معاينة تعديل عمال لبنان في قلب الأزمات

من التهميش إلى الهشاشة
عمَّال لبنان في قلب الأزمات الاقتصادية

منذ العام 2019، دخل لبنان مرحلة انهيار مالي غير مسبوق، سرعان ما تحوّل إلى أزمة اقتصادية واجتماعية شاملة، تعكس في جوهرها أزمة بنيوية عميقة في النظام الإنتاجي الوطني. فمنذ بداية مرحلة إعادة الإعمار في تسعينيات القرن الماضي، ارتكز النمو الاقتصادي على أنماط تراكم هشّة، مموّلة عبر عجز مزمن في الموازنات الماكرو-اقتصادية، ما جعل أي نمو ظاهري خاضعاً لدورات تدهور متتالية.

ترافقت سنوات النمو ما بعد الحرب منذ التسعينيات حتى يومنا مع تهميش العمل وقضاياه في الأجندات الاقتصادية للحكومات المتعاقبة ما يطرح إشكالية تتشاركها معظم التجارب النيوليبرالية حول العالم: كيف من الممكن تأمين ديمومة إنتاج ثروات من خارج أطر العمل المنتج؟

في هذا السياق، يسعى هذا المقال أولاً إلى تحليل آليات الأزمات اللبنانية عبر مدخل اقتصاد العمل وأزماته الحقوقية والحماياتية؛ وثانياً، إعادة إدراج قضية العمل في قلب النقاشات المتعلقة بمسارات التعافي والخروج من الأزمة.

على الرغم من تعدّد القراءات لأسباب الانهيار، لا تزال المقاربات السائدة تركز على جوانب إدارية ونقدية ومالية، متغافلة البعد الجوهري للأزمة، أي تهميش العمل وتفكيك بنيته. وليس غريباً أن يحتل العمل اليوم دوراً هامشياً في برامج الإصلاح وإعادة البناء، بما يعكس استمرار التصور النيوليبرالي للاقتصاد، حتى في زمن الكارثة.

لقد جرت مناقشة وتحليل أسباب الانهيار الذي وقع في العام 2019 مطوّلاً في خلال السنوات الأخيرة، وتركّزت النقاشات الماضية والحالية بشكل أساسي على الإجراءات  القطاعية الكفيلة بإخراج النموذج من أزمته: إصلاح القطاع العام، وتنقية القطاع المصرفي والمالي، وتحسين صورة البلاد بهدف استقطاب المساعدات الدولية ورؤوس الأموال الأجنبية من جديد.

كان للحرب الإسرائيلية تأثيرات مدمّرة على اقتصاد العمل والإنتاج، وقد صعّبت على لبنان أن يستعيد نموذج النمو ذاته الذي اعتمده في خلال العقود الثلاثة الماضية

وبما أن الأزمات المرتبطة بالعمل لم تحظَ إلا بقدر ضئيل من الاهتمام في تفسير انهيار النموذج اللبناني للنمو، من غير المستغرب أن يحتلّ العمل بدوره مكانة هامشية في الخطابات المتعلّقة بالتعافي وإعادة البناء.

غير أن الحرب الإسرائيلية الجديدة كانت لها تأثيرات مدوّية ومدمّرة على اقتصاد العمل والإنتاج، وقد جعلت من الصعب أكثر على لبنان أن يستعيد نموذج النمو ذاته الذي اعتمده في خلال العقود الثلاثة الماضية. فمنذ أكثر من عام ونصف العام، أدّت هذه الحرب إلى استحالة شروط الإنتاج، بل حتى شروط العيش، في الكثير من مناطق الجنوب والبقاع. والأهم من ذلك، أن هذه الحرب قضت على ما تبقى من أمل في النموذج القديم للنمو، الذي فرضه المشروع النيوليبرالي للاقتصاد في زمن السلم في لبنان: ملاذ ضريبي وإداري، جنّة للسياحة والاقتصاد الإبداعي والفني، ملاذ لرؤوس الأموال الأجنبية وودائع المغتربين، وجنّة لاقتصاد اللاقانون والعمل من دون حقوق والثراء من دون عمل.

