تأريخ العلاقات الروسية-الشرق أوسطية
- مراجعة لكتاب «العلاقات الروسية الشرق أوسطية: وثائق دبلوماسيين ومستشرقين ومؤرخين روس» للكاتبة جمال القرى، الذي يتجاوز جمع وثائق تاريخية عن تلك العلاقات وسردها، ليكون مرجعاً أساسياً لفهم تعقيدات تلك العلاقات التاريخية.
تستعرض الدكتورة جمال القرى في كتابها «العلاقات الروسية الشرق أوسطية: وثائق دبلوماسيين ومستشرقين ومؤرخين روس»، العلاقات التاريخية المُعقّدة بين روسيا، أكبر دولة مساحة في العالم، وبلدان الشرق الأوسط منذ تأسيس الإمبراطورية الروسية وحتى العصور اللاحقة، بما في ذلك فترة حكم الإمبراطورية العثمانية. تعتمد الدكتورة في دراستها على مجموعة من الوثائق القيّمة التي لم تُترجم سابقاً لمؤرِّخين ومستشرقين روس، مبدية تأثّرها الكبير بشكل خاص بالمستشرقة الروسية إيرينا ميخايلوفنا سميليانسكايا. كما تُظهر قدرتها على تحليل التأثير المتبادل بين الثقافة والأدب والفنون، وكيف ساهمت هذه العناصر في تشكيل بعض جوانب الثقافة العربية، والعكس صحيح، خصوصاً فيما يتعلّق بالتراث الثقافي الديني.
في القسم الأول من الكتاب، تتناول الكاتبة تاريخ روسيا منذ إمارة «روس الكييفية»، التي تأسّست في القرن التاسع الميلادي، حين كانت مركزاً حضارياً مهمّاً في شرق أوروبا، مروراً بصعود إمارة موسكو. تبرز الكاتبة دور الأمير فلاديمير الكبير في اعتناق المسيحية، ما ساهم في توحيد القبائل السلافية تحت راية واحدة، وذلك من خلال وجهات نظر المؤرّخين السوفييت والسابقين. بعد ذلك، تتناول فترة الاحتلال المغولي التي استمرت لأكثر من قرنين من الزمن، إذ أثرت هذه الحقبة بشكل كبير على تطوّر روسيا، وأدّت إلى ضعف السلطة المركزية، وتدمير المدن ومظاهر الحضارة والعمران، وظهور إمارات محلّية. ومع ذلك، استطاعت روسيا أن تستعيد قوّتها في القرن الخامس عشر تحت قيادة إيفان الثالث، الذي أعلن نهاية الاحتلال المغولي، ولكنه في الوقت ذاته أسّس لمرحلة جديدة من الاستبداد، بعد أن طغت تأثيرات الاحتلال المغولي الثقافية على الوجدان الروسي. تنتقل الكاتبة بعد ذلك إلى فترة حكم إيفان الرابع (إيفان الرهيب)، الذي أسّس روسيا كدولة مركزية قوية، وبدأ في توسيع حدودها، واتسم حكمه بالطغيان أيضاً. تتابع الكاتبة الأحداث مروراً بفترة الاضطرابات الناتجة عن استبداد إيفان الرهيب، وحكم آل رومانوف، حتى تصل إلى عصر بطرس الأكبر، الذي أحدث إصلاحات واسعة شملت جميع مناحي الحياة، من الجيش والإدارة والاقتصاد وصولاً إلى الثقافة والتعليم، ما ساهم في تحويل روسيا إلى إمبراطورية كبرى، وفي الوقت نفسه في تفجير التناقضات الاجتماعية والثقافية بين الطبقات المختلفة، والتي بدورها أدّت إلى تحوّلات جذرية وانتفاضات كبرى في المجتمع الروسي في خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حتى بداية القرن العشرين.
