الاقتصاد والسياسة في دولة لبنان الغنائمية

  • السلطة في لبنان موجودة خارج المؤسّسات الدستورية، وهي تشبه مخلوقاً مثلّث الرؤوس: العنف، والتحكّم بالدولة، والمال
  • تحوّل الاقتصاد من الريع التقليدي والفساد بمعناه الضيّق والزبائنيّة التقليديّة، إلى سلوك مُتطرّف له طابع غنائمي صرف.

منطلق

هي فعلاً محاولة لفهم العلاقة المُعقّدة بين السياسي والاقتصادي (واستطراداً الاجتماعي والثقافي) في لبنان، لاسيّما ما أتاحته الأزمة الراهنة من تظهير صيغ مُتطرّفة لهذه العلاقة، تساعد على فهم بعض خصائصها الهيكليّة الكامنة أو غير الظاهرة تماماً في مراحل سابقة. وأشير في البداية إلى اعتقادي أنّ كلاً من السياسة والمؤسّسات من جهة، والاقتصاد من جهة أخرى (وكذلك المستويات الأخرى الاجتماعيّة والثقافيّة) تنبني على أساس مُشترك هو الطبيعة النيو-بالتريمانوياليّة neo-patrimonial للدولة والنظام1 ، وإنْ آليّات اشتغال المستوى الاقتصادي وقواعد عمله، تتكوّن من خلال تفاعل مُعقّد بين قواعد السياسة اللبنانيّة الغنائميّة من جهة، وقواعد السوق الرأسماليّة من جهة أخرى (لأنّ النظام اللبناني رأسمالي) والمؤثّرات الخارجيّة، لاسيّما مؤثّرات العولمة النيوليبراليّة ومتطلّباتها على المستويين الاقتصادي والسياسي – المؤسّسي، من دون إغفال المؤثّرات السياسيّة والجيوبوليتكيّة الإقليميّة على الرغم من أنّها ليست محور اهتمامنا المباشر في هذا المقال.

السلطة

لا تنحصر السلطة في مستوى واحدٍ من مستويات التشكّل والفعل المجتمعي، بل هي تتوازى معه بحيث يمكن التمييز بين ما يمكن اعتباره سلطة سياسيّة، وأخرى اقتصاديّة، وثالثة اجتماعيّة، ورابعة ثقافيّة (ليس هذا التقسيم الوحيد، لكنّه المتناسب مع موضوع المقال). تتداخل هذه المستويات الأربعة وتتفاعل وتشكّل معاً "السلطة" (مع أل التعريف) في مجتمع معيّن، وتتجسّد في نظام سياسي – اقتصادي معيّن في الزمان والمكان. وفي الدولة الحديثة، هناك هامش من التمايز النسبي بين هذه المستويات تؤدّي إلى تمايز بين مكوِّنات السلطة الأربعة، فلا تتطابق كلّياً، كما أنّ لا إفلات لها من مشروع "السلطة" المشترك وخياراتها الكبرى وقواعد عملها، لاسيّما عندما تتشكّل في صيغة دولة ومؤسّسات وقوانين وتتعزّز بقدرتها على ممارسة القسر الشرعي. فكلّ سلطة (ملك، حكم) بهذا المعنى لا تقوم إلا على الغَلَبة (حسب التعبير الخلدوني)، والغَلَبة في صيغتها الفجّة المباشرة، أو في صيغ السيطرة القانونيّة على الحيِّز المكاني وسكّانه، أو الهيمنة ضمن الائتلاف السلطوي المُسيطر؛ هي أمور ضروريّة لاشتغال النظام المجتمعي بشكل مستقرّ ومُتسق في كلّ أشكال الاجتماع البشري التي عرفناها حتّى اليوم.

السلطة في لبنان أشبه بمخلوق مثلّث الرؤوس تمثّل ثلاثة مكوِّنات أو مصادر متمايزة للسلطة في علاقة تحالف/صراع – هيمنة/سيطرة كما هي الحال دائماً

والسلطة بهذا المعنى تعيّن الجهات أو المؤسّسات أو الشبكات التي تتحكّم فعلياً بالقرار وبإدارة المجتمع والاقتصاد والمؤسّسات في وجهة معيّنة انطلاقاً من مصالحها وتصوّراتها ضمن الشروط التاريخيّة الموضوعيّة، والتي يُفترض أنّ تكون الدولة أداتها الأكثر أهمّية منذ عصر الحداثة. إلّا أنّ الدولة لا تنفرد بها بشكل حصري، إذ تكون هناك سلطات خارجها (مثلاً المؤسّسات الدينيّة كمستقرّ لجانب أساسي من السلطة الثقافيّة، أو التشكّلات القبليّة والعشائريّة كمستقرّ للسلطة الاجتماعيّة، أو الرأسمال أو أحد مكوِّناته الهامّة كالمجمع الصناعي العسكري أو النظام المصرفي مستقراً لسلطة اقتصاديّة - سياسيّة... إلخ). وقد كان المسار التاريخي في عصر الحداثة يميل إلى تعظيم دول الدولة المركزيّة كناظم مؤسّسي أوّل للسلطات الأخرى التي عليها أنّ تعمل ضمن الضوابط التشريعيّة والسياسيّة لنظام الدولة (الذي ساهمت في تشكيله أصلاً) والذي يُفترض أنّ يكون تعبيراً عن تسوية بين مختلف المكوِّنات التي تمثّل مُشتركاً سلطوياً مع هيمنة (غَلَبة) مُعترف بها لطرف أو أطراف مُحدّدة ضمن الائتلاف السلطوي الأوسع.

