضربين/ات منذ بداية موسم الخريف؛ مُقترح لخصخصة كبرى المستشفيات الحكومية في مدينتي مونتريال وكيبيك؛ الإعلان عن زيادة أقساط الجامعات الحكومية؛ خفض التمويل المُخصّص للنقل العام مقروناً برفع ميزانية الشرطة وعديدها؛ وأخيراً الزيادة المستمرّة بلا قيود في أسعار الغذاء التي تدرّ على كبريات سلاسل البقالة (مثل «ميترو» و«لوبلوز») أرباحاً بمليارات الدولارات سنوياً. إذا كانت الحكومتان الفيدرالية والمحلّية لا تكترثان للمعلّمين/ات والممرضين/ات وأسرهم، وإذا كان مأكل ومسكن العمّال والعاملات وأطفالهم غائباً عن حسابات السياسيين، فلمَ نعوّل عليهم للالتفات إلى سكّان غزة الذين ليسوا في نظرهم إلّا غرباء من عرق آخر؟
هذا المظهر من العنف له اسم، وهو الحرب على الإرهاب التي تقتلع من تُصنّفهم إرهابيين من حيّز السياسة، وتُقصيهم من خانة من يحق لهم في امتلاك حقوق
في كتابه «التحوّل العظيم» (The Great Transformation)، الذي يساعدنا في تخيّل ما كان العالم سيصبح عليه لو لم تنتصر النيوليبرالية، عقيدةً وممارسةً، يدين كارل بولانيي بشدّة الليبرالية، ويحذّرنا من أنّها ستؤول بنا حتماً إلى الفاشية. وبحسب بولانيي، تُنادي الفلسفة الليبرالية بالحرّية والحقوق، مُدّعيةً أنّ السلطة والإكراه (أي الأشكال المختلفة للتنظيم الاجتماعي في أي سياق آخر) شرور وجب نبذها من المجتمع. والليبرالية تقدّم لنا صورة وهمية عن الحرّية واحتراماً زائفاً لحقوق الإنسان، فيما تُنكِر واقع المُجتمع الذي تتفشّى فيه كلّ أشكال عدم المساواة العنيفة. بعد ذلك، يشرح بولانيي بذكاء كيف أنّ الليبرالية، في اللحظة التي تتقبل فيها واقع المجتمع (بما يحويه نسيجه من علاقات عنيفة وغير متكافئة)، ستنزلق لا محالة إلى الفاشية، لأنّ هذا الواقع ينطوي على إنكار الحرّيات والحقوق. ومن هذا المنطلق، فإنّنا لن نتفاجأ بردّة فعل أقوياء العالم على ما يحدث في غزّة، وسنزداد نفوراً منها.
هذا المظهر من العنف له اسم، وهو الحرب على الإرهاب التي تقتلع من تُصنّفهم إرهابيين من حيّز السياسة، وتُقصيهم من خانة من يحق لهم في امتلاك حقوق. تعتبر هنا آرنت أنّ الشرط المسبق القضائي-السياسي لحماية حقوق الإنسان هو الدولة أو الأمة. واستندت آرنت في نظريّتها إلى دراستها التحليلية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يفترض أنّ الإنسان في الأساس «عضو في مجتمع سياسي مُنظّم» – أي أنّه مواطن وليس فرداً معزولاً عن سياقه السياسي.
وهنا نسأل، ما هو السياق السياسي لما يحدث في غزّة؟ وما الشرط القضائي-السياسي المفقود لحماية حقوق الإنسان؟ هناك العديد من الشروط المفقودة، وهي تتجاوز الاتهام الشائع للدول الغربية بأنّها تكيل بمكيالين، شأنها شأن منظّماتها الدولية وأطرها القانونية والإنسانية. إذاً، ما الذي يمنح الحق في امتلاك حقوق أو يُنكره؟ لا شكّ في أنّ غياب دولة مُعترف بها للفلسطينيين يحرمهم من هذا الحقّ.
