علم الاجتماع التاريخي للرأسمالية

  • مراجعة لكتاب «علم الاجتماع التاريخي للرأسمالية» لعالم الاجتماعي الاقتصادي بيير فرانسوا والمؤرّخة المتخصّصة في تاريخ الصناعة كلير لوميرسييه. وهو مساهمة تهدف إلى إعادة تشكيل سوسيولوجيا الرأسمالية وفقاً لمنظور تاريخي ويقدّم مفاتيح مهمة لفهم تاريخ المجتمعات وحجم الظاهرة الرأسمالية. 

لم تعصف الأزمة المالية العالمية في العام 2008 بأموال قطاعٍ واسعٍ من البشر فحسب، ولا بالسردية السائدة عن حتمية الرأسمالية بوصفها نمط إنتاج لا أفق بعده لغيره من الأنماط فقط، بل خلخلت أيضاً الخطاب السائد داخل الأطر البحثية والأكاديمية في عالم كان راكداً ومستقراً على مسلمات صنعتها حقبة التسعينيات. بعد الأزمة عادت إلى مجال التداول العام والأكاديمي، كلمات من قبيل الرأسمالية والماركسية والطبقية، وغيرها من مصطلحات اعتقد كثيرون أنها قد توارت خلف أبواب «نهاية التاريخ». لكنها عادت دفعةً واحدةً في حقبة من التشكك كان الناس يبحثون فيها عن بدائل. في العام 2013 كتبت صحيفة نيويورك تايمز «شبح يطارد أقسام التاريخ في الجامعات»، هذا الشبح هو شبح الرأسمالية. في هذا السياق المأزوم، ظهرت في الولايات المتحدة ما أصبح يعرف بدراسات «التاريخ الجديد للرأسمالية». وعلى الرغم من سعيها إلى نزع الصفة الطبيعية عن الرأسمالية، إلا أن هذه المدرسة التاريخية الأميركية الجديدة بقيت عاجزة عن إدراك البعد الاجتماعي لهذا النمط من الإنتاج، وقبل ذلك تحديده على وجه الدقة، وتعريف آليات عمله الاستغلالية.

ضمن نهج الاهتمام المتجدّد بالرأسمالية، ولكن بالضدّ من المدرسة الأميركية الجديدة، يقدّم كتاب «علم الاجتماع التاريخي للرأسمالية» رؤيةً أكثر اتساعاً من حيث المسار الزمني الممتد، والجغرافي العالمي، للرأسمالية وعصور تطوّرها الأساسية. كما يحيل عنوانه، فإن هذا الكتاب، هو ثمرة تعاونٍ بين عالم الاجتماعي الاقتصادي بيير فرانسوا، والمؤرّخة المتخصّصة في تاريخ الصناعة كلير لوميرسييه. هذا التعدّد في التخصّصات، يمثّل أحد مميزات الكتاب، جامعاً بين تاريخ الرأسمالية وانعكاسها في المجتمع، وتالياً نقدها على نحو جذري. لذلك نجد أطياف المؤرخ فرناند بروديل، وعالم الاجتماع ماكس فيبير، وناقد الرأسمالية ومفكّكها الأبرز كارل ماركس، حاضرة بقوّة بين فصوله. فهذا الكتاب مساهمة طموحة تهدف إلى إعادة تشكيل سوسيولوجيا الرأسمالية وفقاً لمنظور تاريخي يمتد من نهاية القرن السابع عشر إلى بداية القرن العشرين. كما يقدّم إلى جانب ذلك، مفاتيح مهمة لفهم تاريخ المجتمعات وحجم الظاهرة الرأسمالية. مفكّكاً في الوقت نفسه بعض الأفكار المسبقة، مثل تلك التي تؤسس للعقلانية والكفاءة والجدارة كمبادئ دافعة لتطور الرأسمالية.