بشكل عامٍ لا يخلو من بعض التبسيط، فإنّ مسار الحداثة تضمّن بناء تشكيل مجتمعي تتمتّع فيه المستويات الأربعة المذكورة (السياسيّة، الاقتصاديّة، الاجتماعيّة، الثقافيّة) بهامش أكبر من الاستقلاليّة النسبيّة. نتج عن ذلك هامش من التمايز النسبي بين السلطات الأربعة الموازية، فتوزّعت على مراكز متعدّدة داخل التنظيم المجتمعي، في حين كانت أقرب إلى تركّزها في حيِّز واحد في المجتمعات الطبقيّة التقليديّة أو الباتريمونياليّة. كما نتج عنها أيضاً تبدّل في العلاقة البينيّة لمستويات السلطة الأربعة هذه، حيث تراجع طغيان المصدر السياسي التقليدي أو العنفي للسلطة على باقي المستويات، لصالح هيمنة مُتدرّجة وتصاعديّة للسلطة الاقتصاديّة التي بات لها قدرة على ضبط "السلطات" الأخرى، وإعادة تشكيلها أو توظيفها في مشروع مجتمعي مشترك، وائتلاف سياسي حاكم تحت هيمنتها. هكذا كان المسار العام لتطوّر النظام الرأسمالي، الذي نحن جزء منه بشكل متفاوت، حيث أنّ مسار الدول النامية وتشكّلها كدول بعد الاستقلال وانهيار الاستعمار التقليدي، واتخذ أشكالاً أكثر تعقيداً وأقل وضوحاً في ما يخصّ مصدر السلطة وأشكالها المُتحقّقة والعلاقة الهيمنيّة يبن المستويات والحيِّز الذي تتركّز فيه. وتوسّع هذا التداخل والتعقيد وتعمّق بشدّة مع العولمة النيوليبراليّة، ومع انهيار نظام الثنائيّة القطبيّة، وتفاقُم الأزمات والحروب لاسيّما في العقود الأخيرة، وشمل كلّ من دول المركز ودول الأطراف على حدّ سواء.

لبنان: تنين بثلاثة رؤوس

هناك كتابات وأبحاث جادّة كثيرة عن تاريخ لبنان الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لاسيّما مرحلة العقود الأخيرة للسيطرة العثمانيّة وفترة الحربين العالميتين والاستقلال وما بعده، توضح بقدر كافٍ من الدقّة مسار تشكّل النظام السياسي والاقتصادي في لبنان وخصائصه، وواكبت تطوّره حتّى الوقت الراهن. وجدت هذه الأبحاث طريقاً إلى برامج الأحزاب والتيّارات السياسيّة وخطابها، لاسيّما بعد الاستقلال وفي فترة الحرب اللبنانيّة (1975 – 1990) وقبلها مباشرة وبعدها، ولا تزال. ومن هذا القبيل أفكار ومصطلحات مثل الإقطاع السياسي، والطغمة الماليّة، وتشكّل النظام اللبناني بعد الاستقلال من تحالفهما؛ وتعبير الدولة المزرعة، والاقتصاد الحرّ، والطائفيّة السياسيّة، وأيضاً الأوليغارشيّة، وحكم المصرف، وحكم الفاسد، وحكم الأزعر، وتغيير هويّة لبنان... إلخ، التي كان لها حضور في الانتفاضات الشعبيّة لاسيّما ثورة (حراك) 17 تشرين 2019. وتعبِّر هذه المفردات كلّها وإن بشكل غير واعٍ كلّياً، عن واقع تداخل مستويّات السلطة وتبدّل ما في علاقات التحالف والهيمنة داخلها.