الوجود التاريخي-الديني لروسيا في الشرق ليس مجرد مسألة دينية، بل هو امتدادٌ غير مباشر للهوية الوطنية والثقافية الروسية، وكيف عملت روسيا على تعزيز وجودها في مواجهة التحديات السياسية الخارجية
وتتناول الكاتبة في القسم الثاني الوجود التاريخي-الديني الروسي في الشرق الأوسط، وتسلّط الضوء على العلاقة العميقة بين الكنيسة الأرثوذكسية الروسية وسوريا وفلسطين. فقد كان للكنيسة الأرثوذكسية دور بارز في تعزيز الروابط الروحية والثقافية بين روسيا و«الأراضي المقدّسة»، حيث أسّست الكثير من الكنائس والأديرة في تلك المناطق، ضمن إطار العلاقات الدبلوماسية بين الإمبراطورية الروسية ونظيرتها العثمانية في خلال فترات السلم بينهما، ما ساهم في نشر المسيحية الأرثوذكسية وتعزيز السياسة الخارجية الروسية في الشرق. تستعرض الكاتبة، استناداً على أطروحة ميخائيل إيليتش ياكوشيف، تاريخ الوجود الكنسي الروسي في «الأراضي المقّدسة»، بدءاً من القرن الثامن عشر، حين بدأت الحملات التبشيرية الروسية في المنطقة، والتي كانت تهدف إلى دعم المسيحيين الأرثوذكس وتعزيز الثقافة الروسية في مواجهة تأثيرات الإرساليات الغربية. في هذا السياق، تتناول الكاتبة الصراع بشأن «الأماكن المقدّسة» في فلسطين بين روسيا والدول الغربية والسلطات العثمانية، والتبدّلات في أهداف السياسة الخارجية الروسية بحسب طبيعة العلاقة المتبدّلة بين الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية، والتي انعكست بتعزيز الوجود الكنسي-الدبلوماسي الروسي. أمّا الحملات التبشيرية الغربية في الشرق، وبشكل خاص الفرنسية والأميركية، في خلال القرن التاسع عشر، فقد كانت تمثل تهديداً مباشراً للنفوذ الروسي، حتى وجدت روسيا نفسها مُضطرّة إلى التعامل مع هذا الواقع الجديد من خلال المشاركة في الصراع الطائفي المسيحي عبر تركيز الجهود لتعزيز «الأرثوذكسيّة في الشرق» ومواجهة «المشاريع الأسقفية البروتستانتية». تتناول الكاتبة أيضاً مسألة حرب القرم، وما يخفيه الصراع بين القوى الأوروبية الكبرى على النفوذ في الشرق، وتأثيره على الوجود الروسي في المنطقة. بعد اتفاقية باريس للسلام، تعود البعثة الروحية الروسية إلى «الأراضي المقدّسة»، وتتوسّع الكاتبة في سرد مراحل وتفاصيل الفشل والنجاح في مهمتها، وصولاً إلى قرار تأسيس «الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية» في أربعينات القرن التاسع عشر، شارحة المراحل الثلاث (الإمبراطورية الروسية، الاتحاد السوفياتي، الاتحاد الروسي) التي مرّت بها الجمعية، وما تبع تأسيسها من تطوّرات على مستوى العلاقات الثقافية والدينية والسياسية بين روسيا ودول الشرق الأوسط. من خلال هذه الأحداث التي يوثّقها هذا الكتاب القيّم، يمكن الاستخلاص أن الوجود التاريخي-الديني لروسيا في الشرق ليس مجرد مسألة دينية، بل هو امتدادٌ غير مباشر للهوية الوطنية والثقافية الروسية، وكيف عملت روسيا على تعزيز وجودها الروحي والثقافي في مواجهة التحديات السياسية الخارجية.
وفي القسم الثالث، تنتقل الكاتبة إلى تاريخ الوجود السياسي-الدبلوماسي الروسي في الشرق الأوسط، وتستعرض تطوّر البنى الاجتماعية والسياسية والدينية في نهاية القرن الثامن عشر، وعدد من الموضوعات المتّصلة بتطور هذه البنى، استناداً إلى أطروحة تاراس يوريفيتش كوبيشانوف. وتركّز الكاتبة على التغيرات الجذرية التي حصلت نتيجة الصراعات الداخلية، والتدخلات الخارجية التي أثرت سلباً على نظام التعايش العثماني (نظام الملل) بين المجموعات الطائفية-الإثنية، والاختلال في موازين قوى الإثنيات-الطائفية بسبب توسّع عمل البعثات الدبلوماسية والتجارية والدينية الأوروبية في الشرق، ما أدّى إلى اتخاذ الصراع بين الكنيسة المسيحية الشرقية وبين المبشّرين الأوروبيين وكهنة الروم الملكيين طابعاً طائفياً عنفياً، وإلى تسلّح بعض الأقليات (ومن ضمنها الأقلية المسيحية المارونية في لبنان) بعد أن تهدّد وجودها بفعل هذا الاختلال.