ضد «الاقتصادوية»

لا يدافع الكتاب عن أطروحة محدّدة، فهو ليس سجالاً للنفي أو الإثبات، بقدر ما يقدّم دليلاً تاريخياً - اجتماعياً للرأسمالية. لكنه من حيث المنهج، يدافع عن نهج مضاد للاقتصادوية بوصفها احتكاراً لمقاربة الرأسمالية. من خلال التاريخ المادي وأدوات التحليل الاجتماعي يقارب الباحثان الموضوعات الأساسية للاقتصاد (الاستهلاك، العمل، الأعمال التجارية، البنوك، الدولة...)، ويجعلان ديناميات الاقتصاد مفهومة. من خلال التأكيد بأن الرأسمالية هي «ميدان المواجهة بين الفئات الاجتماعية» والتي لا يمكن فهمها إلا من خلال وجهات نظر متعددة، لذلك فالكتاب على قدر من الفائدة لغير المتخصص. 

الأفراد الذين سعوا إلى تحقيق الربح يمكن العثور عليهم في تاريخ بعيد، ولكن الرأسمالية ظاهرة تشكلت منذ نهاية القرن السابع عشر، ثم تجاوزت حاضنتها الأوروبية لتطال أجزاء كبيرة من العالم من خلال الطريقة التي يستهلك بها الناس ويعملون بها

من الناحية المنهجية يتضاد الكاتبان بشكل واضح مع المدرسة الأميركية لــ«التاريخ الجديد للرأسمالية» في مستوى نفي تعريف الرأسمالية. وهو خط يمثله بقوة كل من سيث روكمان، الذي يشدّد في دراسته «ما الذي يجعل تاريخ الرأسمالية جديراً بالاهتمام» (2014)، على «أنه لا ينبغي استثمار الحد الأدنى في البحث عن تعريف ثابت أو نظري للرأسمالية»، وكذلك لويس هيمان الذي يعتقد في دراسة «لماذا نكتب تاريخ الرأسمالية» (2013)، أن «مشكلة الرأسمالية لا يمكن تعريفها، ولكن يجب فهم سبب مقاومتها للتعريفات البسيطة». يجادل هذا الخط بأن الأمر يتطلّب عدم الانغماس في المشاكل النظرية وفقدان رؤية دراسة الرأسمالية على أرض الواقع، كما لو كان ذلك سيأتي من الماضي. وهذا ما جعله يرفض تفعيل المناقشة باستخدام أعمال أقدم، وخصوصاً تلك التي تستلهم الفكر الماركسي. وهو رفض ينطوي أساساً على استعصاء أيدولوجي، يرفض مطلقاً الاتكاء على الماركسية حتى في الجوانب التفسيرية للظاهرة، فضلاً عن تبني مقترحات تجاوز الظاهرة. لكن هذا الرفض للتعريف، جعل عملية البحث في أصول الرأسمالية يعاني من تحديد شديد السيولة. إلى جانب الارتباك الاصطلاحي، الذي يخلقه الرفض بين «اقتصاد السوق» و«الرأسمالية».

 في المقابل، يتبنّى بيير فرانسوا وكلير لوميرسييه في هذا الكتاب وبشكل واضح، تعريفاً دقيقاً للرأسمالية، لا يحصرانها في مجرد وجود رأسماليين هدفهم الربح ومراكمة الثروة، بل بوصفها «حقيقة اجتماعية»، أي شكلاً من أشكال تنظيم المجتمع ككل. ويلاحظ المؤلفان أن الأفراد الذين سعوا إلى تحقيق الربح يمكن العثور عليهم في تاريخ بعيد، ربما يعود إلى العصور القديمة. ولكن الرأسمالية كواقع اجتماعي هي ظاهرة تشكلت منذ نهاية القرن السابع عشر، ثم تجاوزت حاضنتها الأوروبية لتطال أجزاء كبيرة من العالم من خلال الطريقة التي يستهلك بها الناس ويعملون بها.  وهو تعريف يقدم انحيازاً فكرياً واضحاً مضاد للمقاربة الفردانية. وبالتالي يجعل ذلك تحديد أصول الرأسمالية وتحولاتها أكثر وضوحاً.

