Preview إشارة مرور معطّلة في بيروت (تصوير: مروان طحطح)

صورة لإشارة مرور معطلة في بيروت (تصوير مروان طحطح)

لبنان في خطر
الطريق الوعِر نحو مسارٍ جديدٍ للنموّ

لقراءة الملخص، إنقر/ي هنا

1. مُقدِّمة

منذ العام 2019، ينهار الاقتصاد اللبناني المُفخّخ بعيوبٍ بنيويّة منذ عقود. وانخفض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي من 11,320 دولاراً في العام 2018 إلى أقلّ من 4 آلاف دولار في العام 2022، وارتفعت اللامساواة في الدخل إلى المستويات المُسجّلة في الدول اللاتينيّة. وبحلول أوائل العام 2023، باتت البلاد غارقة في أزمة ديون بحيث تجاوزت نسبة الدَّيْن من الناتج المحلي الإجمالي 180%، وفي أزمة عملة مع انخفاض قيمة الليرة اللبنانيّة بنسبة 98%، وفي أزمة مصرفيّة مع عجز المودعين عن سحب أموالهم، وفي أزمة اقتصاديّة حيث تتعرّض الركائز الأساسيّة للاقتصاد - السياحة والتعليم والرعاية الصحّية - لتدهورٍ هائل على مستوى رأس المال المادي والبشري على حدٍ سواء. لم تقم ثلاث حكومات مُتعاقبة بشيء يُذكر من أجل تحقيق الاستقرار. لا يزال التدهور مستمراً وإن بوتيرة أبطأ، فيما يصعّب التأخير المستمرّ من نهوض الاقتصاد مُجدّداً. في الواقع، إنّ الطبقة الوسطى تنحسر، ورأس المال المؤسّسي والبشري والمالي يتبخّر، والبنية التحتية تضخمل، فيما تتعرّض البلاد لخطر الوقوع في فخّ الفقر على الرغم من إمكاناتها الغنيّة.

تسعى هذه الورقة، التي تصدر بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على الانفجار المالي، إلى تقديم خمس أطروحات رئيسيّة. أولاً، إنّها تُقدّم عرضاً شاملاً للفترة التي سبقت الأزمة وأدّت إليها. ويوضح هذا الجزء أنّ الأزمة ناتجة إلى حدّ كبير عن المبالغة في تقييم العملة المحلّية منذ فترة طويلة، ممّا أدّى إلى تثبيط الاستثمار والإنتاج. وفي مواجهة النموّ الاقتصادي المنخفض، كان من المتوقّع أن تتوقّف، عاجلاً أم آجلاً، التدفّقات الرأسمالية الخارجية التي ميّزت البلاد على مدى العقدين الماضيين. وعندما توقّفت بالفعل بعد العام 2018، انهارت ميزانيات الدولة والمصرف المركزي والقطاع المالي، مما أدّى إلى ركودٍ اقتصادي حادّ.

الهدف الثاني للورقة هو معاينة الأسباب الكامنة وراء حدّة الأزمة الحالية، إذ نادراً ما ينخفض الناتج المحلّي الإجمالي بهذا القدر - بين 40% و60% - في خلال أوقات السلم. ويُعدُّ تجمّد النظام المالي سبباً رئيسياً، بحيث لم يكن الإنتاج قادراً على التحوّل من الطلب المحلّي إلى التصدير، ولم تكن القيادة السياسية قادرة حتّى على إطلاق عجلة إصلاح النظام المالي الذي أعاقته مهمّة كبرى تمثّلت في توزيع الخسائر المُقدّرة بأضعاف الناتج المحلّي الإجمالي. وبدلاً من ذلك، هيمنت المصالح الشخصيّة الساعية إلى الريع والربح السهل والسريع على صناعة السياسات، بحيث نجا أصحاب البنوك حتّى اللحظة، وأنفق البنك المركزي معظم احتياطاته على تهريب الرساميل ودعم الواردات، فيما سُدِّد جزءٌ كبير من محفظة قروض القطاع الخاص بأسعار أرخص من سعر السوق، ممّا أفاد المقترضين على حساب المودعين.

يتمثّل الجانب الثالث من الورقة في تحويل تركيز السياسة من الاهتمام الحصري بالأزمة المصرفيّة إلى أزمتين أخريين تتطلّبان اهتماماً بالغاً وهما؛ الأزمة الاجتماعية الحادّة مع تزايد الفقر الذي بات يؤثِّر على 50% من السكّان، وانهيار الدولة مع انخفاض موازنتها عشرة أضعاف ما كانت عليه قبل الأزمة وعدم توفّر الخدمات الأساسيّة. وبما أنّ الركيزة الأساسيّة لبناء اقتصاد ديناميكي هو وجود قطاع مصرفي، فإنّ الركيزة الأساسيّة أيضاً لبناء بلدٍ ما هو وجود دولة فيه. في الواقع، إنّ كلٌّ من هذه الأزمات الثلاث تجعل حلّ الأخرى أكثر صعوبة. لكن التعافي سوف يكون مستحيلاً من دون إحراز تقدّم على الجبهات الثلاثة.

الجانب الرابع من الورقة يهتمّ بوضع النقاش المُتعلّق بكيفيّة حلّ الأزمة في سياق إعادة بناء نموذج اقتصادي مُستدام للمستقبل، لا سيّما بعد أن انتهى نموذج ما بعد الحرب الأهليّة. بالمبدأ، إنّ الانتعاش الاقتصادي الأوّلي السريع من شأنه أنّ يدفع الدولة والسوق والمجتمع للتحرّك معاً بعيداً من الظروف السيّئة الراهنة. وهو ما يتطلّب تعزيز الثقة بالمستقبل. في الواقع، لا يتطلّب النموّ المستقبلي استثمارات ضخمة من الدولة أو أنظمة وقوانين مُعقّدة، إذ يتمتّع لبنان بالعديد من المزايا النسبيّة مثل سكّانه الماهرين والمغتربين وسُمعته الدوليّة الجيّدة. فمع تعافي قطاعات التعليم والصحّة والسياحة، يمكن للاقتصاد أن يعمل - على الأقلّ - كاقتصاد للطبقات الوسطى يعيش على تحويلات المغتربين. ويمكن أن تظهر فرص إضافيّة من خلال الشركات الصغيرة والمتوسّطة في جميع أنحاء البلاد، لا سيّما في تصدير الخدمات. لا يمكن إحراز التحوّل المطلوب إلّا بإحراز تقدّم سياسي والتوصّل إلى تعاون أفضل بين الأحزاب السياسيّة المتنوّعة بطرقٍ تضمن تنفيذ سياسات متينة وفق الحاجة، وبقاء البنية التحتية عاملة (خصوصاً الإلكترونيّة)، وبقاء المساعدات الخارجية مُتاحة.

أخيراً، تقترح الورقة إعادة التفكير في دور المانحين. منذ العام 2018، دارت استراتيجية المانحين حول وعود بمنح دَفعة كبيرة في مقابل إصلاحات سياسيّة واقتصاديّة طموحة. لقد فشلت هذه الاستراتيجية حتّى الآن في إحراز أي تقدّم، لكنّنا نعتقد بوجوب استمرار الضغوط الخارجيّة، لأنّها الأمل بالإصلاح. مع ذلك، تكمن مخاطر «المشروطية الصارمة» بتعميق الآلام والجروح الاجتماعيّة والاقتصاديّة أكثر فأكثر، بحيث يصبح التعافي مستحيلاً في المستقبل. في السنوات الأخيرة، حلّت المساعدات الإنسانيّة محل الدعم التنموي، لكنّها لا تزال مُجزّأة وغير فعّالة. لذلك نقترح دمج هذه المساعدات ضمن سياسة دعمٍ مُنظّمة لتحسين الخدمات الأساسيّة والحدّ من تدهور إمكانات الدولة والحفاظ على مستقبلها.

لا تهدف هذه الورقة إلى تقديم قراءة تفصيليّة للاقتصاد السياسي. يعاني لبنان أكثر من أي مكانٍ آخر من «الهيمنة السياسية»، بمعنى أنّ تطوّر الوضع الاقتصادي مرهون بتطوّر العلاقات بين الأحزاب السياسيّة اللبنانيّة الرئيسة. بعد الحرب الأهليّة، انقسمت القوى السياسيّة اللبنانيّة بعمقٍ، ولا سيّما بعد انتهاء الوصاية السورية في العام 2005، كانعكاسٍ للتوتّرات المُتصاعدة بين السعوديّة وإيران.تتجذّر هذه الانقسامات في النظام المجتمعي الموروث. لقد كانت هناك العديد من الصدمات الخارجية التي فرضت مزيداً من الضغط على النظام، ولا سيّما حروب إسرائيل على لبنان، والحرب الأهلية السورية في العام 2011، وخفض المملكة العربيّة السعوديّة انخراطها في لبنان منذ العام 2016. فكيف يمكن التعامل بعقلانيّة اقتصادية في وضعٍ مماثل؟ بينما نحاول إيضاح بعض أسباب الاقتصاد السياسي التي دفعت باتجاه اتخاذ قرارات معيّنة في الماضي، نتبع نهجاً أكثر معياريّة عند مناقشة المستقبل. ومن خلال التركيز على كيفيّة تكبير حجم الكعكة الاقتصاديّة، نأمل أن تصبح التفاعلات السياسيّة أكثر تعاوناً لصالح الجميع.

من الواضح أن هذه الطريقة ليست مُقنعة لاستشراف المستقبل. لكنّنا نعتقد بأنها مُساهمة مفيدة لثلاثة أسباب. أولاً، إنّ مشكلات لبنان الاقتصاديّة مُعقّدة وغير مفهومة جيّداً، وبالتالي إنّ أحد الشروط الضروريّة لحلّها هو فهمها بشكل أفضل. ثانياً، بما أنّ السلوك غير التعاوني مُكلف، من الضروري التطلّع إلى حلول أكثر تعاونيّة - والدفاع عنها - حتى لو كان تنفيذها صعباً. ثالثاً، حتّى لو كانت الحلول الفضلى معدومة ضمن النظام القائم، إلّا أنّ معرفة المواطنين بوجود إمكانيّات لتحقيق نتائج اقتصاديّة أفضل قد تشّجعهم على مضاعفة الجهود لتغيير النظام نفسه.

وبينما نترك للآخرين شرح «منطق» النظام السياسي الذي يسمح ببروز الحالات غير التعاونية التي تنعكس خسائر على الجميع، يمكن لبعض الملاحظات أن تكون مفيدة لتوضيح افتراضات الاقتصاد السياسي التي يقوم عليها تحليلنا. بشكل عام، نعتقد أن السلوك غير التعاوني بين الفاعلين السياسيين الرئيسيين كان مُسيطراً، وأدّى إلى زيادة تكاليف التدخّلات التي قوّضت الحكم الرشيد. وضمن هذا الإطار الواسع، نجم التدهور الأخير في نظام تقاسم السلطة عن ثلاثة عوامل. يعود السبب الأول لارتفاع تكاليف التدخّلات إلى تشكيل ائتلاف كبير لتقاسم السلطة بعد العام 2008، ضمّ جميع الفاعلين السياسيين الرئيسيين (Salam 2021, Bahout 2015, Salloukh 2017)، ممّا ساعد على ضمان السلم الأهلي. وهذا ليس بالأمر السهل نظراً لارتفاع مستوى انعدام الأمن الذي اتسمت به المنطقة. لكن التحالفات الكبرى بين الأحزاب ذات الأجندات السياسيّة المختلفة والتحالفات الخارجيّة المُتضاربة في كثير من الأحيان صعّبت الوصول إلى اتفاق بشأن العديد من الأمور المهمّة، بما فيها السياسات الاقتصاديّة.عُرِّف التوازن السياسي المستقرّ من قبل دوغلاس نورث (2007) باعتباره يُلبي شرطين، وهما ائتلافاً حاكماً واسعاً يضمن الأمن من دون أن يكون كبره مُكلفاً للاقتصاد. من هذا المنظور، كان على لبنان أن يتخلّى عن الهدف الثاني منذ العام 2011 حتى يتمكّن من تحقيق الهدف الأول. ثانياً، كان القطاع الخاص أيضاً مُنقسماً وغير قادر على الدفع باتجاه سياسات عقلانيّة بصوتٍ موحّد. فالتوتّرات التاريخيّة بين المصرفيين والمستوردين من جهة، والصناعيين والمزارعين من جهة أخرى، انتهت بهيمنة المجموعة الأولى في «اقتصاد الحريري» في فترة ما بعد الحرب، واستمرّت هذه الهيمنة حتّى بعد الانهيار المالي في العام 2019، وبروز جمعيّات المودعين وأصحاب الرواتب والنقابات العمّالية وانضمامها إلى المجموعة الثانية. كما أدّى توسّع رأسماليّة المحاسيب الاحتكاريّة إلى تقسيم القطاع الخاص. ثالثاً، تفاقمت اختلالات النظام بسبب هيمنة تكتيكات الانتظار والتحيّن، إذ يحاول الفاعلون نقل تكلفة التكيّف إلى آخرين. ترتبط هذه الظاهرة بشكلٍ وثيق بالمستويات العالية من عدم اليقين الجيوسياسي في المنطقة، ممّا يشجّع الفاعلين على مراقبة الأوضاع الإقليميّة وترقّب الظروف الأفضل قبل التصرّف. يُعدُّ التفاوض على توزيع الخسائر أمراً صعباً نظراً لضخامة هذه الخسائر وانعدام اليقين بشأن بقاء القوى السياسيّة المختلفة.تستند هذه الحجة إلى أليسينا ودرازين (1989) حول سبب تأخّر الاستقرار. بشكل عام، ينتمي السلوك غير التعاوني للفرضيات الأخرى إلى نوع الانهيارات التي تؤدّي إلى الحرب. أنظر (Fearon 1995) للاطلاع على الحروب العقلانية. وهناك أنواع عدّة من «ألاعيب الانتظار» التي تجري الآن، إذ يحاول كلّ حزب سياسي أن يضمن وضعيّة أفضل له بالنسبة للأحزاب الأخرى.يُعد انتخاب الرئيس مثالاً على ذلك، فقد استغرق انتخاب الرئيس عون (2016-2022) أكثر من عامين، إذ تخضع هذه العملية للتفاوض على مجموعة من القضايا التي من شأنها أن تحدّد النظام الجديد. حالياً، وفقاً لتقرير إخباري، هناك مفاوضات جارية حول أسماء رئيس الحكومة المقبل، وحاكم المصرف المركزي، وبرنامج مُحتمل لصندوق النقد الدولي، وقانون الانتخابات، والإصلاحات اللامركزية المُحتملة، واستراتيجية دفاعية لدمج حزب الله في الجيش. إلى ذلك، يخوض النظام مناورات مع الشعب اللبناني، ويتسبّب بآلام جمّة، لكي تصبح التسوية الماليّة أكثر قبولاً. أيضاً تتفاوض الدولة مع «العالم» للحصول على مزيد من الدعم عبر استخدام ورقة اللاجئين.

قُسِّمت بقية الورقة على النحو التالي: يقدِّم القسم الثاني خلفيّة تاريخيّة لأزمة العام 2019، ويطرح السؤال التالي: كيف كان يمكن تجنّب الأزمة؟ ويستعرض القسم الثالث التنمية الاقتصادية ما بعد الأزمة ويتساءل عن سبب صعوبتها. ويقدّم القسم الرابع رؤية لمسارٍ جديد للنمو. بينما يستعرض القسم الخامس توصيات السياسة مع أخذ التغيّرات الأخيرة في الاعتبار. ويناقش القسم السادس استراتيجيّة المانحين، ثمّ نختم مع الخلاصات في القسم السابع.