تمثل هذه الحرب بالنسبة إلى لبنان نهاية تجربة نيوليبرالية بصورة مدوّية. ومع ذلك، فهي بعيدة من أن تكون نهاية التوجّه النيوليبرالي نفسه، إذ من الواضح أن لبنان سيظل واحداً من المختبرات المفضّلة للنيوليبرالية في المنطقة. فكما في لبنان، كذلك في أماكن أخرى، لا يشكل فشل موجة من التجارب النيوليبرالية، بأي حال من الأحوال، طعناً في النموذج النيوليبرالي نفسه، بل، على العكس، يمثّل نقطة تحوّل نحو موجة جديدة وسلسلة جديدة من التجارب التي تغذّي مختبرات متعددة على مستوى العالم.

فإذا كان الرجوع إلى الوراء أمراً مستبعداً بوضوح، فما هي آفاق المستقبل للاقتصاد اللبناني ولنمط تراكمه الذي لا يزال يعاني من ضمور في قطاعاته الإنتاجية الرئيسية؟ وكيف يمكن اليوم القطع مع رؤية للنمو بمعزل عن العمل؟ وما هي المكانة التي ينبغي أن يحتلّها العمل وأنظمة حماياته من أجل تصحيح الانحرافات التي ميّزت نمط التراكم السائد في العقود الماضية؟

وإذا كانت هذه الأسئلة مستبعدة نسبياً من النقاش العام اليوم، فإن هذه المساهمة لا تدّعي تقديم إجابات واضحة وحاسمة، بل تسعى بتواضع إلى إعادة وضع العمل في قلب تحليل الأزمات المتعددة، والتي، لنذكّر مرة أخرى، هي بالدرجة الأولى انعكاس لأزمة اقتصاد العمل، وإلى إلقاء ضوء جديد على عملية التعافي «ما بعد الكارثة».

الأزمات المتعددة في لبنان في ضوء أزمة اقتصاد العمل

منذ نهاية الحروب اللبنانية، المعروفة بالحروب الأهلية بين عامي 1975 و1990، أعاد لبنان بناء اقتصاد يقوم أساساً على النمو السريع في قطاع العقارات وإعادة الإعمار، حيث شكّل هذا القطاع في المتوسط حوالي 15% من الناتج المحلي القائم السنوي بين عامي 2007 و2015، ووصلت نسبته أحياناً إلى 20% من الناتج المحلّي، استناداً إلى حسابات مبنية على بيانات المحاسبة الوطنية الصادرة عن الإدارة المركزية للإحصاء.

حتى عشيّة الانهيار في العام 2019، بقيت الطفرات العقارية مستندة على الدور المركزي الجديد الذي احتله القطاع المصرفي، والذي لطالما أدّى دوراً استراتيجياً في «جمهورية التجّار والمصرفيين اللبنانية» (الاستعارة هنا من كتاب كارولين غايتس الصادر في العام 1998).1 لكن، وعلى عكس فترة النمو التي سبقت الحرب، تولّى القطاع المصرفي دوراً جديداً منذ التسعينيات من القرن الماضي: المساهمة في موازنة أزمات التمويل التي عانى منها نموذج النمو الجديد، لا سيما في مواجهة العجزين الكبيرين والدائمين، المعروفين بـ«العجزين التوأمين»، أي عجز القطاع العام والعجز الجاري في ميزان المدفوعات

في هذا السياق، تحوّل القطاع المصرفي من مجرد وسيط مالي إلى دعّامة أساسية لنموذج نمو مأزوم.

نجحت المؤتمرات الدولية للدول المانحة وأصدقاء لبنان، التي انعقدت منذ الأزمة النظامية الأولى في العام 1998، والتي تم تجديدها بعد اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري في العام 2005 والحرب الإسرائيلية في العام 2006، في تأجيل لحظة الانهيار الذي كان يتفاقم بصمت عبر دعم مالي مؤقت، لا سيما من خلال مؤتمرات باريس 1 و2 و3 (أعوام 2001 و2002 و2007).

