Preview من تثبيت أسعار الصرف إلى تحريرها

يعلن الصندوق ان اهدافه ترمي الى تعزيز سلامة الاقتصاد العالمي من خلال تيسير النموّ في التجارة الدولية، وتحقيق استقرار أسعار الصرف، بالإضافة إلى تصحيح اختلالات موازين المدفوعات التي تتعرّض لها البلدان.

من تثبيت أسعار الصرف إلى تحريرها

"التكيف الهيكلي؟ كان ذلك قبل وقتي. ليس لدي أي فكرة ماذا يعني.
نحن لم نعد نفعل ذلك الآن".
  - كريستين لاغارد، المديرة العامة السابقة لصندوق النقد الدولي

هناك اعتقاد شائع لدى غالبية الناس بأن صندوق النقد الدولي هو عبارة عن مؤسسة مالية تقدم ائتماناً طارئاً للبلدان التي تواجه صعوبات اقتصادية، سواء كانت تلك الصعاب ناتجة عن خيارات سيئة في السياسة الاقتصادية، أو صدمات خارجية كالهبوط المفاجئ في أسعار السلع الأساسية، أو حتى جراء أزمة مالية ألقت بأوزارها على البلد. ومقابل هذا الائتمان الطارئ، تكون الدولة المُقترضة مُلزَمة بفرض حزمة من سياسات التّقشف المؤلمة، والتي غالباً ما تنطوي على تخفيضات في الانفاق العام وزيادة في الضرائب، أو على رفع معدّلات الفائدة بهدف لجم التضخم، أو تخفيض قيمة العملة (انطلاقاً من مسلّمٍة في الأدبيات الاقتصادية الكلاسيكية فحواها أن تخفيض قيمة العملة ينعكس ايجابياً على صادرات البلد المأزوم).
هذا الاعتقاد الشائع لا يفتقر الى الدقة، غير أنه يُعطي صورة جزئيّة عن واقع الصندوق، وعملياته، وتطوّر مهامه عبر الزمن. فمنذ إنشائه قبل حوالي 78 عامًا، نجح الصندوق في إعادة إنتاج نفسه في عدة مناسبات، وبأبعاد مختلفة، حيث كانت له ولادة جديدة عند كل محطة مفصلية في الاقتصاد العالمي؛ أي في سياق سلسلة من الصدمات الاقتصادية والسياسية الكبرى، منها الصدمات بأسعار النفط في سبعينيات القرن الماضي، وأزمة الديون في الثمانينيات، وانهيار الاتحاد السوفياتي في أواخر الثمانينيات، وأزمات الأسواق الناشئة في آسيا وأميركا اللاتينية في التسعينيات، بالإضافة الى أزمة 2008 المالية العالمية، وجائحة كوفيد-19 في 2020، وأخيراً وليس آخراً الحرب الروسية-الأوكرانية. بمعنى آخر، لعبت أحداث القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين دوراً أساسياً لجهة استحداث الصندوق ومسؤولياته من جهة، والوجهة التي تركزت فيها موارده من جهة أخرى.
في سياق هذا التطوّر في مهام الصندوق، وتوسّع الرقعة الجغرافية لتدخّلاته. سنحاول الإجابة عن الأسئلة التالية: ما هو صندوق النقد الدولي؟ وما هي الوظائف المنوطة به؟ وكيف يمكننا أن نفهم التحوّل في مهامه منذ الأربعينيات وحتى اليوم؟