2. العيوب البنيويّة والفرص الضائعة

ظهرت الأزمة اللبنانية نتيجة تلاقي عاملين: بلد «يعيش على حساب رأس المال» [تدفّق الأموال من الخارج] بشكل متزايد، واقتصاد غير قادر على النمو لأكثر من عقدٍ من الزمان. كان النموذج السياسي والاقتصادي والمالي في فترة ما بعد الحرب الأهلية مدفوعاً في البداية بحالة توسّعية، حيث أُعيد بناء البنية التحتية ببذخٍ من خلال الاقتراض على وعدٍ تحقيق ازدهار مستقبلي عندما يبدأ النمو. بمرور الوقت، ساهمت تدفّقات رأس المال الكبيرة الآتية إلى بلدٍ غير مستقرّ يتّسم بنظام سياسي هزيل في إفشال عمليّة بناء اقتصادٍ مُنتج، وأدّت بدلاً من ذلك إلى استهلاكٍ مُفرط، أي أكثر ممّا يمكن تحمّله بشكلٍ مُستدام. يجادل هذا القسم بأنه على عكس المُعتقدات الشائعة، لم يكن مصدر الأزمة الدولة المُسرِفة، بل ثمّة مشكلة أوسع تتمثّل بعيش المجتمع بأكمله بما يتجاوز إمكانيّاته لفترة طويلة جداً.

بلغ المتوسّط السنوي لتدفّقات رأس المال نحو 20% من الناتج المحلّي الإجمالي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وهو رقم قياسي عالمي، وقد بلغ ذروته في العام 2016 بنحو 17 مليار دولار. قضت سياسة الدولة بعد الحرب الأهلية بجذب التدفّقات المالية الكبيرة، وتمثّلت العقيدة الماليّة اللبنانيّة بتثبيت سعر صرف الليرة وتعديل أسعار الفائدة حسب الضرورة للحفاظ على التدفّقات الخارجيّة. في النهاية، بات تثبيت سعر الصرف مُكلفاً، وانهار الاقتصاد. لكن إبّان العمل بهذه السياسة، سمحت التدفّقات الماليّة الكبيرة للدولة بإدارة عجزٍ مالي، وسمحت للقطاع الخاص بأن يستهلك أكثر ممّا ينتج. لكن التدفّقات الضخمة لا تستمرّ إلّا في اقتصاد سريع النمو، ولفترة قصيرة. بينما في لبنان، لم يكن النمو الاقتصادي كبيراً في خلال تلك الفترة. فبعد أن اقترب نموّ الناتج المحلّي الإجمالي الحقيقي من 10% في الفترة الأولى من مرحلة إعادة الإعمار في خلال التسعينيات، انخفض في العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين، واقترب من الصفر بعد اندلاع الحرب السورية في العام 2011. لا شكّ أن سلسلة الصدمات السياسية والأمنية التي ضربت البلاد في خلال تلك الفترة أضعفت التوقّعات الاقتصادية، بما فيها العنف السياسي والاغتيالات والصراع مع إسرائيل وأزمة اللاجئين السوريين التي لا تزال مستمرّة (الشكل 1). بالإضافة إلى ذلك، لم يجد لبنان مُحرّكاً جديداً للنمو بعد طفرة إعادة الإعمار الأوّلية. كان السبب النهائي للانهيار الاقتصادي لعام 2019 هو تراكم المطلوبات من دون زيادة متناسبة في الأصول.

لبنان في خطر

يبرز عاملان لافتان عند النظر إلى تدفّقات رأس المال وهما: أولاً، استمرارها بالتدفّق لأكثر من عقدين على الرغم من تزايد السُحُب المُقلقة، وعدم ارتباط الإختلال المموّل بهذه التدفّقات بعجز القطاع العام وإنّما بإنفاق القطاع الخاص. يمكن تقسيم اختلال التوازن الخارجي، الذي يقاس بعجز الحساب الجاري، إلى مكوّن عام وآخر خاصّ وفق الحسابات القومية: عجز الحساب الجاري = (المدّخرات - الاستثمارات) الخاصة + عجز الحكومة.

على سبيل المثال، بلغ عجز الحساب الجاري 25.5% من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2018، وكان مُقسّماً بالتساوي بين عجز القطاع العام (11.1% من الناتج المحلي الإجمالي) وعجز القطاع الخاص (14.3% من الناتج المحلي الإجمالي). ويتكوّن عجز القطاع الخاص نفسه من الفارق بين معدّل استثمار متواضع (20.4%)، ومعدّل ادّخار خاص منخفض يساوي 6.1% من إجمالي الناتج المحلي.يشمل هذا أيضاً الواردات المُتجهة إلى سوريا ولكنها غير مدرجة في بيانات إعادة التصدير، وهي مشكلة متكرّرة في الإحصاءات اللبنانية نظراً لطول الحدود وسهولة اختراقها. يُبيّن (الشكل 2) تطوّر الحساب الجاري والعجز العام بمرور الوقت. حتى العام 2007 تقريباً، امتصّ العجز المالي معظم التدفّقات الوافدة. وبعد ذلك، بدأت تدفّقات رأس المال في تمويل العجز الخاص بشكل رئيسي. تجدر الإشارة أيضاً إلى أن خدمة الدَّيْن حوِّلت بشكل أساسي إلى القطاع الخاص المحلّي ممّا زاد من نفقاته بشكل أكبر.

لبنان في خطر

أمّا العامل الآخر فهو المدّة التي استمرّت فيها حالة عدم التوازن المالي. تمثّلت إحدى الركائز الأساسية الداعمة لهذه الحالة بـ«الضمانة السعودية»، التي ضعفت بمرور الوقت، وانتهت مع احتجاز رئيس الوزراء سعد الحريري قسرياً في السعودية في تشرين الثاني/نوفمبر 2017. وعلى المدى الأطول، استند الاستقرار النقدي إلى ثقة المودعين في البنوك، ومن ضمنهم قاعدة كبيرة من المغتربين، فضلاً عن عمليّات الإنقاذ العرضية من المانحين، والمصلحة الجماعية للمصارف اللبنانية لتجنّب زعزعة النظام.

الدَّيْن العام

من المهمّ فهم ديناميّات الدَّيْن العام كونه جزءاً أساسياً من المشكلة. كان الدَّيْن العام «مرتفعاً للغاية» منذ أوائل العقد الأوّل من القرن الحالي نتيجة الاستثمارات في البنية التحتيّة في عهد رفيق الحريري. ووصلت نسبة الدَّيْن العام من الناتج المحلّي الإجمالي إلى 200% عند اغتياله في شباط/فبراير 2005. في الواقع، قام الرهان السياسي لعام 1993 على دعم التعافي من خلال برنامج إعادة الإعمار الضخم المموَّل بالديون على أمل الاستفادة من سلامٍ إقليمي مُرتقب من شأنه أن يغمر لبنان بمكاسب سخيّة. إلّا أن هذا الرهان فشل بنهاية العام 1995 مع اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين. ومن حينها، بقيت الإستراتيجية الاقتصادية قائمة على القيادة التلقائية.

شهدت السنوات الخمس التالية معدّلات نمو سريعة في الناتج المحلّي الإجمالي.يعود ارتفاع معدّلات النمو في أواخر العقد الأول من القرن الحالي إلى التدفّق الكبير للودائع. حيث زاد المغتربون - الذين تأثّروا بسردية نجاة المصارف اللبنانية من الأزمة المالية العالمية - من تدفّقاتهم بشكلٍ كبير وكذلك استثماراتهم في العقارات. أدّت الموازانات التقشفيّة وارتفاع الإيرادات المالية إلى تحقيق فوائض ماليّة لسنوات عديدة،عموماً كانت النفقات المالية غير متوازنة، حيث ركّزت على دفع الفوائد على الديون، وزيادة عدد الموظّفين في القطاع العام، ودعم قطاع الطاقة، على حساب الاستثمار العام في رأس المال البشري والبنية التحتية. وتحسين نسبة الدَّيْن من الناتج المحلي الإجمالي، التي انخفضت إلى 130% في العام 2012. مع ذلك، تبقى هذه النسبة مُرتفعة جدّاً بحسب المعايير الدولية. يوضح (الشكل 3) ديناميّات معدّل الدَّيْن العام. بعد العام 2011، كان الارتفاع المستمرّ في نسبة الدَّيْن ووصولها إلى 170% من الناتج المحلّي الإجمالي في العام 2018، مدفوعاً بارتفاع أسعار الفائدة وانخفاض نموّ الناتج المحلّي الإجمالي. سُجِّل فائض أولي ضئيل في العام 2010 (1% من الناتج المحلّي الإجمالي في المتوسّط)، إلّا أن العجز الكلّي استمرّ في النمو - أي نما الدَّيْن داخلياً - بسبب ارتفاع تكلفة إعادة التمويل.

لبنان في خطر

الآثار على الاقتصاد الحقيقي

انطوى هذا الوضع - ارتفاع أسعار الفائدة وتقييم سعر الصرف بأعلى من قيمته - على آثار سلبيّة على القدرة التنافسيّة. ساهمت تدفّقات رأس المال ببروز ما يشبه المرض الهولندي، ممّا أدّى إلى ارتفاع سعر الصرف الحقيقي الفعلي. ومع ارتفاع الأجور الحقيقيّة وأسعار السلع غير القابلة للتداول، نما التضخّم التفاضلي بالنسبة للشركاء التجاريين. تُقدّر الزيادة الحقيقية في قيمة العملة في العقد 2018-2008 بين 30% (Mora 2020) و45% (IMF 2019).

لم يحصل أي تجديد في النموذج الاقتصادي الذي لطالما عمل كاقتصاد ريعي، إنّما من دون ريعٍ مُستدام. تصرّف المواطنون كما لو كانوا أغنياء - نما وهم الثروة نتيجة ارتفاع أسعار الأصول أي العملة الوطنيّة والأراضي والعقارات، ونمو الودائع المصرفيّة مدعوماً بأسعار الفائدة المُرتفعة، وقد وصلت نسبة الودائع إلى 200% من إجمالي الناتج المحلي، وهي مستويات لم تسجّل سوى في البلدان الغنيّة جدّاً. أدّى ذلك إلى زيادة الإنفاق المحلّي وخصوصاً الاستهلاك والواردات، وإلى انخفاض معدّلات الادخار المحلّي، بالتوازي مع معاناة الإنتاج المحلّي.

يمكن رؤية الانخفاض في الديناميكيّة الاقتصاديّة من خلال المؤشّرات الرئيسيّة. انخفض الاستثمار الخاص من 20% إلى 12% من الناتج المحلّي الإجمالي بين العامين 2010 و2019 (الشكل 4). فضلاً عن ذلك، وظِّفت معظم الاستثمارات في العقارات، وهو قطاع لا يُدرّ الكثير من العملات الأجنبيّة، على الرغم من أنه اجتذب بعض الاستثمار الأجنبي المباشر. سُجِّل أيضاً انخفاض ملموس في القيمة المضافة للصناعات التحويليّة، من 24% إلى 14% من الناتج المحلّي الإجمالي في خلال الفترة نفسها، كما انخفضت صادرات السلع والخدمات مع تراجع قدرتها على المنافسة. تفاقم انخفاض الصادرات بعد العام 2011 بسبب الحرب السورية، وإغلاق المعابر البرّية التي حالت دون الوصول إلى أسواق دول مجلس التعاون الخليجي. عانى القطاع الخاص - وهو قطاع تجاري أكثر منه مُنتِج - من الاحتكار المُتزايد الذي استفاد منه أصحاب النفوذ السياسي (Diwan and Haidar 2021). على عكس صيته الذائع، لم يكن الاقتصاد اللبناني يوماً سوقاً مزدهرة، ولم يمتلك قطاعاً خاصاً ديناميكياً في العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين، بل أصبحت بيئة الأعمال مُسيَّسة بشكل مُتزايد والانخراط بها مُكلف.

لبنان في خطر

فوائد تثبيت سعر الصرف وأكلافه

شكّلت الحاجة إلى جذب التدفّقات الماليّة من أجل تمويل العجز الكبير في الحساب الجاري تحدّياً مستمرّاً للحكومة، ممّا أدّى إلى نمو نشاط المصرف المركزي بشكل غير عادي. وتطوّر أهدافه من التركيز على تمويل إعادة الإعمار إلى تمويل العجز المالي، وصولاً إلى المساعدة في خدمة دينٍ عام كبير، وأخيراً منع الودائع من الهروب من البلاد. عُدَّ تثبيت سعر الصرف ضرورياً لهذه الاستراتيجيّة، وضمانة لخروج الأموال الأجنبية بقيمٍ متساوية. مع ذلك، كانت كلفة تثبيت سعر الصرف عالية بشكل مُتزايد. وفي النهاية، ولّد عدم اتساق العملة لدى مصرف لبنان، لا العجز المالي، الخسائر الوطنية الطائلة. وسوف يتطلّب فهم ذلك معاينة الترابط بين ميزانيات مصرف لبنان والبنوك والدولة.

موِّل عجز القطاع العام بالعملة المحلّية في خلال التسعينيات من قِبل القطاع المصرفي، ممّا زاد مع الوقت تعرّضه للمخاطر السياديّة. ومن أجل إغراء البنوك على شراء سندات الخزينة، ظهر عاملان في المشهد: أسعار الفائدة المرتفعة التي وصلت إلى 40% في أوائل التسعينيات وسعر الصرف الثابت. مع الوقت، بدأ لبنان أيضاً في مُراكمة الديون في الأسواق العالميّة بحجّة الاقتراض بأسعار فائدة أقل، فتغيّرت المخاطر على النظام المصرفي: من مخاطر تخفيض قيمة العملة بشكل أساسي والتي انعكست في ارتفاع علاوة المخاطر على الودائع بالليرة اللبنانية مقارنةً بودائع الدولار الأميركي، إلى مخاطر التخلّف عن السداد التي انعكست بارتفاع علاوة المخاطر على الودائع بالدولار إلى معدّلات أعلى من تلك المعمول بها في الأسواق العالميّة. ومع انخفاض التصنيف الائتماني للبنان في العقد الأول من القرن الحالي، أصبحت البنوك أكثر حذراً تجاه المخاطر السيادية، فيما زاد مصرف لبنان انكشافه على ديون الدولة. لكن من أجل المحافظة على سعر الصرف الثابت، كان بحاجة إلى الوصول إلى العملة الصعبة. جرى تفادي وقوع أزمة نظامية في مرات عدّة. تمّ تفادي حصول انهيار مالي في العامين 2001-2002 بفضل مؤتمريّ باريس 1 و2 اللذين ضخّا مساعدات ماليّة خارجية كبيرة لإنقاذ البلاد. وأيضاً في العام 2007 عندما ضخّ مؤتمر باريس الثالث أموالاً ترتفع الحاجة إليها، لا سيّما بعد الحرب الإسرائيلية في العام 2006. ومجدّداً تعهّدت دول وموسّسات دولية بتقديم المساعدة في العام 2018 من أجل تجنّب الانهيار الوشيك، ولكن، هذه المرّة، ربطت تحويل المساعدات بتنفيذ الإصلاحات.