إن الهامشية النسبية لقطاعات الصناعة والزراعة هي ببساطة انعكاس لهامشية الفئات السكانية التي تعتمد عليها، من العاملين اللبنانيين والأجانب

وعلى الرغم من التقلّبات الظرفية والدورية في مرحلة إعادة الإعمار بعد الحرب، بقيت الأسباب البنيوية للأزمة قائمة. فقد شكّلت الطفرات العقارية، التي كانت المحرّك الرئيس للنمو بين 1990 و2019، واحدة من أهم مصادر صعود القطاع المصرفي بدوره الجديد، الذي استفاد من اجتذاب ودائع المغتربين وتمويل الدين العام، كما أسهم في عمليات التسييل العقاري والأمولة العقارية.2

بلغة المضاربين، كان السؤال الرئيس في هذه الفترة: «كم يساوي المتر المكعب من الهواء؟». بمعنى آخر، سمحت عمليات خلق النقود للمضاربين بتحويل «الهواء» (عدد الطبقات المضافة إلى المباني) إلى موارد اقتصادية تُباع بأسرع ما يمكن، بما يتيح للمصارف التجارية تجديد قدرتها على خلق النقود عبر استقطاب ودائع جديدة أو تقديم ضمانات إضافية، ومن ثم دفع الدورة مجدّداً لتحويل الهواء إلى ذهب.

من الناحية البنيوية، وبالنظر إلى سوق العمل والتوظيف، افترض هذا النظام التراكمي توظيف نسبة كبيرة من اليد العاملة في قطاع البناء، الذي كان أكبر مشغّل للعمالة في هذه العقود. إذ كان عدد العمّال السوريين المستخدمين في قطاع البناء يتجاوز مليون عامل سنوياً، وفقاً لتقديرات نقابتي المهندسين والمعماريين، وكان القطاع يوظّف بشكل دائم ما بين 300 ألف و600 ألف عامل سوري قبيل الانهيار في 2019.

أدّت الاتفاقيات الثنائية (اتفاقيات الإخوة) بين لبنان رفيق الحريري والنظام السوري بقيادة حافظ الأسد دوراً تسهيلياً، لكن تحت دينامية توجّه نيوليبرالي يُشار إليه أحياناً بـ«الحريرية السياسية»، أعيدت صياغة كل اقتصاد العمل في التسعينيات على أساس تحميل المخاطر والهشاشة الناتجين عن تمويل الرأسمالية اللبنانية للشرائح الأضعف والأكثر ضعفاً من العمّال والمنتجين.

ومن خلال استيراد اليد العاملة الرخيصة في القطاعات الاستراتيجية (العمّال السوريون في البناء، والعمّال المهاجرون في قطاع النظافة وشركات النفايات مثل سوكلين، وغيرهم)، شكّلت العاملات المنزليات المستوردات تحت نظام الكفالة، الذي تم إقراره خارج أي نص قانوني عبر المديرية العامة للأمن العام، جزءاً متزايداً من القوة العاملة. قبيل الأزمة، بلغ عدد العاملات المنزليات حوالي 250 ألف عاملة، في بلد لم يتجاوز فيه حجم القوة العاملة 1.7 مليون نسمة، أي حوالي 15% من القوى المنتجة الناشطة اقتصادياً.

وبموازاة ذلك، كانت النساء اللبنانيات مستبعدات عملياً من سوق العمل. وعلى الرغم من الصورة الذاتية الزائفة التي يتبنّاها المجتمع اللبناني بالنظر إلى نفسه بكونه في طليعة الحداثة بين الدول العربية، احتل لبنان واحدة من أدنى المراتب عالمياً في معدّلات مشاركة النساء في القوى العاملة، وهي وضعية تدهورت أكثر مع الأزمة، حيث أصبح لبنان في العام 2023 بين أسوأ 15 بلداً في العالم في هذا المجال من أصل 178 دولة. 