وتتناول الكاتبة أيضاً الاتصالات السياسية الروسية-الشرقية المباشرة الأولى، والتي بدأت تتشكّل في خلال الحرب الروسية-التركية في القرن الثامن عشر حين غزت روسيا مدينة بيروت، وسعت إلى إقامة علاقات دبلوماسية مع الحكام المحلّيين في المنطقة من خلال تثبيت وجودها العسكري، كما عملت على تعزيز المجتمعات المسيحية المحلية ودعم الجهات الطامحة إلى التخلّص من الحكم العثماني. وقد خلق هذا الغزو المحدود ديناميات سياسية جديدة في المنطقة كان الهدف الأساسي منها منع الهيمنة المطلقة لفرنسا وبريطانيا. وقد أسّست روسيا في الفترة نفسها مكاتب قنصلية في مناطق استراتيجية، مثل سوريا، لتعزيز مصالحها السياسية والاقتصادية. شكّل التنافس الاقتصادي مع الإمبراطورية العثمانية، إلى جانب مواجهة النفوذ الاقتصادي البريطاني والفرنسي، جزءاً أساسياً من السياسة الخارجية لكاترينا الثانية، التي لم تقتصر على الغزو العسكري وحده، ولم تكتفِ بمحاولات تعزيز النفوذ الثقافي والديني. سعت روسيا من خلال هذه المكاتب إلى تعزيز موقع الأقلية المسيحية الأرثوذكسية في «الأراضي المقدّسة»، كما كانت هذه المكاتب بمثابة نقاط انطلاق للتجارة الروسية، ما ساهم في توسيع شبكة العلاقات التجارية مع الدول العربية والإسلامية.
وفي هذا القسم، تستعرض الكاتبة أيضاً استئناف الخدمة القنصلية الروسية في سوريا في النصف الأول من القرن التاسع عشر من بوابة يافا، بعد انقطاع دام 30 عاماً، قبل أن تنتقل القنصلية لاحقاً إلى بيروت لأسباب طائفية وسياسية معقّدة يذكرها بالتفصيل نيقولاي ليسوفوي في كتابه «روسيا في الأراضي المقدّسة». عكس استئناف عمل القنصلية رغبة روسيا في استعادة نفوذها في المنطقة، خصوصاً في سوريا وفلسطين، بعد فترة من تراجع الاهتمام الروسي بشؤون الشرق الأوسط تحت قيادة بافل، ابن كاترينا الثانية. على الرغم من الإصلاحات التي شهدها تنظيم جهاز الخدمة الدبلوماسية والقنصلية في الشرق خلال فترة حكمه، فإن هذه الإصلاحات استكملت في فترة حكم ألكسندر الأول، ما أعاد تعزيز الوجود الروسي في المنطقة.
في القرن الثامن عشر، غزت روسيا مدينة بيروت، وسعت إلى إقامة علاقات دبلوماسية مع الحكام المحلّيين وعملت على تعزيز المجتمعات المسيحية المحلية ودعم الجهات الطامحة إلى التخلّص من الحكم العثماني
كما تتناول الكاتبة التغيرات السياسية في الشرق وتفاقم صراع الدول الكبرى، وتحوّل سوريا إلى مركز للصراع العالمي في النصف الأول من القرن التاسع عشر، بحسب سميليانسكايا، حين كانت روسيا تسعى إلى مواجهة النفوذ البريطاني والفرنسي في المنطقة، في ظل توغل جيوش حاكم مصر محمد علي إلى سوريا وقتاله الجيش العثماني، إذ انحازت روسيا إلى جانب العثمانيين في هذه المواجهة بعد أن رأت في سلوك محمد علي تهديداً لمصالحها الاستراتيجية. كان للوجود السياسي-الدبلوماسي الروسي في الشرق الأوسط تأثير كبير على العلاقات الدولية، ولكن التفاعلات بين روسيا والدول الشرقية لم تكن مجرد مسألة دبلوماسية، بل كانت تعكس أيضاً التغيرات الاجتماعية والدينية والعسكرية التي شهدتها المنطقة.
