كم أنفقت الدولة اللبنانية فعليّاً على الكهرباء؟

تقول السردية الشائعة أن الخزينة العامّة تكبّدت خسائر في الكهرباء بين عامي 1992 و2019 تتجاوز 50 مليار دولار، وأن هذه الخسائر مسؤولة عن أكثر من نصف الدين العام. هل أنفقت الدولة اللبنانية فعلياً هذا المبلغ على الكهرباء؟ يحاول هذا التقرير فكفكة الرقم المذكور وتبيان كيف تكبّد سكّان لبنان أكلافاً باهظة ليس بسبب الإنفاق على "الكهرباء العامّة" بل بسبب الحرمان الشديد منها.
 

المقياس الأوضح لكلفة الكهرباء عموماً هو الذي يقيسها في الاستهلاك النهائي، أي كما تظهر في ميزانيات الأسر على اختلاف مراتبها على السلّم الاجتماعي وأنماطها المعيشية. فكلفة الكهرباء الفعلية هي في النهاية ما ينفقه السكّان، بمعزل عن طريقة الدفع وقنواته، سواء كانت بدل اشتراك في مولّد الحي، أو ثمن مازوت لمولّد خاص وصيانته، أو فاتورة من مؤسسة كهرباء لبنان، أو كانت مخبّأة في أسعار السلع والخدمات في الأسواق، أو مموّلة من الضرائب والإيرادات العامّة التي تجبيها الدولة.

تفيد التقديرات المتاحة أن إنفاق الأسر والحكومة على الكهرباء تجاوز نسبة 6% من مجمل الناتج المحلي في السنوات التي سبقت الانهيار في عام 2019. وعلى سبيل المثال، بلغت فاتورة استهلاك الكهرباء في عام 2017 نحو 3.3 مليار دولار. منها ملياري دولار، أي أكثر من 60%، سددّها المستهلكون مباشرة إلى المولدات الخاصّة (1.1 مليار دولار) وإلى مؤسسة كهرباء لبنان (900 مليون دولار)، في حين أن 39% من الفاتورة (1.3 مليار دولار) سدّدتها الخزينة العامة من أموال الضرائب كدعم مباشر لتثبيت أسعار الكهرباء العامّة.

هناك صعوبة بالغة في تقدير الكلفة التراكمية وفق هذا المقياس على المدى الطويل، منذ أن تشكلّت أزمة الكهرباء في ثمانينيات القرن الماضي. وتزداد الصعوبة إذا أضيفت تقديرات الأكلاف الاقتصادية والاجتماعية والصحية والبيئية الناتجة من استفحال هذه الأزمة حتى اليوم. ولكن، من دون أدنى شك، ستكون الكلفة التراكمية في أي تقدير من هذا النوع أعلى بكثير، وأكثر فداحة، من التقديرات المتداولة كلّها، المضخّمة منها والواقعية، التي تحصر الحديث عن بقيمة التحويلات المالية من الخزينة العامّة إلى مؤسسة كهرباء لبنان، وتضرب أخماساً لأسداس لجعلها تبدو كبيرة أكبر مما هي كبيرة أصلاً.

