
هل تستطيع الدولة اللبنانية الوصول إلى ذهبها المحفوظ في أميركا؟
تصاعدت مؤخراً دعوات في عدد من الدول الكبرى، مثل ألمانيا وإيطاليا، لاسترداد احتياطيات الذهب الوطنية المخزّنة في الخارج، خصوصاً في الولايات المتّحدة وبريطانيا. لا تنبع هذه الدعوات من اعتبارات اقتصادية فحسب، بل تعكس قلقاً متزايداً من تحوّل الذهب نفسه إلى أداة ضغط جيوسياسي في ظل اشتداد النزاعات الدولية وتآكل الثقة بالنظام النقدي العالمي الذي يتمحور حول الدولار الأميركي. ويعكس هذا الاتجاه تحوّلاً عالمياً في مقاربة الأصول السيادية، ويطرح تساؤلات ملحّة حول مصير الذهب اللبناني في هذا السياق المضطرب.
يمتلك لبنان واحداً من أكبر احتياطيات الذهب في العالم، إذ يعادل نحو 286.6 طناً وفق مجلس الذهب العالمي، وتقدّر قيمته بنحو 30.3 مليار دولار بحسب مصرف لبنان. وبذلك يحتل لبنان المرتبة الثانية عربياً بعد السعودية، ويصنّف ضمن الدول العشرين الأولى عالمياً من حيث حجم الذهب.
يقدّم هذا الاحتياطي في الخطاب الرسمي كـ«صمّام أمان» لضمان الثقة بالدولة ومصرف لبنان، ويُستخدم رمزياً لإبقاء بصيص أمل بأن الدولة غير مُفلسة بالكامل. إلا أن هذه الرمزية تخفي واقعاً أكثر تعقيداً وخطورة، يرتبط أولاً بمكان وجود الذهب وثانياً طبيعة القوى المتنازعة عليه داخلياً.
بحسب تصريحات حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، فإن نحو ثلث احتياطي الذهب اللبناني مخزّن في الولايات المتحدة، ما يضعه تحت سقف الضغوط والقيود السياسية الأميركية، ويطرح مخاوف حقيقية حول إمكانية الوصول إليه في حال تغيّرت المعادلات السياسية الدولية أو خضع لبنان لعقوبات.
تكشف تجارب عدد من الدول أن وجود الذهب في الخارج لا يضمن القدرة على استرجاعه أو حتى استخدامه بحرية. في أعقاب الأزمة المالية العالمية في العام 2008، شرعت ألمانيا في خطوة لإعادة جزء كبير من احتياطاتها من الذهب المخزّنة في الولايات المتحدة وبريطانيا منذ عقود، وبعد شكوك وتأخيرات، أعلنت برلين في العام 2017 إعادة 674 طناً من الذهب، لكن بصيغة معدّلة لا تحمل نقوش الدولة الألمانية، ما عزّز شكوكاً دولية بتصرّف الولايات المتحدة بالذهب المودع لديها. فرنسا بدورها خاضت معركة سيادية في ستينيات القرن الماضي بقيادة شارل ديغول لاستعادة ذهبها من الولايات المتحدة. إلا أن باريس واجهت رفضاً غير مباشر من واشنطن التي كانت تخشى أن يفتح طلب فرنسا الباب أمام دول أخرى لمطالبة الذهب، ما قد يهدّد احتياطيات الذهب الأميركية وسمعة الدولار. وقد أدّى هذا التأخير إلى توتر دبلوماسي بين البلدين، إذ رأت فرنسا أن الولايات المتحدة تستخدم الدولار كأداة ضغط سياسي، وتحاول منع الدول الأخرى من استعادة أموالها الفعلية. فأرسلت فرنسا في العام 1965 سفناً حربية إلى نيويورك كجزء من رسالة سياسية وعسكرية رمزية لمطالبة الولايات المتحدة بإعادة الذهب الفرنسي. أما السيناريو الأكثر تطرفاً فشهدته فنزويلا. ففي العام 2019. بدأت معركة قانونية شرسة في لندن بين المصرف المركزي الفنزويلي التابع لحكومة مادورو، الذي رفع دعوى لاستعادة الذهب من أجل استخدامه لشراء لقاحات كوفيد-19، ومجموعة معارضة ممثلة لخوان غوايدو، ادّعت أن لها الحق في إدارة الأصول الوطنية في الخارج. أصدرت المحكمة العليا البريطانية في العام 2020 حكماً أولياً لصالح غوايدو. ثم أعادت محاكم الاستئناف النظر في القضية، متنازعة على شرعية السلطة، واستمرت الجولات القضائية حتى العام 2022. وفي تموز/يوليو من ذلك العام، أصدرت المحكمة العليا البريطانية حكماً نهائياً يؤكد أن حكومة غوايدو هي الجهة التي تعترف بها لندن، وبالتالي لا يمكن تسليم الذهب لحكومة مادورو. أما في تركيا، دفعت التوترات مع الغرب إلى قرار إعادة الذهب من نيويورك في العام 2017، بعد أن خشي صانعو القرار من أن يُستخدم كأداة ابتزاز سياسي في ظل تدهور العلاقات مع واشنطن بعد محاولة الانقلاب الفاشلة. العملية وُوجهت بممانعة غير مباشرة وضغوط من الأسواق ومؤسسات التصنيف.
