
كيف يحوّل الرأسماليون عيد العمّال من ثورة إلى طقس مشهدي؟
من هايماركت إلى الاستهلاك
الاحتفال كأداة هيمنة
في الأول من أيار/مايو من كل عام، تُضاء الشموع، وتُرفع الشعارات البراقة، وتُوزع الهدايا الرمزية على العمال في الكثير من الدول الرأسمالية، كتكريم مزعوم لدورهم في بناء الاقتصاد. لكن وراء هذا الاحتفال تكمن مفارقة فلسفية عميقة: كيف يُمكن لنظام يقوم على استغلال العمال أن يُنظم احتفالات بمناسبة وُلدت من رحم النضال ضد هذا الاستغلال؟
هنا نستحضر مفهوم «التشيؤ» (Reification) عند جورج لوكاتش، حيث يُصبح العامل مجرد ترس في آلة الإنتاج، يُحتفى به رمزياً لإخفاء واقع من اللامساواة. هذا الطقس الاحتفالي ليس إلا شكلاً جديداً من أشكال «الاستلاب» (Alienation) كما وصفه ماركس: يُمنح العامل شعوراً زائفاً بالتقدير بينما يُستنزف يومياً في سوق العمل. فالاحتفال لا يُغيّر من وضع العامل شيئاً، بل يُحافظ على استمرارية الوضع القائم من خلال توهم التقدير والتكريم.
الهيمنة عبر الثقافة
يرى أنطونيو غرامشي أن السيطرة لا تُمارس بالقوة وحدها، بل أيضاً عبر الثقافة. وهنا يُصبح الاحتفال بعيد العمال جزءاً من «الهيمنة الثقافية» التي تُعيد إنتاج النظام القائم عبر استيعاب رموز التمرد وتفريغها من معناها. فالدولة والمؤسسات الإعلامية والنقابات الرسمية كثيراً ما تتبنى رموز النضال العمالي لتُحولها إلى طقوس آمنة، تُنزع منها جذور الصراع الطبقي.
بدلاً من استحضار «مذبحة هايماركت» ودماء العمال التي سالت من أجل يوم عمل منصف، يُقدّم الأول من أيار/مايو كعطلة استهلاكية تُدار بوسائل لا تهدّد النظام. المدارس تُعلّم الأطفال أن عيد العمال هو يوم للزهور والهدايا، بينما يغيب ذكر الشهداء والمطالب الجذرية. في هذا السياق، يتم تكييف الذاكرة التاريخية لتخدم المنظومة، لا لمساءلتها.
يُصبح العامل مجرد ترس في آلة الإنتاج، يُحتفى به رمزياً لإخفاء واقع من اللامساواة
هذا ما أشار إليه غي ديبور في «مجتمع المشهد»: حيث يتم تحويل كل شيء — حتى الثورة — إلى صورة تُباع وتُستهلك. وهكذا يصبح عيد العمال واجهة لسلعة رمزية تُخفي استغلالاً لا يزال مستمراً، ويفرغ النضال من قدرته على التغيير الجذري. المشهد يغطي الحقيقة، ويصبح استهلاك صورة التمرد بديلاً عن ممارسة التمرد ذاته.
الازدواجية الأخلاقية
من منظور نيتشه، تكشف الرأسمالية عن «أخلاق العبيد» حين تُمارس الاستغلال تحت غطاء القيم الإنسانية. الاحتفال بعيد العمال يبدو كأنه تعبير عن التعاطف، لكنه في جوهره تكريس للهيمنة. ما يبدو قيمة إنسانية هو في الواقع أداة ضبط اجتماعي، لصبح الطقس الاحتفالي نوعاً جديداً من «الأفيون» — ليس دينياً بل ثقافياً.
في هذا السياق، تُصبح القيم التي تروّج لها الشركات الكبرى ( مثل «الاحترام» و«التقدير») أدوات لإخفاء علاقات القوى غير المتكافئة. العامل يُقدَّر ليوم واحد، لكنه يُستَغل على مدار السنة. وهنا يظهر النفاق الأخلاقي الذي أشار إليه نيتشه، حيث تُستخدم اللغة كوسيلة للتمويه لا للتعبير عن الحقيقة.
بين الثورة والاستيعاب: مفترق طرق
عيد العمال، كما يُحتفل به هو احتفالٌ بالتناقض: يذكّر بنضال العمال لكنه يُفرغه من مضمونه. الفلسفة تعلمنا أن هذا الاحتفال ليس بريئاً، بل أداة لإدامة النظام عبر امتصاص رموزه الثورية وتحويلها إلى طقوس آمنة. والنتيجة هي ما يسميه المفكرون بـ«إعادة إنتاج الهيمنة» من خلال أدوات ناعمة.
لكن كل هيمنة، كما يُذكّرنا التاريخ، تحمل في طياتها بذور مقاومتها. فربما يكون الاحتفال الحقيقي بعيد العمال ليس في العطلة، بل في إحياء روح التمرد التي جعلت من هذا اليوم يوماً عالمياً للنضال. هذه الروح لا تأتي من المؤسسات الرسمية، بل من المبادرات الذاتية، من أصوات العمال أنفسهم، ومن محاولاتهم اليومية لرفض شروط الاستغلال.
الفلسفة تعلمنا أن هذا الاحتفال ليس بريئاً، بل أداة لإدامة النظام عبر امتصاص رموزه الثورية وتحويلها إلى طقوس آمنة
على النقابات المستقلة والحركات الاجتماعية أن تعيد ربط الأول من أيار/مايو بجذوره الثورية: التظاهر، الإضراب، كشف الانتهاكات، وربط النضال المحلي بالتضامن العالمي. فالأزمات الاقتصادية، وتفشي العمل غير المستقر، وتزايد الفجوات الطبقية، كلها تؤكد أن عيد العمال لا يزال حاجة تاريخية، لا طقساً احتفالياً.
وكما قال والتر بنيامين: «إن مهمة الثوري ليست ركوب القطار نحو المستقبل، بل سحب فرامل الطوارئ قبل أن يسحقنا». هذه الفكرة تُجسد دعوة للتحرر من وهم التقدم الآلي الذي يُخفي وراءه نظاماً يطحن البشر تحت عجلاته.
في الختام، يبقى السؤال معلقاً: هل يُمكن تحويل الأول من أيار/مايو من طقسٍ استهلاكي إلى لحظة نضالية جديدة؟ الجواب ليس في الاحتفال، بل في يد العمال أنفسهم. في أصواتهم، وإضراباتهم، ومطالبهم، وفي قدرتهم على تحويل الرمز إلى فعل، والذكرى إلى حركة.
فلنستعِد إذاً روح هايماركت — لا كأيقونة، بل كأداة. لأن عيد العمال لا يُولد من الاحتفال، بل من النضال.
هايماركت (Haymarket) يُشير إلى حادثة هايماركت الشهيرة، وهي مظاهرة عمّالية تحولت إلى مأساة دامية وقعت في شيكاغو، الولايات المتحدة، بتاريخ 4 أيار/مايو 1886، وتُعد لحظة مفصلية في تاريخ الحركة العمالية العالمية.