فكفكة السرديات

في كتابه "الدين العام اللبناني: التراكم والتأثيرات السلبية"، قدّر فؤاد السنيورة، وهو رئيس مجلس الوزراء لمرتين ووزيراً للمال لعشر سنوات، كلفة "العجز المالي المزمن في مؤسسة كهرباء لبنان الذي تتحمّله الخزينة العامّة" بنحو 50.5 مليار دولار، تراكمت بين عامي 1992 و2019. ويشرح المنهجية التي أوصلته إلى هذا الرقم1 : احتسب القيمة السنوية للتحويلات من الخزينة العامّة إلى مؤسسة كهرباء لبنان، والتي تطوّرت من 20 مليون دولار في عام 1992 وبلغت ذروتها في عام 2012 ووصلت إلى 2.2 مليار دولار حتى بلغ مجموعها التراكمي في نهاية عام 2019 نحو 24 مليار دولار. إلا أن المنهجية المعتمدة تتعامل مع هذه التحويلات كما لو أنها ديوناً إضافية على الخزينة العامّة وليست إنفاقاً عامّاً مموّلاً من الضرائب والرسوم التي سدّدها السكّان كل سنة. لذلك احتسب معدّلات الفائدة على سندات الخزينة وأضافها سنوياً على الرصيد المتراكم لتبلغ قيمة الفوائد المتراكمة في نهاية 2019 نحو 26.4 مليار دولار. وأخيراً، احتسب الأصل (التحويلات الفعلية) مع الفوائد (الكلفة المتخيلّة) ليصل إلى المجموع (50.5 مليار دولار)، ويخلص إلى أن كلفة الكهرباء العامّة تمثّل نصف الدين العام، الكهرباء والدين صنوان،  والأولى هي المسبب الرئيس للثانية.

لا نحتاج إلى جهد كبير لإثبات أن هذه المنهجية خاطئة كلّياً، فالتحويلات هي جزء من نفقات الموازنة، حتى ولو جرى تسجيلها في بعض السنوات كسلفات خزينة، وبالتالي هي مثلها مثل أي نفقات أخرى، وليس هناك أي تشريع صادر عن مجلس النواب يجيز للحكومة الاستدانة لتمويل عجز مؤسسة الكهرباء لبنان حصراً أو تخصيصاً، وإنما هناك تشريع للحكومة بالاستدانة لتمويل عجز الموازنة العامة عموماً، أي الفرق بين الإيرادات التي حصّلتها الدولة من السكان والنفقات التي صرفتها عليهم وفق الوظائف التي تقوم بها الدولة وأولوياتها. وتكفي الإشارة أن الإيرادات التي جبتها الدولة بين عامي 1993 و2020 بلغت نحو 161 مليار دولار، وهي أكثر بنحو 6 مليارات دولار من مجمل النفقات العامّة من دون خدمة الدين، أي أن الإيرادات التي سدّدها السكان للدولة كانت كافية لتسديد كل نفقاتها، كما هي على علّاتها وفسادها وسوء إدارتها وبما في ذلك التحويلات إلى مؤسسة كهرباء لبنان، مع فائض وحبّة مسك. ولكن خدمة الدين العام وحدها بلغت نحو 82 مليار دولار، واستأثرت بأكثر من ثلث الإنفاق العام ونصف الإيرادات العامّة على مدى السنوات الماضية منذ التسعينيات حتى الانهيار في عام 2019، وليس هناك أمر اوضح من كيفية تراكم الدين العام على قاعدة دين يجرّ دين. فلماذا علينا أن نقبل من حيث المبدأ أن يُحتسب دعم الدولة للكهرباء ديناً تترتب عليه فوائد، في حين يُحتسب تسديد الفوائد واجب علينا الوفاء به من خلال تسديد الضرائب؟ في أسوأ الحالات، يمكن القبول بمنهجية تحتسب حصّة كل بند من بنود الإنفاق من مجموع الإنفاق، وبالتالي احتساب حصّته من تراكم الدين العام، وفي هذه الحالة تبلغ حصّة الكهرباء أقل من 10% من مجمل انفاق الموازنة العامّة على مدار الفترة السابقة.

يهدف حصر كلفة الكهرباء بالجزء الذي سدّدته الحكومة من موازنتها العامّة، من جملة ما يهدف إليه، إلى تغذية العداء للإنفاق العام، واعتبار الدعم مصدر كل الشرور، ولذلك تتزايد الدعوات إلى شطب كل إنفاق في الموازنة مخصّص للكهرباء، ويتزايد قبول الناس لهذه الدعوات التي تقدّم إليهم كشرط من شروط تجاوز الأزمة القائمة. ولكن، بمعزل عن الأهداف والنوايا، فإن الدعوات إلى إلغاء دعم الكهرباء تعني، من جملة ما تعنيه، تحرير الأسعار كلّياً، أو بتعبير تقني آخر، تعني نقل الكلفة المسجّلة في حسابات الموازنة العامّة إلى ميزانيات الأسر مباشرة، أي تسديدها مباشرة عبر فواتير استهلاك الكهرباء بدلاً من تسديدها عبر الضرائب. هذه العملية تبدو شرطاً لفتح قطاع الكهرباء للقطاع الخاص وانسحاب الدولة منه أكثر مما تبدو شرطاً لتجاوز الأزمة.

