
فشل نموذج التنمية العالمية
نحتاج إلى قرن من الزمن للقضاء على الفقر
في العام 2015، التزمت جميع الدول في الأمم المتحدة بتحقيق 17 هدفاً للتنمية المستدامة بحلول العام 2030، في مقدمها «القضاء على الفقر». ووفق جدول الأعمال الذي قرّرته هذه الدول، كان يفترض «القضاء على الفقر المدقع للناس أجمعين أينما كانوا (...) وتخفيض نسبة الذين يعانون من الفقر بجميع أبعاده بمقدار النصف». ولكن، على بعد 5 سنوات فقط من الموعد المحدّد لتحقيق هذا الهدف في العام 2030، اعترف البنك الدولي في تقرير أصدره أخيراً تحت عنوان «الفقر والازدهار والكوكب - سبل الخروج من الأزمة المتعددة» أن القضاء على الفقر المدقع في العالم، أي الذين يعيشون حالياً على أقل من 2.15 دولار في اليوم، سيستغرق عقوداً من الزمن، كما سيستغرق أكثر من قرن لرفع جميع الناس فوق خط الفقر الأعلى، أي الذين يعيشون حالياً على أقل من 6.85 دولار في اليوم.
تستند هذه التوقعات المستقبلية إلى الوتيرة التي انخفضت فيها أعداد الفقراء في العالم في السنوات العشر الماضية (2015- 2024)، واستناداً إلى فرضية استمرار هذه الوتيرة في السنوات الخمس المقبلة، يتوقع البنك الدولي أن يبقى أكثر من 622 مليون شخص (7.3% من سكان العالم) يعيشون في فقر مدقع في العام 2030، وسيبقى أكثر من 3.4 مليار شخص (42% من سكان العالم) يعيشون بأقل من 6.85 دولار للفرد في العام. ومن الآن حتى العام 2050، لن تتمكن سوى 6 بلدان فقط من أصل 26 بلداً من تجاوز الخط الذي تقع تحته «البلدان المنخفضة الدخل»، أي التي لا يتجاوز نصيب الفرد من الدخل السنوي فيها مستوى 1,145 دولاراً سنوياً فقط لا غير، أو ما يعادل 3 دولارات يومياً.
بمعزل عن أن هذه التصنيفات للفقر والفقراء محافظة جداً ومجحفة وغير شاملة، إلا أن خبراء البنك لا يخفون قلقهم من أن أوضاع الكثير من الناس في العالم قد تكون أسوأ من توقعاتهم، «إذا لم يتسارع النمو ويصبح أكثر شمولاً (...) وإذا لم تتحسّن مداخيل العمّال، من خلال خلق المزيد من الوظائف الأفضل، والاستثمار في التعليم والبنية التحتية والخدمات الأساسية (...) وتمكين الأشخاص الذين يعيشون في فقر من الاستفادة بشكل أكبر من النمو والمساهمة فيه، وتعزيز قدرتهم على الصمود في مواجهة الصدمات المتزايدة».
هذا الاعتراف بالفشل الذريع في تحقيق أهداف «التنمية المستدامة» لا يقابله اعتراف مماثل بالفشل الذريع للنموذج التنموي الذي ساهم البنك الدولي، والمؤسسات الدولية الأخرى، بفرضه كنموذج عالمي. لقد جرى التعامل مع الفقر دائماً على أنه بمثابة «الأضرار الجانبية» التي يمكن امتصاصها عبر تسريع النمو الاقتصادي بقيادة القطاع الخاص ومنح الأثرياء المزيد من الحوافز للاستثمار والاستهلاك والانخراط أكثر في قنوات التجارة العالمية والتدفقات المالية والتمويل.
في مقدمة تقرير الآفاق الاقتصادية العالمية للعام 2025، يُخبر كبير الخبراء الاقتصاديين في البنك الدولي، إندرميت جيل، القصّة التالية: «في خلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، حققت الاقتصادات النامية نمواً بأسرع وتيرة منذ السبعينيات، وكان زعماء العالم متفائلين على نحو لم يحدث من قبل بالقضاء على الفقر. وتعهّدوا بتحرير «الجنس البشري بأكمله من العوز». انحسر التقدم بعد الأزمة المالية العالمية في الفترة 2008-2009، لكن ذلك لم يثنِ زعماء العالم بعدها ببضعة أعوام، من تحديد موعد محدّد (في العام 2030) من أجل «القضاء على الفقر والجوع في كل مكان». لبعض الوقت، بدا أن الإنسانية قد تكون على حافة عصر من التقدم الاستثنائي، لكن لم يكن الأمر كذلك، ومع اقتراب الربع الأول من القرن من نهايته، بات من الواضح أن الأهداف السامية لن تتحقق، أصبحت آفاق النمو على المدى الطويل للاقتصادات النامية الآن هي الأضعف منذ بداية القرن (...) ستكون السنوات الخمس والعشرون المقبلة أكثر صعوبة بالنسبة للاقتصادات النامية مقارنة بالسنوات الخمس والعشرين الماضية (...) لقد تبدّدت معظم القوى التي ساعدت في صعودها ذات يوم. وفي مكانها جاءت رياح معاكسة مخيفة: أعباء الديون المرتفعة، وضعف الاستثمار ونمو الإنتاجية، وارتفاع تكاليف تغير المناخ. في السنوات المقبلة، ستحتاج الاقتصادات النامية إلى إصلاحات محلية لتسريع الاستثمار الخاص، وتعميق العلاقات التجارية، وتعزيز الاستخدام الأكثر كفاءة لرأس المال والمواهب والطاقة».