وفي سبيل «إعادة بناء تاريخ الرأسمالية - التي هي في نواحٍ عديدة - محاولة لكتابة تاريخ العالم منذ نهاية القرن السابع عشر» كما يقول الباحثان، نلاحظ اعتماداً واضحاً على منهج رائد مدرسة الحوليات الفرنسية فرناند بروديل (1902 – 1985). ولاسيما في عمله الموسوعي «الحضارة المادية والاقتصاد والرأسمالية –  القرنين الخامس عشر والثامن عشر» (جزئين 1967، 1979) وأعماله الثانوية : «من نهاية العصر الريفي إلى مقدمات العصر الصناعي، 1660-1789 » (1970) و«صعود العصر الصناعي، من 1789 إلى ثمانينيات القرن التاسع عشر» (1976، مجلدان) و«العصر الصناعي والمجتمع المعاصر، 1880-1980 » (1979-1982، ثلاثة مجلدات). يتابع الكتاب التسلسل الزمني الذي رسمه بروديل لتطوّر الرأسمالية من خلال تحديد «الممارسات المهيمنة» التي ورثت بعضها البعض داخل المجتمع الرأسمالي، مع مراعاة التغيرات الأيديولوجية في المجتمع الرأسمالي نفسه، بالإضافة إلى إعادة تشكيل علاقات القوة بين الفئات الاجتماعية. وعلى الرغم من أن نطاق الكتاب يتسع جغرافياً إلى مجالات واسعة من حواضن الرأسمالية عالمياً، إلا أنه يؤكد في جميع فصوله على أن الاختلافات الواضحة من نقطة إلى أخرى في مجالها، لا تغيير بأي حالٍ من الأحوال من طبيعة التسلسل الزمني للرأسمالية في كل مكان، لأنها على نطاق عالمي تميزت انعطافاتها الكبرى بالكونية.

العصور الثلاثة للرأسمالية

يقسم الكاتب هذه الانعطافات الكبرى للرأسمالية إلى ثلاث عصور : العصر التجارة (1680 - 1880)، والعصر الصناعي (1880 - 1980)، وأخيراً العصر المالي من بداية الثمانينات حتى اليوم. خلال العصر التجاري كانت طبقة التجار هي الفئة الاجتماعية المهيمنة، فيما شكّل «الائتمان» القيمة الأكثر تنافساً. تميز هذا العصر بظهور سلعٍ جديدةٍ وتطوّر علاقات التجارة بين المناطق، إلا أن الاستهلاك حافظ على مستوى ضعيف بسبب هيمنة الإقطاع حتى ذلك الوقت، وبالتالي فقدان جزء كبير من السكّان القدرة على امتلاك الدخل المباشر. في العصر الصناعي حدث انتقال جذري من الورشات ومحلات الحرف إلى المصانع الكبيرة، وأصبح الصناعيون هم الفئة الاجتماعية المهيمنة داخل المجتمع الرأسمالي، ودخل القطاع الأكبر من السكّان ضمن العمل المأجور، فيما تفكّكت بقايا الإقطاع نهائياً بعد عصر الثورات. وتحوّل الخطاب القيمي نحو «تنظيم الإنتاج» الذي سيحتل مكانة مهمة للغاية في أفكار الرأسماليين (التايلورية، الفوردية، التويوتية). كما يصبح العمل المأجور هو النموذج الذي تتشكل منه السياسات الاجتماعية. وتدشن هذه التحولات طرقاً جديدة لتنظيم الصراعات والمفاوضات بين الطبقات الاجتماعية. كما يتغير دور الدولة. وبفضل الضرائب، تتطور الإدارات والسياسات العامة. في الوقت نفسه يصبح الاستهلاك الشامل، لاسيما بعد الحرب العالمية الثانية، هو القيمة التنافسية الأساسية. لكن منذ بداية الثمانينات، والدخول في الحقبة النيوليبرالية، أصبحنا نعيش في عصر التمويل، الذي صار فيه المساهمون هم الفئة الاجتماعية المهيمنة، ولم يعد الإنتاج هو مركز الخطاب الرأسمالي. 

