Preview الرأسمالية اللبنانية

المؤسّسات واللاعبون ومراحل تطوّر الرأسماليّة اللبنانيّة

في المقالات السابقة، طرحتُ أهمّية وجود نقاش اقتصادي وطني والحاجة إليه. ومن خلالها كان السؤال المحوري حول أي نموذج رأسمالي نريد لأي مجتمع؟ لنصل في المقال الثالث إلى عرض موجز عن المؤسّسات التي ولّدت نموّ الرأسمالية اللبنانية حتى عام 1952 وكيف تشكَّل دورها في المنطقة والعالم. 

تؤدّي المؤسّسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية دوراً في بناء نموذج اقتصادي وفي ديناميّاته وخصائصه. وتؤدّي الأسواق وآليّة الأسعار دوراً في التحليل ولكنها ليست كلّ شيءفي هذا المقال، سوف أتطرّق إلى نقطتين اثنتين. أوّلاً، التداخل بين المؤسّسات الاقتصادية والمؤسّسات السياسيّة، وثانياً، محاولة تقسيم مراحل تطوّر الرأسمالية اللبنانية مع تحديد القطع التاريخي بين هذه المراحل. تمهّد هذه المقالة الأرضيّة لمقالاتٍ لاحقة سوف تتطرّق إلى واحدة من المؤسّسات الاقتصادية الخمس، التي تشكّل النموذج الاقتصادي للبنان، وهي سوق العمل، والدولة، والنظام المالي والنقدي، وأسواق السلع والمنافسة، ودرجة الانفتاح على العالم.

المؤسّسات بين الاقتصاد والسياسة

من وجهة نظر بعض الباحثين الاقتصاديين المُتخصّصين بالدراسات الاقتصادية المُقارنة بين النماذج الاقتصادية للبلدان، مثل (Hall and Soskice 2001)1 ، هناك قسمة كبيرة تسمح في تصنيف النماذج الاقتصادية ومقارنتها بناءً على الهندسة المؤسّساتية لكلّ بلد: الاقتصاديات القائمة على الأسواق الليبرالية مثل الولايات المتّحدة2 ، وتلك القائمة على قواعد ناظمة مثل فرنسا3

بينما يذهب البعض من المدرسة الفرنسية4 إلى تقسيم أكثر تعقيداً يقوم على دراسة تركيبة المؤسّسات الاقتصادية والاجتماعية، التي تشكّل النموذج الاقتصادي لبلد ما، كما أوردتُ في المقالة السابقة. وبذلك، يكون في العالم الغربي أربع فئات: أولاً اقتصاديات السوق الليبرالية، وثانياً نموذج اليابان القائم على إشراك النقابات في قرارات الشركات وتنظيم المهن على هذا الأساس5 ، وثالثاً النموذج الاجتماعي الديمقراطي للبلدان الاسكندنافية، ورابعاً وأخيراً النموذج الاندماجي للاتحاد الأوروبي. 

في هذه المقاربات وفي مثيلاتها، تؤدّي المؤسّسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية دوراً في بناء نموذج اقتصادي وفي ديناميّاته وخصائصه. وتؤدّي الأسواق وآليّة الأسعار دوراً في التحليل ولكنها ليست كلّ شيء. ففي حين ينظر الفكر الاقتصادي الطاغي إلى المؤسّسات من ناحية الفعالية الاقتصادية المُساندة لآليّات الأسواق، تتناول المقاربات المؤسّساتية وعلماء السياسة والتاريخ والاجتماع الموضوع من زاوية مختلفة. هذه المؤسّسات هي نتيجة صراع وتفاوض وتسويات بين لاعبين (أفراد وجماعات ومنظّمات)، لهم مصالح متناقضة، أو لا تتقاطع مصالحهم بالكامل. إذاً، تعكس هذه المؤسّسات موازين القوى والتسويات ومصالح هؤلاء اللاعبين6 ، وتمثّل بالتالي سلماً غير ثابت من التفضيلات7 المعرّضة للتغيير بناءً على تبدّل المصالح والقوى، وغير مرتبط كلّياً بفعالية السوق وتوازنات الأسعار الأمثل نظرياً.

قبل اتفاق القاهرة، بقيت الخلافات وصراعات المصالح محصورة في المؤسّسات، وفُرضت تعديلات عميقة على قواعد اللعبة والاحجام من دون المرور بقطيعة تفجّر المؤسّساتبالتالي، تعطي هذه المدارس غير التقليديّة أهمّية، ليس للمؤسّسات النظامية والمُهيكلة فحسب، بل للمؤسّسات غير المُهيكلة أيضاً8 ، وتعطي الكثير من الأهمّية للاقتصاد السياسي على حساب المقاربات الرقمية الصرفة9

مثلاً، في اقتصادات الأسواق الليبرالية، تتركّز السلطة في السلطة التنفيذية (Westminster) تاركة لآليّات السوق العمل بحرّية، بينما توزّع النماذج الاقتصادية الأخرى مراكز القرار لتطال مؤسّسات أخرى مثل النقابات والتبادل التجاري وتنظيم سوق العمل وحوكمة الشركات.  