من دون مقدّمات أذهب إلى تحديد بعض خصائص السلطة في لبنان اليوم من منظور عملي يتعلّق بفهم الأزمة الراهنة وبطرق مواجهتها والخروج منها. وأهمّ خاصيتان هما التاليتان:

الخاصيّة الأولى: هي أنّ السلطة في لبنان موجودة خارج المؤسّسات الدستوريّة التي يُفترض أنّ تكون أدوات الحكم والقيادة الحاسمة بيد "الائتلاف الحاكم" (أو الطبقة الحكمة كما في التعبير اللبناني السائد). والحكومة بهذا المعنى ليست هي السلطة التنفيذيّة لأنّ لا سلطة لها بما هي مؤسّسة دستوريّة، بقدر ما هي واجهة للسلطة الفعليّة الموجودة خارجها. كما أنّها ليست حكومة بكلّ معنى الكلمة، أي أنّها لا تملك برنامجاً موحّداً ومواقف وسياسات محدّدة مشتركة، بل هي تجميع "مندوبين" عن أطراف سياسيّة تتخذ قرارها من أماكن أخرى غير الحكومة، وتوكل إليهم قدراً من السلطة في اتخاذ قرارات معيّنة حسب الحاجة. وقد تتشكّل هذه الحكومة من مندوبين أكثر تمثيلاً وينتسبون إلى النواة الصلبة لهذه الأطراف السياسيّة (غالباً في الحكومات السياسيّة التي يكون أعضاؤها من أقطاب الصف الأوّل – في التعبير اللبناني حكومات سياسيّة)، أو يكونون مندوبين مخوّلين أو غير "مخوّلين بالتوقيع"، أي واجهة شكليّة بحيث يحتاج الوزير إلى الخروج من الاجتماع قبل أي تصويت داخل الحكومة لمراجعة "الزعيم، أو القطب" الذي يمثّله داخل الحكومة. وبهذا المعنى فإنّ الوزير لا تتحدّد وظيفته النظريّة والعمليّة بكونه رئيس إدارته، بل بكونه مندوباً لزعيم أو قطب معيّن، ونجاحه أو فشله في مدى أدائه وظيفته هذه هو ما يحدّد تعيينه مرّة أخرى أو استبداله. والأمر نفسه ينطبق على البرلمان (وإنّ كان الأمر أكثر تعقيداً).

الخاصيّة الثانية: هي أنّ السلطة في لبنان أكثر ما تشبه مخلوقاً (لنقل أنّه تنين) مثلّث الرؤوس تمثّل ثلاثة مكوِّنات أو مصادر متمايزة للسلطة في علاقة تحالف/صراع – هيمنة/سيطرة كما هي الحال دائماً. ولا يمكن فهم ديناميّة الحياة السياسيّة في لبنان، والخيارات المُتعلّقة بالاقتصاد والسياسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وكذلك الموقف من الأوضاع المؤسّسيّة والأداء المؤسّسي، من دون أخذ واقع تعدّد مكوِّنات السلطة في لبنان على النحو المشار إليه. وبكلام أوضح، ثمّة في لبنان:

  1. سلطة مصدرها العنف والقسر والسلاح (خارج مؤسّسات الدولة)، وأبرز ممثّليها هو حزب الله الذي يتميّز بسطوة وطنيّة (غير موضعيّة أو محلّيّة) ينفرد فيها في القدرة على ممارسة العنف المسلّح خارجياً وداخلياً، أو استخدام امتلاكه هذه القدرة في فرض إرادته السياسيّة وتوجيه البلاد والدولة من خارج المؤسّسات؛
  2. سلطة مصدرها القدرة على التحكّم بمؤسّسات الدولة وأجهزتها، وهي تتمثّل في ما يُسمّى في الخطاب السياسي اللبناني الزعامات السياسيّة (ويمكن إضافة مجموعة من الصفات لوصفها مثل التقليديّة، والطائفيّة...)، وهؤلاء هم غالباً من يتقاسمون مراكز الإدارة والتحكّم في الحكومة والبرلمان والإدارة والأجهزة، والذين تنسب إليهم بالدرجة الأولى ممارسات المحاصصة والفساد والتقاسم الغنائمي للموارد والمناصب...، وهم أحزاب وتيّارات وزعامات تقليديّة تشكّل استمراراً لما كان يُسمّى الإقطاع السياسي، أو وافدون أكثر حداثة إلى جنّة السلطة والمؤسّسات من أصول ميليشياويّة خلال فترة الحرب، أو وفدوا إلى السياسة ومؤسّسات الدولة من عالم المال أو من خلال دعم داخلي أو خارجي مؤثّر؛
  3. سلطة مصدرها المال، وتتمثّل في المصارف وجمعيّتهم، وفي أصحاب الوكالات وكبار المستوردين، والكارتيلات المُهيمنة على مختلف القطاعات والخدمات من سوق العقارات، إلى الدواء، إلى الصحّة والمستشفيات، إلى المدارس الخاصّة، إلى التجارة الخارجيّة والداخليّة، إلى النفط والطاقة، إلى كبار الصرّافين... إلخ، والشبكات المُرتبطة بهم. وهؤلاء يمارسون تأثيرهم من خلال عدد من المؤسّسات بشكل مباشر (أبرزها مؤخّراً جمعيّة المصارف، وتجمّعات رجال الأعمال، مجموعات الضغط الإحتكاريّة في مختلف القطاعات)، كما يمارسونها بشكل غير مباشر من خلال تداخلهم مع مراكز القرار في مؤسّسات الدولة وأجهزتها