ماهية صندوق النقد الدولي ونشأته

يُعَد صندوق النقد الدولي مؤسّسة مالية دولية. وقد أُنشئ في سنة 1944 في مؤتمر بريتون-وودز في ولاية نيوهامبشير الأمريكية جرّاء اتّفاق أُبرِم بين خمس وأربعين دولة على إطار للتعاون الاقتصادي في مرحلة ما بعد الحرب العالميّة الثانية، حيث يُمكن من خلاله تجنّب تكرار كارثة الكساد الكبير التي وقعت في ثلاثينيّات القرن العشرين. تمتلك الصندوق حكومات الدول الأعضاء، حيث إن حصص عضوية هذه البلدان تُشكّل المصدر الرئيسي الذي يستمد منه الصندوق موارده المالية. وتعكس حصة البلد العضو حجمه الاقتصادي ومركزه في الاقتصاد العالمي، وبالتالي مدى تأثير هذا البلد في وجهة الصندوق السياسية والاقتصادية.
يعلن الصندوق ان اهدافه ترمي الى تعزيز سلامة الاقتصاد العالمي من خلال تيسير النموّ في التجارة الدولية، وتحقيق استقرار أسعار الصرف، بالإضافة إلى تصحيح اختلالات موازين المدفوعات التي تتعرّض لها البلدان. وفي سبيل تحقيق هذه الأهداف يقوم الصّندوق بجملة من المهامّ التي تندرج في سياق مساراتٍ ثلاثة:
أوّلاً: يقوم الصندوق بتقديم المشورة للدول الأعضاء بشأن السياسات الاقتصاديّة، والماليّة والنقديّة. وبشكلٍ عام، تأتي هذه المشورة على شكل توصيات في تقارير قطرية سنويّة يعدّها موظفو الصندوق، وتُعرف بتقارير مشاورات المادّة الرابعة. وثانياً: يعمل الصندوق على تدريب حكومات الدول الأعضاء ومصارفها المركزيّة، بالإضافة الى توفير المساعدة الفنّية لها، وذلك في المجالات التي تتعلّق بالسياسات الماليّة والنقديّة، كما الإحصاءات الرسميّة. وثالثاً: يقوم الصندوق بتقديم قروض1 بالعملات الأجنبيّة إلى الدول الأعضاء التي تعاني عجزاً كبيراً في موازين مدفوعاتها ونقصاً حادّاً في احتياطاتها من العملات الأجنبيّة الضروريّة للوفاء بقيمة ما تستورده من الخارج، والذي في الوقت نفسه تلجأ اليه من أجل تجنّب الوقوع في أزمات اقتصاديّة وماليّة أكثر خطورة.
لكن كثيرين من مواطني ومواطنات الدول الأفقر في هذا العالم باتوا يرون الصندوق – وكأنهم يعرفون بحدسهم وتجاربهم – على أنه مؤسّسة سياسيّة تنطوي برامجها على مسار اقتصادي تقشّفي ينتصر لمصالح النخب الرأسمالية، وخصوصاً في الدول المتقدمة، بينما يُثقل كاهل الفقراء الذين تتقرّر من خلال برامجه مصائر حياتهم اليومية كما مصائر دولهم السياسية والاستراتيجية.

 