لبنان في خطر

ولجذب العملات الأجنبيّة، سعى مصرف لبنان بشكل مُتزايد إلى الحصول على ودائع بالدولار من البنوك التجارية (الشكل 6). وبين عامي 2006 و2019، ارتفعت نسبة أصول المصارف المُستثمرة في الديون السيادية من 35% إلى 70%.في الوقت نفسه، خفِّضت سيولتهم إلى 7% فقط من الأصول، بانخفاض عن متوسّط يبلغ حوالي 90% في خلال فترة الحرب الأهلية (1975-1990)، مما سمح لهم بالنجاة على الرغم من الوضع السياسي غير المستقرّ للغاية. انطوت هذه الاستراتيجية على مخاطر بالنسبة للبنوك، مقارنة باستثمار ودائعها الدولاريّة في الخارج، خصوصاً أنها اعتمدت بشكلٍ كبير على ودائع غير المقيمين.منذ العام 2011، كان صافي المركز المالي للبنوك من حيث أصول غير المُقيمين سالباً؛ ووصل إلى -17 مليار دولار في العام 2017. ممّا يعني ارتفاع مخاطر تصفية أصول المصارف التجاريّة بأسعار منخفضة إذا سحب غير المقيمين ودائعهم. وقد كان ذلك مُربحاً للغاية. في الواقع، يُقدّر صندوق النقد الدولي (2019) أرباح البنوك بمتوسّط 4% من الناتج المحلّي الإجمالي على مدى عقدٍ من الزمان.يبلغ معدّل ربح القطاع المصرفي ضعف ما هو عليه في الولايات المتّحدة (2% الناتج المحلي الإجمالي). ووفق حسابات غاسبار (2019)، بلغت أرباح البنوك نحو 30 مليار دولار بين 2009-2019، مع توزيعات أرباح تُقدّر بنحو 7.8 مليار دولار في خلال هذه الفترة. وهي ما سمحت للبنوك بزيادة رأس مالها من 250 مليون دولار في العام 1993 إلى 18.9 مليار دولار في العام 2018.

لبنان في خطر

نمت الميزانية العمومية لمصرف لبنان بشكل هائل، ونما معها عدم تطابق خطير في العملة. ارتفعت الودائع المصرفية المودعة لدى مصرف لبنان، ومعظمها بالدولار، من 40% إلى نحو 80% من إجمالي المطلوبات بين عامي 2000 و2019. في الوقت نفسه، شهدت أصول مصرف لبنان تحولاً في مكوّناتها، بحيث ارتفعت نسبة الأصول المُستثمرة في الدَّيْن العام بالليرة اللبنانية من 5% إلى 32% بين عامي 2000 و2019، وانخفضت استثماراته في الأصول بالعملات الأجنبية من 62% إلى 22% في خلال الفترة نفسها،بحلول العام 2015، ضعفت تدفّقات رأس المال بشكل كبير، لدرجة أن مصرف لبنان بدأ في تقديم أسعار فائدة مرتفعة بموجب ما أطلق عليه الهندسات المالية. بمعنى آخر، للحصول على ما أمكنه من الدولارات المودعة لدى البنوك، قدّم مصرف لبنان أسعار فائدة حقيقية تصل إلى 17% على الودائع بالدولار لجذب نحو 13 مليار دولار أي ما يشكّل 25% من الناتج المحلي الإجمالي (صندوق النقد الدولي 2016). بحيث أدّت هذه الاستراتيجية إلى خسارة الاحتياطيات (الشكل 7). بسبب الفوائد المتدنّية على إيداعات مصرف لبنان في الخارج بالمقارنة مع الفوائد التي يمنحها للبنوك المحلّية على توظيف موجوداتها لديه، وأيضاً بسبب التدخّل العرضي في سوق القطع الأجنبي من أجل الحفاظ على تثبيت العملة في مواجهة ضعف التدفقات الخارجية، كان مصرف لبنان يخسر المزيد من الاحتياطيات.

بنتيجة هذه الخيارات المالية، أصبحت الميزانية العمومية لمصرف لبنان مُعرّضة بشدّة لمخاطر أسعار الصرف. وفي النهاية، نشأت معظم خسائره من هذا الاختلال. فعلى عكس البلدان الأخرى، التي تنهي الدفاع عن تثبيت سعر الصرف عند نفاد احتياطيات البنك المركزي، استمرّ مصرف لبنان في الدفاع عن تثبيت سعر الصرف من خلال استخدام أموال البنوك التجارية. في الواقع أصبح صافي احتياطيات مصرف لبنان سلبياً منذ العام 2016 (الشكل 7)، ممّا يعني أنه بدأ من حينها باستخدام ودائع البنوك لدعم سعر الصرف، ونما عجزه مع الوقت ليصل إلى 60 مليار دولار في العام 2022.

لبنان في خطر

متى ظهرت المشكلة؟

أفرز الوضع المالي إشارات تحذيرية في مناسبات عدّة: في نهاية التسعينيات، وفي العام 2005، وبحلول أوائل العام 2010. أصبحت البنية المالية غير مستقرّة في انعطافات عدّة، وباتت عمليّات الإنقاذ الخارجي بمثابة طوق النجاة. أخمدت هذه الأحداث المُتكرّرة من العيش على حافة الهاوية، الشعور بضرورة التغيير، والذي كان ينبغي أن يتقد بعد العام 2016. بحلول ذلك الوقت، كانت الاختلالات الخارجيّة تتطلّب تدفّقات كبيرة من العملة الصعبة لمنع نضوب المزيد من الاحتياطي، ولكن استمرّ مسار الدَّيْن العام غير مُستدام، وتعرّض القطاع المالي للمزيد من المخاطر السيادية، وتراجع صافي احتياطيات مصرف لبنان وتحوّلها إلى وضعية سلبيّة. وعلى عكس الفترات الماضية، لم يعد الإنقاذ الخارجي حلاً واقعياً أو متاحاً.

لم تكن هذه التطوّرات مخفيّة. فقد عكست التصنيفات الائتمانية للبلاد حقيقة المخاطر العالية والمتنامية؛ صنِّف لبنان على أنه معرّض للمخاطر منذ العام 1997، وخُفِّض تصنيفه الائتماني بشكل مستمرّ من حينها، باستثناء فترتين وجيزتين: بعد مؤتمر باريس 3 في العام 2007، وفي أعقاب ضخّ رساميل من قبل المجتمع الدولي في العام 2009). على سبيل المثال، منح ستاندرد آند بورز تصنيف «معرّض للمخاطر» للبنان منذ بدء بالاستدانة في أوائل التسعينيات، وانتقل إلى «مخاطر ائتمانية عالية» في أيلول/سبتمبر 2000، ومن ثمّ إلى «مخاطر ائتمانية عالية للغاية» في كانون الثاني/يناير 2008. فضلاً عن ذلك، امتنع المستثمرون الدوليون عن الاكتتاب بإصدارات السندات الدولية اللبنانية اعتباراً من منتصف العام 2017، بحيث أصبح الاكتتاب فيها محلّياً فقط.

حذّر عدد من الاقتصاديين والصحافيين الاقتصاديين والنقّاد من أزمة وشيكة في القطاع المالي منذ العام 2016. عادةً، تميل تقارير صندوق النقد الدولي إلى اعتماد لغة دبلوماسية لأنها تخضع للمراجعة من قبل السلطات المحلّية. ولكن منذ العام 2018، دقّت تقارير المادة الرابعة ناقوس الخطر. وجاء التحذير الأوضح عن خروج الوضع المالي عن السيطرة في آب/أغسطس 2017 عبر الاقتصادي توفيق غاسبار، الذي خلص إلى أنّ: «لبنان يتجه نحو أزمة مالية خطيرة قد تتخذ شكل انخفاض قيمة العملة وزعزعة استقرار القطاع المصرفي. وتشمل تداعيات الأزمة المالية حدوث انخفاض حادّ في مداخيل وثروة معظم الأسر، وزيادة حادّة في حالات الإفلاس والبطالة».أوضحت مذكرة مرفقة بإصدار سندات اليوروبوند في العام 2017 أن مالية البنوك والقطاع العام مترابطة بشكل وثيق، وبالتالي، ستؤدّي أي مشاكل تواجه القطاع المصرفي إلى تعثر محتمل. تنصّ مذكرة آذار/مارس 2017 على أن قدرة المصارف اللبنانية على الاستمرار في شراء سندات اليوروبوند مرتبطة بالنمو المستمرّ في ودائعها. في حين تباطأت وتيرة نمو الودائع في السنوات الأخيرة، ولا سيما بين عامي 2013 و2015، فيما يعزى نموها في العام 2016 إلى الهندسة المالية التي أجراها مصرف لبنان. ما يعني أن خروج الودائع أو تباطؤ معدل نموها يؤثر سلباً على قدرة البنوك على شراء السندات الحكومية، ممّا يحدّ بدوره من القدرة الحكومة على إعادة تمويل ديونها.

هل كان يجب التخلّي عن تثبيت سعر الصرف في وقت مُبكر؟

دخل نظام تثبيت سعر الصرف حيّز التنفيذ في العام 2017 على الرغم من اعتماد نظام سعر الصرف العائم قانوناً. وبمرور الوقت، أصبح الالتزام بسياسة التثبيت بمثابة عقيدة للدولة، وبات يُنظَر إلى تخفيض قيمة العملة كخيانة وطنية. كان يُعتقد في وقتٍ سابق أن تثبيت سعر الصرف أساسي لإعادة تمويل الدَّيْن العام، ولاحقاً كشرطٍ لاستقرار القطاع المالي، بحيث بات سعر الصرف والدَّيْن العام وربحيّة البنوك مُتشابكين. طغى خوف من أن يؤدّي تخفيض قيمة العملة إلى هروب الرساميل، وبالتالي إلى تخلّف الحكومة عن سداد ديونها، ممّا يؤدّي إلى إفلاس النظام المصرفي. وبرزت مشكلة إضافية تمثّلت باحتمال عجز المقترضين من القطاع الخاص على سداد قروضهم بعد تخفيض مفترض في قيمة العملة، إمّا لأن قروضهم بالدولار الأميركي أو بسبب الضائقة المالية.

مع ذلك، كان من المُمكن أن يسمح التخفيض المُبكر والمُدار لقيمة العملة بهبوطٍ سلس، وأن يؤدّي إلى تقليص العجز الخارجي عبر خفض الواردات وتحسين القدرة التنافسية وتوسيع الصادرات. بالطبع الهدف ليس بسيطاً، ولكن كان ينبغي حصوله بعد الحرب الأهلية كأولوية وطنية لبناء نموذج اقتصادي مُستدام. وبالفعل كانت تلك الضرورة جزءاً من النقاش السياسي منذ التسعينيات. أيضاً كان من الممكن لضوابط رأس المالية أن تحقّق الاستقرار إزاء التداعيات المالية المُترتبة عن تخفيض قيمة العملة لو نفّذت في وقت مبكر. في الواقع، كان الانخفاض الكبير في قيمة العملة في نهاية الحرب الأهلية، بين عامي 1989-1990، مقدّمة لنموّ اقتصادي لاحقٍ، وبالكاد ألحق إضراراً بالنظام المالي. لكن جرى تفويت فرصٍ عديدة لتخفيض قيمة العملة وإعادة هيكلة الديون. لقد شهد لبنان لحظتين سياسيتين كانت فيهما القوى المؤيّدة للصناعة في موقع القيادة: أولاً، في خلال حكومة الرئيس سليم الحصّ وتولّي جورج قرم وزارة المالية بين عامي 1998 و2000، وفي خلال حكومة الرئيس عمر كرامي وتولّي الياس سابا وزارة المالية بين عامي 2004 و2005، إلّا أن المعارضة والأحداث السياسيّة الخارجية حالت دون إحداث أي تغيير. في هذه اللحظات وغيرها، وخصوصاً بعد العام 2011، لم يكن إطار الحوكمة قوياً لتحمّل عدم الاستقرار قصير المدى المُرتبط بالانتقال نحو مسار نموّ مختلف. أصبحت آثار تخفيض قيمة العملة أكثر تكلفة، لا سيّما مع تنامي الاختلال في الميزانية العمومية لمصرف لبنان، وتحديداً بعد العام 2016.

3. أزمة كارثية

منذ أواخر العام 2019، سُجِّل تضخّم هائل في الأسعار وانخفاض كبير في قيمة العملة. انهار الاقتصاد، وانخفض مستوى المعيشة بشكلٍ كبير، وأشارت التقديرات إلى أن نسبة الفقر ارتفعت لتشمل أكثر من 50% من السكّان.تختلف الإحصاءات بين مصدرٍ وآخر. يذكر المقرّر الخاص للأمم المتحدة المعني بالفقر وحقوق الإنسان أن الفقر مُتعدّد الأبعاد تضاعف تقريباً من 42% إلى 82% بين عامي 2019 و2021، ويقدّر الفقر المدقع بنصف هذا العدد. ومثلما أفضى فشل الإدارة والحوكمة في تجنّب أزمة ماليّة، كذلك أدّى إلى عجزٍ عن صياغة خطّة لتأمين الاستقرار مع اندلاع الأزمة. يبحث هذا القسم في أسباب عمق هذا الانهيار.

توقيت الانهيار ومداه

من المفيد النظر إلى تطوّر حساب رأس المال لفهم توقيت الأزمة (الجدول 1). تباطأت تدفّقات رأس المال من 17.2 مليار دولار في العام 2016 إلى 12 مليار دولار في العام 2017، ثمّ انهارت في العام 2018، أي قبل عامٍ واحدٍ من اندلاع الأزمة، ووصلت إلى نحو 3.2 مليار دولار. وفي خلال الفترة المُمتدّة بين عامي 2017 و2018، تُركت مهمّة تمويل معظم عجز الحساب الجاري لتدفّقات رأس المال غير المُسجّلة، التي جذبتها على الأرجح معدّلات الفائدة المُرتفعة التي يقدّمها مصرف لبنان والبنوك الأخرى. لكن معدّلات الفائدة المرتفعة تنبئ أيضاً بمشاكل مُقبلة. لم يكن التوقّف المفاجئ في تدفّقات رأس المال ناتجاً عن محاولة البنوك سحب ودائعها من مصرف لبنان، كونها تعلم أن إجراءً مماثلاً سوف يقودها إلى الانهيار. عملياً، بدأت الأزمة بسبب فقدان المودعين الثقة في النظام المصرفي. يوضح (الجدول 2)، حول بنية الودائع المصرفيّة، أنّ السحوبات تركّزت بشكل رئيسي بين كبار المودعين الذين سحبوا أكثر من 10 مليارات دولار في العام 2019.

لبنان في خطر

يعاني لبنان منذ ذلك الحين من أزمة ثلاثيّة المحاور. أولاً، أدّى التوقف المفاجئ لتدفّق رؤوس الأموال إلى أزمة في ميزان المدفوعات، وبالتالي إلى انهيار الواردات وانخفاضٍ كبير ومُتسارعٍ في قيمة الليرة اللبنانية. ثانياً، شهدت الأزمة الماليّة على تخلّف الحكومة عن سداد ديونها وانهيار إيراداتها ونفقاتها وقدرتها على توفير الخدمات الأساسيّة. أخيراً، أدّت أزمة النظام المصرفي إلى تعثّر القطاع وفقدانه السيولة والملاءة على حدٍ سواء. فقد المواطنون إمكانيّة الوصول إلى ثرواتهم التي حقّقوها بشقّ الأنفس، وفقد القطاع الخاص إمكانيّة الوصول إلى التمويل والسيولة. تفاقمت هذه الأوضاع بسبب جائحة كورونا وانفجار مرفأ بيروت في العام 2020 واستمرار انعدام الاستقرار السياسي.

