لتسييس النقاش حول الكهرباء

عندما تعمل أنظمة البنية التحتيّة كما هو مُخطّط لها، تغيب عن بال الناس، وحتّى قد تصبح غير مرئيّة؛ مُخبأة خلف الجدران، أو تحت الشوارع، أو مُعلّقة على الأعمدة. لكنّها تبرز مجدّداً وتصبح شغلهم الشاغل عندما تتعطّل فقط.

منذ نحو العام، أدّى الانقطاع القاسي للكهرباء في لبنان وعدم القدرة على تحمّل تكاليفها إلى فتح نقاشات وأحاديث لا حصر لها عن خروج مؤسّسة كهرباء لبنان عن الشبكة سواء لناحية انقطاعها الدائم أو لناحية تسليم الجهات الرسميّة لواقع تأمين الطاقة من القطاع الخاصّ. بالتالي، انتشرت الحلول المفردة، ومصادر الطاقة المُصمّمة للخدمة الفرديّة، فضلاً عن الخبراء الذين يتاجرون بها. ظهرت تقنيّات تخزين البطاريات الجديدة، والكهرباء المُنتجة من الطاقة الشمسيّة أو الرياح، ومولّدات المازوت المملوكة من القطاع الخاصّ كمصادر بديلة للطاقة. تُعدُّ هذه الوسائل غير التقليديّة، إلى حدّ ما، لتوليد الكهرباء، محليّة ومُجزّأة وصغيرة الحجم، وتخضع أيضاً لمنطق "كهرباء الزواريب"، وهي طريقة لإنتاج الطاقة تتسم بتعقيد تقني واجتماعي وسياسي لم ينكشف بعد.

مع ذلك، فيما تشغل قضية الكهرباء الجميع ويتمّ تناقلها على كلّ لسان، لا يزال المقيمون في هذه البلاد منقسمين: فهناك من يمكنه الاستفادة من بعض مصادر الطاقة، وهناك من عاش دائماً في الظلام. يُشار هنا إلى الأسر التي كانت دائماً "تعلّق على الكهرباء" كاستراتيجيّة للتكيّف، أو أولئك الذين باعوا ثلّاجاتهم مؤخراً.

إذا كانت الكهرباء من أشكال الطاقة المُنتشرة التي تغذي أساليب الحياة الحديثة، إلّا أنّها أيضاً مسألة اجتماعيّة وثقافيّة بارزة. وفي حين نعجز عن رؤية الكهرباء كشيء مادي، إلّا أنّه يمكننا تلمّسها وفهم وجودها (أو بالأحرى غيابها) والعواقب المُرتبطة بها، سواء في لهب المصباح الكهربائي، أو الصوت الميكانيكي المُزعج للمولد، أو في برودة المثلّجات المُنعشة في يوم صيفي حارّ.

فما هي التداعيات التي كشفتها أزمة الكهرباء المستمرّة والتي تتخطّى مجرّد الحرمان منها؟ ما هي تأثيرات مصادر الطاقة غير الموثوقة على الحياة اليوميّة؟ في الواقع، ترتبط مصادر الطاقة والعلاقات الاجتماعيّة ببعضها بشكل وثيق. من مصادر الطاقة الكهربائيّة التي يستخدمها الناس، إلى كيفيّة انتقالهم من مصدر إلى آخر ولأي غرض: كلّها أسئلة مُهمّة. سوف تساهم الإجابة عليها في إنشاء معايير جديدة لتأمين الكهرباء واستهلاكها.

خلال الفترة الأخيرة، انضمّ المقيمون في لبنان إلى ملايين آخرين في البلدان النامية، واختبروا معنى العيش بلا بصيص أمل: الخوف من السير في شارع مُعتم وإن كان مألوفاً، وكلفة تمديد الحياة الاجتماعيّة بعد غروب الشمس. أي بمعنى أوسع، إعادة تشكيل أنشطة الاستهلاك والإنتاج الليليّة. (ما زلنا نرى واجهات مراكز تجاريّة ساطعة بأضوائها على طول طريق ساحلي سريع مُظلم بالكامل). ببطء، ولكن بثبات، تتخذ حالياً المجالات الاجتماعيّة غير المُكتملة والمعاني المُشتقّة عنها شكلها المتمايز.

وسّع البنك الدولي مؤخّراً تعريفه للفقر، مُبتعداً عن مؤشّرات القياس الكمّي للدخل أو الإنفاق، ليشمل أشكالاً مُختلفة من العجوزات "المُتعدّدة الأبعاد"، والتي لا تقتصر ضرورةً على العوامل الماديّة. من هذا المنظور، تُعتبر الأسر المحرومة من الكهرباء في لبنان "فقيرة بأبعاد مُتعدّدة" بمعزل عن قدرتها على الاشتراك في مولّد خاصّ. وعلى الرغم من أنّ مؤشّرات "الفقر مُتعدّد الأبعاد" هي أكثر شمولاً، لكنّها تقطع الروابط بين الفقر والثروة بشكل مُتزايد، وتعتّم على الظروف الأوسع التي تبني التفاوتات الاجتماعيّة وتعزّزها. إلى ذلك، رافقت تعديلات معرفيّة أخرى مُماثلة مشهد الطاقة المُتغيّر. على سبيل المثال، لطالما استُخدم مصطلحي "الدولة" أو "المولّد" لوصف مصدر الطاقة الكهربائيّة، أمّا الآن يجري تعميم مصطلح "الكهرباء"، بشكل عشوائي وعامّ، بمعزل عن مصدر هذه الطاقة.

أبرزت أزمة الكهرباء المُتعاظمة، كيفيّة شقّ الأيديولوجيّات والممارسات طريقها إلى اللغة وتحويل معنى الكلمات، وفي هذه الحالة إعادة توزيع الثروة والخصخصة. ويتمّ استعارة هذه اللغة، بدورها، لتتبّع ملامح الحياة الاجتماعيّة المُتغيّرة. من هنا، وبمعزل عن تبيان كيفيّة تحسين إمدادات الطاقة الكهربائيّة ومداها الزمني أم استمرار التنكّر لذلك، يبدو أنّ الترتيبات الكهربائيّة المستقبليّة لن تعمل على توسيع الأنماط المجتمعيّة لماضي لبنان القريب فحسب، بل سوف تغيّرها أو تتغيّر وفقها.