من الأربعينيات حتى انهيار نظام بريتون-وودز

يشير مايكل بوردو وهارولد جايمز في ورقتهما البحثية "صندوق النقد الدولي: دوره الحالي في المنظور التاريخي" الصادرة عام 2000 الى أن التفويض الأساسي للصندوق، كما هو منصوص عليه في المادة الأولى من اتفاقية انشائه، جاء عامّاً الى حدٍّ كبير، حيث إنه كان يرتكز على المحاور التالية: تعزيز التعاون النقدي الدولي، وتيسير نمو التجارة العالمية، وتعزيز الاستقرار في سعر الصرف، بالإضافة الى المساعدة في إنشاء نظام مدفوعات متعدد الأطراف. ولتحقيق هذه الأهداف، يتعيّن على الصندوق أن يوفّر حزم دعم مالية قصيرة الأجل للبلدان التي تعاني خللاً في موازين مدفوعاتها، أو شحّاً في احتياطاتها من العملات الأجنبية.
وفي خلال العقود الثلاثة التي تلت انتهاء الحرب العالميّة الثانية – أي في إطار نظام بريتون وودز – عمل صندوق النقد الدولي من خلال نموذج اقتصاديّ كينزيّ، فاشترط لمنح قروضه إصلاحات محدودة ركّزت حصرياً على التخفيف من عجز الميزانيّة، وتحقيق استقرار سعر الصرف من دون اللجوء الى خفض قيمة العملة لِتحقيق ميزة تنافسيّة غير عادلة، نظراً لأنه كان معنياً بالحفاظ على الطلب الكلّي. أي إنه في مرحلة ما بعد الحرب، كان الصندوق يبني شروطه على اعتبارات اقتصاديّة، دون السعي الواضح والمعلن الى تغيير الأهداف الاقتصاديّة والاجتماعيّة للبلدان المُقترِضة. مستندا في تلك المرحلة الى المادّة الأولى من اتّفاقية إنشاء الصندوق، والتي نصّت على أنّ الصندوق يجب أن يعتني بالدرجة الأولى بالشقّ الاقتصادي بدلاً من الشقّ السياسي في توصياته، فيعمل على "... توفير الثقة بين البلدان الأعضاء عن طريق إتاحة موارد الصندوق العامّة لها بصفة مؤقّتة.. وبالتالي إتاحة الفرصة لها لتصحيح عدم التوازن في ميزان مدفوعاتها دون اللجوء الى تدابير مدمّرة للازدهار الوطني أو الدولي" (IMF 2016، ص 2). يعني ذلك أنّه يحق للصندوق تحديد شروط الإقراض لناحية إصلاح الاقتصاد الكلّي، غير أنه يجب أن يُتيح للبلد العضو حرّية التصرّف فيما خصّ اختيار السياسة الاقتصاديّة الملائمة التي يراها الأخير ملائمة لغرض الإصلاح، ولا سيما السياسة الماليّة والأدوات ذات الصلة، أي السياسات المُتعلّقة بالإنفاق العامّ أو الضرائب.
شهدت البيئة السياسية والاقتصادية الدولية بعد انهيار نظام بريتون-وودز في عام 1973 تغيّراً جذرياً عمّا كانت عليه لحظة انشاء الصندوق. فقد أصبح للبلدان الأعضاء حرية اختيار ترتيبات أسعار الصرف الخاصة بها، سواء اقترنت بأنظمة أسعار الصرف الثابتة من أجل تأمين الانضباط النقدي والمالي، أو أنظمة أسعار الصرف العائمة بهدف تأمين استقلالية السياسة النقدية وعزل البلاد عن الصدمات الخارجية. وبذلك، انهار نظام بريتون-وودز بعدما أوقفت حكومة الولايات المتّحدة الأميركيّة إمكانية تحويل الدولار (واحتياطيات الحكومات الأخرى بالدولار) الى ذهب، وتبدّلت مع هذا الانهيار الوظائف الرئيسية لصندوق النقد الدولي كحكم لقواعد اللعبة في النظام الاقتصادي الدولي.