لبنان في خطر

بالنتيجة، تقلّص حجم الاقتصاد بوتيرة سريعة، وباتت هذه الأزمة الاقتصاديّة الأسوأ بالفعل في تاريخ البلاد منذ الحرب العالمية الأولى. وفي بيئة مُماثلة تصبح عملية تقدير العناصر الرئيسية للحسابات القومية أصعب. لذلك، نعتمد في هذه الورقة على تقديرات البنك الدولي الذي شارك في تحليل الجوانب المُتعدّدة للأزمة عبر إصدار تقارير مُنتظمة تضع الإصبع على الجرح (البنك الدولي 2020، 2021، 2022). يعتمد البنك الدولي في تقديراته على مجموعة من المؤشّرات الحقيقية مثل تسليمات الأسمنت وحركة المرفأ، وكذلك على التقارير الحكومية والرسمية من وزارة المالية ومصرف لبنان. مع ذلك، يجب التعامل مع هذه الأرقام، وخصوصاً تقديرات عامي 2021 و2022 بحذرٍ بالغ، لأن التقديرات الأوّلية والمُبكرة غالباً ما تخضع لمراجعات ثانية.

يعود جزء من الصعوبة إلى التضخّم المُفرط الذي يصعّب عملية حساب القيم الحقيقية: على الأغلب جرى تقدير التضخّم بأقل من معدّله الفعلي نظراً لتأخّر التقديرات بالنسبة إلى تسارع وتيرة ارتفاعه، وهذا مّا أدّى إلى المبالغة في تقدير القيم الحقيقية. فضلاً عن ذلك، نما الاقتصاد النقدي كثيراً، إلّا أن البيانات الرسمية لا تعكس بعض عناصره بدقة. أيضاً، تجاوز الانخفاض الكبير في قيمة الليرة حدّ التوقّعات، ومن المرجّح أن يؤدّي قياس المجاميع الاقتصادية بالدولار الحقيقي (وفق سعر صرف السوق) إلى المبالغة في تقدير الانخفاض. بحسب الجدول 3، ارتفعت الأسعار بنحو 10.4 مرة بين عامي 2018 و2022، وهو ما يقارب ارتفاع المعروض النقدي في خلال تلك الفترة (10.2 مرة). مع ذلك، انخفض متوسّط سعر الصرف أكثر، أي بنحو 17.7 مرّة عند قياسه في منتصف العام، وبنحو 29.8 مرّة في نهاية العام. وبسبب انخفاض سعر الصرف الحقيقي القائم على السوق بنحو النصف، برز تباين كبير بين التغيّرات في «القيم الحقيقية» والقيم بالدولار.

لإيضاح سرعة تغيّر بنية الاقتصاد في بيئة مماثلة، يُقدَّم تطوّر المتغيّرات الكلّية الرئيسية بثلاث طرقٍ مختلفة: (1) كحصّة من الناتج المحلي الإجمالي السنوي؛ (2) كنسبة من مستواها في العام 2018 محسوبة بالقيمة الحقيقية (أي مع أخذ التضخّم في الاعتبار)؛ (3) كنسبة من مستواها في العام 2018 محسوبة وفق سعر الصرف في السوق (مراعاة لتأثير الانخفاض الحقيقي لقيمة العملة). يعرض (الجدول 3) اتجاه الناتج المحلّي الإجمالي بين عامي 2018 و2022، وتشير التقديرات إلى تقلّصه بنسبة تتراوح بين 36% و62% منذ العام 2018 (بالقيمة الحقيقية، ووفق سعر صرف الدولار في السوق على التوالي)، كما سجّل انخفاضاً إضافياً بنسبة 6.5% في العام 2022 (بالقيمة الحقيقية، وأكثر من ذلك بالدولار) نظراً لعدم استقراره حتّى الآن. يُعدُّ هذا الانخفاض كبيراً للغاية، ولا يمكن مقارنته إلّا بما لوحظ في بلدان أخرى في خلال زمن الحرب. قضى الانهيار الاقتصادي على المداخيل والثروات بشكل كارثي، وباتت نسبة كبيرة من السكّان غير قادرة على تحمّل تكاليف المواد الأساسية، فيما جرى تبديد الطبقات الوسطى. في خلال الفترة المُمتدّة بين عامي 2020 و2021، دعم مصرف لبنان السلع الغذائية والوقود والأدوية، قبل رفع الدعم في نهاية العام 2021. في الحصيلة، أغلقت عشرات الشركات، وتسرّب آلاف الأطفال من المدارس. ونتيجة فقدان الأمل، هاجرت موجات من اللبنانيين تتضمّن الكوادر الفنية والشباب.

لبنان في خطر

لماذا كانت الأزمة عميقة للغاية؟

نضجت الأزمة على نارٍ هادئة، ثمّ انفجرت فجأة، وتبيّن لاحقاً أنها دائمة وعميقة. في الواقع، الركود الحالي ليس عابراً، والنموذج القديم انتهى: لقد تلوّثت سمعة المصارف اللبنانية، وهناك حاجة للبحث عن وسائل أخرى للحصول على العملات الأجنبية. في عوالم أخرى، يتركّز البحث على نموذج تنموي جديد. يعود السبب الرئيسي لعمق الأزمة إلى كون غالبية الديون المُتراكمة - من القطاع المصرفي ومصرف لبنان والحكومة - داخلية. ساد اعتقاد في بداية الأزمة حول سهولة حلّ مشكلة الديون كونها محمولة من مقيمين، ولكن تبيّن لاحقاً خطأ هذا الاعتقاد (Diwan 2020). لو أن الجزء الأكبر من الدَّيْن كان محمولاً من أجانب، ربّما لصار إلى تحميل أعباء أكبر إلى جهات خارجية. لكن العملية السياسية تجمّدت أمام تحدّي توزيع الخسائر الهائلة محلياً. فضلاً عن ذلك، برزت طبقة إضافية من الصعوبات مُتعلقة بأزمة الديون، وتحوّلت إلى أزمة مصرفية.من خلال دراسة أزمات الديون الخارجية المختلفة، بلغ متوسط تأثير أعباء الديون، المقاس من حيث الناتج المفقود، بنحو 24% من الناتج المحلي الإجمالي عبر التاريخ وفق حسابات راينهارت وروغوف. وبالمثل، عند النظر في الأزمات المصرفية الأخيرة، وجد لافينز وفالنسيا أنّ متوسّط خسارة يصل إلى 34% من الناتج المحلي الإجمالي. تجدر الإشارة إلى أن حالات الأزمات المزدوجة أو الثلاثية، وإن كانت نادرة الحدوث، تؤدّي إلى خسائر اقتصادية أكبر. ارتبط الانهيار في الإنتاج بشكلٍ وثيق بفقدان الوصول إلى الائتمان. وأخيراً، أدّى فقدان الثقة في صنع السياسات إلى هروب الرساميل وبالتالي تدهور سعر الصرف.

يتمثّل التأثير المباشر للتوقّف المفاجئ بانخفاض الإنتاج المحلّي بداية. في الواقع، يؤدّي تراجع تدفّقات رأس المال إلى إفقار الناس والشركات والدولة، وبالتالي انخفاض الطلب المحلّي. تقتضي الحالة المثلى بتحويل الشركات إنتاجها نحو الصادرات لحماية أعمالها، لكن هذا الانتقال يستغرق وقتاً في أحسن الأحوال، ويتطلّب خطوط اعتماد لتكييف الإنتاج مع متطلّبات أسواق التصدير، وكذلك يحتاج إلى مناخ أعمال جيّد لتشجيع الاستثمارات، بالإضافة إلى إتاحة الوصول إلى البنية التحتية للإنتاج والتصدير، مثل الطاقة والخدمات اللوجستية. في الحالة اللبنانية، كانت جميع هذه المدخلات الأساسية مفقودة، ودفعت السياسات المُضلّلة نحو الأسوأ. عادة هناك ثلاث آليّات رئيسية لبدء الانتعاش: تخفيض سعر الصرف الذي يجعل الصادرات أكثر جاذبية، سوق ائتمان فعّالة تسمح للشركات بتعديل بنية إنتاجها، وسياسات مالية ونقدية لمواجهة التقلّبات الدورية مدعومة بتمويل أجنبي يخفّف الآلام ويحيي الاستقرار الكلّي. على الرغم من التخفيض الهائل لقيمة العملة، فإن الدمار الشامل الذي لحق بالمؤسّسات المصرفية والمالية والنقدية أدّى إلى تعميق الأزمة. وبدلاً من النهوض، انخفضت صادرات السلع والخدمات إلى النصف في العام 2020 (الجدول 4). عند قياسه بالقيمة الحقيقيّة، يتبيّن أن الإنتاج انخفض في العام 2020 بشكل رئيسي (بأكثر من 21%)، أي عندما انخفض الطلب المحلّي بشكلٍ حادّ وفقدت الشركات إمكانية الحصول على الائتمان. في العام 2021، رُفِع الدعم وتسبّب بارتفاع أسعار الطاقة، وانخفض الطلب أكثر وأكثر مع انهيار الأجور الحقيقية. أدّت الصدمات الإضافية المُختلفة - تفشّي جائحة كوفيد-19، وانفجار ميناء بيروت، وارتفاع أسعار المواد الغذائية والوقود بسبب حرب أوكرانيا - إلى تفاقم الوضع سوءاً.

لبنان في خطر

نتج عن هذه التطوّرات تفاقم انهيار الطلب المحلّي (الشكل 8). فقدت الأسر عملها وإمكانية الوصول إلى مدّخراتها، وتواجه حالياً ارتفاعاً في الأسعار وانخفاضاً في الأجور الحقيقية. فقدت الدولة إيراداتها وباتت عاجزة عن الاقتراض، أمّا الشركات فتعمل في بيئة مُتقلّبة يسودها انعدام اليقين. لذلك من غير المُستغرب أن ينهار الطلب على الاستهلاك والاستثمار وكذلك القدرة على تأمين الخدمات العامّة. وفقاً لبيانات البنك الدولي، شكّلت النفقات الوطنية بالقيمة الحقيقية في العام 2022 نحو 62% من نفقات العام 2018، فيما بلغت نسبة الاستثمار نحو 24%، ونسبة الإنفاق الحكومي 16% فقط (الجدول 5، العمود الأخير على اليمين). أيضاً، انخفضت القيمة الحقيقية للاستهلاك الخاص بشكل حادّ في العام 2022، واستقرت عند 82% من مستواها في العام 2018. أدّت السياسات غير الملائمة إلى انخفاض الطلب بشكلٍ كبير من خلال دفع عبء التكيّف إلى الطبقات الوسطى. بحيث تسبّب التضخّم بتآكل المداخيل الحقيقية ومعاشات التقاعد، وأدّى الاستيلاء التدريجي على الودائع إلى تآكل المدّخرات. وفي حين فقدت الودائع بالليرة قيمتها بالكامل، خضعت الودائع بالدولار لعمليّة قصّ نتيجة القيود التي فرضتها المصارف على السحوبات التي تمّت بالليرة وبسعر صرف مبالغ فيه. تم إدراك هذا الخطر في وقت مُبكر جداً من الأزمة. أنظر: “The trouble with the creeping expropriation of depositors,” Annahar, January 24, 2020.

لبنان في خطر

لبنان في خطر

أدّى نزوح الشباب والكوادر الفنية إلى نزيف رأس المال البشري في البلاد. وينطبق الأمر نفسه على رأس المال المالي الذي وجد طرقاً للخروج أيضاً. لقد هرّب الأثرياء، الذين يملكون النفوذ والعلاقات وإمكانيات الوصول إلى احتياطيّات مصرف لبنان، ودائعهم إلى الخارج لتجنّب الهيركات، ممّا خلق ضغوطاً على الواردات، وأدّى أيضاً إلى انخفاض مُفرط في سعر الصرف الحقيقي. تكشف الحسابات الخارجية (الجدول 1) عن ضخامة هروب الرساميل. وهذه سمة أخرى للأزمة. ومن المفارقات المُسجّلة، ضخّ مصرف لبنان في العام 2020 دولارات في الاقتصاد أكثر ممّا كان يتدفق إليه طواعية قبل الأزمة، ومن ضمن 13.2 مليار دولار من الاحتياطيات الرسمية التي أنفقها في العام 2020، هناك نحو 9 مليارات دولار في بنوك خارجية أو مخبأة في المنازل، أي مُسجلة في ميزان المدفوعات تحت بند «الخطأ والسهو».

حجم الخسائر

تبرز آثار الميزانية العمومية في جميع الاقتصادات، ولكنها عادة تكون ثانوية: ينفق المستهلكون أقل عندما يشعرون بأنّهم أكثر فقراً، ويمكن للشركات أن تقترض أقل عندما تنخفض قيمة ممتلكاتها العقارية، وتضطر الدول إلى دفع فوائد أعلى عندما تزيد حاجتها إلى الاقتراض بسبب ارتفاع المخاطر السياديّة. وتؤدّي هذه الآثار إلى استفحال الدورات الاقتصادية. على سبيل المثال، يؤدّي الركود إلى انخفاض الطلب على العقارات وأسعارها، وبالتالي إلى انخفاض قيمة الضمانات العقارية، ومن ثمّ تخفيض الإقراض (Bernanke et al 1991). لكن في الحالة اللبنانيّة، كانت الاختلالات في الميزانيات العمومية كبيرة جدّاً لدرجة أنها أصبحت ذات أهمّية أساسية، إذ لا يستطيع القطاع العام الاقتراض ويحتاج إلى طباعة النقود لتمويل عجزه، ولا يمكن للمصرف المركزي الانخراط في الممارسات العادية للسياسة النقدية، وكذلك لا تستطيع البنوك جذب الودائع ومنح القروض، فيما تتعامل الشركات والأسر بالنقود السائلة. لجعل المؤسّسات المالية تعمل مجدّداً، يجب تنظيف ميزانيّاتها العمومية عبر محو المطلوبات التي لا توجد في مقابلها سيولة أو تمويل كافيين، وهذا ما يتطلّب إجراء تخفيضات مؤلمة على الدَّيْن العام وودائع البنوك لدى مصرف لبنان، وكذلك إخضاع الودائع المصرفية لهيركات. تنطوي عملية توزيع الخسائر على تداعيات سياسية واقتصادية كبيرة، وهذه المهمّة مستحيلة في ظلّ غياب القيادة.