وتقوم الكاتبة أيضاً بتوثيق المراحل الأولية لنمو «اللجان الثورية الأرمنية» وتطلّعات الشعب الأرمني نحو الاستقلال والحرية عن الإمبراطورية العثمانية بالتزامن مع نشاط حركة «تركيا الفتاة»، وتلجأ مجدّداً إلى سميليانسكايا لتفسير الأزمة العميقة للنظام العثماني.
ثم تنتقل الكاتبة إلى التغيرات السياسية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حين شهدت المنطقة تصاعد الصراع الاستعماري، مستندة إلى أعمال ميخائيل سيرغيفيتش شابوفالوف وسميليانسكايا بشكل أساسي. بدءاً من ظهور النفوذ الألماني في فلسطين، وإطلاق فرنسا وبريطانيا لمشاريع بناء سكك الحديد في سوريا، مروراً بتبدّل مجرى التحالفات الدولية في ظل التوترات الناتجة عن ظهور الحركات الثورية وبالتحديد انعكاسات ثورة «تركيا الفتاة»، التي نجحت في إنشاء لجان جماهيرية في المدن الكبرى وإحداث تأثير كبير على الحياة السياسية في سوريا والمناطق المحيطة، وصولاً إلى ظروف انتشار الفوضى وغرق البلاد بالفتن الطائفية وبدء المجازر بحق المسيحيين الأرمن ودور «المجتمع المحمدي» و«الرابطة الإسلامية» في إثارة هذه الاضطرابات. وتصل إلى استنتاج عام بأن السياسة الروسية الخارجية «لم تحقّق تقدّماً في المجال السياسي والدبلوماسي في الشرق، بالقدر الذي حقّقته في مجال المصالح الكنسية في «الأراضي المقدّسة» على الرغم من العلاقات التناحرية التي سادت ولا تزال مع الإكليروس اليوناني عند القبر المقدس».
أما القسم الرابع، فقد طرحت فيه الكاتبة مسألة الاستشراق الروسي، من بداية تأسيسه كمدرسة جديدة في الاستشراق العالمي في خلال الربع الأول من القرن التاسع عشر، مروراً بمراحل تطوّره المتعدّدة حتى ثورة أكتوبر البلشفية في العام 1917، ودوره في تطوير العلاقات التبادلية بين روسيا وبلدان الشرق وفي رسم الهوية القومية للشعب الروسي وتحديدها. وقد تزامنت نشأة الاستشراق الروسي مع سعي روسيا إلى توسيع نفوذها في مناطق الشرق الأوسط، عبر تأسيس «المتحف الآسيوي»، الذي شكّل أرشيفه بعد عشرات السنوات من إنشائه وجمع المواد والنسخ والمراسلات «مختبراً بحثياً عن الشرق ساهم في دراسة تاريخ تكوين وتطوير الاستشراق، وفي نشر مساهمة الشعوب الشرقية في الحضارة العالمية».
والاستشراق أداة عملية وعلمية اتبعتها الدول الأوروبية في مستعمراتها في الشرق لفهم الثقافات والعادات والتقاليد المحلية، ولتطوير استراتيجيات السيطرة وإدخال المناهج الغربية إلى النظم التعليمية الشرقية. نشأ الاستشراق الروسي في سياق التنافس الاستعماري مع المصالح الأوروبية في الشرق بالذات، وكان مبنياً في بعض جوانبه، وخصوصاً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، على نظرة دونية تجاه الشرق عموماً لا تختلف كثيراً عن النظرة الدونية للاستعمار الأوروبي لروسيا وبلدان الشرق على حد سواء، ثم تطوّر مع الوقت ليشمل مجالات وتخصّصات متعدّدة من بينها المجال العسكري، وشهد تحوّلات نوعية مع الإصلاحات التي طالت السياسة الروسية الخارجية في الشرق.
وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى بداية القرن العشرين، أي عشية الثورة البلشفية، شهد الاستشراق الروسي تحوّلاً جديداً، إذ بدأ بعض المفكّرين في نقد الأساليب التقليدية للاستشراق. ساهم هذا النقد في تطوير الدراسات الشرقية في روسيا، وأدى إلى ظهور تيّارات جديدة تسعى إلى تحقيق فهم أعمق وأكثر شمولية للثقافات الشرقية، ومن منطلقات ديمقراطية ثورية، لكن ذلك لا يلغي أن الكثير من المستشرقين الروس ما قبل الثورة كانوا «متعاطفين مع شعوب الشرق ومحترمين لثقافتهم الغنية ودارسين بعمق لتاريخهم ولغاتهم وآدابهم».