كما ظلّت بطالة الشباب واحدة من الأسباب الرئيسية لهجرة الكفاءات والمهارات، كي لا نقول الأدمغة، طوال مرحلة ما بعد الحرب. وعلى الرغم من أن البعض يعتبر أن هذا النزيف البشري ظاهرة تاريخية ومصدر فخر بسبب نجاح اللبنانيين في الخارج، ينبغي التذكير بأن وظيفة هذه الهجرة تغيّرت حسب السياقات الزمنية.

بالفعل أدّت تلك الهجرة، التي يُراد تسويقها كـ«ميزة» لبنانية تاريخية، دوراً جديداً في اقتصاد ما بعد الحرب إذ تحوّلت إلى آلية بنيوية لتخليص الاقتصاد من فائض اليد العاملة، في حين أسند سدّ عجز الادخار المحلّي إلى تحويلات المغتربين. وبعد أزمة 2019 وهجرة ما يقرب من 400 ألف لبناني بحسب تقديرات الأمم المتحدة، أدّت تلك الهجرة وتحويلاتها دور المتنفس الأخير للكثير من المقيمين للتخفيف من حدّة الأزمة الاجتماعية لتصبح أحد أهم مصادر تمويل القطاع المالي غير المصرفي الذي يشهد ازدهاراً غير مسبوق في لبنان على حساب القطاع المصرفي.3

وللتفصيل يجدر التذكير بأهمية عدم النظر الى التحويلات من الخارج على أنها مجموعة متناسقة من المساعدات الفردية، لا بالعكس يجدر تحليلها بارتباطها بتطوّر اقتصاديات العمل. قبل الحرب (قبل عام 1975)، كانت قوانين السرّية المصرفية بالتناسق مع موقع بيروت كمركز مالي عربي تجتذب رؤوس الأموال الباحثة عن الأمان، في نطاق ليبرالي ناشئ ومستند على احتياطيات ذهبية ضخمة لاقتصاد صغير ومفتوح على العالم، أي ضامن بشكل كبير لحرية تنقل الرساميل الأجنبية.

حتى في القطاعات التي كانت تُعتبر ذات استقرار، تُظهر تحولات اقتصاد العمل في لبنان أن الحمايات القانونية لا توفر فعلياً الحماية من آليات الهشاشة المتصاعدة

أما مع التحوّل النيوليبرالي في التسعينيات، فقد أصبحت جاذبية رؤوس الأموال تقوم أساساً على إدارة أسعار الصرف والفوائد العالية (التفاوت الكبير بين الفوائد بالليرة اللبنانية والدولار الأميركي)، ما سمح بجذب المدخرات الأجنبية لسدّ العجز المزمن في الادخار العام والخاص. 

لذا أصبحت الهجرة جزءاً بنيوياً من آلية استبدال اليد العاملة: تحفيز العمّال اللبنانيين على الهجرة، وجذب عمالة أجنبية بأقل حماية وبأقل تكلفة لملء الفراغ المحلّي في الوظائف ذات الإنتاجية المنخفضة كما لملء الفجوة في المداخيل التي ينتجها العمل.  

ومع أن دور هذه التحويلات معروف منذ التسعينيات، إلا أن القليل من الدراسات اهتمت بالفروقات بين التحويلات الداخلة والخارجة، أي تحويلات العمّال الأجانب العاملين في لبنان إلى ذويهم بالخارج، مقابل تحويلات اللبنانيين العاملين بالخارج إلى لبنان.

كما أظهرنا في أعمال سابقة، خصوصاً في كتاب سيصدر هذا العام بالشراكة مع الزميل والباحث ميكيلي سكالا، يمكن لهذا الفرق في التحويلات أن يتجاوز 2 مليار دولار سنوياً (أي ما كان يعادل 4% من الناتج المحلي الإجمالي) في العقود الأخيرة قبل الانهيار، ما يدلّ على أن تمويل الاقتصاد كان قد أصبح معتمداً بشكل متزايد على هذا التبادل بين العمالة اللبنانية المهاجرة والعمالة الأجنبية المستوردة. 