كم بلغ حجم الخسائر الإجمالية للنظام المالي بحلول منتصف العام 2023؟ بعد الأزمة والتضخّم المُفرط، انخفضت قيمة جميع الأصول والمطلوبات بالعملة المحلّية، وبالتالي، إن النظر إلى الميزانيات العمومية المقوّمة بالعملات الأجنبية يعطي وصفاً كافياً للواقع. في ورقة حديثة، قدّم جيرار زوين (2023) تقديراً للميزانية العمومية الموحّدة لـ Lebanon inc، أي الميزانية العمومية المُجمّعة للدولة ومصرف لبنان والنظام المصرفي. من ناحية الأصول، هناك الذهب، واحتياطيات العملات الأجنبية التي يحتفظ بها مصرف لبنان، ومحفظة المصارف من القروض المُتبقية للقطاع الخاص، بالإضافة إلى ما تحمله من عملات أجنبية، وأصول الدولة. هناك جدل كبير حول قيمة الأصول العامة لذلك لم يقدّر زوين قيمتها. إلى ذلك، جرى افتراض أن الدَّيْن العام انخفض إلى 20 مليار دولار. أمّا من ناحية المطلوبات، فهناك الودائع، والقروض الأخرى للنظام المصرفي، والدَّيْن الحكومي الخارجي (الذي نُرجّح تخفيضه بنسبة 80%). في الحصيلة، توصّلنا إلى تقدير للخسارة الإجمالية بنحو 50 مليار دولار كحدّ أدنى (الجدول 7). لكن الخسائر تزايدت بمرور الوقت على الرغم من ليلرة الودائع، التي تعرّضت لانتقادات كثيرة نتيجة تقليل الخسائر عبر تحميلها إلى صغار المودعين. حدّدت البنوك المبلغ الذي يمكن سحبه بأسعار تقلّ عن سعر الدولار في السوق، مما تسبّب في خسائر رأسمالية تحمّلها المودعون تصل إلى 80%. مع ذلك، تشير التقديرات التقريبية سنداً إلى المعلومات المُتاحة إلى أن صغار المودعين سحبوا 3 مليارات دولار من القطاع المصرفي كحدّ أقصى.يشير الجدول 2 إلى أن الحسابات التي تقل عن 1.5 مليون دولار ارتفعت بنحو 4 مليارات دولار بين عامي 2019 و2021. وقد تم دفع أقل قدر من الفائدة في خلال هذه الفترة. تشير مصادر مصرفية إلى أن نحو 3 مليارات دولار من الأموال الجديدة صبّت في حسابات صغيرة. وأنّ الجزء الأكبر من التخفيض البالغ 3.8 مليار دولار في شريحة الودائع التي تتراوح بين 1.5 مليون و3 ملايين دولار قد تكون انتقلت إلى تلك المجموعة. حدث النشاط الأكبر في مكامن أخرى. في الواقع، جرى تسديد نحو 30 مليار دولار من القروض المصرفية بأسعار أقل بالدولار، واستُخدم ما لا يقل عن 30 مليار دولار من احتياطيات البنك المركزي لدعم الواردات أو تهريب رؤوس المال.من الصعب التأكد من حجم وتكوين خسائر مصرف لبنان في غياب تدقيق تفصيلي. تقدّر خطة دياب 2020، خسائر مصرف لبنان بنحو 50 مليار دولار، منها حوالي 20 مليار دولار على حساب الدين العام، و20 مليار دولار في تكلفة تمويل العقود الآجلة (التي صُنفت كأصول الأخرى في ميزانية مصرف لبنان)، و10 مليار دولار في خسائر العملات الأجنبية. تشير خطّة ميقاتي لعام 2022 إلى أرقام مختلفة نتيجة تنامي الخسائر بمرور الوقت؛ حيث تقدّر الخسائر الإجمالية بـ 60 مليار دولار، علماً أن 50 مليار دولار منها هي خسائر العملات الأجنبية. ساهم استمرار خروج الأموال من دون قيد في تقليل المبلغ الذي سوف يتمكّن المودعون في النهاية من استرداده من حساباتهم المصرفية المُجمّدة.

هل وصل الاقتصاد إلى القعر؟

لم تبدأ إعادة بناء الاقتصاد بعد على الرغم من مرور ثلاث سنوات على الأزمة. ومع ذلك، حصل الجزء الأكبر من التعديل المطلوب بسبب النقص في العملات الأجنبية المتوفّرة. نجحت الدولة بموازنة حساباتها الخارجية والداخلية على نطاقٍ واسع، وإن بمستوى أقل بكثير من الدخل والنفقات. إلى ذلك، من المبالغة القول بعدم وجود قطاع مصرفي عامل، ولكن ما تبقى من اقتصاد يعمل إلى حدّ كبير بالنقد والدولار من خارج هذا النظام. أعيد تأسيس العلاقات المصرفية، إنّما بأموال «جديدة» مفصولة عن حسابات «الدولارات اللبنانية» بجدران سميكة أنشأتها البنوك وتديرها من دون أي سند قانوني.

على الجانب الخارجي، بلغ عجز الحساب الجاري نحو 3 مليارات دولار في العام 2020، ولكن يُعتقد أنه نما مُجدّداً مع ارتفاع تدفّقات المانحين. ارتفع إجمالي التحويلات منذ العام 2018 إلى ما لا يقلّ عن 6 مليارات دولار. وهذا يعني أن حصّة كبيرة من الاستهلاك المحلّي، ربّما أكثر من 50%، تموَّل من التدفّقات الخارجية. وعلى الرغم من استمرار مصرف لبنان بتمويل جزء من العجز الخارجي عبر استخدام احتياطيّاته المُتبقية (الجدول 4)، من غير المرجّح أن تنخفض النفقات أكثر من المستوى الذي وصلت إليه. فقد انهارت الواردات بالفعل، ولم تعد الأسر قادرة على تحمّل تكاليف السلع المستوردة باهظة الثمن، فيما بدأت عملية استبدال الواردات تُظهِر بعض النتائج. حالياً، بدأت الصادرات في التعافي، وهي تنمو في بعض القطاعات مثل الزراعة والخدمات عالية التقنية.

على الرغم من تحقيق توازن في عجز الموازنة، لا يزال الوضع المالي أبعد ما يكون عن الاستقرار. انهار حجم كلّ من النفقات والإيرادات إلى 6% و5% على التوالي من الناتج المحلّي الإجمالي، الذي انكمش أيضاً. أصبحت الموازنات المالية العنصر الأكثر هشاشة في الصورة الكلّية بالنظر إلى الطلب الهائل على الدولة ومستوى إيراداتها الهزيل. شكّلت النفقات العامة في العام 2022 نحو 11% من مستواها الحقيقي لعام 2018، والإيرادات نحو 20% (أنظر العمود الأخير من الجدول 6). أمّا التغير الأكبر في تكوين النفقات فقد سجّل في خانتيْ خدمة الدَّيْن والاستثمار العام اللذين قاربا الصفر. ينعكس هذا الانهيار الاستثنائي في النفقات في تدنّي الأجور الحقيقية لموظّفي القطاع العام. في الواقع، بلغ متوسّط الأجور نحو 50 دولاراً شهرياً في تاريخ كتابة هذه الورقة، وهو مبلغ لا يكاد يغطي تكاليف نقل الموظّفين العموميين إلى عملهم. وعدت الحكومة مؤخّراً بزيادة الأجور، وبذلت بعض الجهود لزيادة الإيرادات الضريبية (بدءاً من خلال تطبيق سعر صرف أكثر ملاءمة على الضرائب الحدودية). لكن بسبب عدم قدرتها على فرض الضرائب أو الاقتراض، زادت الدولة المعروض النقدي بشكلٍ كبير، وهذا ما قام به مصرف لبنان أيضاً لتمويل العمليّات المحدودة لسحب الودائع. تشير التقديرات إلى أن المعروض النقدي ارتفع بنسبة 198% و109% و75% في الأعوام 2020 و2021 و2022 على التوالي، بالمقارنة مع تضخّم بلغ 84% و150% و120% في السنوات نفسها (الجدول 3).

لبنان في خطر

4. إمكانيّة النموّ في المستقبل

إنّ انهيار الإنتاج وسط هروب الرساميل والكوادر الفنية يسلّط الضوء على سبب الأزمة، وهو موت النموذج الاقتصادي الريعي، وفي العمق، النظام السياسي غير القادر على النهوض بالصالح العام. توفّر الأزمات فرصة لإعادة البناء بشكل أفضل. وهناك سببان على الأقل يجعلان من المفيد مناقشة آفاق النموّ على المدى الطويل قبل الانغماس في مناقشة الاستقرار والانتعاش على المدى القصير. أولاً، هذه محاولة لوصف الطريق الذي لم يُسلَك في التسعينيات، وإعادة التأكيد على إمكانيّة وجود ضوء في نهاية النفق. ثانياً، معاينة المكوّنات الأساسية التي يجب أن تكون موجودة للانتقال إلى مسارٍ جديدٍ للنموّ بمجرّد تحسّن الوضع السياسي.

بات واضحاً عدم إمكانيّة تحقيق الازدهار في المستقبل إلّا من خلال الإنتاج الفعّال للسلع والخدمات (Nahas 2020). وهذا تحدٍ كبير بذاته. إذا لم يجد لبنان مساراً للنمو الإنتاجي، فسوف يستمرّ في تصدير شبابه والعيش على التحويلات وبعض إيرادات السياحة. قد يؤدّي هذا الواقع إلى استقرار الدخل عند نحو 4 آلاف دولار للفرد. لكن للعودة إلى مستوى العام 2018، وهو ضعف هذا الرقم، سوف يتعيّن على الاقتصاد اللبناني أن يتضاعف ثلاث مرّات وأن يخضع لتغيير هيكلي. بالنظر إلى صغر حجم البلد، لا يمكن أن تنمو المداخيل من دون توسيع الصادرات. قبل انفجار الأزمة، امتلكت البلاد قاعدة تصدير متواضعة من السلع والخدمات تبلغ حوالي 40% من الناتج المحلّي الإجمالي. لإعادة الناتج إلى مستواه في العام 2018، ورفع نسبة الصادرات من الناتج المحلي الإجمالي إلى 60%، يجب أن ترتفع الصادرات خمسة أضعاف. وهذا سيتطلب جهوداً لأجيال عدّة. لا يكفي إعادة إشعال فتيل النمو، بل يجب أن يستمرّ على مدى فترة طويلة.

يمكن للبنان أن يكون مُنتجاً على عكس المُعتقدات الشائعة. تُعدُّ مرحلة ازدهار زراعة الحرير في القرن التاسع عشر (Salibi 1988)، ومرحلة النموّ السريع للتصنيع في خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي المرحلتين الأكثر تكوينية للنموّ من خلال الإنتاج. علماً أن المرحلة الأخيرة هي أيضاً مرحلة التطوير المؤسّسي الشهابي التي شهدت إنشاء مصرف لبنان والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ومجلس الخدمة المدنية، وخيضت في خلالها مشاريع لتحقيق إنماء أكثر توازناً بين المناطق. يعدُّ الإبتكار أساسياً من أجل إيجاد مسار إنتاجي جديد. أدّى نموذج «جمهوريّة التجّار» الذي ظهر في خمسينيات القرن الماضي (Salibi 1988, Traboulsi, 2007)، إلى تطوير لوبي مصرفي قوي في الستينيات (Safieddine, 2019). إلّا أنّ رأسمالية المحاسيب في التسعينيات (Leenders, 2017) أثرت بشدّة في ريادة الأعمال. لم يعد نموذج «الدولة-المرفأ» عملياً منذ بروز دبي وتركيا في هذا المجال. وبالمثل، لن يكون من المفيد أيضاً العودة إلى النموذج الإنتاجي لما قبل الحرب، الذي قام على الزراعة والصناعة عندما اقتصرت الخدمات على السياحة والتمويل. حتّى في ذلك الحين، كان من الصعب التنافس مع الشرق الصاعد. واليوم، أصبح النموذج الذي يتطلّب عمالة كثيفة أقل قبولاً، بحيث يُستبدل العمّال بشكل مُتزايد بالروبوتات، ممّا يقلّل من إمكانات الصادرات التي يقودها التصنيع (Rodrik 2016).

المزايا النسبية

تشمل المزايا النسبية التي جعلت من لبنان موقعاً جذّاباً للنشاط الاقتصادي المُنتج - ويمكنها ذلك مرّة أخرى - كلّ من الثقافة الريادية الديناميكية، ورأس المال الفكري الثري المدفوع بنظام تعليمي قويّ وثلاثي اللغات، والقرب من أسواق دول مجلس التعاون الخليجي، والارتباط بقاعدة واسعة من المغتربين اللبنانيين (Shiraa 2021). يُنظر إلى «السُمعة اللبنانية» كأصلٍ ثمين، يجمع بين التراث الثقافي والابتكار من أجل تسريع نموّ الصادرات من خلال تطوير القطاعات التقليدية، بما فيها المجالات المتنوعّة مثل الخدمات الإلكترونية الماهرة بمختلف أنواعها (الصحة، والتعليم، والتمويل، والهندسة، والقانون، والإعلان، والإعلام) والسياحة، والتي يمكن تعزيزها بالتجارة الإلكترونية.في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تمتّع لبنان بمستويات عالية من المميزات النسبية في أكثر من 200 منتج (Atallah and Srour 2014). يقدِّم العديد من هذه القطاعات فرصاً جديدة لم تكن موجودة قبل عقدٍ مثل السياحة البيئية، والمأكولات العضوية، والحرف اليدوية عالية القيمة، والطاقة النظيفة أو إدارة المياه، وهي مجالات جديدة نسبياً ومُستهلكة ويمكن أن تصبح تنافسية مع تطبيق التقنيات العالية.

وفي حين حدَّت التكاليف المرتفعة من فرص الإنتاج في الماضي، يمكن للمستقبل أن يكون مختلفاً إذا بقيت التكاليف تحت السيطرة، لا سيّما بعدما انخفضت بحكم انخفاض القيمة الحقيقية للعملة. بوجود بنية تحتية مناسبة، ولا سيّما رقمية، يمكن للمراكز ذات المهارات المُتخصصة أن تعزّز الابتكار، وتجذب الاستثمارات، وتُشرِك المغتربين، ويمكن أن تتحوّل إلى مراكز نموّ مزدهرة (Dibeh 2021). هناك حاجة إلى المدخلات الثقافية المتجسِّدة في اللغة والتصميم والموسيقى من أجل دعم توسّع الخدمات الإلكترونية والذكاء الاصطناعي في الأسواق العربية.في حين يشكّل العالم الناطق بالعربية حوالي 5% من سكّان العالم، لا يتجاوز محتوى العربي على الإنترنت نسبة 1% من المحتوى العالمي، ممّا يوفر فرصة فريدة لمزيج من القيمة العلمية والثقافية المضافة في خلال العقد المقبل (Mahroun, 2021) تعتمد المجالات الواعدة للنمو بشكلٍ كبير على المغتربين اللبنانيين كمستهلكين لمنتجاتها، ومساهمين في الإنتاج من خلال روابطهم بسلاسل القيمة العالمية، ومموِّلين مرتبطين بالشبكات المالية الإقليمية والعالمية، ومزوِّدين للتكنولوجيا والمعرفة. يميل العمّال اللبنانيون ذوو المهارات العالية إلى الانتقال والهجرة بمجرّد تدهور الأوضاع، لكن تحفيزهم على العودة مُمكن أيضاً كما شوهد في خلال التسعينيات. وهذا لا يتطلّب أمناً فحسب (الأمن متدهور حالياً بسبب وجود أسلحة خارج سيطرة الدولة)، وإنّما أيضاً «نوعية حياة» مُغرية، وعوامل بيئية وثقافية، فضلاً عن بنية تحتية أساسية عاملة.

من المرجّح أن تبقى السياسة المحلّية طوقاً مُلتفاً على النمو، وأن يستمرّ المحيط اللبناني مضطرباً.للاطلاع على المزيد حول الجذور العميقة لعدم الاستقرار في لبنان نتيجة الجغرافيا والتاريخ، انظر: Salibi, 1988 وEl-Khazen 2000  وفي حين لا تقصي هذه العوامل إمكانات تحقيق النمو، إلّا أنه يجب تضمين النموذج المرجو بعض المرونة، التي تقتضي وجود مواطنة متساوية وتضامناً وعدالة. يُعدُّ لبنان حالياً من أكثر البلدان لا مساواة في العالم (Assouad 2023 ،Traboulsi 2014). لكن الاقتصاد المُنتج يوفّر فرصة تاريخية لتحقيق النموّ الشامل والانتقال الاجتماعي، إذ تتضمّن قطاعات ومنتجات النمو الواعدة مجموعة متنوّعة من المهارات. سوف تكون سياسات سوق العمل النشطة ضروريّة أيضاً، بما في ذلك إدارة الهجرة الداخلية لإبقاء سوق العمل محدوداً [أي أن يتّسم بندرة الباحثين عن العمل مقارنة بالمعروض من العمل] والأجور غير الماهرة عالية.