العودة قليلاَ إلى الوراء

يعيش اللبنانيّون في عتمة قاسية للسنة الثالثة على التوالي، وقد يكون صيف 2022، وما قد يليه، الأقسى على الإطلاق، إذ ما مِن ضوء في الأفق يبشّر بإمكانيّة تأمين الطاقة بعدالة لجميع المقيمين وبكفاءة للقطاعات الاقتصاديّة، فقد تراجعت قدرة مؤسّسة كهرباء لبنان على تسيير المعامل الحالية وضمان استقرار الشبكة تدريجياً، وحلّت مكانها بدائل لم تعد بمتناول الجميع، مثل الطاقة الشمسيّة التي توسّعت بطريقة عشوائيّة نتيجة الطلب المُتنامي عليها والمولّدات الخاصّة التي اعتُمدت كخيار بديل منذ أكثر من عقدين، وحالياً تجاوزت كلفتها قدرة العديد من الأسر على تحمّلها. ونتيجة دولرة أسعار السلع والخيارات المُرتبطة بإنتاج الكهرباء، زادت الأعباء التي يتكبّدها المواطنون، ومعها هوّة انعدام المساواة في الوصول إلى أبسط الخدمات.

على الرغم من الواقع المأساوي، والمتوقّع منذ ما قبل الانهيار في العام 2019، لم تتخذ الحكومات المُتعاقبة أي إجراء للحؤول دون الوصول إليه، إنّما انغمست في المحاصصة حيناً، وتقاذف  المسؤوليّات حيناً آخر. لطالما طغت النتائج الماثلة لسوء قطاع الكهرباء على النقاش العام، لكن بدلاً من إيجاد الحلول وتنفيذها، استُخدمت الشعبويّة في غالبيّة الأحيان، وهو ما انجرّت إليه النخب والقوى السياسيّة الجديدة أيضاً، من خلال ترداد السرديّات نفسها والترويج لإنفاق المليارات عليه، فيما العتمة تكاد تكون شاملة في جميع أنجاء البلاد.

فكم بلغ فعلياً مجمل الإنفاق على الاستثمار في قطاع الكهرباء؟ هل كان كافياً لتلبية الطلب المستمرّ والمتزايد على الطاقة؟ ولِمَ لم تؤمّن الطاقة حتّى يومنا هذا؟

خرج لبنان من حرب أهليّة استمرّت 15 عاماً ببنى تحتيّة مدمّرة بالكامل استلزمت ضخّ الأموال لإعادة إعمار البلاد والاستثمار في هذه البنى لتأمين الخدمات العامّة الضرورية واستعادة شرعيّة الدولة. كانت المشاريع الاستثمارية في قطاع الكهرباء، كما باقي القطاعات، تُلزَّم إلى مجلس الإنماء والإعمار، لتحضير دفاتر الشروط، وبناء المعامل، واستقدام الاستشاريين، والقيام بأعمال الصيانة والتشغيل. كان قطاع الطاقة من القطاعات الحيويّة والاستراتيجية في ورشة الإعمار، وبالفعل تمكّن لبنان في أواخر النصف الثاني من التسعينيات من تأمين الكهرباء من دون انقطاع. لكن ذلك لم يدم طويلاً، لا سيّما أن انفجار أزمة الماليّة العامّة في العام 1996-1997 أدّى إلى التقشّف في الإنفاق الاستثماري بحجّة تقليص العجز المالي، ومن ثمّ بروز تداعيات قرار تثبيت تعرفة الكهرباء على وضعيّة مؤسّسة كهرباء لبنان، وهو قرار اتُخذ في العام 1994، عندما كان سعر برميل النفط عالمياً يبلغ 20 دولاراً أميركياً، قبل أنّ يرتفع خلال السنوات اللاحقة ويصل إلى نحو 100 دولار حالياً (2022)، على أن يؤمّن الفارق بين سعري إنتاج الكهرباء ومبيعها عبر تحويلات من الخزينة العامّة، والتي بلغت قيمتها الإجماليّة بحسب وزارة المال نحو 24 مليار دولار خلال حتى العام 2020.