بحسب كارمن راينهارت وكريستوف تريبيش، في ورقتهما "صندوق النقد الدولي: 70 عامًا من التجديد" لسنة 2016، ازداد عدد برامج التمويل التابعة للصندوق بأكثر من الضعف بين سنتيْ 1976 و1983. ولكن اللافت هو التحوّل الملحوظ في هويّة البلدان المُقترضة في هذه الفترة. فقد أصبحت البلدان الأقل نمواً الزبون الرئيسي للصندوق، على عكس ما كان سائداً قبل انهيار نظام بريتون-وودز حيث كانت الدول المُتقدمة تُشكّل الوجهة الرئيسيّة للتمويل.
ومنذ ثمانينيات القرن العشرين، أي الحقبة التي برزت فيها التوجهات النيو-ليبرالية للاقتصاد، والتي تقاطعت مع صعود رئيسة وزراء المملكة المتحدة مارغريت تاتشر والرئيس الأميركي رونالد ريغان الى سدة السلطة، أخذ الصندوق يُوسّع نطاق مشروطيّته مُتجاوزاً بذلك التفويض الأصلي له وفقاً للمادّة الأولى من اتّفاقية إنشائه. فتوسّعت برامج التمويل لدى الصندوق، وخصوصاً في الدول النامية التي كانت ترزح تحت الأزمات الاقتصادية آنذاك، ومعها عمّق المشروطيّة حتى باتت تشتمل على طيف واسع من المجالات السياسيّة التي تنضوي في إطار أربعة أنواع رئيسية من الإصلاحات: الاستقرار المالي والنقدي، والتحرير، وإلغاء الضوابط، والخصخصة. بمعنى آخر، باتت برامج الصندوق تُعنى بإحداث "تعديلات هيكلية" في اقتصادات الدول المُقترضة، أي تغييرات في البنية الاقتصادية الأساسية لهذه البلدان.
وقد تكرّس هذا التوجه المُستحدث في حقبة التسعينيات في المناطق النامية كأميركا اللاتينيّة، وأفريقيا جنوب الصحراء، وحتى في الدول العربية، حيث انطوت برامج الصندوق على شروط تستند الى مبادئ إجماع واشنطن، وهي عبارة عن قائمة من الأوامر والنواهي التي يتعيّن على صنّاع القرار في الدول النامية الالتزام بها. واشتملت هذه الشروط على إصلاحات إلزاميّة في مجالات عدّة، منها: تخفيضاتٌ هائلة في النفقات الحكومية، وتوسيع القاعدة الضريبيّة مع فرض ضرائب جديدة – ولا سيّما الضرائب على الاستهلاك – وتحقيق الاستقرار في سعر الصرف من خلال خفض قيمة العملات مع تبنّي معدّلات فائدة أعلى، وتحرير التجارة من خلال إزالة الحواجز الجمركية وغير الجمركية، وتحرير قوانين الملكيّة، وإلغاء القيود في سوق العمل، كما القيود الماليّة، بالإضافة الى خصخصة الشركات المملوكة للدولة، والتشريع لاستقلاليّة البنك المركزي. وبذلك، بات التوسّع الملحوظ في مشروطيّة صندوق النقد الدولي يحمل في طيّاته بُعداً سياسيّاً واجتماعيّاً، يترتّب عليه تقييدٌ لمساحة الدول الأعضاء السياسيّة، وكذلك لسيادتهم الوطنيّة. فوفقاً لكورنيل بان وكيفِن غالاغِر، في ورقتهما البحثيّة "إعادة تقويم الأرثوذكسية السياسية: صندوق النقد الدولي منذ الانكماش العظيم" الصادرة سنة 2015، بات دور الصندوق يتّسم بالإهمال لتنوّع الظروف المحلّية، والالتزام العنيد بنظريّة عقائدية ليبرالية جديدة للاقتصاد.