لكن، ما هي آثار هذا النموذج النيوليبرالي للنمو على بقية القطاعات الاقتصادية، وعلى الفئات الأخرى من العمّال في القطاعات غير الاستراتيجية للنظام التراكمي النيوليبرالي؟

مكانة العمل في النموذج الاقتصادي اللبناني القديم والمستقبلي

منذ التسعينيات، أدّى الانخفاض المستمرّ في الإنتاجية في القطاعين الزراعي والصناعي إلى زيادة العجز في الميزان التجاري وفي الحساب الجاري لميزان المدفوعات، وكان التضخّم الكبير في القطاع العام غير المنتج مرتبطاً بشكل كبير بالعجز في الموزانات الحكومية. وعلى مدار أكثر من 3 عقود، تراجع الوزن النسبي للزراعة في الناتج المحلي ليصل إلى 3%، في حين أن 800,000 شخص كانوا يعتمدون جزئياً أو كلياً على الزراعة في معيشتهم وأرباحهم وفقاً لبيانات منظمة الأغذية والزراعة، كما أظهرت حساباتنا أن العمل الزراعي كان يمثل نحو 11% من القوة العاملة في لبنان في فترة ما قبل العام 2019

في السياق نفسه، كانت الصناعة اللبنانية، بما في ذلك التصنيع والبناء، تشغل نحو 20% من القوة العاملة، في حين كان قطاع التصنيع يمثل حوالي 7% من الناتج المحلي، بينما كان البناء من دون احتساب العقارات، أي العمل الصناعي اللازم لعمليات البناء، يمثّل في المتوسط 4% من الناتج المحلي. تستحق هذه الأرقام التوقف عندها، لأنها تثير تساؤلات بشأن بعض المفاهيم السائدة عن العمل في لبنان.

الفكرة الأولى التي يتم تكرارها في النقاشات العامة هي الادعاء بالهامشية المطلقة للزراعة والصناعة في لبنان. صحيح أنها قد تعتبر هامشية من منظور تراكم رأس المال، لكن من منظور اقتصاد العمل، يشكّل هذان القطاعان معاً أكثر من 30% من القوى العاملة في لبنان. لذا نجد أن مساهمتهما المحدودة في خلق الثروة تتناقض بشكل لافت مع مركزيتهما بالنسبة إلى اقتصاد العمل. إذ إن الهامشية النسبية لقطاعات الصناعة والزراعة هي ببساطة انعكاس لهامشية الفئات السكانية التي تعتمد عليها، من العاملين اللبنانيين والأجانب، الذين يشغلون وظائف منخفضة الأجر وقليلة الحمايات وغالباً ما يُستبعدون من قانون العمل، خصوصاً في الزراعة والبناء والتنظيف والعمل المنزلي.

كما تم ذكره سابقاً، تكمن السمة المميزة للنموذج النيوليبرالي اللبناني في اقتصاديات ما بعد الحرب في نقل المخاطر المرتبطة بدورات التمويل إلى الفئات العمالية الأكثر هشاشة، والتي يتم دفعها بشكل متزايد للعمل في ظروف وظيفية غالباً ما يشار لها على أنها غير نظامية على الرغم من أنها تشغل غالبية العاملين والعاملات، مثل العمل المستقل والعمل المؤقت والتعاقد والتعهيد والتوكيل لأطراف ثالثة، وغيرها... حتى في القطاعات التي كانت تُعتبر ذات استقرار أو حماية نسبية، مثل التعليم أو عمل المهندسين والمعماريين، تُظهر تحولات اقتصاد العمل في لبنان أن الحمايات القانونية لا توفر فعلياً الحماية من آليات الهشاشة المتصاعدة.

