معاينة protest beirut

أيدرك هذا النظام ماذا يفعل بنا؟

فيما يحتفل كثيرون بانتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية وتكليف رئيس لتشكيل حكومة عهده الأولى، ووصف الأمر كما لو أنه انتصار لـ«17 تشرين»، يستمرّ النظام بملاحقة المناضلين، بمن فيهم خضر أنور، أحد المناضلين المثابرين من أجل التغيير والعدالة.

رنّ الهاتف، «معكَ مخفر عين الرمانة، رحنا عَ سكنك وما لقيناك، وين صار سكنك هلق؟»

ضحكت. لقد شكّل السكن مسألة شاقّة في حياتي الشخصية، لا سيما بعد إعلان وقف إطلاق النار مع العدو الإسرائيلي. فسألته: لماذا؟

ردّ العسكري: دعوة إلى محكمة في 23/01/2025 بتهمة أعمال شغب.

ما أتفه تلك التهمة بعد عشرات التهم التي تلقيتها والتوقيفات التي تعرّضت لها منذ العام 2011 وحتى يومنا هذا!

بلّغت المحامية بالاتصال من أجل معرفة السبب المباشر للدعوة، وتبيّن أنها بتهمة «رشّ غرافيتي على جدران وزارة الخارجية».

يومها، «رشيت» الجدران اعتراضاً على استقبال وزيرة الخارجية الألمانية، آنا لينا بيربوك، في لبنان في 20 تشرين الأول/أكتوبر 2023، بعد مجزرة مستشفى المعمداني، ومشاركة النظام الألماني مباشرة في الإبادة الجماعية الجارية في غزة.

كتبت وقتها العبارتين التاليتين: «وزارة الانبطاح» و«غير مرحّب بالصهاينة في الداخل».

لقد سبق أن سُجنت في هذه القضية لمدّة 15 يوماً، مع تعثّر تحوّل الملف إلى النيابة العامة. وقال لي القاضي حينها بعد التحوّل إلى قاعة المحكمة: «فش شي لح يربيك»، بعد أن علم بعدد المرّات التي جرى توقيفي بها في قضايا مماثلة.

على كل حال، بعد ثلاثة أيام من تبلّغي، تبّلغ رفيقي في 21/01/2025 بدعوى أخرى بتهمة «تحرّكات بوجه المصارف» تعود إلى العام 2020

إنها كوميديا سوداء تضرب بحياتنا. نرى قبح النظام ماثلاً في كل تفاصيل يومياتنا، وعلاقة القضاء وأجهزة الدولة في حماية السلطة والنظام.

في خلال التحرّكات الشعبية في العام 2019، انفجرت أحبالنا الصوتية ونحن نصرخ بشعارات تعرّي الحلف المتين القائم بين سلطة السياسيين وسلطة رأس المال. قبل أن تظهر اليوم دعويين، واحدة مرتبطة بجبروت سلطة رأس المال ممثلة بالمصارف، والثانية بالسلطة السياسية ومؤسساتها، وهما تتزامنان مع إعادة إنتاج النظام ببنيته الطبقية السابقة تكيّفاً مع المتغيرات السياسية الإقليمية.

تذكرت عبارة تردّدت كثيراً على مسمعي منذ كنت طفلاً: «لمّا تتحرّك الدول حيّد راسك». ولكن ما نفع رفع الرأس أساساً إن كان سيُحيّد في اللحظات الأساسية التي تظهر فيها كل التناقضات؟

وزارة الخارجية ليست وحدها «انبطاحية»، فالسياسة الخارجية نفسها تقوم على الانبطاح. فالمشكلة ليست في شخصيات مُحدّدة، بل في المؤسّسات المبنية على التبعية، بما في ذلك الدولة نفسها. أخيراً اتضحت بعضٌ من التغيرات الإقليمية وتأثيراتها وتداخلاتها في سرعة انتخاب رئيس الجمهورية وتكليف رئيس لحكومة عهده الأولى.