وفي ذروة الثورة وبعدها، أكّد لينين أن «الاستشراق علم ضروري للدولة السوفياتية، وعلى الأكاديميين أن يصبحوا في جميع أعمالهم أقرب إلى الحياة العملية». واتخذ الاتحاد السوفياتي لاحقاً بقيادة جوزف ستالين قراراً بتأسيس معهد للاستشراق الروسي في موسكو، «تضمّن ثلاث كليات، لغوية لتدريب المترجمين، وأخرى لتدريب وإعادة تدريب الأفراد لأغراض خاصة، وثالثة عسكرية». ولكن إدارة المعهد ومطبوعاته ومواده التعليمية كانت خاضعة لرقابة الحزب الشيوعي السوفياتي. وفي خمسينات القرن العشرين تغيّر اسمه إلى «معهد شعوب آسيا». ولاحقاً تأسّست كلية الاستشراق في جامعة موسكو وأصبحت من أحد أكبر المراكز العالمية لتدريب المستشرقين الدوليين.
وتؤكّد الكاتبة على أن الاستشراق الروسي لم يكن مجرد دراسة ثقافية، بل احتل مكانة مهمة في تاريخ العلوم الروسيّة. فقد كان للاستشراق الروسي تأثيرات عميقة على العلاقات الدولية، وعلى الهوية القومية الروسية، ما جعله جزءاً لا يتجزأ من التاريخ الثقافي والسياسي لروسيا وبلدان الشرق الأوسط في آن معاً. أدّى الاستشراق الروسي دوراً محورياً في تشكيل السياسات الخارجية والقرارات السياسية والاقتصادية لروسيا. وبذلك، يمكن القول إن الاستشراق لم يكن مجرد مجال أكاديمي، بل كان له تأثيرات ملموسة على مجمل الحياة الاجتماعية والسياسية في روسيا، ما يعكس عمق العلاقة بين الثقافة والسياسة في السياق الروسي. وتقوم الكاتبة بتجزئة تاريخ الاستشراق إلى أربع مراحل: مرحلة ما قبل الثورة، ومرحلة ما بعد الثورة مباشرة، والمرحلة السوفياتية، والمرحلة ما بعد السوفياتية، ملقية الضوء على سياقات تطوّره، وكيفية تشكيل الصورة المعقدة عن الثقافات الشرقية في الوعي الروسي، وطبيعة التحوّلات التي شهدتها الدراسات الاستشراقية في كل من تلك المراحل، إذ استخدمت المعرفة الاستشراقية كأداة للسياسة الخارجية الروسية، وفي الوقت نفسه كجزء لا يتجزأ من السياسة الثقافية للدولة، وهي في حالة تكيّف وإعادة تكيّف مستمرة مع التغيرات السياسية والاجتماعية الجديدة، على الرغم من المعضلات التي تواجهها السياسة الخارجية الروسية بعد التدخل الروسي في سوريا في العام 2015 والغزو الروسي لأوكرانيا في العام 2022.
التفاعلات بين روسيا والدول الشرقية لم تكن مجرد مسألة دبلوماسية، بل كانت تعكس أيضاً التغيرات الاجتماعية والدينية والعسكرية التي شهدتها المنطقة
بالطبع، تستند الكاتبة في هذا المجال إلى عددٍ من الكتب لمؤرّخين ومستشرقين ومصادر ومستندات ووثائق متنوّعة، بما فيها كتاب «الشرق الأوسط في مركز السياسة التحليلية»، الذي صدر في الذكرى الخامسة عشرة لتأسيس مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة العلاقات الدولية في موسكو التابعة لوزارة الشؤون الخارجية الروسية، ويتناول الكتاب موضوع «أسلمة الشرق الأوسط» ودور الدين في «الربيع العربي»، إلى جانب تحليل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وتوقّعات بشأن التنمية ومشاكل النظم الاجتماعية السياسية والحكومية والعوائق التي تحول دون تطورها. ويشير الكتاب إلى أن «الربيع العربي» لم يشهد ثورات