هذه السلطات الثلاث متداخلة وثمّة حالات اندماج بين بعض مكوِّناتها، بما في ذلك على المستوى الشخصي، حيث أنّ قائد ميليشيا يمكن أنّ يكون مُتحدِّراً من زعامة تقليديّة عائليّة موروثة، أو تحوَّل من قائد ميليشيا إلى ركن من أركان الدولة، وأيضاً إلى رجل أعمال أو عضو في كارتيل معيّن سواء استخدم أصله السياسي أو الميليشياوي للدخول إلى عالم المال أو الاقتصاد، أو العكس. ولا يتعلّق الأمر بالأفراد هنا، وهو تمرين سبق لباحثين جادّين أن قاموا به سابقاً حيث رصدوا هذا التداخل بالأسماء، بل يتناول هذا المقال هذا التكوين المُتعدّد من منظور الديناميّة المتولّدة عنه، في محاولة لفهم المواقف والممارسات بعيداً من التحليل الأحادي سواء كان اقتصادياً أو سياسياً... إلخ.

طبقات أم شبكات مصالح

وجود الطبقات الاجتماعيّة في لبنان واقع في رأيي، إلى جانب تشكّلات اجتماعيّة أخرى لها حضورها وتأثيرها تاريخياً وفي الزمن الراهن، ولعلّ أكثرها تناولاً هو التشكّل الطائفي إلى جانب التشكّلات  العشائريّة - العائليّة. ولا يمكن اختزال الديناميّات الاجتماعيّة في نمط أوحد لما في ذلك من تبسيط، كما لا يمكن اختزال الديناميّات الاقتصاديّة - الاجتماعيّة في الصراع الطبقي بمعناه التبسيطي والضيّق، لاسيّما عندما لا تتوفّر الشروط الضروريّة بتحوّل التشكّل الاجتماعي القائم على أساس الموقع الاقتصادي - الاجتماعي من الملكيّة وعلاقات الإنتاج إلى طبقة تعي نفسها على هذا الأساس وتمارس الفعل السياس انطلاقاً من وعيها ومشروعها هذا.

إنّ تشكّل الطبقة الاجتماعيّة وممارستها الصراع الطبقي مع الطبقات الأخرى من هذا المنطلق يتطلّب توفّر ثلاثة شروط رئيسيّة:

  1. تشكّل تصوّر لمصالح آنيّة ومتوسّطة وبعيدة المدى (نسبياً على الأقل) يشكّل أساساً لملامح النظام الاقتصادي والاجتماعي راهناً ومستقبلاً، وما يتلاءم معه من سياسات وخيارات؛
  2. وجود قدر من الوحدة في الموقف بين مكوِّنات الطبقة المتنوّعة، انطلاقاً من مشروع مشترك بالحدّ الأدنى، وضمن علاقة هيمنة بين مكوِّناتها هذه، تضمن وحدة نسبيّة في الموقف إزاء الطبقات الأخرى.
  3. استناد وحدة الموقف الطبقي العام  إلى الحدّ الضروري من القناعة والممارسة من قبل أفراد هذه الطبقة بتغليب مصالحهم الطبقيّة (ذات المضمون الاقتصادي - الاجتماعي) على ما عداها من مصالح وديناميّات ذات مصادر ثقافيّة - أيديولوجيّة، أو سياسيّة، أو مجتمعيّة أخرى. وهذا حدّ أدنى ضروري لتوفير الاتساق في المواقف ضمن الفئة الواحدة من الطبقة الاجتماعيّة، ولتوفير قاعدة للوحدة بين مكوِّناتها المتعدّدة. وفي طور أكثر تقدّماً، لا بدّ أن تعبّر هذه الطبقة عن مصالحها في مشروع سياسي (نظام حكم) بما هو وسيلة ضروريّة لتحقيق مصالحها، من دون أن يعني ذلك انفرادها بالسلطة، ولكن من دون أن يعني أيضاً تقزيم مشروعها السياسي إلى حدود تغييبه واستتباعه لصالح مشاريع سياسيّة طابعها الطبقي ضامر لصالح الديناميّات السياسيّة البحت، أو الثقافيّة - الأيدولوجيّة، أو الانتماءات الاجتماعيّة الأخرى.