أزمة 2008 المالية العالمية والانتفاضات العربية

في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بلغ الطلب على خدمات الصندوق أدنى مستوياته تاريخيًا. فقد صرّح العديد من النقاد حول العالم بأن صندوق النقد الدولي بات يقترب من الإفلاس نتيجةً للتعبئة العالمية ضده. غير أن الأزمة المالية العالمية أثبتَتْ أن هذه المزاعم كانت سابقة لأوانها. فمع بداية الأزمة، تعهّدت دول مجموعة العشرين بتقديم 750 مليار دولار لتمكين الصندوق من تكثيف أعماله. وبين عامي 2009 و2014، قدّم الصندوق 129 قرضاً جديدًاً الى 76 دولة، مُعزّزاً بالتالي مكانته كلاعب مركزي في الحوكمة الاقتصادية العالمية وفي إدارة الأزمات.
لكن اللافت هو أن انتعاش الصندوق في أعقاب الأزمة المالية العالمية جاء مصحوباً بخطاب غير مألوف. كما يشير ألكسندر كينتيكيلينيس وآخرون في الورقة البحثيّة "مشروطية صندوق النقد الدولي وفضاء سياسة التنمية 1985 – 2014" الصادرة سنة 2016، فقد بدأ الصندوق يعترف – أقله في الخطاب العام – بأهمية الإنفاق المعاكس للدورة الاقتصادية (Counter-Cyclical Policy) بهدف تحفيز الاقتصاد في حالة الأزمات، والمنفعة المُتأتّية من ضوابط رأس المال، والمخاطر التي تنطوي على تنامي انعدام المساواة في الدخل (Income Inequality)، كما العواقب السلبيّة لغياب السياسات المعنيّة بالحماية الاجتماعية (Social Protection). وقد أعطت الأزمة التي عصفت باليونان في أواخر سنة 2009، كما الانتفاضات التي اندلعت في المنطقة العربية في مطلع العقد الفائت، سبباً إضافياً للصندوق لإعادة التفكير في سياساته، ولتسويق وُجهَتِه الجديدة.
قد يتهيّأ لنا، في ظاهر الأمور، أن التغيّر في خطاب الصندوق سوف يَرقى الى تحوّلٍ متناسب في الممارسة، أي في التوصيات، فيُتيح للدول الأعضاء مساحة سياسية أكبر لاعتماد أدوات اقتصادية تُعزّز الطلب الكلّي والحماية الاجتماعية. لكن الأدلّة التجريبية تُوفّر القليل من الدعم لهذه الفرضية، إذ إنها تشير الى اتساع واضح في المجالات السياسية التي تشترطها برامج الصندوق.
لم يقم الصندوق بمحاولات صريحة – أقلّه عن طريق المشروطيّة – للعزوف عن سياسات التّقشّف والتغيّر الهيكلي التي اشتهر بها في السابق. بل على العكس، ظلّت توصيات الصندوق في المرحلة التي تلت الأزمة المالية العالمية، وأزمة اليونان، والانتفاضات العربية، تشترط معايير هيكلية (Structural benchmarks) تهدُف الى تقليل "التشوّهات" التي تُنتِجُها تدخلات الحكومة في الاقتصاد، والى تغيير البنية الأساسية للاقتصاد لا سيما عبر فرض سياسات تُعنى بخصخصة الشركات المملوكة للدولة، أو تشريع استقلالية البنوك المركزية، أو تحرير أسواق العمل، أو إعادة هيكلة الأنظمة الضريبية. والجدير بالذكر أن العام 2014 وحده تضمّن عدداً من المعايير الهيكلية المُنضوية في برامج صندوق النقد الدولي أعلى من أي عام آخر. وتشير هذه الاتجاهات الى أن التكيف الهيكلي ليس بدعة سياسية من الماضي مُنفصلة عن ممارساته في الحاضر، بل إن برامج الصندوق لا تزال تتضمن عددًا كبيرًا من الشروط الهيكلية، ولا تزال مثل هذه الشروط ضمن أولويّات الصندوق وبرامجه.


جائحة كوفيد-19

شكّلت أزمة كوفيد-19 انعطافة هامّة للصندوق بالمقارنة مع الأزمات السابقة. فقد حثّ الصندوق الدول الأعضاء على الانفاق بهدف حماية فئات مجتمعاتها التي ترزح تحت الجائحة، متناسياً بذلك عقوداً من التقشّف وربط الأحزمة.
بحسب عبدو (2022)، عمل الصندوق على تجنيد 107 مليارات دولار، على شكل قروض طارئة وغير مشروطة، من أجل تمكين الدول الأعضاء من التصدّي للجائحة ومعالجة تداعياتها، من دون أن تتدهور احتياطات هذه الدول من العملات الأجنبية. كما أصدر 650 مليار دولار من حقوق السحب الخاصة (Special Drawing Rights) – وهو الإصدار الأكبر في تاريخه – توزّعت على الدول الأعضاء بحسب الكوتا الخاصّة بها.
لكن الانعطافة تلك كانت موجزة الى حدّ كبير، فقد تجلّت المعالم الأولى لعودة الصندوق الى نهج التقشّف عند بداية الحرب الروسية-الأوكرانية. ففي خلال اجتماع مجموعة العشرين في بالي في تموز 2022، دعت المديرة العامة الحالية لصندوق النقد الدولي، كريستالينا غورغييفا، الدول كافّة لبذل كل ما في وسعها لمحاربة التضخم من خلال اعتماد سياسة نقدية ومالية انكماشية؛ أي زيادة معدّلات الفائدة بهدف لجم التضخّم، وخاصّة في ظل الاتجاه التّصاعدي في أسعار السلع والمواد الغذائية والنفطية، والتقشّف المالي من أجل خدمة هذه الوجهة وتفادي عجوزات إضافية في الميزانيات العامة.