حقيقية، إذ لم تشهد الهياكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية تغيرات بنيوية، لكن الكاتبة تكتفي بالإضاءة على مضمون الكتاب من دون أن تقدّم نقداً لما يتناوله، فالاستنتاج الذي يتوصل إليه بشأن ما أطلق عليه تسمية «الربيع العربي» يعكس رؤية محدودة وغير موضوعية تماماً للأحداث المستمرة منذ العام 2011 في منطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ويدلّ على قصور في فهم الديناميات السياسية والتاريخية في الشرق الأوسط تحديداً، وهو ما يشوب الاستشراق عموماً، إذ يخضع منطق الفكر الاستشراقي في غالبية الأحيان إلى التعميم والتبسيط ويفتقر إلى العمق والموضوعية، بما هو أساساً أداة هيمنة ثقافية تتأثّر بالاتجاه العام للسياسة الخارجية وأهدافها، وليس منهجاً تحليلياً ونقدياً يهدف إلى تقديم صورة أكثر شمولية. ومن الواضح أن سياسة الاتحاد الروسي بقيادة فلاديمير بوتين منذ العام 2015 تقوم على تعزيز دور روسيا كقوة مؤثرة في الشرق الأوسط، مع التركيز على «مكافحة الإرهاب». وقد تم تصوير الشرق الأوسط على أنه منطقة تسعى فيها التيارات الإسلامية الأصولية إلى السيطرة على غرار أفغانستان، ما يستدعي التدخلات العسكرية من قبل روسيا. وقد شهدنا تغيّر السلوك الروسي بشكل عنيف في سوريا في العام 2015، مع بدء السلاح الجوي الروسي بقصف المناطق السورية بشكل عشوائي، غير مميزٍ بين منشأة مدنية وغير مدنية، بحجة قتل «الجماعات الإرهابية»، على طريقة التدخلات الأميركية في أكثر من مكان في العالم تحت العنوان نفسه.
أما القسم الخامس والأخير، فهو الأكثر إمتاعاً للقارئ، وتتناول فيه الكاتبة تطوّر العلاقات الثقافية بين روسيا والشرق عبر التاريخ، مشيرة إلى كيفية انتقال هذه العلاقات من الإطار الديني إلى الإطار الثقافي التبادلي، ومن سطوة الدور المحوري للكنيسة الأرثوذكسية في تشكيل العلاقات الثقافية إلى توسع المجالات الثقافية والفكرية وتبادل الأفكار والفنون في فضاءٍ أكثر رحابة لمدة طويلة من الزمن. فقد تأثر الأدباء الروس بالثقافات الشرقية، ما ساهم في إثراء الأدب الروسي بمفاهيم وأساليب جديدة. ويمكن رؤية تأثير الأدب العربي والفارسي في أعمال الكتّاب الذين استلهموا من القصص والأساطير الشرقية. كما استفادت اللغة الروسية من هذا التبادل، وتم إدخال الكثير من الكلمات والمصطلحات من اللغات الشرقية، ما ساهم في توسيع معجم اللغة الروسية وتعزيز قدرتها على التعبير عن مفاهيم جديدة.
وعلى الجانب الآخر، تأثر الكتّاب العرب أيضاً بالثقافة الروسية، إذ شهد الأدب العربي تجديداً ملحوظاً نتيجة لهذا التفاعل. وقد استلهم الكثير من الكتّاب العرب من التجارب الأدبية الروسية، خصوصاً في مجالات الرواية والشعر والمسرح، فيما تأثّر الروائيون العرب بأساليب السرد الروسي. كما أن الأدب الروسي، بفضل عمق موضوعاته وتنوع شخصياته، أصبح مصدر إلهام للكثير من الكتّاب العرب الذين سعوا إلى معالجة قضايا اجتماعية وسياسية مشابهة في مجتمعاتهم. وقد ساهمت الترجمات العربية للأعمال الروسية في تعزيز هذا التأثير، ما أتاح للقراء العرب التعرف إلى الأدب الروسي وفهمه بشكل أعمق.