الآثار المُترتبة على السياسات قصيرة المدى

إلى حين حدوث الانطلاقة الاقتصادية، يبقى تآكل المزايا النسبيّة الخطر الأعلى والداهم. تخلِّف الأزمة الحالية أضراراً بالغة: فسمعة البلاد مشوّهة، وهي تشهد هروب الرساميل والعمّال المهرة، فيما تتفكّك القدرات المُتراكمة مع إغلاق الشركات، وتتدهور جودة التعليم بسرعة. إنّ الانتقال نحو مسار للنموّ المستدام يركّز على الإنتاج يتطلّب المكوّنات الأساسية المُعتادة: إطار عمل كلّي يحفِّز التدابير الداعمة للنموّ، وسعر صرف تنافسي ومرن، والوصول إلى رأس المال وخدمات البنية التحتية، وسيادة القانون.

لكن بالإضافة إلى هذه التوصيات المعيارية، هناك إجراءات مُحدّدة ترتبط بالمزايا النسبية للبنان. أولاً، يمكن للامركزية أن تدعم نشر هذه المزايا على كامل أراضي البلاد، وأن توفّر للعمّال المبدعين أسلوب حياة أفضل من خلال تمكين البلديات على التنافس من أجل جذب الشركات. أيضاً ثمّة حاجة إلى خلق بيئة عمل غنيّة ثقافياً وبيئياً لإقناع روّاد الأعمال بإنشاء شركاتهم بالقرب من البلدات الصغيرة المحافظ عليها والمُدارة بشكل جيّد، بدلاً من دبي، على غرار روّاد الأعمال الإيطاليين الذين يفضّلون العمل في بييمونتي بدلاً من تورينو. أمّا الشرط الثاني فهو بيئي؛ حماية الطبيعة ليست ترفاً، بل تدخل في صميم المزايا التنافسية للبنان. إنّ تعزيز مصادر الطاقة المُتجدّدة اللامركزية قد يحلّ أزمة الطاقة في لبنان، ويخلق فرص عمل، ويقلّل أزمة تلوّث الهواء التي ترزح تحتها البلاد. ثالثاً، قد تكون الثروة الغازية والنفط تحوّلية في حال العثور على كمّيات تجارية. ولكنّ قد تؤدّي هذه الاكتشافات إلى تفاقم الفساد في حال لم تدار بشكلٍ صحيح. أخيراً، سوف توفّر إعادة إعمار سوريا فرصاً مُربحة للعديد من القطاعات في لبنان على المديين القصير إلى المتوسّط، ممّا يساهم في التعافي السريع إذا كانت الظروف السياسية والمالية مناسبة.

5. سياسة الاستقرار والتعافي

يوصِّف هذا القسم الإجماع الأوّلي على الإصلاحات وكيفية تطوّره. جرى التكيّف مع الصدمة الأوّلية، وإن بأسوأ الطرق المُمكنة، ممّا قوّض الحاجة المُلحّة للتحرّك في بعض الإجراءات، مثل ضوابط رأس المال، وزيادة التركيز على تدابير أخرى مثل التعديل المالي. مع ذلك، لا يزال إصلاح القطاع المالي أولوية، ولكن برز تحدّيان آخران مُلحان: مساعدة المجتمع على التكيّف واستعادة قدرة الحكومة. قد يتنافس هذان التحدّيان مالياً وسياسياً على المدى القصير، ولكنهما يكمِّلان بعضهما البعض أيضاً. إنّ عدم إحراز تقدّم في أي منها قد يحول دون إحراز تقدّم في هدف التعافي، ويرفع خطر الوقوع في مصيدة الفقر.

في الواقع، من الصعب تخيّل كيفية التعامل بحسمٍ مع هذه القيود الثلاثة في ظلّ غياب دفعة كبيرة أوّلية (على سبيل المثال، 10% سنوياً لمدة 3 سنوات)، قادرة على تحرير القيود الثلاثة في آنٍ معاً، والدفع باتجاه مسار قوّي للتقدّم. يمكن خلق هذا الدفع من خلال الشروع في إصلاح القطاع المالي، بالتوازي مع دعم خارجي كبير يسمح بالسيطرة على التضخّم وتقليل التوتّرات الاجتماعية. قد تولّد هذه الخطّة دفعة ثقة، تؤدّي بدورها إلى ارتفاع كبير في قيمة العملة المحلّية، بحيث تُستخدم مليارات الدولارات المتداولة في الاقتصاد من أجل الاستثمار والاستيراد بدلاً من استخدامها كمخزن وقائي للقيمة. قد يبدو هذا السيناريو خيالياً في ظلّ الكساد الحالي، لكنّه ليس مستحيلاً إذا توفّرت الظروف المواتية. نجح الرئيس رفيق الحريري في إعادة إعمار وسط بيروت في ظلّ ظروفٍ أكثر صعوبة، عندما كانت الميليشيات لا تزال تجوب الشوارع والبلاد منقسمة بالكامل. أيضاً نُفِّذت إصلاحات طموحة في عهد الرئيس فؤاد شهاب بعد الحرب الأهلية لعام 1958، وفي عهد الرئيس أمين الجميل بعد الحرب الأهلية لعام 1975. في كلا العهدين، حصل مجلس الوزراء على صلاحيات تشريعية واسعة من البرلمان لتنفيذ الإصلاحات المطلوبة. وهذا بحدّ ذاته يتطلّب إدارة سياسيّة جديدة، إن لم يكن تسوية سياسيّة جديدة مستعدّة للمراهنة على التنمية.

سواء كان بالإمكان تنظيم دفعة كبيرة أم لا، تبقى الأجندات الأساسية الثلاثة قائمة. لقد كان الموقف السياسي للحكومات المُتعاقبة بعد اندلاع الأزمة (حكومات الرئيس رفيق الحريري الذي استقال بعد 10 أيام من اندلاع الانتفاضة، والرئيس حسّان دياب، والرئيس نجيب ميقاتي) كارثياً. ونعيد التذكير هنا بالسياسات التي أسيئت إدارتها لتجنّب تكرارها: عدم إقرار ضوابط على رأس المال لمنع هروب الرساميل؛ السماح للبنوك بإدارة إفلاسها وتقنين عمليات سحب الودائع بطرق استنسابيّة؛ إنفاق احتياطيات العملات الأجنبية على الدعم غير الفعّال وتهريب الرساميل؛ والتوسّع الهائل في المعروض النقدي لتمويل العجز المالي وليلرة الودائع.

إجماع أولي

كانت أجندة العمل واضحة منذ اليوم الأوّل بالنسبة للخبراء الاقتصاديين والماليين اللبنانيين الضالعين بأزمات مُماثلة والملمّين بالضعف المالي للبلاد. ففي اجتماع طارئ في كانون الأول/ديسمبر 2019، أي بعد شهر من الأزمة، أقرّت مجموعة من الخبراء اللبنانيين البارزين أن النموذج الاقتصادي القديم انتهى، فيما تكمن التحديات الكبرى في المستقبل.Lebanon’s Economic Crisis: A Ten Point Action Plan for Avoiding a Lost Decade. Annahar, January 6, 2020 وأصدرت المجموعة برنامجاً من عشر نقاط من أجل تحقيق الاستقرار الاقتصادي والتحرّك بسرعة نحو التعافي. تضمّنت الخطّة المُقترحة الصادرة في كانون الأول/ ديسمبر 2019، والمُحدّثة في آذار/مارس 2020 الخطوات التالية:

  • وضع ضوابط على رأس المال وإعادة هيكلة القطاع المالي لاستعادة قدرة البنوك على العمل.
  • إعادة هيكلة الدَّيْن العام لضمان الاستدامة.
  • تنفيذ الإصلاحات المالية لخلق مساحة للإنفاق الاجتماعي والاستثمار في البنية التحتية.
  • إصلاح قطاع الطاقة المملوك للدولة.
  • تحديث الإطار القانوني للمصرف المركزي وأنظمة إدارة المالية العامة وإلغاء السرّية المصرفية.
  • تأسيس نظام نقدي ونظام سعر صرف يتّسمان بالمصداقية والشفافية.

صدرت خطّة الحكومة، بدعمٍ من الاستشاري لازار، بعد 6 أشهر في نيسان/أبريل 2020، وعرضت استراتيجية مُفصّلة ومنظّمة حول حزمة مماثلة (حكومة لبنان، 2020). قضت الخطّة بالانتقال السريع إلى برنامجٍ مدعوم من صندوق النقد الدولي، واقترحت آليّة لإعادة هيكلة النظام المصرفي، وتخفيض الدَّيْن العام، وإعادة رسملة البنك المركزي. كانت الخطّة شاملة وإنّما مُفرطة في تفاؤلها، وتضمّنت إصلاحات للسياسة المالية والنقدية، وإجراءات لدعم النمو. وهذه هي المرّة الأولى التي تصدر فيها الحكومة تقريراً يكشف التحدّيات والخسائر الحقيقية التي يواجهها القطاع المالي.

دعم الخبراء اللبنانيون خطّة الحكومة والسعي للحصول على دعم من صندوق النقد الدولي (على سبيل المثال: Bisat et al 2020, Chaoul 2020). لكن مصرف لبنان ولجنة المال والموازنة النيابية النافذة سياسياً وجمعية مصارف لبنان عرقلوا أي محاولة للإصلاح. قاومت النخبة الاقتصادية، وخصوصاً مساهمو البنوك، أي احتمال أو إجراء قد يقود إلى فقدان قاعدة أسهمهم الضخمة، وفضّلوا انتظار خيارات أخرى. أنكرت جمعية المصارف مسؤوليّتها عن الانهيار الاقتصادي وألقت باللوم على الحكومة، وقدمت خطّة بديلة تركّز على استراتيجية إنقاذ مموّلة من بيع الأصول العامة، التي أفرطت بتقديرها بنحو 50 مليار دولار. كذلك عرقل القادة السياسيين الخطّة، نظراً لامتلاك بعضهم مصالح مباشرة في البنوك، ورغبة البعض الآخر في «حماية» مؤيّديه الأغنياء. لكن في المجمل، أراد الجميع تجنّب الاعتراف بعدم قدرتهم على منع وقوع الكارثة،أبقى حزب الله، وهو حزب سياسي قوي، على موقف متناقض. ففي حين دعم بشكل عام بعض الإصلاحات الاقتصادية، سعى أيضاً إلى حماية النظام السياسي الحالي الذي كان مفيداً لمصالحه الخاصة. وتمّ الترويج لوجهات نظرهم من خلال الوسائل الإعلاميّة التي يسيطرون عليها.

بعد مقاومة خطته الإصلاحيّة، استقال رئيس الحكومة حسّان دياب بعيد انفجار مرفأ بيروت في آب/أغسطس 2020. وجرى الانتظار حتى نيسان/أبريل 2022 لإبرام حكومة الرئيس نجيب ميقاتي اتفاقية على مستوى الخبراء مع صندوق النقد الدولي، تضمّنت لائحة من الإجراءات المُسبقة المفترض تنفيذها قبل عرض الخطّة على مجلس إدارة الصندوق للحصول على برنامج تمويلي. وقد تضمّنت الإجراءات المُسبقة:

  • موافقة مجلس النواب على إصلاح قانون السرّية المصرفية وإقرار قانون ضوابط رأس المال.
  • الاتفاق على استراتيجية لإعادة هيكلة المصارف مربوطة بإقرار قانون لتسوية أوضاع المصارف.
  • إجراء تدقيق شامل بالأصول الأجنبية لمصرف لبنان وإجراء تقييمات فردية للمصارف الكبرى.
  • إقرار استراتيجية متوسّطة الأجل لإعادة هيكلة المالية العامّة والديون من أجل استعادة القدرة على تحمّل الديون.
  • توحيد أسعار الصرف لعمليات الحساب الجاري المُصرّح بها.

لم تنفّذ أي من هذه الشروط في تاريخ كتابة هذه الورقة. وللمفارقة، يعاني لبنان راهناً من أعراضٍ أسوأ ممّا لو طبّقت أقسى البرامج مع صندوق النقد الدولي، مع فارق وهو عدم استفادته من أي فائدة فعليّة لأي برنامج، أي التمويل والإصلاحات. في الواقع، تستمرّ أسعار الصرف المُتعدّدة في إحداث تشوّهات كبيرة في النشاط الاقتصادي ممّا يخلق فرصاً للفساد والتربّح السهل. وإلى ذلك، قُدِّمت مسوّدات عدّة لقانون ضوابط رأس المال، لكنّها أهملت جميعها في البرلمان. ركّزت المسودة الأخيرة على حماية البنوك من الإجراءات القانونية نتيجة تضاعف عدد الدعاوى القضائية، في لبنان والخارج، ضدّ سلوكها غير القانوني، بالإضافة إلى التعطيل المُتكرّر لمحاولات سحب المودعين أموالهم بالقوّة. كذلك، أقرِّت تعديلات على قانون السرّية المصرفية ولكن في صيغة مُخفّفة لا تسمح بإحراز تقدّم في مكافحة الفساد، أو الإشراف على البنوك بفعالية، أو جباية الضرائب، أو التحقيق في الجرائم المالية، أو حتّى استرداد الأصول المسروقة. وفيما يخصّ المصارف، لم يقدِّم أي مشروع قانون إلى البرلمان.

التحدّيات المالية

قُلِّص حجم الدولة بأكثر من 10 مرّات مقارنة مع العام 2018، ووصلت موازنة العام 2023 إلى أقل من مليار دولار وفق سعر الصرف في السوق. عملياً، توقّفت الدولة عن الخدمة، إذ يعمل موظّفو القطاع العام بشكل متقطّع في أحسن الأحوال.

الانهيار عميق لدرجةٍ لا يمكن تقديم الحدّ الأدنى من الخدمات الأساسيّة اللازمة في هذه المرحلة لمنع الانفجار الاجتماعي. ما لم يتمّ توفير دعمٍ خارجي عاجل، فلن يكون من المُمكن الحفاظ على معظم الخدمات الأساسيّة، لا سيّما أنّ جزءاً كبيراً من السكّان الذين اعتادوا على استخدام الخدمات الخاصّة في السابق، لم يعد بإمكانهم تحمّل تكاليفها حالياً، وهم يقفون في طوابير طويلة أمام المدارس والعيادات العامّة. وتشمل هذه الخدمات كلاً من الصحّة والتعليم وشبكة الأمان الاجتماعي. ثمّة حاجة أيضاً إلى شبكة أمان كبيرة لسنوات عدّة من أجل حماية الفئات الأكثر ضعفاً من أسوأ آثار الأزمة. سوف يسمح برنامج مُماثل بالحدّ من تنقيد العجز، ممّا يؤدّي إلى انخفاض التضخّم وخلق الحيّز المالي اللازم لإعادة بناء القدرات الأساسية للدولة.