ينقسم هذا الإنكار إلى شقّين: رفض تنظيم قوى السوق على اعتبار أنّه شرّ إكراهي يقيِّد الحرية، وتجاهل البُنى والعلاقات الاستعمارية
ينشأ الشرط المسبق الثاني لحماية حقوق الإنسان عن العملية التي أفضت إلى صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان واعتماده، وهي عملية قامت في الأساس على إنكار واقع المجتمع (وهنا نعود إلى النقطة التي أثارها بولانيي). ينقسم هذا الإنكار إلى شقّين: رفض تنظيم قوى السوق على اعتبار أنّه شرّ إكراهي يقيِّد الحرية، وتجاهل البُنى والعلاقات الاستعمارية. في هذا الصدد، تقدّم لنا جيسيكا وايت سرداً تاريخيّاً لافتاً لما وصلنا إليه، فتكشف لنا الدور المهم الذي لعبه شارل مالك في استبعاد الحقوق الاجتماعية والاقتصادية عن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وفي تعريف «طبيعة الإنسان» موضوع الحقوق: فرد حرّ تملّكي له استقلاليّته وإمكاناته الخاصّة للازدهار، ولا يدين مقابلها بأي شيء لمجتمعه. وتذكر لنا وايت قصّة رمزية لتُثبت تحليلها، فتقول إنّ معظم النقاش الذي دار في الجمعية العامّة للأمم المتّحدة للإجابة عن سؤال مالك عن طبيعة الإنسان موضوع الحقوق تمحور حول شخصية روبنسون كروزو بوصفه الإنسان الطبيعي الأصلي. كروزو كان مستعمراً وتاجر رقيق بمرتبة التفوّق نفسها المُفترضة للحضارة الغربية. كروزو لم يكن مَديناً بأي شيء للمجتمع، فقد جمع ثروته من الرقّ والقتل والنهب الاستعماري.
أمّا الشرط المسبق الثالث فيتمثّل في الشكل الذي اتخذته الدول الغربية في السنوات التي سبقت الحرب على الإرهاب. حريّ بنا التفكير مرّة أخرى من منظور بولانيي، حيث أنّ التحوّلات الاجتماعية التي طرأت على مستوى العالم تكشّفت عن أشكال جديدة من السلطة والإكراه وصفها أقوياء العالم بأنّها شريرة. وهنا أيضاً نرى الفلسفة الليبرالية تواجه مأزقها وتُضطر إلى التعامل مع واقع اجتماعي تسوده أوجه تفاوت عميقة وعنيفة، ولكن هذه المرّة نقصد مجتمعاً عالمياً. أصبحت العسكرة والأمننة اللتان رافقتا الحرب على الإرهاب دافعاً آخر للشعوب في الغرب كي تلجأ إلى دولها (ومفهوم الدولة بحدّ ذاته) بعد أن أخذت كلّ أشكال الرعاية الاجتماعية تتلاشى تدريجياً. وهذا بالتحديد تصدير الفاشية، وكما نرى منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر في الأقل، فإنّ الفاشية تعود إلى منبعها.
في ظلّ «تفاؤل الإرادة وتشاؤم الفكر»، علينا جميعاً الانخراط في النضال والحراك الجماعي تصدياً للأوجه المختلفة من الصراع نفسه، وذلك بتوجيه مساعينا نحو أهدافٍ متشابهة أو متكاملة، أو نحو خصم مشترك
وأخيراً، لستُ أقول إنّنا – وأقصد نحن من يعتبرون أنفسهم تقدّميين – علينا وقف التظاهرات أو إنّ حقوق الإنسان بلا قيمة. بالعكس، ينبغي لنا جميعاً بذل ما في وسعنا للمطالبة بوقف دائم لإطلاق النار وبتوفير كل أشكال الدعم اللازمة لتعويض الخسائر الناجمة عن عقود من استراتيجية إسرائيل لتحويل غزّة إلى مكان غير قابل للعيش والاستمرار، ولا سيّما ما رأيناه من تصعيد ووحشية في الأسابيع الأخيرة الماضية. ولكنّي أودّ أيضاً العودة إلى مفهوم التضامن المؤثّر في سبيل تحرير فلسطين. ففي ظلّ «تفاؤل الإرادة وتشاؤم الفكر»، علينا جميعاً الانخراط في النضال والحراك الجماعي تصدياً للأوجه المختلفة من الصراع نفسه، وذلك بتوجيه مساعينا نحو أهدافٍ متشابهة أو متكاملة، أو نحو خصم مشترك.