في النهاية، يمكن القول إن العلاقات التاريخية بين الإمبراطورية الروسية ودول الشرق الأوسط تأثرت بشكل كبير بالتطلّعات الاستعمارية الروسية، منذ القرن الثامن عشر وحتى العام 1917، خوصاً بعد أن أثار انتصار روسيا في الحرب الروسية-التركية في عامي 1877-1878 «الحماس والوعي الوطني الأرثوذكسي والقومي في المجتمع الروسي، وبات يُنظَر إلى المسألة الشرقية من منظار المنتصِر»، كما تشير الكاتبة في الفصل السادس. سعت الإمبراطورية الروسية إلى توسيع نفوذها في المنطقة والوصول إلى «المياه الدافئة» في البحر الأبيض المتوسط مستغلة العامل الديني ودور الكنيسة الأرثوذكسيّة، كما تشرح الكاتبة بإسهاب، مؤكّدة على دور الكنيسة كمدخل أساسي للنفوذ الروسي في منطقة الشرق الأوسط. ولم تقتصر محاولات الهيمنة على العناصر الدينية والسياسية والاقتصادية، فقد قامت الإمبراطورية الروسية بحملات عسكرية عدّة ضد العثمانيين، كان آخرها في خلال الحرب العالمية الأولى قبل سقوطها على يد البلاشفة، وأدّت إلى احتلال بعض المناطق في القوقاز وآسيا الوسطى.
أما العلاقة بين الاتحاد السوفياتي ودول منطقة الشرق الأوسط فاتّسمت بالتقلبات الحادّة، خصوصاً بعد اعتراف الاتحاد السوفياتي بقيادة جوزف ستالين بالدولة الإسرائيلية في العام 1948، بعد يومين من إعلان قيامها. ونتيجة لهذا السلوك السوفياتي، بدأت الحركة الشيوعية العربية تدريجاً بالتحوّل نحو القومية العربية والترويج «للعروبة»، ما أدى إلى انحرافها عن مسار النضال الأممي وتنظيم الطبقة العاملة بشكل كبير. لكن شهد الموقف السوفياتي تغيّراً جذريّاً خصوصاً بعد حرب 1967، إذ بدأ في توجيه دعمه نحو الحركات الوطنية والاستقلالية العربية. عزّز الاتحاد السوفياتي علاقاته مع الدول العربية كجزء من استراتيجيته لمواجهة النفوذ الغربي في خلال فترة الحرب الباردة، وقدّم لها مساعدات عسكرية كبيرة. وعمل على تعزيز التبادل الثقافي من خلال إرسال الطلاب العرب للدراسة في الجامعات السوفياتية، ودعم المشاريع الفنية والأدبية، بالإضافة إلى تقديم المساعدات الاقتصادية لبناء مشاريع كبرى مثل السدود والمصانع، بهدف تعزيز التنمية الاقتصادية.
الاستشراق أداة عملية وعلمية اتبعتها الدول الأوروبية في مستعمراتها في الشرق لفهم الثقافات والعادات والتقاليد المحلية، ولتطوير استراتيجيات السيطرة وإدخال المناهج الغربية إلى النظم التعليمية الشرقية
بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، شهدت العلاقات الروسية-الشرق أوسطية تحولاً جديداً، في ظلّ تراجع النفوذ الروسي في المنطقة. ومع ذلك، استمرّت العلاقات الثقافية والاقتصادية في التطوّر حتى تدخل بوتين العسكري في سوريا في العام 2015، الذي تسبب في تدهور إضافي للثقة بين الشعوب العربية وروسيا، بعد أن كانت روسيا تحاول أن تطرح نفسها «حامية للمسلمين» في مواجهة «النفوذ الغربي». تراجعت برامج التبادل والعلاقات الأكاديمية والثقافية، وتحوّل اهتمام جزء كبير من النخب الثقافية العربية نحو الثقافة الغربية بشكل أساسي. جاء ذلك بعد شعورهم بأن حكومة بوتين تستخدم تلك العلاقات الثقافية كوسيلة لتعزيز سياستها الخارجية بشكل مباشر وهيمني. وقد برز دور سلبي لوسائل الإعلام الروسية الناطقة باللغة العربية، وخصوصاً وكالة سبوتنيك وقناة روسيا اليوم، إذ أدّت أدواراً سلبية جداً في السياق السوري، وتحريف الحقائق على طريقة الإعلام الغربي فيما يتعلق بـ«مكافحة الإرهاب»، وذلك لتبرير التدخل العسكري المباشر لروسيا.