من هنا، يعتقد (North, 1990) أن المؤسّسات هي مجموعة قيود10 ابتكرها اللاعبون لتتدخّل وتفرض نفسها في تعاونهم وتبادلاتهم11 ، ولتسهيل التعاون فيما بينهم ووضع قواعد لحلّ نزاعاتهم. وهي في شكل من الأشكال توازنات قائمة على ألعاب12 . في حين يعتقد (Aoki 2001) أن المؤسّسات هي نظام من المُعتقدات المشتركة والمقبولة من اللاعبين، التي تقوم عليها اللعبة13 بطريقة مُكرّرة ومُعادة، ممّا يخلق ثباتاً وتقاليد نسبية. من هنا أيضاً، يمكن أن تكون المؤسّسات غير مُهيكلة14 ، إذا قام مختلف اللاعبين بتبنّي قواعد لعبة مُتفق عليها15

من هنا، تدفع المؤسّسات، كانعكاس لتركيبة مصالح الاقتصادية، اللاعبين إلى بناء تحالفات اقتصادية وسياسية للدفاع عن التوازنات، ومحاولة تغيير المعادلات إذا كانت الظروف تسمح بذلك. هذه الهندسة المؤسساتية التي حاولتُ رسمها بتبسيط شديد، حيث يتداخل النموذج السياسي بالنموذج الاقتصادي ليقدّم شكلاً للنموذج الرأسمالي لبلد ما. وحسب كلّ نموذج يصار إلى فهم ديناميّات النمو والكساد، وحقول الاستثمار والتخصّصية، وآليّات تفاعل اللاعبين فيما بينهم.

الرأسمالية اللبنانية

أين لبنان من هذه القراءة؟ 

قد لا يكون من السهل توطين هذه القراءة كاملة في الحالة اللبنانية. فالمؤسّسات الرسمية المفترض أن تكون هي التوازنات الأقوى16 ، مثل الدستور والقوانين، هي في واقع الحال الأضعف أمام الأعراف والمواثيق والتوازنات المفروضة بقوّة الأمر الواقع. 

ولكن تبقى هذه القراءة مُمكنة إلى حدّ بعيد إذا أدخلنا فكرة الفئة/التحالف الطاغية في كلّ فترة زمنية، وديناميّة المعارضات التي تتشكّل بهدف إحداث قطيعة مع قواعد اللعبة على حساب تعديل وإصلاح بعض جوانبها. وهذا ما حدث بنظري مرّتين على الأقل في تاريخ لبنان: في العام 1975 مع الحرب اللبنانية، وفي العام 2019 مع انفجار الأزمة الاقتصادية والمالية والسياسية الحالية. هذه القواعد التي تتشكّل منها المؤسّسات، ويتبنّاها اللاعبون، يجب أن تكون قائمة على عقلانية ما17 ، قد لا تكون بالضرورة مُشابهة للعقلانيّة التي نعرفها في الغرب. وهنا مطلوب جهد أكبر لتخطّي القراءات الطاغية، الطائفية الصرفة أو الطبقية على النسق الأوروبي.

مراحل تطوّر النموذج الرأسمالي اللبناني

من المفيد التذكير بأن هذه المحاولة هي أوليّة ويجب تطويرها. لكنّها مفيدة من الناحية المنهجية المبنية على فهم ديناميّات المؤسّسات وقواعد اللعبة المُتبعة والمقبولة من اللاعبين. 

القراءة التي سوف أقدِّمها تقوم على منهجية وقراءة مؤسّساتية، لا يسع هذا المقال الدخول في كلّ تفاصيلها. سوف تساعد المقالات اللاحقة على توضيح التقسيمات الزمنية التي اعتمدتها في قراءتي لتطوّر النموذج اللبناني. 

هناك مرحلتين طويلتين تاريخياً، تضاف إليهما مرحلة ما بعد 2019، ويتخلّلهما قطيعتين تاريخيتين أحدثتا تغيّراً كبيراً في النموذج، على الرغم من محاولة الكثيرين الادعاء أن هناك استمرارية لم تنقطع، وأنّه لم يحدث أي تغيّر إلّا على مستوى الشكل.

1860- 1975: البناء الرأسمالي وانتزاع الدور18

1860-1920: بداية تشكّل البنى التحتية للرأسمالية اللبنانية البشرية والاجتماعية والبنى التحتية المادية.

1920-1946: تثبيت الدور القائم على الوساطة والتجارة، وتكريس بيروت المدينة المرفأ.

1946-1952: الاستمرارية وتحدّي الاستقلال.