وظائف الصندوق انعكاس مباشر للجغرافيا السياسية المتغيّرة

منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، وخصوصاً منذ التسعينيات، ترسّخ توجّهٌ عام لدى الولايات المتحدة والدول الأوروبية مفاده أن الاستقرار الاقتصادي والاستقرار السياسي يسيران معًا جنباً الى جنب. يعني ذلك أن التوجّه نحو اقتصاد السوق يجب أن يتواءم في الوقت نفسه مع التوجّه نحو الديمقراطية. وقد انعكس هذا التّوجه العام في البرامج التي تُوفّرها منظمتا بريتون-وودز، وتحديداً البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، اللّتان أصبحتا تهتمّان بشدة بمسائل الحوكمة الرشيدة، كما المساءلة والشفافية في المؤسسات الحكومية.
إن دلّ ذلك على شيء، فإنه يدلّ على أن العنصر الاستراتيجي، أو الجيوسياسي، بات جزءاً لا يتجزأ من وجهة الصندوق. والدليل على ذلك هو مهاجمة الإنفاق العسكري، والفساد، و"الممارسات غير الديمقراطية" في العديد من الدول، لا سيما تلك التي تتمتّع بإمكانات عسكرية واقتصادية صغيرة بالمقارنة مع دول ذات وزن سياسي واقتصادي أكبر مثل روسيا والصين.
وفي سياق متصل، يروي بوردو وجايمز (2000) أنه خلال حقبة الحرب الباردة كان بعض الدعم المالي لدول معينة كمصر وزائير (الكونغو الديموقراطية حالياً) مدفوعاً بضغط سياسي من المجتمع الدولي الغربي لأسباب تتعلق بالسياسة الخارجية، وضرورات حفظ الاستقرار في هذه المناطق. وقد انطوت برامج الصندوق في هذه الدول حينها على شروط ضعيفة، فيما غاب الإصلاح الاقتصادي الفعلي. ذلك أن مصلحة الولايات المتحدة – المساهم الأكبر والأكثر نفوذاً في صندوق النقد الدولي – اقْتَدَت الاستقرار الذي يستحق، من وجهة نظر الولايات المتحدة، التضحية بالبرنامج الضائع.


النفاق المنظّم

منذ انشائه وحتى اليوم، عزّز صندوق النقد الدولي دوره باعتباره المؤسسة المركزية المُكلفة بإدارة الأزمات. وهو نجح في إعادة انتاج نفسه وبرامجه عند كل محطّة تاريخية، اذ استطاع أن يتأقلم مع المتغيّرات التي جعلت من راهنيته موضع شك، بدءاً من انهيار نظام بريتون-وودز في السبعينيات، ومروراً بأزمة 2008 المالية العالمية، وجائحة كوفيد-19، ووصولاً الى أزمة الديون والتضخّم العالمي اليوم.
وخلال سنين عمل الصندوق، برزت فجوة واضحة بين التفويض الأساسي من جهة، وتطوّر مهام الصندوق من جهة أخرى. وتنطبق هذه الفجوة أيضاً على الخطاب المُتغيّر للصندوق في المرحلة التي تلت الأزمة المالية العالمية من جهة، والممارسة من خلال التوصيات السياسية، من جهة أخرى. أن هذه الفجوة (شرّي 2017) هي دليل على مزيج من أمريْن: الحفاظ على النموذج الأساسي للصندوق، والنفاق المنظّم في البيروقراطيات الدولية. يُذكر أن صندوق النقد الدولي هو أحد هذه البيروقراطيات التي تُعد مساحة غنيّة بالتناقضات. وهو يواجه ضغوطًا كبيرة من مختلف أصحاب المصلحة – مساهمين أكانوا أم مُدراءَ تنفيذيين – أو حتى من الأجندات البيروقراطية أو التكنوقراطية الداخلية، فضلاً عن عامة الناس. بمعنى آخر، يُمكن النظر الى صندوق النقد الدولي على أنه منظمة دولية معاصرة تتأثر بكل من العوامل الخارجية وغيرها التي تتخذ شكل ضغوطات داخلية، حيث إن التفاعل بين هذه العوامل الخارجية والداخلية يُؤدي الى الفصل بين الأهداف التي يتضمّنها التفويض الأساسي أو الخطاب الرسمي من جهة وبين الممارسة الفعلية من جهة أخرى. وبالتالي، فإن استجابة صندوق النقد الدولي لهذه الضغوطات تُصبح نفاقاً مُنظّماً يُعتبر ضرورياً لاستمرارية الصندوق في دوره المستقبلي.