أيضاً تبرز الحاجة إلى رفع الإيرادات الضريبية على المديين القصير والمتوسّط. وبمرور الوقت، سوف يعتمد جزء كبير من الأداء الضريبي على سرعة التعافي الاقتصادي. يجب تحديد أهداف واقعيّة على المدى القصير نظراً للتدهور الاقتصادي. في البداية، هناك حاجة لتركيز الجهود على مراقبة الحدود والمداخيل المُرتفعة. وبمرور الوقت، يجب تغيير بنية الضرائب لأن الواردات والودائع المصرفية وأسعار الفائدة ستكون أقل في المستقبل. ومن أجل زيادة الإيرادات إلى نحو 20% من إجمالي الناتج المحلّي على المدى المتوسّط، يجب أن تنمو القاعدة الضريبية، وأن تصبح معدّلات الضرائب أكثر تصاعدية في الوقت نفسه. قد تكون زيادة الضريبة على القيمة المضافة سيّئة (صندوق النقد الدولي 2023)، لأن معدّل الضريبة الحالي تراجعي بشدّة (الضريبة على القيمة المضافة والجمارك).في العام 2018، تم تحصيل 11% فقط من الإيرادات الضريبية بطريقة تصاعدية، حيث يتم فرض ضرائب على أرباح الفوائد وأرباح رأس المال وتوزيعات الأرباح وأرباح الشركات بمعدّلات ثابتة ومنخفضة وبشكل منفصل. في النهاية، ثمّة حاجة لإصلاح ضريبي طموح يؤسّس لنظامٍ ضريبي تصاعدي على الدخل بأكمله (Bifani et al 2020).

على جانب الإنفاق، تُمثّل الأزمة فرصة ذهبية لإعادة البناء بشكلٍ أفضل. في الماضي، ركّزت دعوات الإصلاح على ضرورة إغلاق المؤسّسات الفاسدة التي لم تؤدِّ إلّا أدواراً تخدم النظام الزبائني، وإلغاء الدعم المُقدّم لمؤسّسة كهرباء لبنان. لكن هذه النفقات تقلّصت بشكلٍ كبير في المرحلة الراهنة. من هنا، تقتضي الحالة الفضلى إعادة بناء الدولة وفق مبادئ الكفاءة والشفافية، وإدراج الحكومة الإلكترونية في صلبها مع أجندة واضحة لمكافحة الفساد. ومع بدء تعافي الناتج المحلّي الإجمالي، سوف تتيح هذه الإصلاحات، بالتوازي مع الوفورات المُحقّقة من انخفاض خدمة الدَّيْن، باسترداد الأجور الحقيقية لموظّفي القطاع العام، وزيادة الإنفاق على القطاعات الاجتماعية والبنية التحتية والدفاع.

على صعيد الاقتصاد الكلّي، يجب تخفيض الدَّيْن العام بين 60% و75% من الناتج المحلّي الإجمالي حتى تتمكّن الدولة من استعادة الجدارة الائتمانية. هناك حاجة أيضاً إلى تنظيف الميزانية العمومية لمصرف لبنان، ويمكن أن تكون إعادة الرسملة تدريجية مع استيعاب جزء من الخسائر من خلال الأرباح المستقبلية. فضلاً عن ذلك، لا تزال النقاشات قائمة حول إمكانيّة استخدام أصول الدولة جزئياً لإنقاذ النظام المصرفي (أو كما يقول البعض لسداد جزء من الدَّيْن العام). تمتلك الدولة العديد من الشركات مثل مؤسّسة كهرباء لبنان وشركات الاتصالات والمرافئ والمطار، بالإضافة إلى ملكيات عقاريّة. من الضروري إدارة هذه الأصول بكفاءة وشفافية أكبر، وتنظيمها بطريقة تزيد من رفاهية المستهلكين والقدرة التنافسية بدلاً من تعظيم الأرباح. في النهاية، لا حرج في تصفية أصول الدولة طالما أن عقود البيع و/أو الإدارة تتمّ بشفافية وضمانات تحول دون الاستيلاء عليها بطرق فاسدة، وبالتأكيد من دون التقليل من قيمة هذه الأصول من خلال عمليّات البيع المُتسرّع، كما يمكن للإدارة الخاصّة تحسين الكفاءة (Kostanian 2021). لكن التعهّد بتخصيص جزء من إيرادات الدولة وأصولها لسداد فوائد الدَّيْن العام لن يساهم في ضبط أوضاع المالية العامّة وسوف يقلّل من إيرادات الدولة في الوقت نفسه.

إحياء القطاع المالي

إنّ النظام المصرفي في حالة يُرثى لها، والأولويات هي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مدّخرات الأسر وخصوصاً ضمن الطبقات الوسطى، بالإضافة إلى إعادة تأسيس نظام مصرفي جديد من أجل تمويل التعافي والاقتصاد المتنامي، على أن تكون ضوابط رأس المال والضوابط المصرفية جزءاً من أي خطّة انتقالية. أيضاً، يجب اتباع مقاربة الإنقاذ من الداخل من أجل تنظيف الميزانيات العمومية للبنوك. وعلى الرغم من أنّ المساهمين في البنوك شكّلوا العقبة الرئيسية أمام حلّ الأزمة، إلّا أنّهم ملزمين قانوناً بامتصاص الخسائر أولاً. مع ذلك، لن تكون رساميل المصارف كافية بأي مقياس لأن الخسائر كبيرة، وبالتالي سيكون قصّ الودائع حتمياً. وحتى لو شُطِبت سندات اليوروبوند بالكامل أو الجزء الأكبر منها، أيضاً سيبقى قصّ الودائع أمراً حتمياً. ما تغيّر بمرور الوقت هي نسبة قصّ الودائع المُقدّرة، التي ارتفعت من 20% في بداية الأزمة إلى أكثر من النصف حالياً (الجدول 7).

لبنان في خطر

أكّدت التصريحات العامة باستمرار على ضرورة توزيع الخسائر بطريقة عادلة اجتماعياً. ولذلك، سوف تُترك الحسابات الصغيرة خارج «القاعدة الضريبية» في سياق إعادة تسوية الحسابات المصرفية الكبيرة. يتمثّل التحدي الرئيسي في تسوية الحسابات الكبيرة، التي تشكّل حالياً نحو 40% من إجمالي الودائع بالمقارنة مع 60% في العام 2018 (الجدول 2). إلى ذلك، من المرجّح أن تكون المفاوضات طويلة وشاقّة. وهناك العديد من المقترحات لخفض مخزون الودائع، مثل الاستعادة الجزئية للأصول المسروقة، أو استرداد الفوائد العالية والأرباح الضخمة المدفوعة للمساهمين وكبار المودعين. يُعدُّ العزل والتقييد الطريقة الأكثر فعالية لمعالجة الودائع الكبيرة. على غرار البلدان الأخرى أثناء الأزمات المصرفية، يمكن أن يكون حلّ «البنك الجيّد/البنك السيئ» مفيداً.

برزت مقترحات أخرى للإصلاحات؛ لقد أصبح واضحاً أن إلغاء قانون السرّية المصرفية ضروري من أجل إعادة هيكلة المصارف بعدالة وفعالية، وإنشاء نظام ضريبي عملي، والتمكّن من محاكمة المشتبه في سرقتهم الأموال العامّة ومن ضمنهم حاكم مصرف لبنان. من المنظور التنفيذي، هناك حاجة لإنشاء هيئة مُستقلّة لصياغة استراتيجية إعادة هيكلة القطاع المصرفي وتنفيذها،هناك حاجة إلى هيئة لاسترداد الديون أيضاً لأن دوافع حاملي الأسهم في البنوك لم تعد متوافقة مع هدف تعظيم الأرباح. على أن تولّى مهمّة تنسيق عمليّات تقييم أصول كلّ بنك على حدّة وتنفيذها، وأن تُمنَح الصلاحيّات لفرض الخسائر الماديّة على المساهمين والمودعين، وأن تمتلك القدرة لإعادة تنظيم القطاع المصرفي سواء عبر إجبار بعض البنوك على الاندماج أو عبر حلّ بعضها الآخر. القانون المصرفي النافذ غير كافٍ لمعالجة الأزمة الحالية التي تطال بنوك عدّة، لذلك لا بدّ من إقرار قانون جديد وعصري لإعادة هيكلة المصارف. في النهاية، يجب أن يكون القطاع المصرفي أصغر بكثير، وسوف تتطلّب هذه العملية توحيد بعض الفروع وتقليص عدد البنوك. فيما تبقى الرقابة التنظيمية العامل الأهم، مع تركيز البنوك الناشئة على إقراض القطاعات الإنتاجية، بدلاً من تمويل العجوزات الحكومية أو دعم القطاعات غير المُنتجة كما في الماضي.

يمكن ملاحظة عدّة عوامل معقّدة. برزت معارضة شعبية قوية ضدّ استخدام الأصول العامة من أجل إنقاذ البنوك، خصوصاً وأن نصف السكّان لا يملكون حسابات مصرفية. عدا عن وجود أصحاب حقوق آخرين غير المودعين وأبرزهم المتقاعدين. انمحت غالبية الديون بالليرة اللبنانية بسبب التضخّم المرتفع، لكن بعضها ديون ممتازة ويفترض التعامل معها بأسلوب تفاضلي، ولا سيما ودائع الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وصناديق المعاشات التقاعدية التي أودعت في المصارف بحكم القانون. ممّا يعني تحييد الأصول العامّة جانباً، وبالتالي تخفيض الموارد المُتاحة لتسوية الأوضاع المصرفية. وبالمثل، جادل آخرون بضرورة استبعاد الذهب للحفاظ على القدرة على إدارة سياسة نقدية فعّاله في المستقبل. والجدير بالذكر هنا هو أن استخدام الأصول أو الإيرادات العامة لإنقاذ المصارف سوف يؤدي إلى استفادة الدائنين الأجانب بمعاملة مماثلة.هناك مسألة غير واضحة فيما يتعلّق ببنود الإجراءات الجماعية المنصوص عليها في سندات اليوروبوند ومدى تمكينها الدائنين من التوصّل إلى توافق في خلال عمليات إعادة هيكلة الديون من دون الوصول إلى مرحلة التقاضي.

أخيراً، قد يؤدي بيع الأصول العامة إلى تخفيض الإيرادات المستقبلية، عدا أن أسعار الأصول منخفضة للغاية في الوقت الحالي. اقترحت خطّتا حكومتي حسان دياب ونجيب ميقاتي إنشاء صندوق لاسترداد الودائع، من شأنه أن يولّد تدفّقات وإيرادات إضافية للتعويض عن الخسائر من خلال إدارة الأصول العامة بطريقة أفضل وربطها بإيرادات الغاز المُحتملة. وهناك أيضاً اقتراحات لتجميل الخسائر وعرضها بطرق أكثر جاذبية، مثل استبدالها بأوراق مالية طويلة الأجل قابلة للتداول مع معدّل فائدة منخفض. في النهاية، يجب أن توفّر الخيارات المطروحة الحوافز للمودعين الكبار للمساهمة في النمو الاقتصادي المستقبلي.

6. هل يمكن أن يكون للمانحين الخارجيين تأثير أفضل؟

في هذا الجزء من الورقة، نعيد كتابة أحداثٍ من التاريخ، ونحلّل تأثيرها على السياسات، ونختتم باقتراحات للمستقبل. أدّى المانحون دوراً مهماً في تاريخ لبنان الحديث، ونجحت مساعدتهم في خلال الفترات الحرجة في تعزيز الثقة الدولية بالمرونة المالية للبلاد. مع ذلك، انطوى هذا الدعم على تأثيرات غير مباشرة، إذ مكّن الحكومات المُتعاقبة من التهرّب من مسؤوليّاتها وتجنّب تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية البنيوية الأساسية المطلوبة. وفي النهاية أوصلت هذه المساعدات إلى السقوط العميق المُتأتي من مستوى دخل عالٍ مُضخّم بشكل مصطنع. مع ذلك، من الصعب تصوّر إمكانية خروج لبنان من مصيدة الفقر الحالية من دون دعم كبير من المانحين.

التاريخ الموجز للدعم الدولي للبنان

تذبذبت المساعدات الدولية التي حصلها عليها لبنان في السنوات الأخيرة، وتراوحت بين 2% و10% من الناتج المحلّي الإجمالي، علماً أنها بلغت ذروتها في أوائل التسعينيات في خلال مرحلة إعادة الإعمار بعد الحرب الأهلية، وفي العام 2010 مع تدفّق اللاجئين السوريين (الشكل 9). منذ نهاية الحرب الأهلية، أنفق المانحون نحو 22 مليار دولار؛ 56% منها أتت من دول مجلس التعاون الخليجي ومؤسّساته، و20% من البنك الدولي والاتحاد الأوروبي والولايات المتّحدة.على عكس الأردن، الذي يخصّه المانحون بمعاملة خاصة، تلقّى لبنان نسبة أقل من المساعدات الرسمية مقارنة بالإنفاق الحكومي أو على أساس نصيب الفرد. ومع ذلك، تجدر الملاحظة إلى أن هذه المبالغ، سواء في لبنان أو دول أخرى في المنطقة، هي أعلى بكثير من المتوسطات العالمية.

لبنان في خطر

نُظِّم الرئيس الفرنسي إيمانوييل ماكرون مؤتمر سيدر في العام 2018، حين كان لبنان يسجّل مستويات عالية من الهشاشة المالية والسياسية، وفي أعقاب الاستقطاب الإقليمي الحادّ وفكّ ارتباط المملكة العربية السعودية بلبنان. كانت الرهانات على سيدر كبيرة: سياسياً، من أجل تعزيز شرعية الرئيس سعد الحريري عشية الانتخابات التشريعية. واقتصادياً، من أجل إعادة تنشيط التدفّقات النقدية الأجنبية ومنع انهيار النظام المالي؛ وجيو-سياسياً، من أجل دعم استقرار لبنان في ظلّ اشتداد المواجهة الإيرانية-السعودية، ومنع أزمة اللاجئين من الامتداد إلى أوروبا. في الحصيلة، بلغ إجمالي تعهّدات سيدر نحو 11.6 مليار دولار. وإلى جانب خطّة الاستثمار العام، قدّمت الحكومة اللبنانية قائمة بالإصلاحات المالية والنقدية الموعودة، وللمرّة الأولى قائمة أخرى بإصلاحات مُتعلّقة بالحوكمة ومكافحة الفساد. وتضمّنت هذه الإصلاحات تخفيض العجز المالي، وزيادة الإيرادات الضريبية، واعتماد قانون جديد للمشتريات العامّة، وإصلاح قطاع الكهرباء. تعرّض مؤتمر سيدر لانتقادات شديدة من مجموعات المجتمع المدني، التي اعتبرت أن الخطط المُقدّمة تفتقر إلى التماسك والمصداقية. وفي النهاية، لم تنفّذ تعهّدات سيدر نظراً لشروطها الصعبة.

بالنظر إلى أجندتيهما المتنوّعتين والمتعارضتين، أدّى كلٌّ من السعودية وإيران أدواراً مالية مهمّة. تمتّعت السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي بدورٍ محوري في جهود إعادة الإعمار بعد الحرب الأهلية من خلال دعمهما القوي لرئيس الحكومة رفيق الحريري ونظامه السياسي في فترة ما بعد الحرب.استندت التسوية السياسية الجديدة بعد الحرب إلى اتفاق الطائف لعام 1998. وفي وقت لاحق، أدّى دعم دول مجلس التعاون الخليجي دوراً مهماً في الحفاظ على استقرار الليرة اللبنانية في الفترات الحرجة، وبعد ذلك، وظِّف بشكل متزايد لدعم مواجهتها مع إيران (Kalout 2022). ويعكس انسحاب السعودية بعد العام 2016 فشلها في هذه المهمة. في الواقع، كانت دول التعاون الخليجي المانح الأساسي للبنان بين عامي 1990 و2016. تعهّدت السعودية بتقديم 2 مليار دولار في خلال مؤتمر باريس 1 و2. وقد أودعت إلى جانب الكويت، 1.5 مليار دولار في مصرف لبنان في خلال حرب 2006 لدعم الليرة اللبنانية. بالإضافة إلى ذلك، شكّلت تحويلات المغتربين اللبنانيين في دول الخليج ما يُقدّر بنحو 10-15% من الناتج المحلي الإجمالي. وجاء معظم الاستثمار الأجنبي المباشر إلى البلاد من مستثمري دول مجلس التعاون الخليجي. أمّا إيران فقد دعمت حلفاءها بموارد كبيرة ولكن يصعب قياسها. وفيما تستمرّ إيران بدعمها حتّى اليوم، قطعت السعودية دعمها بعد العام 2016، ولم يشارك المانحون من دول مجلس التعاون الخليجي، باستثناء قطر، في مؤتمر سيدر.أيضاً، فُرِض حظر على سفر مواطني دول مجلس التعاون الخليجي منذ العام 2020، وحظر على تصدير الفواكه والخضروات اللبنانية في العام 2021.