في ضوء ما سبق، تبدو وضعية لبنان هشة مقارنة بتلك الدول. فبينما تمتلك فرنسا أساطيل للضغط، وألمانيا نفوذاً اقتصادياً، وتركيا قدرة على المناورة، تفتقر الدولة اللبنانية إلى أي من هذه أدوات القوة تمكّنه من استرجاع ذهب نيويورك إذا ما قررت الولايات المتحدة تجميده، وأكثر من ذلك لا يستطيع منع المصارف المحلية من السعي لاستخدام الذهب المحلي كمصدر للنجاة في ظل أزمة إفلاسها الشاملة.
يحتفظ لبنان بثلثي ذهبه في خزائن مصرف لبنان في بيروت، على شكل 13 ألف سبيكة و600 ألف عملة ذهبية. لكن هذا الجزء لا يبدو آمناً هو الآخر، إذ تخوض المصارف اللبنانية المنهارة صراعاً مفتوحاً من أجل السيطرة عليه، أملاً باستخدامه كوسيلة لتعويض بعض خسائرها، أو لتمويل جزء من التزاماتها تجاه المودعين، ما يهدد بتحويله من أصل سيادي إلى ورقة ضمن نزاع داخلي مرير. وفي لقاء سابق مع «صفر» قال الوزير السابق والمصرفي رائد خوري إن «الذهب حقّق قفزة كبيرة في أسعاره منذ العام 2019، وهذا الفارق لا بدّ أن يكون من نصيب المصارف لتعويض المودعين، كون هذه القضية هي الأكثر تفاعلاً في البلاد. وهذا يستوجب بطبيعة الحال تسييل جزء من الذهب لحلّ هذه المشكلة». لم يأتِ طرح خوري يتيماً، بل يتكرّر على لسان الكثير من المصرفيين ومن يدور في فلكهم. على سبيل المثال، يقول مدير قسم الأبحاث الاقتصادية في بنك بيبلوس نسيب غبريل إنّه لا بد من «رهن جزء من الذهب بما يساوي 3-4 مليار دولار من أجل ضخّ سيولة في المصارف». وهذه ليست المرّة الأولى التي تثار فيها مسألة بيع الذهب الموجود لدى مصرف لبنان أو رهنه، بل يُهمس فيها، وتُردّد في كلّ مرّة كان يواجه فيها لبنان أزمة تمويل بالعملات الأجنبية. لقد أثيرت المسألة للمرّة الأولى في عهد رئيس الجمهورية الأسبق، أمين الجميل، بحجّة تعزيز احتياطي العملات الأجنبية الذي كان قد بدأ ينضب في حينها ودعم سعر صرف الليرة التي شهدت انهيارات جارفة. ثمّ ظهرت مُجدّداً في تسعينيات القرن الماضي بحجّة تمويل مشاريع إعادة الإعمار بعد الحرب، وطرِحت أيضاً في مؤتمر «باريس 2» بحجّة إطفاء جزء من الدَّيْن العام، وأثيرت في العام 2018 قبيل الانهيار المصرفي والنقدي بحجّة تغذية احتياطي العملات الأجنبية لدى مصرف لبنان وتفادي الاقتراض الخارجي لدعم ميزان المدفوعات.
وإذا كان الذهب يوصف بأنه «أصل محايد»، فإن ما تكشفه التجارب الدولية واختلال موازين القوى الداخلية هو أن هذه الحيادية تنهار سريعاً أمام الحسابات السياسية والضغوط الجيوسياسية ليبقى ذهب لبنان مهدداً من الخارج والداخل على حد سواء.