طبعاً لم يكن ذلك ضرورياً لتعزيز الحجج الكثيرة التي تعزّز صفة «التبعية». يمكن الإشارة إلى مؤسّسات التعليم  وأنظمته ومناهجه وآلية التراكم المعرفي من خلالهما، سواء في الجامعة الرسمية التي تتبع منهجاً ونظاماً تعليمياً فرنسياً أو المؤسسات التعليمية  الخاصة جامعات ومدارس. وتطول اللائحة. يمكن الحديث عن النقد، وهيمنة الدولار، والنمط الاستهلاكي، وإالاحتكارات، والشركات المتعددة الجنسيات، وأصحاب رؤوس الأموال، وحرية انتقال الأموال وحركتها، عدا عن المؤسّسات الثقافية الاستشراقية، أو مؤسسات المجتمع المدني وأشكال تمويلها، ويمكن أيضاً التطرّق إلى الأيدولوجيات الحزبية، وتلك الخاصّة بالمعارضة، وحتى بأيديولوجية كيفية المقاومة.

أمام كلّ ذلك، أحقاً يعتقدون أن رشّ الغرافيتي هو عمل إجرامي؟

حتى اليوم خضعت لنحو عشر محاكمات في قضايا مشابهة، وجرى توقيفي عشرات المرّات.

الآن أخضع لمحاكمة جديدة. طبعاً، ليس الغرافيتي هو ما دفع القضاء لمحاكمتي مُجدّداً، بل التوصيف الذي كتبته على الجدران فيما يتعلق بتبعية النظام الذي يحميه. وتحمل هذه المحاكمات أيضاً وجهاً طبقياً مقيتاً.

في المحاكمة الأولى، سألني القاضي: «ماذا تعمل؟». ردّيت: في مجال الكتابة وبارتندر. فقال لي: «سأكتب في مجال الكتابة، كرمال قيمتك». ردّيت: بس أنا بارتندر!

في خلال المحكمة الآتية، سأكون مُعطّلاً عن العمل، ولن أكتم صوتي عما يضجّ في رأسي من أفكار.

لماذا أحيّد رأسي، وهو الوحيد من جسمي فوق الطين؟ نحن نغرق على ضفاف الحياة بصعوبات العيش نتيجة تلك التبعية والانبطاح.

لماذا أكتم صوتاً يضجّ في رأسي؟

أصواتنا بالأساس مكتومة. لا نجدها سوى على صفحات البحث عن عمل أو سكن. قبل فترة، قرأت صوت شخص يريد بيع كليته. قرأت ذلك على صفحات البحث عن عمل.

لدي الحقّ أنا أرفع صوتي لكسر الصمت المطبق حيال مصائرنا.

قال لي القاضي سابقاً: «ما في شي لح يربيك». الواقع، لقد تربيت، وازداد حقدي، ولا ينفك يحتقن. في كل مرة يرنّ هاتفي أخشى «مصيبة»، لقد أصبح واقعي مُهدّداً، لا أعلم في أي قضية سوف يتم اعتقالي مجدداً.

التجريد ضروري لفهم علاقة أزماتنا الذاتية النفسية والمعيشية والأمنية ببنية النظام الذي نعيشه.

يتم الاستحواذ على ذواتنا، ليتحول التجريد إلى اغتراب يحاصرنا ويدفعنا إلى العزلة، فنغرق في دوامة تهديد الوجود ذاتياً. أليست هذه ديكتاتورية أيضاً.

أيدرك هذا النظام ماذا يفعل بنا؟ أميل إلى إجابة بنعم.

كل من كان في ساحات الانتفاضة عايش أزمات في الصحّة النفسية. نحن نعيش هذه الأزمات كلّما رفضنا واقعنا، ونخسر أشخاصاً منّا ونجدهم مرمين برصاصة في غرفة نومهم، حتى أننا نخسر ذواتنا في كيفية فهمنا لواقعنا وإدارته وعلاقاتنا بالمجتمع وانعكاساتها على ذواتنا كأفراد، إشكاليتنا اليوم في الكيف الذي يسمح لنا بأن نقاوم أفراداً ومجتمعاً.