إختصاراً، أقول إنّي أعتقد أنّ هذه الشروط غير متوفّرة بالحدّ الأدنى الضروري في الديناميّات اللبنانيّة الراهنة، بحيث يصعب التحدّث عن فعاليّة سياسيّة واقتصاديّة - اجتماعيّة وثقافيّة انطلاقاً من الصراع الطبقي، بقدر ما أنّ طبيعة الانتظام والمواقف والصراعات الدائرة خلال السنوات الأخيرة، بما في ذلك على نحو خاص، خلال الأزمة الراهنة، هي أقرب إلى كونها تقوم بين "شبكات مصالح" بعضها يغلب عليه طابع المصالح الماليّة - الاقتصاديّة أكثر من كونها صراعاً بين طبقات تملك تصوّراتها وتمارس الدفاع عن مصالحها على هذا الأساس. ويمكن أنّ تحمل "شبكات المصالح" بعض السمات الطبقيّة، ولكنّها ليست طبقة لكونها:

  1. تقتصر على بعض المكوِّنات القطاعيّة أو المكانيّة للطبقة الاجتماعيّة التي يُفترض أن تكون جزءاً منها (وأتحدّث بشكل خاصّ عن البورجوازيّة اللبنانيّة)، فهي شبكة مصالح المصرفيين مثلاً، أو أصحاب الوكالات الحصريّة، أو كارتيل الدواء، أو كارتيل المحروقات،... إلخ.
  2. في ممارسة هؤلاء تغلُب المصالح الفئويّة المباشرة على المصلحة الطبقيّة العامة، ويغلُب الآني على الاستراتيجي... إلخ.
  3. للدفاع عن مصالحها المباشرة، تلجأ شبكات المصالح إلى كلّ وسائل الحماية المتوفّرة السياسيّة والطائفيّة والدينيّة والمناطقيّة والعشائريّة... إلخ، وتغلُب أحياناً كثيرة هذه العوامل على عامل الإنتماء الطبقي إذا احتاج الأمر لذلك خدمة لمصالحها الفئويّة الخاصّة، وتتماهى أو تلتحق بعناصر السلطة الأخرى (العنف - السلاح، الدولة وأجهزتها والزعامات التقليديّة، الحمايات الطائفيّة - المناطقيّة... إلخ) على حساب انتسابها إلى مشروع طبقي أكثر عموميّة.

شبكات المصالح هذه لا تحمل مشروعاً سياسياً بملامح طبقيّة، أو ملامح اقتصاديّة - اجتماعيّة على درجة من التكامل والاتساق على مستوى البلد، ولا حتّى على مستوى القطاع الاقتصادي المعيّن، بل هي غالباً متداخلة مع مصادر السلطة الأخرى، وهو أمر نابع من التداخل والاندماج الحاصل عبر التاريخ بين مكوِّنات السلطة، لاسيّما اعتباراً من التسعينيّات وصولاً إلى الاندماج الشخصي.

بين هلالين – 1 (حريريّة التسعينيّات)

شكّل مشروع الحريريّة الأصلي الذي برز في التسعينيّات ملامح طبقيّة واضحة بما هو محاولة لبلورة مشروع سياسي جديد، وصيغة مختلفة لعلاقات الهيمنة وتوزيع الأدوار بين المكوِّن الرأسمالي من جهة، والمكوِّن السياسي والزعامات المُتحدِّرة من الإقطاع السياسي القديم والميليشيّات من جهة أخرى، لصالح أصحاب رأس المال في بناء الدولة والسياسة. وهو مشروع تمّ تدميره وصولاً إلى تصفية صاحبه جسدياً، وتصفية المشروع سياسياً (من علاماته ما نشهده من ضمور راهن في وضع تيّار المستقبل وانسحاب الرئيس سعد الحريري من الحياة السياسيّة). وقد ساهم ذلك في ما نشهده اليوم من ضمور في دور الاقتصاد في السياسة اللبنانيّة، وفي انفكاك شبكات المصالح التي كانت ترى لنفسها مكاناً في المشروع السياسي الطبقي الوطني، إلى شبكات فئويّة من دون مشروع سياسي خاصّ بها، وتميل إلى الالتحاق بمراكز القوى والحماية الأخرى.