بعد اندلاع الحرب السورية في العام 2011، تحوّلت مصالح المانحين نحو الاهتمامات قصيرة المدى، وتركّز دعمهم على تمويل الجيش اللبناني والاستجابة لأزمة اللاجئين. تسارعت هذه الاتجاهات بعد أزمة العام 2019 وانفجار مرفأ بيروت في العام 2020، وتزايد الدعم المقدّم من الدول المانحة على الجوانب الإنسانية، وأصبح يمرّ عبر وكالات الأمم المتّحدة والمنظّمات غير الحكومية. وتجسّد هذا التحوّل من خلال إنشاء إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار 3RF، وهو استجابة تهدف إلى تنسيق الدعم الدولي لإعادة إعمار الأحياء المُلاصقة للمرفأ، مع إعطاء دور أساسي لمجموعات المجتمع المدني.

هل ستنجح المشروطية المستقبلية؟

من السمات اللافتة للدعم الذي يقدّمه المانحون هي زيادة تركيزه على المشروطية، فشلت هذه الشروط في إحداث أي تغيير ملموس، لا سيّما ملف مؤسّسة كهرباء لبنان المثير للجدل، الذي تسبّب في خسائر مالية عالية تشير التقديرات إلى أنها تشكّل 40% من الدَّيْن العام. وتجلّى ذلك في أموال سيدر التي لم تصرف على الرغم من فجوة الاحتياجات الحالية للقطاع العام. أصبح المانحون أكثر تشدّداً في شروطهم، ومع ذلك لم يتمّ الوفاء بها. بالنتيجة، انخفضت المساعدة الإنمائية الرسمية بمرور الوقت. وبعد الأزمة، أصبحت هذه الشروط أكثر صرامةً، وحالياً أكثر توافقاً مع برنامج صندوق النقد الدولي، وتشكّل أملاً للبعض بإحداث دفعة اقتصادية كبيرة إذا تحسّن الوضع السياسي بأعجوبة.

وفي حين جرى التأكيد في مناسبات عدّة على أن أموال سيدر لا تزال موجودة، وعلى الرغم من أن أحد أهداف برنامج صندوق النقد الدولي المقدّر بنحو 3 مليارات دولار هو السماح بضخّ مدفوعات سيدر، تبقى هذه التعهّدات غير مؤكّدة راهناً نظراً للقيود الشديدة على موازنات البلدان المانحة، والتحدّي المُتمثل في الانتقال من التمويل القائم على المشاريع إلى دعم الموازنة.

كما ذكرنا سابقاً، توصّل صندوق النقد الدولي إلى اتفاقية على مستوى الموظّفين مع لبنان في نيسان/أبريل 2022، تتضمّن قائمة طويلة من الإجراءات المُسبقة التي يجب الوفاء بها قبل عرض البرنامج على مجلس إدارة الصندوق. في الواقع، أصبحت هذه الاتفاقية مُرتبطة بوعود المانحين بتقديم دفعة كبيرة مشروطة. لكن بالنظر إلى حجم التحدّيات التي يواجهها لبنان، قد لا يكون برنامج صندوق النقد الدولي المُمتدّ على أربع سنوات كافياً لتنفيذ هذه الحزمة الشاملة، بل تبرز الحاجة إلى برنامج أطول وأكثر تنظيماً وسخاءً، يجري التركيز من خلاله على الانتقال من الوضعية التقشّفية الحالية غير المسبوقة إلى التوسّع المدروس للقطاع العام، مع تعزيز الانتعاش الاقتصادي في الوقت نفسه. ويتطلّب تحقيق هذا الهدف تعاوناً أوثق ممّا هو مُعتاد بين صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.

من الدعم الإنساني إلى حماية الخدمات الأساسية

في السنوات الأخيرة، اتجهت معظم الجهات المانحة نحو الدعم الإنساني، خصوصاً بعد انفجار المرفأ في آب/أغسطس 2020، وصرفت الأموال من خلال منظّمات المجتمع المدني لا الحكومة. لكن يبدو أن هناك فجوة كبيرة بين الاحتياجات والالتزامات والمدفوعات. قُدرت الاحتياجات بنحو 3 مليارات دولار في أحدث «نداء من أجل لبنان» صادر في العام 2022 (برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، 2023). بينما بلغت التعهّدات نحو 800 مليون دولار، ووصلت المدفوعات إلى مليار دولار بعض إضافة بعض الالتزامات السابقة غير المدفوعة؛ وهذا ما يوازي قيمة المساعدات التي قدّمت في الفترة المُمتدة بين عامي 2019 و2021. في المقابل، استمرّ دعم اللاجئين السوريين. مع ذلك، يُعدُّ الدعم الإنساني مجزأ وسيئ التنسيق، ولا يبدو أنه قادر على تحقيق أهدافه. أُحرِز تقدم بسيط في التنسيق مع إنشاء إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار، الذي على الرغم من مشاكله الناشئة، يمثّل تقدماً مقارنة بالإدارة والحوكمة الإشكالية لمجلس الإنماء والإعمار الذي أدار معظم تقديمات المانحين في الماضي (Atallah et al 2020).

لكي يستقرّ الوضع الاجتماعي، حتى لو عند مستوى منخفض نسبياً، يجب أن يصبح هذا الدعم مُنظّماً بشكل أفضل. إن انهيار الخدمات العامّة عميق لدرجة ستجعل تغذية التعافي الاقتصادي مستحيلة في حال لم يتوقّف التدهور السريع في قطاعيّ الصحّة والتعليم. إن الانتقال من وضع الطوارئ والإغاثة الإنسانية إلى جهد أكثر تنظيماً يحمي الحدّ الأدنى من حزمة الخدمات الأساسية هو بمثابة خطوة أولى ضرورية في إعادة إعمار لبنان. عند تنظيم هذه الجهود، تجدر الإشارة إلى أن العودة إلى المستوى السابق لتقديم الخدمات العامّة لن تكون كافية، خصوصاً أن نسبة أكبر من السكّان باتت تطالب الآن بالخدمات العامّة، بدلاً من الخدمات الخاصّة عالية الجودة التي كانوا يستطيعون تحمّل نفقاتها في الماضي. فضلاً عن ذلك، أصبحت شبكة الأمان الأساسية اللازمة لمنع الفقر المُدقع واسعة للغاية.

من الناحية السياسية، يمكن تقديم العديد من الحجج لدعم هذا النهج. لكن إلى جانب الحفاظ على إمكانات لبنان المستقبلية، لا ينبغي أن يقلّل من الضغط على النظام السياسي لتنفيذ الإصلاحات. إذا يجب ضمان الحفاظ على إمكانات لبنان المستقبلية مع المحافظة على الزخم من أجل التغيير السياسي في آنٍ معاً. علاوة على ذلك، يُقال إن السكّان الذين يواجهون الفقر هم أكثر عرضة للضبط والسيطرة من خلال الزبائنية والقمع بالمقارنة مع من يستطيعون تأمين متطلباتهم الأساسية. ومع ذلك، إذا أنشئت منصّة جامعة مُنظّمة، فيجب أن تعطي الأولوية لهدفين أساسيين: منع إساءة استخدام المساعدة واستقرار التضخّم. ستكون العقبة الأساسية هي حماية هذه الأولويات من السياسيين الذين استغلوا الخدمات الاجتماعية لتغذية نظامهم الزبائني والمحسوبية. وللتغلّب على هذا التحدّي، سيكون من الضروري إجراء التحويلات مباشرة، وإدخال آليات للمساءلة الشعبية، وتصميم هذه الآليات لتعزيز الإرادة في بناء البلاد بطريقة أفضل.

من المرجّح أن تتراوح تكلفة الحزمة الأساسية نحو مليار دولار في السنة، وهي تكفي لتأمين الحد الأدنى من الخدمات من حيث الكمية والجودة، بأجور حقيقية لموظّفي القطاع العام لا تقل عن ثلث مستواها في العام 2018، وشبكة أمان أساسية يستفيد منها ثلث السكّان. عند صرف هذه الأموال، ينبغي الأخذ في الاعتبار ما تبقى من قدرة ومساءلة في القطاعين العام والخاص. ولضمان الرقابة، يجب على منظّمات المجتمع المدني وكيانات الأطراف الثالثة توفير مراقبة أفقية. حتى في ظل أفضل الظروف، ينبغي أن يستمرّ دعم الخدمات الأساسية لسنوات عدّة بعد الاستقرار والتعافي، نظراً لحالة الفقر التي تعيشها البلاد والحاجة إلى الحفاظ على معدّل تضخّم منخفض، وهو شرط أساسي لتحقيق التعافي المستدام.

بذرة هذا البرنامج موجودة بالفعل. يوفّر برنامج شبكة الأمان الاجتماعي الحالي المموّل من البنك الدولي تحويلات نقدية مباشرة وغير مشروطة، وقد أدّى تطوير السجل الإلكتروني إلى الحدّ من الوسطاء والفساد. لقد أدّى هذا البرنامج دوراً أساسياً في تخفيف المعاناة بعد رفع الدعم وتحرير أسعار الأدوية والغذاء والوقود وتعرفة الكهرباء، وأيضاً في خلال ذروة جائحة كورونا. وهناك برنامج مشترك بين البنك الدولي واليونيسيف لدعم أجور المعلّمين في المدارس العامة. في هذه الحالة، لا يبقى سوى دمج عنصر الرعاية الصحّية وتوحيد هذه الجهود في برامج وطنية متوسّطة الأجل قادرة على العمل بشكلٍ مستقلّ عن الدولة، إنّما بطريقة تعزّز فعالية القطاع العام في المستقبل. عملياً، يتطلّب إنشاء برنامج مماثل جهداً تعاونياً كبيراً من الجهات المانحة ومنظّمات المجتمع المدني.

7. ملاحظات ختامية: ما الدروس المُستفادة من لبنان؟

تجسّد تجربة لبنان مبادئ معروفة في المسؤوليّة المالية حول كيفية تجنّب الأزمات وإدارتها. لتجنّب الأزمة: لا يجب السماح بارتفاع سعر الصرف، يجب استخدام تدفّقات رأس المال بأكبر قدر مُمكن من الإنتاجية، والحفاظ على مستويات عجز مالي منخفضة. ولإدارة الأزمة عند حدوثها: يجب الاتفاق سريعاً على توزيع الخسائر، وتجنّب هروب الرساميل، وتجنّب أسعار الصرف المُتعدّدة، بالإضافة إلى حماية الفقراء، وإصلاح القطاع المصرفي بسرعة إذا لزم الأمر. والأهم من ذلك، يجب وضع استراتيجية موثوقة للنموّ، تساعد في قبول التكاليف قصيرة الأجل مقابل الأمل في مستقبل أفضل.

غالباً يُتهم الاقتصاديون بتجاهل الحقائق السياسية عندما يأتون بهذا النوع من التصريحات والوصفات. وهذا نقد محقّ وفي مكانه. في الواقع، تقدّم تجربة لبنان درساً أكثر تعقيداً حول الاقتصاد السياسي للأزمات ومسارات التقدّم. كان هناك بعض الأمل بأنّ تنهي هذه الأزمة النظام الذي أوجدها، وتعيد البناء بشكل أفضل. لكن الحقيقة مرّة، وتتمثّل بحصول العكس تماماً على المدى القصير أقلّه: لم يكن النظام الحاكم صلباً في مواجهة الأزمة فحسب - بمعنى أنّ النخبة كانت أقل تأثراً بالانهيار الاقتصادي - بل يبدو أن الأزمة زادته صلابةً. انخفضت كلفة الزبائنية عندما أصبح الناس أكثر فقراً ويأساً لإيجاد طرق لإعالة أسرهم. وأصبح القمع أشدّ عنفاً وتخلّلته اغتيالات مُستهدفة وسعي وقح للسيطرة على القضاء والإعلام بدرجاتٍ لم تكن مقبولة في «الأوقات العادية». لطالما شكّل تشويه الواقع والترويج لرواياتٍ بديلة ظاهرة من أجل تبرير النظام الحالي، لكنها أصبحت أكثر وضوحاً الآن، حيث يرفض السياسيون الاعتراف بإفلاس البلاد، يتصرّفون كما لو أنّه يجب القبول بالوضع الحالي على أنه الوضع الطبيعي الجديد.

في أجزاء أخرى من العالم، تسود أدوات المستبدّين الشعبويين سواء في الهند أو تركيا أو المجر أو إسرائيل. لكن لبنان هو جزء من مجموعة أصغر - فنزويلا وإيران وسوريا - حيث أفلست الشعبوية، إنّما من دون تكبّد أي ثمن، لا بل عزّزت سيطرتها من خلال الأساليب القديمة! من الصعب العثور على طريق مُقنّع للتقدّم في ظلّ هذه الظروف. بطريقة ما، هذا هو الوجه الآخر لنظرية التحديث: ففي حين يسهّل التقدّم الاقتصادي الانتقال إلى الديمقراطية، يجعل الانهيار النخب أكثر صلابة ورفضاً للتخلّي عن سلطتهم.

مع ذلك، لا يزال الوضع في لبنان ديناميكياً وغير مؤكّد، ممّا يترك مجالاً للتفاؤل الحذر، أقلّه على المدى الطويل. أدّت الأزمة إلى تطوّر سياسي ومجتمعي لا يزال يتكشّف، ممّا يجعل من الصعب على النظام فرض خياراته في المستقبل. نوّاب المعارضة موجودون في البرلمان، وهناك احتمال لانتخاب المزيد من المعارضين في المستقبل. ما كان مقبولاً في السابق، مثل إجراء المشتريات الحكومية من دون مناقصات وتنافسية، تحوّل إلى قضية رأي عام اليوم. أيضاً أصبح المجتمع المدني أكثر تعبئة وفعالية، وعلى الرغم من عجزه في فرض إجراء تحقيق في انفجار المرفأ، إلّا أن السلطات اضطرت للتراجع أمام ضغوطه في مرّات عدّة، وآخرها إسقاط القضايا ضدّ صحافيين وناشطين. إذا كان نجاح الثورات غير مُمكن في الظروف الحالية، يبقى التطوّر ممكناً.

نتوجّه بالشكر إلى الذين قدّموا اقتراحات وشاركوا بتعليقات أدّت إلى تحسين الورقة وهم حسب الترتيب الأبجدي: روي بدارو، جو باحوط، آلان بيفاني، عامر بساط، كليمان برينو، إنزو جعفر، كمال حمدان، ديليك سيفينك، نوّاف سلام، جيم روبنسون، محمد زبيب، باسم صنيج، سامي عطالله، مكرم عويس، رامي كيوان، ميلاني كاميت، عدنان مزارعي، وشربل نحاس.