1952-1958: الحفاظ على الدور وتطويره من خلال التكامل العربي من جهة والقطيعة مع سوريا من جهة أخرى (مرحلة صعود تأثير البترول).

انفجار النموذج كلّياً ونهائياً مع انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر، وهذا ما أقدّمه على أنه القطيعة الثانية، التي يمكن اعتبارها أعمق وأخطر من قطيعة الحرب اللبنانية في العام 1975.1958-1975: الشهابية وبناء الإدارة وبداية تشكّل قاعدة صناعية واندماج أكبر للأطراف في بيروت. في هذه الفترة، وخصوصاً قبل اتفاق القاهرة، بقيت الخلافات وصراعات المصالح محصورة في المؤسّسات، وفُرضت تعديلات عميقة على قواعد اللعبة والاحجام من دون المرور بقطيعة تفجّر المؤسّسات. إلى حين وصولنا إلى الحرب الأهلية وتفكّك أواصر الدولة ومؤسّساتها السياسية والاقتصادية، ولو بشكل أقل. هنا كانت القطيعة الأولى التي أدخلت النموذج الاقتصادي بتغيّرات عميقة بالمضمون، ولو أنه حافظ نسبياً على شكله الخارجي. شكّلت الحرب 1975-1993 فترة تراجع الدور، وتحوّلات داخل المؤسّسات19

حدث ذلك على وقع تدمير الإمكانيّات الإنتاجية، التغيّر الديمغرافي والهجرة، ودخول أكبر للمال بهدف تبييضه والتأثير بالحياة السياسية والتوازنات العسكرية والأمنية. في هذه الفترة لم تتغيّر المؤسسات فقط بل اللاعبين وقواعد اللعبة والاصطفاف والتحالفات.

1993-2019: مرحلة الطائف

هنا أيضاً يمكن تقسيم هذه المرحلة إلى مراحل عدّة، تندرج جميعها في محاولة استعادة الدور مع بعض التعديلات، وتأسيس لمرحلة جديدة من البناء المؤسّساتي، الذي يُعبّر عن توازنات القوى التي أفرزتها الحرب.

1993-1998: بناء الدور من جديد، مع بعد إقليمي جديد يراهن على عملية السلام ما بعد انتهاء الحرب الباردة.

1998-2005: تعثّر البناء، والصراع على الدولة وعلى الدور.

2005-2010: أوهام القدرة على الاستمرار، مع تدفّق أكبر لرؤوس الأموال بعد أزمة 2007 العالمية.

2010-2019: انفجار الحرب السورية، تدفّق المهاجرين، والانتقال إلى نموذج اقتصادي يحكمه ميزان مدفوعات سلبي للمرّة الأولى بشكل بنيوي وعلى سنوات عديدة. 

2019: انفجار النموذج كلّياً ونهائياً مع انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر، وهذا ما أقدّمه على أنه القطيعة الثانية، التي يمكن اعتبارها أعمق وأخطر من قطيعة الحرب اللبنانية في العام 1975.

خلاصة
إذا كانت القطيعة الأولى أثّرت في بعض المؤسّسات الاقتصادية، مثل النظام المالي والنقدي الذي استطاع إنقاذ نفسه وإنقاذ المصارف عبر الدولرة، فإن القطيعة التاريخية الثانية أصابت كلّ المؤسّسات في الصميم.

سوف أتطرّق في المقالات اللاحقة لكلّ مؤسّسة من تلك المؤسّسات الخمسة في محاولة قراءة تطوّرها التاريخي، مع تقديم بعض النقاط الاستراتيجية التي يجب أخذها بالاعتبار في أي عملية حلّ مستقبلية.

  • 1Varieties of Capitalism: The Institutional Foundations of Comparative Advantage. Oxford University Press, 2001. Hall PA, Soskice D.
  • 2LME: Liberal Market Economies
  • 3CME: Coordinated Market Economies
  • 4Systèmes Sociaux d’Innovation et de Production (SSIP) ; Amable, Barré et Boyer (1997).
  • 5Méso corporatisme
  • 6Endogenously
  • 7Preferences and interests’ structure
  • 8Formal and informal institutions
  • 9Econometrics and exact science approach
  • 10Constraints
  • 11Interactions
  • 12Rules of the game
  • 13games
  • 14Informal Institutions
  • 15Endogenous Institutional Change هذا لا يعني أن في بعض الأحيان لا يوجد فرض لقواعد لعبة جديدة بحكم التجارة العالمية والعولمة والمنافسة الاقتصادية بين البلدان، ولكن هذا ليس موضوع المقال.
  • 16Hierarchization of Institutional Importance
  • 17A certain rationality and interdependence
  • 18بدأ تشكّل النموذج الاقتصادي اللبناني حتى قبل تشكّل لبنان الكبير، لكن بعد تشكّل لبنان الكبير طغى النموذج على المناطق الجديدة التي ضمّت إلى لبنان الصغير.
  • 19Mutation