عملياً، مرّت الاستثمارات المنفّذة في قطاع الطاقة الكهرباء، من إنتاج ونقل وتوزيع، بمرحلتين أساسيتين؛ بدأت المرحلة الاولى منذ انطلاق عجلة إعادة الاعمار في العام 1993 وامتدّت حتى العام 2002 تقريباً، وكانت محصورة بمجلس الإنماء والاعمار، ومن ثمّ توقّف أي استثمار في القطاع بفعل السياسات التقشفيّة التي فرضت، قبل أن تنطلق المرحلة الثانية في العام 2010 عند إقرار الخطّة الأولى لإصلاح قطاع الكهرباء ورُبطت نفقاتها بوزارة الطاقة والمياه ومؤسّسة كهرباء لبنان. العامل الثابت في المرحلتين هو ارتباط قطاع الكهرباء ومشاريعه بشكل وثيق بالاقتصاد السياسي للبلاد والمصالح الراسخة ضمنه، واعتماده على المنطق التوزيعي والتحاصصي الذي شكّل أساس النظام السياسي لفترة ما بعد الحرب وساهم باستمراريته. 

الاستثمار في الإنتاج

بحسب البيانات المُجمّعة، يتبيّن أنّ نحو 841 مليون دولار أنفقت عبر مجلس الانماء والاعمار على مشاريع الإنتاج وحدها، التي شملت تأهيل معامل قائمة بين العامين 1993 و1996 وهي: الذوق، الجية، الحريشة (مائي)، رشميا (مائي)، قاديشا (مائي)، مركبا (مائي). فضلاً عن إنشاء وتجهيز معامل جديدة هي: الزهراني (بكلفة 272 مليون دولار بين 1995 و1999)، ودير عمار/البداوي (بكلفة 389 مليون دولار بين 1995 و2002)، ومحطّتين غازيتين في صور وبعلبك (بكلفة 61 مليون دولار بين 1995 و1996).

 


1.5 مليار دولار لبواخر الطاقة

قُدَّم عقد استقدام بواخر الإنتاج التركية العائمة بوصفه حلاً إنتاجياً موقّتاً إلى حين بناء معمل دير عمار2، الذي نصّت عليه خطّة الكهرباء المُقرَّة في العام 2010 ولم يبصر النور لليوم. لكنّه فعلياً عقداً لشراء الكهرباء وليس استثماراً في مشاريع إنتاجية. موّل هذا العقد من ميزانية مؤسّسة كهرباء لبنان، وعلى الرغم من كلّ اتهامات الفساد التي أحيطت به، لا تزال الأرقام الفعلية التي أنفقت عليه غير مُعلنة، علماً أنّ قيمة العقد التشغيلي السنوي يبلغ نحو 190 مليون دولار سنوياً، من دون احتساب ثمن الفيول. استمرّت هذه البواخر بالإنتاج حتّى أيلول 2021، وتشير تقارير صحافيّة استقصائيّة إلى أنّ المبلغ الإجمالي يُقدر بنحو 1,5 مليار دولار بين العامين 2013 و2021، في حين أن أرباح الشركة قُدِّرت بنحو 750 مليون دولار خلال الفترة نفسها. والجدير بالذكر، أنّ الشركة التركية لا تزال تطالب بنحو 200 مليون دولار في ذمّة الدولة اللبنانية.