اضطر جزء كبير من البرجوازية الصناعية والتجارية، بالإضافة إلى أعداد من البرجوازية الفكرية والثقافية لدفع ثمن الأزمة سواء من مدخراتهم أو من وظائفهم

كما أظهر المشروع البحثي الذي شاركنا فيه تحت إشراف مريم كاتوس من المعهد الفرنسي للشرق الأدنى بين عامي 2022 و2023، أن ملكية الأفراد أو تنقلاتهم وهجراتهم، فضلاً عن الحمايات القانونية، لم تكن كافية لحمايتهم من اتجاهات الهشاشة التي فرضها النموذج النيوليبرالي، في الوقت الذي كانت تتراجع فيه قدرة شبكات التعاضد غير الرسمية وشبكات المساعدات العائلية والاجتماعية على التعويض عن انهيار الحمايات الاجتماعية النظامية.

واحدة من الخصائص العامة للأزمة اللبنانية، التي يمكن العثور عليها في أماكن أخرى حول العالم، هي أن المخاطر والتقلبات التي يتحمّلها العمّال الأكثر هشاشة لم تكن كافية لإعفاء نظام التراكم من المخاطر النظامية. مع أزمة العام 2019، اضطر جزء كبير من البرجوازية الصناعية والتجارية، بالإضافة إلى أعداد من البرجوازية الفكرية والثقافية، بما في ذلك الأطباء وأساتذة الجامعات والمحامين الذين دُفعوا أيضاً نحو الهجرة، لدفع ثمن الأزمة هم أيضاً، سواء من مدخراتهم أو من وظائفهم، وذلك ببساطة من أجل إنقاذ طبقة النخب السياسية والمالية-المصرفية فقط. و في الوقت الحالي لا تزال نخب البرجوازية المصرفية، ممثلة بجمعية المصارف، تحمل مسؤولية نقل المخاطر والتكاليف الناتجة عن اقتصاد الأزمة والحرب إلى بقية السكان، وحتى إلى الأجيال السابقة والقادمة (أنظر.ي إلى الصراعات القائمة لأجل تحميل تكلفة الأزمة للقطاع العام بما يتناسب مع مبدأ تسييل احتياط الذهب لتحييد المصارف.

الخاتمة

منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، ركّزت التدابير الطارئة التي اتخذتها الحكومة اللبنانية في وقت الحرب على مجموعة من القطاعات، إلا أن العمل والتوظيف ظلا غائبين تماماً عن خلايا طوارىء الأزمات، في وقت كان فيه مئات الآلاف من النازحين مضطرين لإيقاف أنشطتهم المهنية. كما يبدو أن الحكومة الجديدة برئاسة نوّاف سلام تسير في طريق الإصلاح في الكثير من القطاعات، بما في ذلك قطاع الحماية الاجتماعية، لكن سياسات العمل لا تزال متأخّرة. هل يمكن اعتبار ذلك فشلاً في استخلاص العبر من الماضي؟ أم هو رغبة في العودة إلى النموذج القديم للنمو من دون عمل؟ في كلتا الحالتين، تبدو التوقعات مقلقة. إن التحركات الحالية للأساتذة المتعاقدين وصمم الحكومة أمام مطالبهم ليست سوى أمثلة محدودة لرغبة سياسية في تهميش العمل والفئات التي تعتمد عليه للبقاء على قيد الحياة. ومع ذلك، يعد قطاع التعليم قطاعاً حيوياً، إذ يشكل أكثر من 7% من الناتج المحلي الإجمالي اللبناني (من أعلى النسب عالمياً)، وقد كانت المساعدات المالية الخارجية في هذا القطاع حيوية لاستمرارية الإدارة اللبنانية منذ أزمة العام 2019. ولكن لا يمكن حلّ الأزمات القطاعية المتعددة في لبنان من دون إصلاح شامل لاقتصاد العمل. يبقى أن نرى ما إذا كانت الحكومة ستكون قادرة على تحقيق أهداف الإصلاح التي تدعيها، في حال كان لديها بالفعل الإرادة السياسية لذلك.