 
المراجع الأجنبية
 
Ban, C. and Gallagher, K., 2015. Recalibrating policy orthodoxy: the IMF since the great recession. Governance, 28(2), pp.131-146. Available at: https://bit.ly/3YhV7UU
 
Bordo, M.D. and James, H., 2000. The International Monetary Fund: its present role in historical perspective. Available at: http://bit.ly/3x8X8ab
 
IMF, 2016. Articles of Agreement. Washington DC. International Monetary Fund. p. 2. Available at: https://www.imf.org/external/pubs/ft/aa/pdf/aa.pdf
 
IMF, 2022. IMF Managing Director Kristalina Georgieva Urges G20 Leadership to Address ‘Exceptionally Uncertain’ Global Outlook. Available at: http://bit.ly/3jNZxnF
 
Kentikelenis, A.E., Stubbs, T.H. and King, L.P.,
2016. IMF conditionality and development policy space, 1985–2014. Review of International Political Economy, 23(4), pp.543-582. Available at: https://bit.ly/3RSdPQt
 
Reinhart, C.M. and Trebesch, C., 2016. The international monetary fund: 70 years of reinvention. Journal of Economic Perspectives, 30(1), pp.3-28. Available at: http://bit.ly/3jO9cdQ
 
Sherry, H., 2017. Debunking the Myth of a Changing IMF Unpacking Conditionality in the Arab Region Post-Uprisings. ANND (Arab NGO Network for Development). Available at: http://bit.ly/3RQQKxA
 
المراجع العربية
 
عبدو، نبيل، 2022. هل تغيّر الصندوق حقّاً؟ العدد 0: ملف "خدعة صندوق النقد الدولي". صفر. الرابط: http://bit.ly/3YEnFry

 

  • 1إن المخاوف التي تتردّد غالباً على ألسنة بعض الاختصاصيّين والناس العاديين بشأن التمويل الذي يقدّمه صندوق النقد الدولي ترتبط تحديداً بهذا المسار. وسبب ذلك أنّ الأموال التي تحصل عليها الدول الأعضاء من الصندوق تأتي مشروطةً بحزمة من الاصلاحات الاقتصادية القاسية، يُصطلح عليها اسم برامج التثبيت والإصلاح الهيكلي (Stabilisation and Structural Adjustment Programmes).

الصرف

يُعرَّف سعر الصرف الاسمي (Nominal Exchange Rate) على أنه سعر العملة الأجنبيّة بدلالة وَحَدات من العملة المحليّة (أو العكس، سعر العملة المحليّة بدلالة وَحَدات من العملة الأجنبيّة). مثلاً، في الحالة اللبنانيّة يرمز سعر الصرف الاسمي للّيرة اللبنانيّة مقابل الدولار الأميركي الى عدد وحدات الليرة للدولار الواحد.

معدّل الفائدة

معدّل الفائدة (Interest Rate): يُعرّف معدل أو سعر الفائدة على أنه السعر الذي يدفعه المصرف المركزي على إيداعات المصارف التجارية لديه، ويُعرض معدّل الفائدة على شكل نسبة مئوية. ويُعدّ معدل الفائدة إحدى أهم أدوات السياسة النقدية التي تستخدمها البنوك المركزية للتحكم في الدورات الاقتصادية. ويمكن الربط بين معدّل الفائدة من جهة والرّيع أو الربح من جهة أخرى. فإن ارتفاع معدّل الفائدة، على سبيل المثال، يعني أن من يملك رأس المال يستطيع ادخاره في المصارف مقابل تحقيق عائد بديل هو الربح، بينما يصعب على من لا يملك رأس المال الولوج الى اليه بسبب ارتفاع كلفة الاستدانة. وبذلك، إن معدّل الفائدة يعكس في الجوهر علاقة صراع بين من يملك ومن لا يملك.