 

لا يمثّل ما صُرف عبر مجلس الإنماء والإعمار كافة ما أُنفق على مشاريع الإنتاج في قطاع الطاقة، فمنذ العام 2010 وحتّى اليوم، أُقرِّت خطط الكهرباء المُتتالية، وأصبح الإنفاق يتمّ عبر مشاريع تقدّمها وزارة الطاقة والمياه إلى المجلس النيابي من خلال مجلس الوزراء. أبرزها القانون 181/2011 التي أتى تطبيقاً لخطّة الكهرباء المُقرّة في العام 2010، وأجاز للحكومة صرف مبلغ 1,2 مليار دولار من الخزينة العامّة على مشاريع استثماريّة للوصول إلى 24 ساعة من التغذية يومياً بحلول العام 2015، وهو ما كان يتطلّب بحسب الخطّة،  إنشاء معمل دير عمار 2، ومعملين صغيرين في الذوق والجية (ما يُعرف بالمحرّكات العكسية)، بالإضافة إلى مشاريع بناء محطّات نقل وتوزيع.

لم ينجز المعمل الجديد في دير عمار بسبب خلاف نشأ بين وزارتي الطاقة والمياه والمالية حول كيفية احتساب الضريبة على القيمة المضافة من خارج أو من ضمن العقد، وتعطّل تنفيذ المشروع، ودخل لبنان في دعوى تحكيم دولي، مستمرّة حتى اليوم، مع الشركة اليونانية الذي فازت بالمناقصة (قبل أنّ تعلن إفلاسها لاحقاً). قُدِّرت تكلفة المعمل بنحو 450-500 مليون دولار، ولكنّها لم تُصرف، فيما استخدم نحو 700 مليون دولار من أصل الـ 1,2 مليار المرصودة وفق القانون، على المشاريع التالية:

  • إنشاء معملين جديدين في الذوق والجية بقدرة 272 ميغاواط وبكلفة 336 مليون يورو (زائد 107 مليون يورو لعقد التشغيل والصيانة الموقع مع شركة MEP لمدة 5 سنوات، والذي انتهى في بداية العام 2022، من دون أنّ تقبض الشركة بعد كامل المبلغ، بل نحو 80 مليوناً فقط)،
  • محطّات النقل في كلّ من البحصاص، والضاحية الجنوبية لبيروت، والأشرفية، بعلبك وعكار،
  • وتكلفة استشاريين.

بذلك، يكون مجموع ما أُنفق على مشاريع الإنتاج في السنوات الثلاثين الماضية يناهز الـ1,54 مليار دولار.

في النقل والتوزيع

استحوزت مشاريع النقل والتوزيع (غير مشروع مقدمي الخدمات الذي أتى لاحقاً)، على الحصّة الأكبر من المشاريع والاستثمارات التي نفّذت خلال المرحلة الأولى (1993-2002) عبر مجلس الإنماء والإعمار، وقد بلغت قيمتها نحو 1,12 مليار دولار، وهو ما يوازي 57% من مجمل نفقات المجلس على قطاع الطاقة، وقد شملت:

  • تأهيل وتوسيع شبكة النقل الكهربائي على كافة الأراضي اللبنانية، أو ما يُعرف بالتوتر العالي وخطوط النقل الهوائية 400/66/220 كيلوفولت،
  • وبناء وتأهيل محطّات نقل وتوزيع،
  • وإنشاء مركز التحكّم الوطني ومحطّة كسارة ضمن نطاق مشروع الربط الكهربائي بين لبنان وسوريا.

يضاف إلى ذلك، مشروع مُقدّمي الخدمات، وهو جزء من خطّة الكهرباء لعام 2010، وموِّل من موازنة مؤسّسة كهرباء لبنان. بدأ تنفيذ المشروع في العام 2012 بغية تطوير خدمات التوزيع والجباية والانتقال نحو العدّادات الذكية، وبلغت قيمته نحو 780 مليون دولار لفترة مُمتدة على 4 سنوات (حتى العام 2016). وعلى الرغم من عدم قدرة الشركات المعنية على تحقيق أهداف المشروع المرجوة منه لأسباب عدّة، تمّ التجديد والتمديد لها حتّى أيار 2023. تُقدّر المبالغ المدفوعة لهذه الشركات، الموزّعة وفق منطق التحاصص الطائفي، بما لا يقل عن مليار دولار أميركي، نظراً إلى غياب الأرقام الدقيقة.