تُعبّر الهشاشة الحالية للعمّال في لبنان عن عواقب الفشل في المسار التمويلي المجتزء للنمو الاقتصادي الرأسمالي ما بعد الحرب. فإذا كان العاملون قد شكّلوا المتغير الأساسي للتكيّف مع أزمات التمويل في خلال فترات التذبذبات الاقتصادية الكبرى منذ التسعينيات، كانوا هم أيضاً من بين الضحايا الرئيسيين لانهيار هذا النموذج بعد العام 2019

من المهم أن نفهم أن أزمة الاقتصاد الإنتاجي في لبنان ليست مجرد نتيجة للانهيار المفاجئ في العام 2019، بل هي كانت بمثابة إشارة تحذيرية مستمرة لذلك الانهيار. وعلى الرغم من شيوع اعتبار أن البطالة الواسعة كانت نتيجة مباشرة للأزمة المالية، إذ ارتفعت من 11% في العام 2018 إلى أكثر من 29% في العام 2022 وفقاً لاستطلاعات الإحصاء المركزي، فإنه لا ينبغي أن نغفل أن هذه الأرقام تستند إلى تقديرات للقوى العاملة التي تقدّر بحوالي 1.7 مليون شخص في بلد يتجاوز عدد سكّانه 6 ملايين. لذا، فإن مشاركة اللبنانيين في القوى العاملة ضعيفة للغاية، خصوصاً بالنسبة إلى النساء اللبنانيات، اللواتي كان 80% منهن خارج سوق العمل قبل العام 2019. وقد تأثرت النساء بشكل أكبر من الرجال من تصاعد البطالة في خلال الأزمة.

إذن، فإن إعادة بناء اقتصاد العمل في لبنان ليست مجرد مسألة تنظيم «للقضية الاجتماعية»، بل أصبحت ضرورة لاستعادة نموذج تمويل قابل للاستمرار للاقتصاد الحقيقي، أي اقتصاد الإنتاج والاستهلاك وتوزيع الموارد الاقتصادية. تماماً كما أن الفقر الذي أصاب السكان المقيمين لم يكن محصوراً في طبقة اقتصادية معينة، بل شمل الغالبية العظمى من الفئات الاجتماعية والمهنية (بنسب مختلفة)، كذلك اليوم، فإن الفئات الاجتماعية التي لها مصلحة في إعادة بناء اقتصاد العمل في لبنان تتجاوز التصنيفات التقليدية للطبقات الاجتماعية. وبمواجهتهم، تظل أقلية سياسية ومالية متماسكة كطبقة حاكمة، وهي التي تتناقض مصالحها مع مصالح المجتمع بشكل عام.

لا شك بأن مستقبل التجارب النيوليبرالية في نظام التراكم المستقبلي في لبنان سيتحدّد حتماً في هذه المعركة بين تلك الفئات الاجتماعية التي لا تتشارك المصالح نفسها فيما يتعلق بالعمل وحقوقه وحماياته. تبقى إذاً الحلول القطاعية المجتزأة من تصحيح أجور في قطاعات معينة دون غيرها أو من تأمين حمايات ظرفية-مشروطة مستهدفة لفئات معينة (الأكثر فقراً على سبيل المثال) والتي يدعم بعضها حالياً البنك الدولي مؤشرات على النوايا السياسية بتغييب قضايا العمل والإنتاج عن أجندات الإصلاح في وقت لم يعد من الممكن فيه تحقيق أي إصلاح من خارج سياسات العمل. إذ كيف لنا بإستعادة الدولة من خارج إصلاح بنيوي للتوظيف في القطاع العام وكيف للدولة أن تستعيد القدرة على تحصيل مواردها من خارج مبدأي التعاضد الضرائبي والعدالة الضرائبية في القطاعين الخاص والعام؟

  • 1

    C Gates, 1998, The merchant republic of Lebanon: Rise of an open economy, London: Center for Lebanese Studies, Tauris. 

  • 2

    هي عملية تحويل الأراضي والممتلكات العقارية إلى أدوات مالية يتم تداولها وتراكم الثروات من خلالها، بحيث يتم اعتبار العقارات ليس كممتلكات ثابتة، بل كأصول مالية يمكن الاستثمار فيها وبيعها وشرائها لتحقيق أرباح مالية. 

  • 3

    OMT, Western union, Wish, Money gram, etc.