التضخم

هو عبارة عن ارتفاع مستمر ومؤثر في المستوى العام للأسعار، ويترتب عليه فقدان القوة الشرائية على المدى القصير. يعني ذلك أن كمية النقود التي تمتلكها لن تشتري لك اليوم ما اشترته أمس. ويتم عادةً التعبير عن التضخم بأنه التغيير السنوي في أسعار السلع والخدمات اليومية، مثل الطعام، والأثاث، والملابس، والنقل، والألعاب.

الكساد الكبير

يُعرف أيضاً بالكساد العظيم، وهو عبارة عن أزمة اقتصادية عالمية حادّة حدثت خلال ثلاثينيات القرن العشرين، انطلاقاً من الولايات المتحدة. ويُعَدّ الكساد العظيم أكبر وأشهر الأزمات الاقتصادية في القرن العشرين، وغالباً ما يُستخدم بشكل شائع مثالًا على مدى شدة تدهور الاقتصاد العالمي.

ميزان المدفوعات

ميزان المدفوعات (Balance of Payments): هو سجل محاسبي تُدوّن فيه جميع المعاملات الاقتصادية بين سكان بلد ما وبقية العالم في خلال سنة مالية واحدة. ولكل دولة من دول العالم ميزان مدفوعات خاص بها. ويعتمد ميزان المدفوعات على تسجيل جميع المبالغ النقدية التي تُدفع سواءً لشراء خدمة، أم سلعة ما، كما أنه يحتوي على التفاصيل المتعلقة برأس المال، والمصروفات الأخرى.

نظام بريتون وودز

نظام بريتون وودز (Bretton Woods System): هو نظام نقدي أرسى قواعدَ تُعنى بإدارة العلاقات التجارية والمالية بين الدول الصناعية الكبرى في العالم في منتصف القرن العشرين. بموجب نظام بريتون وودز، كانت جميع العملات مرتبطة بالدولار الأمريكي، والذي كان بدوره مرتبطًا بسعر الذهب. لكن هذا النظام الدولي بات يرزح تحت ضغوط متنامية في عقد الستينيات، حيث إن دولاً متقدمة عدّة كانت تُعاني من عجوزات مزمنة في موازين التجارة لديها، وكانت تحت ضغط مستمر لخفض قيمة عملاتها. علاوة على ذلك، بات النظام نفسه يُواجه ضغوطاً كبيرة نظراً لأن البلد الارتكاز، أي الولايات المتحدة، كان يُعاني عجوزات مستمرة في ميزان المدفوعات لديه كما استنزاف مستمر لاحتياطياته من الذهب. انتهى نظام بريتون وودز فعليًا في أوائل السبعينيات عندما أعلن الرئيس ريتشارد نيكسون أن الولايات المتحدة لم تعد تستبدل الذهب بالعملة الأمريكية.

النيو-ليبرالية

النيو-ليبرالية (Neo-liberalism): تُعرف أيضاً بالليبرالية الجديدة، وهي عبارة عن فكر أيديولوجي مبني على أفكار القرن التاسع عشر المرتبطة بـ الليبرالية الاقتصادية والسوق الحرة الرأسمالية. وترتبط النيو-ليبرالية عموماً بالسياسات التي تؤيّد الرأسمالية المطلقة وعدم تدخل الدولة في الاقتصاد، وفي جملتها: سياسات التحرير الاقتصادي، بما في ذلك تحرير التجارة والاستثمار، وإلغاء القيود الماليّة، والقيود في سوق العمل، والخصخصة، وإلغاء التنظيم، بالإضافة الى التخفيضات في الإنفاق الحكومي من أجل زيادة دور القطاع الخاص في الاقتصاد والمجتمع.