يؤكد الكتاب وجود أشكال من السعي وراء الربح في ثقافات ونظم عائلية متعدّدة، وفي الوقت نفسه يحدّد في روابط عضوية بين الرأسمالية وجهاز الدولة، حيث لا توجد رأسمالية ممكنة من دون الدولة

لعقلنة هذا التحقيب الزمني عن مراحل تطور الرأسمالية، يحدّد الباحثان آليتين رئيستين في الانتقال من عصر إلى آخر، أولاً التشكيلات الطبقية وثانياً زيادة تقسيم العمل. من خلال التركيز على طبيعة الاستهلاك في كل عصر، يقع تحديد الفئات المهيمنة في كل عصر من العصور وكذلك القيم المهيمنة في الخطاب الرأسمالي. ويظهر هذا أكثر وضوحاً في الانتقال من عصر التجارة، الذي كانت فيه الرأسمالية مازالت في طور جنيني، إلى عصر الصناعة، الذي يعتبر الولادة الحقيقة للرأسمالية، حيث تنزع الطبقات العاملة إلى تقليد الطبقات الأكثر ثراء في ممارساتها الاستهلاكية، فيما تحاول البرجوازية تمييز نفسها عن الآخرين. وحاصل هذا السعي المتضاد هو التحوّل في نمط الإنتاج وأسلوبه من خلال تغذية الطلب على السلع. في جانب  آخر  تلعب زيادة تقسيم العمل والتخصّص دوراً في تحديد معالم كل مرحلة. حيث في كل تحوّلٍ ينضم المزيد من الفاعلين إلى نظام التبادل، وتظهر أنشطة جديدة كوسائط بين الإنتاج والتوزيع والتجارة مثل مندوبي المبيعات في عصر التجارة، والمعلنين في عصر المصانع أو تطبيقات مراجعة المنتجات والتوصيل في عصر التمويل. لكن العصر المالي يشكّل نوعاً جديداً من علاقات الإنتاج المنفصلة بين العامل ورأس المال من خلال نموذج العاملين المستقلين. وهذا النموذج، يتوافق بشكل جوهري مع النيوليبرالية، التي تريد تخفيف العبء الرعائي للدولة ورأس المال والمحافظة على وتيرة الإنتاج. لذلك فإن «المستقل»، وبالضد من أوهام التحرّر التي ينسجها عن الخطاب النيوليبرالي السائد، هو العامل الذي يبيع قوة عمله مقابل أجرٍ صرف من دون أن يكلف رأس المال أي التزامات اجتماعية مثل التأمين وبدل التقاعد والإجازات المدفوعة،  وغيرها من الالتزامات التي فرضتها دولة الرعاية ما بعد الحرب العالمية الثانية.

في الفصول اللاحقة يدافع الباحثان عن فكرة «الإنسان الرأسمالي» التي تخترق الأديان والأعراق والمناطق. وهي على النقيض من نظرية ماكس فيبر عن «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية»، ومن دون الوقوع في فخ الصفة الطبيعية للرأسمالية، يؤكد الكتاب على وجود أشكال من السعي وراء الربح وتنمية رأس المال في ثقافات ونظم عائلية متعددة وممتدة في العالم، وأن الأمر لا يجد جذوره في أي معتقد ديني. وفي الوقت نفسه يحدّد في فصل مستقل روابط عضوية بين الرأسمالية وجهاز الدولة، حيث لا توجد رأسمالية ممكنة من دون الدولة. وعلى الرغم من أن منهج الكتاب خالٍ إلى حد ما من الأبعاد التقنية والاقتصادية لمقاربة الرأسمالية، إلا أن الإفراط في تجنّب هذه الأبعاد جعل من بعض الفصول غير مكتملة، إذ لا يمكن المضي في تحديد طبيعة الرأسمالية، ولاسيما في عصر التمويل من دون الإشارة إلى البُعد التكنولوجي. كما يعاني الكتاب على نحو واضح من المركزية الغربية، ولاسيما التركيز مع الرأسمالية في الولايات المتحدة وفرنسا في درجة ثانية، من دون تمثّل واسع لبقية الدول الأوروبية والصين والهند، فضلاً عن الدول الصاعدة في الشرق الأقصى الآسيوي. أما في مستوى التقسيمات الزمنية لعصور الرأسمالية، فإن الكتاب لا يأخذ في الاعتبار التسويات التاريخية التي حققتها دولة الرعاية الاجتماعية بعد الحرب العالمية الثانية، والتي خلقت أشكالاً هجينة من أنماط الإنتاج، تحتاج مقاربة أكثر عمقاً في تحديد طبيعتها من التحليل الخطي للرأسمالية كما يقدّمه الكتاب.