لكلّ ما سبق، تكون ديناميّات التفاعل بين "شبكات مصالح" المركّبة والمتداخلة أكثر صلاحيّة في تفسير المواقف ضمن مكوِّنات السلطة الراهنة بما في ذلك الاقتصاديّة منها. ويزيد من صلاحيّة هذا التحليل عاملان:

  1. الأوّل هو طغيان دور العوامل الخارجيّة واستتباع الديناميّات الداخليّة في لبنان للمشاريع الإقليميّة المُتصارعة بشكل حادّ، ومن نتائج ذلك إضعاف الديناميّات الاجتماعيّة الطبقيّة لصالح الديناميّات السياسيّة وما يرتبط بها من أيديولوجيّات، ذلك أنّ الصراع الطبقي في معناه السياسي يتطلّب حدّاً أدنى من الانتظام ضمن إطار وطني من دون إغفال البعد العولمي؛
  2. الثاني هو أنّ التشكّل الفعلي لشبكات المصالح التي يتداخل فيها ويندمج مكوِّن العنف ومكوِّن الزعامة التقليديّة وجهاز الدولة ومكوِّن المال، في ظلّ المناخ العام والأزمة المعروفين، تصبح أكثر ميلاً للخروج على القانون، واقتراح تصرّفها من تصرف مافيا إجراميّة خارجة على القانون، أكثر من كونه تصرّف "كارتيل" إقتصادي أو مالي في سوق إحتكاريّة.

الاقتصاد الغنائمي

لا يمكن في رأيي فهم الديناميّات والمواقف والسياسات الاقتصاديّة من دون لحظ الطبيعة الغنائميّة للدولة (بمعنى نيو-باتريمونياليّة كما سبقت الإشارة إلى ذلك)، ومن دون لحظ الطبيعة الغنائميّة للاقتصاد اللبناني أيضاً. وقد سبق لي أنّ تناولت هذا المفهوم وتجلّيه في لبنان (والبلدان العربيّة) في كتاب سابق.2

وفي هذا الشأن، أشير إلى خاصيّتين للنظام السياسي والدولة لهما صلة مباشرة بموضوعنا هما:

  1. الأولى هي ما أطلقت عليه وصف "أهلنة الدولة"، وأعتقد أنّ الطائفيّة السياسيّة في صيغتها التقليديّة والمُستحدثة هي من تجلّيات ذلك، وهو ما يُضعف طغيان الدولة كجهاز مستقلّ للتحالف الحاكم بمجمله لصالح إعادة تموضع جوانب أساسيّة من سلطة الدولة خارجها وخارج مؤسّساتها؛
  2. الثانية هي أنّه لا يوجد في الدولة الغنائميّة جهاز دولة ومؤسّسات على درجة كافية من الحياد والاستقلاليّة عن السلطة في أدائها لمهامها اليوميّة بما هي إدارة، لا بل ثمّة دمج بين الوظيفتين السياسيّة والإداريّة لجهاز الدولة، لا بل تغليب للوظيفة السياسيّة على الأولى، الامر الذي يغيّر من معايير إشتغال الإدارة وجهاز الدولة.

أمّا على المستوى الاقتصادي، فإنّ الاقتصاد الغنائمي (النيو-باتريمونيالي) في لبنان (وهو وصف أكثر دقّة من المصطلحات والمفاهيم الأخرى الشائعة مثل الاقتصاد الريعي، والفساد والزبائنيّة في بُعدِها الاقتصادي وغيرها)، يتميّز بدوره بخصائص مميّزة إخترنا منها ما يلي:

الأولى هي تغليب الفعاليّة السياسيّة للاقتصاد على الفعاليّة الاقتصاديّة (ما يمكن اعتباره الحدّ الأدنى من قواعد السوق والربح والعقلانيّة الاقتصادي – وهذه مفاهيم نسبيّة طبعاً). وبهذا المعنى يجري توظيف الاقتصاد (على مستوى النظام الكلّي والسياسات) في خدمة إعادة إنتاج السلطة وتأبيدها على الوظائف الأخرى (الإنتاج، الربح... إلخ)؛

الثانية هي التحوّل (في حالة لبنان) من الريع التقليدي، ومن الفساد بمعناه الضيّق والزبائنيّة التقليديّة، إلى سلوك مُتطرّف - لا بل متوحّش، له طابع غنائمي صرف (بمعنى السلب الفجّ والغنيمة). وبدل الأساليب التقليديّة والناعمة والتحايل على القانون من أجل الحصول على الموارد غير المُستحقّة غالباً، يتنامى دور الاستحواذ القسري والعنيف، وتحلّ الخوّة محل الريع التقليدي، ومخالفة القانون بشكل فجّ ومُعمّم بدل التحايل عليه، ويتمّ تعميم السلوك الغنائمي هذا على كلّ مستويات الدورة الاقتصاديّة (والعلاقات الاجتماعيّة)، وتتفرّع شبكات المصالح المافيويّة على مستوى المناطق والقرى والأحياء والتشكّلات الاجتماعيّة مع سيطرة صريحة للشبكات القوية التي تتداخل فيها سلطة العنف مع سلطة الدولة مع سلطة المال.

بين هلالين – 2 (الوصاية السوريّة)

نفتح هلالين لنشير إلى نقطة هامّة هنا هي أنّ هذا التحوّل من "اقتصاد حرّ" (رأسمالي) تقليدي مع طابع عائلي مناطقي محلّي مطبوع بالزبائنيّة والواسطة والفساد التقليدي، إلى اقتصاد "غنائمي" فجّ، إنّما تمّ بالدرجة الأولى في فترة الوصاية السوريّة بعد الهجوم على قصر بعبدا في 13 تشرين 1990.