نقاط التحوّل المهمة في السياسة الخارجية لروسيا في منطقة الشرق الأوسط عبر جميع الحقب لم تمنع الكاتبة من الانغماس في تحليل تناقضات السياسة الخارجية وتعقيداتها بين فترة زمنية وأخرى، وتقاطعات السياسة الحكومية مع السياسة الكنسية أحياناً، وتعارضهما أحياناً أخرى. لذلك، يتجاوز هذا الكتاب كونه مجرد جمع وسرد لوثائق تاريخية وتأريخاً للعلاقات الروسية-الشرق أوسطية، بل يمكن اعتباره مرجعاً أساسياً يمكن الاعتماد عليه في مجالات متنوعة، بحثية وثقافية وسياسية ودبلوماسية لفهم تعقيدات تلك العلاقات التاريخية. حيث تناولت الكاتبة ديناميات تطورها عبر مراحل زمنية مختلفة، وقد قمتُ بذكر التحوّل العنيف الذي طرأ على السلوك الروسي تجاه منطقتنا منذ العام 2015 أعلاه. وانطلاقاً من نقطة التحوّل هذه، يمكن تقسيم العلاقات الحالية إلى مستويين رئيسيين: المستوى الدولاتي والمستوى الشعبي.
على المستوى الدولاتي، تسعى روسيا إلى تعزيز نفوذها في المنطقة من خلال تحالفات سياسية قوية مع دول مثل سوريا وإيران، حيث تقدّم أشكال الدعم كافة للأنظمة الحاكمة في هذين البلدين، على الرغم من التناقضات التي تشوب العلاقة الروسية-الإيرانية في ما يتعلق بالشأن السوري. كما تسعى روسيا إلى إقامة شراكات استراتيجية في مجالات الطاقة، إذ تبحث عن مصادر جديدة لتصدير النفط والغاز بعد العقوبات التي فُرِضت عليها إثر الغزو الروسي لأوكرانيا. ويبرز تحول إيجابي في العلاقات الروسية الاستراتيجية مع دول الخليج العربي، خصوصاً الإمارات العربية المتحدة والسعودية، وذلك على الرغم من صلابة العلاقات الخليجية-الأميركية.
على المستوى الشعبي، شهد التبادل الثقافي بين روسيا ودول الشرق الأوسط تقلبات كبيرة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في العام 1991. وعلى الرغم من استمرار الكثير من الطلاب العرب في الدراسة في الجامعات الروسية واهتمام النخب الثقافية العربية، خصوصاً من سوريا ولبنان وفلسطين، بالأدب والفلسفة والموسيقى والفنون الروسية، إلا أن الطبقات الوسطى بدأت تتجه نحو «اعتناق» الثقافة الغربية. جاء هذا التحوّل من موقع استهلاكي أحادي، حيث غاب التأثير والتأثر المتبادلان، على الرغم من تأثير العولمة، بل ربما بسببها. أما الطبقات الشعبية فاتجهت أكثر نحو الانغلاق الثقافي واعتناق الأفكار الدينية الأصولية والمتشدّدة. نتيجة لذلك، تراجع الدور الروسي في المساهمة بتشكيل الهوية الثقافية الشعبية العربية بشكل كبير. وبرأيي الخاص، فإن التدخل العسكري الروسي في سوريا قد أصاب هذا الدور بمقتلٍ لسنوات، وربما لعقودٍ آتية، إذ صار جزءٌ كبيرٌ من العرب، وبالتحديد العرب السنّة، يعارضون جميع أشكال الوجود الروسي في الشرق الأوسط، بما في ذلك في الجوانب الفنية والثقافية.
بشكل عام، يمكن القول إن العلاقات بين الإمبراطورية الروسية ودول الشرق الأوسط كانت معقدة ومتعددة الأبعاد، إذ تداخلت فيها التطلعات الاستعمارية مع التبادل الثقافي. لطالما كانت العلاقات بين الشعب الروسي وشعوب منطقة الشرق الأوسط ودية، على الرغم من بعض الاختلافات الأيديولوجية التي وصلت إلى ذروتها في حقبة الاتحاد السوفياتي. ومع ذلك، فإن التغيرات السياسية والاقتصادية التي شهدتها المنطقة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، بالإضافة إلى الأحداث الجارية، قد أثرت بشكل كبير على هذه العلاقات، ما نتج عنه تفكّك الكثير من الروابط الثقافية التي كانت قائمة سابقاً. لكن على الرغم من التحديات، لا تزال هذه العلاقات تحمل إمكانيات كبيرة للتطور والنمو. وفهم التاريخ المعقد لهذه العلاقات، كما تسلط الدكتورة جمال القرى الضوء عليه في كتابها، يُعد خطوة أساسية نحو بناء مستقبل أفضل يتسم بالتعاون والتفاهم بين شعوب المنطقتين.