في المحصّلة تبلغ قيمة النفقات على مشاريع النقل والتوزيع، ومقدّمي الخدمات، نحو 2,12 مليار دولار خلال السنوات الثلاثين الماضية، وتصل إلى 3,66 مليار دولار مع إضافة النفقات الإستثماريّة على المشاريع الإنتاجيّة.

لم لا تزال الكهرباء غائبة؟

يتبيّن من كلّ ما تقدّم أنّ ما أنفق على الكهرباء في سنوات ما بعد الحرب، مثله مثل أي قطاع خدماتي آخر، كان نتيجة فورة إعادة الإعمار العشوائية في ظرف سياسي مُعيّن أوحى بعودة الثقة للاقتصاد، في حين كانت الرؤية المستقبلية غائبة كليّاً، والهدف الأساس هو استمالة الأموال لضخّها في النموذج الذي انهار أخيراً.

يشكّل قطاع الكهرباء المثال الأبرز لسوء الإدارة والزبائتية السياسية على مدى عقود، إذ لم يكن يوماً النقاش تقنيّاً، وحول أفضلية بناء معمل حراري أو محطّة إنتاج على الطاقة الشمسية على سبيل المثال، بل كان صراعا يعبّر عن مصالح الأقوى في الترتيب الاقتصادي والاجتماعي، وتمحور حول كيفية إستخدام الكهرباء في عملية اعادة التوزيع.

بالنتيجة، ساهم غياب التخطيط بالاعتماد شبه الكلّي على مصادر طاقة باهظة الثمن وملوِّثة في آنٍ، مثل الفيول أويل والغاز أويل، عدا عن المازوت لتغذية مولّدات الأحياء. وعلى الرغم من أنّ المعامل المُنشأة في ذلك الوقت كانت تعمل على الغاز الطبيعي، إلّا أنه لم يتمّ تأمين مصادر مستدامة للغاز بغية تخفيف الكلفة والآثار البيئيّة، بل جرى تشغليها على الفيول. حالياً، وبنتيجة الانهيار غير المُدار أصبحت كلفة الكيلواط/ساعة تناهز فعلياً نحو 50 سنتاً. بالإضافة إلى ذلك، تتسّم هذه المشاريع بعدم الاستدامة، خصوصاً أنّها لم تلحظ الاستثمار في مشاريع طاقة مُتجددة أكثر استدامة وطويلة الأمد، نظراً إلى الدّعم الذي حظيت به المشتقّات النفطية على مرّ السنين، وقضائه على المنافسة مع أي مصادر الطاقة الأخرى.

مع ذلك، تشكّل النفقات الاستثماريّة في الطاقة، نحو 1/7 من مجمل ما أنفق على شراء الفيول لتشغيل المعامل (24 مليار)، بحيث يتبيّن أنّ الادعاءات التي تحمّل قطاع الطاقة المسؤوليّة عن تراكم الدين العام ليست إلّا تشويهاً للواقع الفعلي، وتحيّد النظر عن المصالح الحقيقية التي تجنّد القرارات السياسية لحمايتها، لأنّ ما ارتكب في هذا القطاع كان عن سابق معرفة وتخطيط، بدءاً من قرار تثبيت التعرفة والاعتماد على الفيول كمصدر وحيد لتشغيل معامل إنتاج الطاقة والتعامي عن أي مصدر بديل. وهذه جميعها قرارات سياسيّة بامتياز شارك فيها كلّ من تعاقب على المسؤوليّة في القطاع وأسهم في إبقاء الواقع على ما هو عليه.

  • 1يتم أحياناً التداول برقم 45 مليار دولار وفق المنهجية نفسها تقريباً