على المستوى الكلّي كان لبنان برمّته "غنيمة حرب" للنظام السوري حيث استُخدِم لبنان سياسياً واقتصادياً من أجل التخفيف من أزمة الاقتصاد السوري من خلال لبنان. ثمّ تعمّم هذا السلوك الغنائمي على ضبّاط المخابرات السوريّة الأساسيين في لبنان الذي تحكّموا بالحياة السياسيّة وغنموا ما أمكن من خلال العنف وأشكال الخوّة المختلفة. كما أنّهم عمّموا هذا السلوك على كلّ  لبنان، حيث تحوّل كلّ مركز أو حاجز للقوّات السوريّة في أي منطقة أو شارع، إلى جهة تفرض الخوّة بالمفرّق على سكّان المنطقة أو العابرين فيها.

تمّ التحوّل من اقتصاد حرّ تقليدي مع طابع عائلي مناطقي محلّي مطبوع بالزبائنيّة والواسطة والفساد التقليدي، إلى اقتصاد غنائمي فج، في فترة الوصاية السوريّة

تشكّلت بشكل متدرِّج ومنظّم شبكة مصالح على مستوى السلطة المركزيّة، والأحزاب، والأجهزة ومؤسّسات الدولة، وعلى مستوى مجموعات المستفيدين والأتباع على امتداد لبنان، وأنشأت اقتصاداً غير شرعي موازياً (التهريب ونظام الخوّة مثلاً) هو أدنى من اعتباره اقتصاداً، أي نظام الخوّة المُعمّم خارج القانون، الذي ما زال مستمراً بعد 2005، مع تعاظم دور الواجهات اللبنانيّة. نظام الخوّة والنهب المُعمّم هذا - الذي بات يُشار إليه اليوم بنظام بونزي Ponzi (الإحتيالي) - أنظر تقرير البنك الدولي الصادر بتاريخ 3 آب 2022 - يمتدّ من رؤوس الدولة المتحكّمين بقرارها، إلى أجهزة الدولة العسكريّة والأمنيّة والمدنيّة، إلى قادة أحزاب وميليشيّات، إلى جمعيّة المصارف، إلى متفرّعات هذا النظام في المناطق (نواب، مسؤولي عشائر، كارتيلات قطاعيّة، مهرّبين، صيارفة، عصابات إجراميّة صغيرة، أصحاب المولّدات... إلخ).

الغنائميّة مفهوم علمي أو خطاب تعبوي

مرّة أخرى لا يمكن فهم الاقتصاد وديناميّاته من دون استخدام هذه العناصر في شبكة التحليل. وتلافياً لأي التباس، فإنّ هذا الوصف ليس من باب ما نقرأه في الصحافة اليوميّة، وليس استعادة لخطاب الفساد الذي تتبنّاه أطراف سياسيّة متعدّدة. الاستخدام هنا هو انطلاقاً من مفهوم علمي للدولة الباتريمونياليّة (الغنائميّة)  كما عند عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر Max Weber، واستخدام حزمة المفاهيم المرتبطة به في فهم الواقع اللبناني.

بهذا المعنى الفت النظر إلى فكرتين:

  1. الفكرة الأولى، أنّ باحثاً ألمانياً إسمه أوليفر شلومبرغر درس في أطروحة الدكتوراه اقتصادات أربع دول عربيّة (مصر والأردن والجزائر والإمارات) وخلُص إلى وصف الاقتصادات العربيّة بأنّها رأسماليّة باتريمونياليّة (patrimonial capitalism)، وحدّد خصائص هذه الرأسماليّة في بلداننا من المدخل السياسي بأولويّة الفعاليّة السياسيّة وتفوّقها على الفعاليّة الاقتصاديّة.3
  2. الفكرة الثانية تتعلّق بمساهمة الاقتصادي والمفكّر الفرنسي توماس بيكيتي Thomas Piketty، لاسيّما منذ كتابه رأس المال في القرن الحادي والعشرين، حيث وصف الرأسماليّة المعاصرة بأنّها رأسماليّة باتريمونياليّة (patrimonial capitalism)، واعتبر أنّها تُظهِر علامات تخالف تعريف الرأسماليّات السابقة إذ هي تغلّب للثروة على العمل، والريع على الإنتاج، والوراثة على الجهد الشخصي.