ارتكز النموذج التنموي الفاشل على التقشّف وتمويل العجز المالي بالدين بدلاً من فرض الضرائب على الأرباح والثروات الشخصية، وارتكز أيضاً على حرية التجارة وحركة الرساميل عبر الحدود بحجّة جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة لدفع النمو وتعويض نقص الادخار وزيادة الوظائف.
حالياً، تنفق البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل نحو نصف ميزانياتها العامة على سداد الديون المتوجبة عليها إلى الدائنين الأثرياء، وهو ما يتجاوز بكثير استثمارات هذه البلدان في التعليم والرعاية الصحية. ويعيش نحو 3.3 مليارات نسمة في بلدان تنفق حكوماتها على مدفوعات الفائدة أكثر مما تنفقه على التعليم أو الصحة. وبين عامي 1970 و2023، دفعت حكومات الجنوب العالمي نحو 3.3 تريليون دولار كفائدة للدائنين من الشمال العالمي.
ارتفع الدين الحكومي في اقتصادات الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية إلى 29 تريليون دولار، من ضمنها أكثر من 8.8 تريليون دولار ديوناً خارجية. وبلغت مدفوعات الفائدة الصافية على الدين العام في البلدان النامية في العام 2023 نحو 847 مليار دولار، ما أدّى إلى المزيد من التقشّف، ووضع خدمة الديون في مرتبة أعلى من تمويل الاستثمارات في البنية التحتية والخدمات الأساسية وشبكات الحماية الاجتماعية، وهو ما ساهم في زيادة الفقر.
وفي ظل سياسات التقشّف وتضخّم المديونيات، تم تقديم الاستثمار الأجنبي المباشر والمساعدات الدولية والقروض الأجنبية كخشبة خلاص، إلا زن الاستثمارات الأجنبية المباشرة انخفضت إلى نصف المستوى الذي كانت عليه في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، على الرغم من أن الاقتصادات النامية أصبحت أكثر أهمية بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي مما كانت عليه في بداية القرن، إذ باتت تمثل اليوم ما يقرب من نصف الناتج المحلي الإجمالي العالمي، بعد أن كانت النسبة 25% فقط في العام 2000.
بشكل خاص، تراجعت الاستثمارات في الدول النامية في قطاعات ذات الصلة بأهداف التنمية المستدامة، الضرورية لمكافحة الفقر العالمي بشكل فعّال. ففي قطاع البنى التحتية مثلاً تراجع عدد مشاريع الاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة 5% في العام 2024 مقارنة بالعام 2015، وفي الفترة نفسها تراجعت عدد مشاريع الاستثمار في قطاع المياه والصرف الصحي والنظافة العامة بنسبة 39% والأغذية الزراعية 14%، بحسب تقرير مراقب اتجاهات الاستثمار العالمية، الصادر في كانون الثاني/يناير 2025.
وبحسب البنك الدولي، تسبّب تغير المناخ والكوارث المرتبطة بالمناخ في أضرار جسيمة للأرواح وسبل العيش في بعض الاقتصادات النامية، ويمكن أن يدفع عدداً كبيراً من الناس إلى الفقر في المستقبل، ومن الممكن أن تؤدي الظواهر الجوية المتطرفة الأكثر تواتراً أو شدة إلى انخفاض إنتاج الغذاء، وزيادة تضخم أسعار المواد الغذائية، ورفع تكاليف المعيشة، يأتي هذا في ظل انكماش الاستثمارات في قطاع الطاقة المتجددة في العام 2024، ومجيء حكومة أميركية متساهلة مع سياسات المناخ.
يشير البنك الدولي إلى أن تغير المناخ يمكن أن يدفع أكثر من 130 مليون شخص إلى الفقر المدقع بحلول العام 2030، معظمهم في بلدان الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية ذات الدخل المنخفض والمتوسط. ومن المحتمل أن تؤدي صدمة ارتفاع درجات الحرارة بمقدار درجة مئوية واحدة إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة تصل إلى 12%.