خلاصة

ما أراه غريباً بعض الشيء هو أنّ هذه الأفكار الجديدة في الاقتصاد (والاجتماع والسياسة) ليس لها أثر واضح في التحليلات السائدة للوضع الاقتصادي في لبنان، بما في ذلك الجدّية والعميقة منها. بين ما هو متداول ثمّة فهم خطّي linear وأحادي لا يخلو من التبسيط، ويتجاوز الاندماج العضوي بين العنف والسياسة والاقتصاد، وبين الموروث والراهن. أرى أنّ اعتبار أزمة اليوم نتيجة طبيعيّة لنظام التسعينيّات وامتداداً لأزماته، وأبعد من ذلك اعتبارها امتداداً لنظام الاقتصاد الحرّ في صيغته التقليديّة بين 1943 و1975 ليست مقنعة بالنسبة إليّ. وفي رأيي ثمّة ثلاثة مراحل كبرى على الأقلّ لكلّ منها نموذجها الاقتصادي المتمايز التي لا بدّ من تعيينها، وإلّا يمكن الاكتفاء بالقول أنّه نظام رأسمالي وكفى، وهذه المراحل - النماذج هي من الاستقلال إلى بداية الحرب اللبنانيّة 1975، ومن التسعينيّات حتّى 2005، ومن 2005 حتّى اليوم مع وجود محطّات فرعيّة ضمن كلّ مرحلة (سنوات الحرب 1975-1990 هي فترة خاصّة تحتاج إلى معالجة مستقلّة).

من نتائج هذه المقاربة، أنّه في تحليل الأزمة الراهنة وتحميل المسؤوليّات عن الأزمة والخسائر، يجب إعادة التوازن بين مسؤوليّة سياسات التسعينيّات مثلاً، ومسؤوليّة أصحاب السلطة الفعليّة والقرار من 2019 حتّى يومنا هذا، حيث نرى في التحليل الاقتصادي الشائع التركيز على أنّ ما يحصل هو نتيجة سياسات خاطئة للعقود الثلاثة السابقة بشكل لا يخلو من التبسيط وتغليب السياسي على التحليل الاقتصادي، وغالباً ما يُنسَب إلى الحريريّة كخيار سياسي. لكن علينا أنّ نسأل، هل أنّ أزمة اليوم وديناميّاتها هي امتداد بسيط لديناميّات التسعينيّات، أم أنّها نشأت في صيغتها وخصائصها الراهنة على أنقاض سياسات التسعينيّات. لا يغيّر من ذلك استمرار السيّد سعد الحريري في ترأس حكومات بعد اغتيال السيّد رفيق الحريري عام 2005، فالحريري الإبن لعب دوراً كبيراً وحاسماً في تقويض مشروع الحريريّة الأصلي، وتخلّى عن مشروع رفيق الحريري الذي سعى إلى بناء مشروع سياسي للرأسمال الجديد المعولم في التسعينيّات يوازن إحتكار السياسة والأمن في لبنان من قبل النظام السوري، أي أنّه حاول تعظيم دور المستوى الاقتصادي على حساب المستوى السياسي الذي تكمن قيادته خارج لبنان، ويعدّل من التوازن الداخلي لصالح الرأسمال الجديد المعولم على  الرأسمال اللبناني التقليدي. ومع التخلّي عن حمله المشروع السياسي، فإنّ تيّار المستقبل ورئيسه تحديداً، قد انتقل بالكامل إلى الاكتفاء بكونه جزءاً من النظام الغنائمي، واستبدل مشروع والده كتعبير سياسي عن مصالح طبقيّة، بشبكة المصالح الآنيّة والاستحواذ على حصّته من الغنائم التي كانت تتآكل باستمرار.

حسب مفردات السياسة اللبنانيّة، كان لبنان الباتريمونيالي - التقليدي قبل الحرب (1975) دولة مزرعة، وبعد الخروج من الحرب عام 1990 كانت هناك محاولة لتحوّله إلى دولة شركة، إلّا أنّ التطوّرات والدور الحاسم الذي لعبته الوصاية السوريّة (وغيرها من التطوّرات الإقليميّة) حوّلته إلى دولة غنائميّة. واقتصاد اليوم لم يكن اقتصاد التسعينيّات، ولا اقتصاد ما قبل 1975.

هذا أحد المفاتيح في قراءة مختلفة لتطوّر الاقتصاد اللبناني (الغنائمي في رأيي)، وأحد المفاتيح لإعادة الاعتبار إلى المضمون السياسي للصراع الطبقي والطبقات، بما يتجاوز شبكات المصالح وصراعاتها وتحالفاتها الراهنة، سواء في السياسة أو الاقتصاد.

  • 1من الآن فصاعداً سوف استخدم مصطلح الغنائميّة ترجمة لهذا المفهوم
  • 2الدولة الغنائميّة والربيع العربي – دار الفارابي وشبكة المنظّمات العربيّة غير الحكوميّة للتنمية، بيروت 2014
  • 3Oliver Schlumberger: Patrimonial capitalism: economic reform and economic order in the Arab world – 2004