معاينة library

الأصالة تحت وطأة الرأسمالية

  • حين يخضع فيلم لاختبارات جماهيرية لاختيار نهاية تُرضي أكبر عدد من الناس وتضمن مردوداً مالياً، تتراجع وظيفة المؤلف الأصلية إلى مجرد أداة تسويق، وقد تُمحى تماماً. وتسير الروايات التجارية على النهج ذاته: تُصمَّم لإرضاء الأذواق السائدة وتتجنّب كل ما قد يعكس مواقف شخصية أو نقدية قد تنفّر القارئ. 

  •  إن الفنانين كانوا دائماً ينتجون لصالح أصحاب النفوذ. كانت أعمالهم تُنجَز بتكليف، ولم تكن تعبّر كثيراً عن شخصياتهم، باستثناء الأجزاء المتعلّقة بالمهارة، خصوصاً في الرسم والنحت، حيث يُعطى للفنان الموضوع، ويتميّز فقط بمهارته في تنفيذه.

ناقشتُ في الفصل الأخير من كتابي «الرأسمالية، وحدها» كيف غيّرت الثروة المتزايدة نمط الحياة الخاصة، وبات بالإمكان شراء خدمات كانت في السابق تؤدّى داخل الأسرة. وقد أدّى ذلك إلى توغّل العلاقات الرأسمالية في الحيّز الخاص. ومن أبرز مظاهر هذا التحوّل: تراجع أهمية الأسرة في المجتمعات التي يغلب عليها الطابع التجاري، والانخفاض الملحوظ في عدد أفراد الأسرة، بل وتفضيل نمط العيش الفردي في المجتمعات الأكثر غنى.

هنا أود أن أناقش مسألة أخرى نواجه فيها تناقضاً أساسياً بين المبادئ التي تُنظّم وفقها مجتمعات الرأسمالية الفائقة وبين ما يمكن اعتباره نتائج مرغوبة. الموضوع هو الأصالة في الفنون، وبدرجة أقل في العلوم الاجتماعية. فعندما نتعامل مع سلع قابلة للإنتاج المتكرّر، تكمن ميزة الرأسمالية في أن تحقيق الربح لا يكون ممكناً إلا إذا لبّى احتياجات شخص آخر. وهكذا، فإن الهدفين، أي الاحتياجات الشخصية للمشتري وهدف الربح للمنتج، يكونان متوافقين.

عندما نتعامل مع سلع قابلة للإنتاج المتكرّر، تكمن ميزة الرأسمالية في أن تحقيق الربح لا يكون ممكناً إلا إذا لبّى احتياجات شخص آخر. وهكذا، فإن الهدفين، أي الاحتياجات الشخصية للمشتري وهدف الربح للمنتج، يكونان متوافقين

غير أن هذا الانسجام لا ينطبق على الفنون، لأنها تنمو وتكتسب قيمتها من التفرّد والذاتية والأصالة. حين يتعلّق الأمر بسلعة كالأحذية، فإن إنتاج ما يتماشى مع ذوق الجمهور يُعدّ أمراً مفيداً ومطلوباً، لكن حين يطبق المنطق نفسه على الأدب أو السينما أو التشكيل، فإن استهداف الأذواق الشائعة قد يدرّ المال، لكنه غالباً ما ينتج عملاً مزيّفاً أو سطحيّاً لا يملك عمق التجربة الفنية. فالفن الحقيقي ينبع من نظرة فردية إلى العالم، لا من قدرته على مجاراة توقعات الجمهور أو تكرار ميوله السائدة.

سأوضّح هذا من خلال أمثلة متطرفة. حين نقرأ «يوميات كافكا»، نحن متأكدون من أنها تعبّر عن رؤيته الحقيقية والعارية للعالم؛ فقد كتبها لنفسه، ولم يخطر له قط أنها سوف تُنشر، بل طلب صراحةً أن تُحرَق. ينطبق الأمر نفسه مثلاً على «مخطوطات ماركس الاقتصادية والفلسفية»، التي سَلِمَت من الضياع بالصدفة، ولم تُنشَر إلا بعد مرور أكثر من قرن على كتابتها. سواء أعجبتك هذه الأعمال أم لا، فذلك مسألة ذوق واهتمام، لكن لا شك في أنها تعبّر بأصالة عن هذين الشخصين.

حين يخضع فيلم لاختبارات جماهيرية لاختيار نهاية تُرضي أكبر عدد من الناس وتضمن مردوداً مالياً، تتراجع وظيفة المؤلف الأصلية إلى مجرد أداة تسويق، وقد تُمحى تماماً. وتسير الروايات التجارية على النهج ذاته: تُصمَّم لإرضاء الأذواق السائدة وتتجنّب كل ما قد يعكس مواقف شخصية أو نقدية قد تنفّر القارئ. في هذا السياق، لا يعود العمل الفني أداة للتعبير أو التفكر، بل مجرد منتج يُباع. فما الدافع لقراءته إذا كنا نبحث عن أفكار مغايرة أو محفّزة للتفكير؟

نجد أنفسنا إزاء قلب غريب للأدوار: المؤلف يتخلّى عن أصالته طوعاً، لا ليعبّر عن ذاته، بل ليُرضي جمهوراً واسعاً ويزيد دخله. وهكذا، يصبح المنتج الفني وسيلة لقياس ميول الجماهير، لا حاملاً لقيمة جمالية أو فكرية قائمة بذاتها.

وهذه الظاهرة تطبع المشهد الفني في ظل الرأسمالية، من سينما هوليوود إلى الروايات الرائجة التي تُستهلك وتُنسى.

وهذه المشكلة بلا حلّ، لأنها نابعة من تناقض بنيوي: بين نظام يربط الربح بإرضاء الجمهور، ونظام آخر يحتفي بالفردانية

مع ذلك يمكن القول، إن الفنانين كانوا دائماً ينتجون لصالح أصحاب النفوذ. كانت أعمالهم تُنجَز بتكليف، ولم تكن تعبّر كثيراً عن شخصياتهم، باستثناء الأجزاء المتعلّقة بالمهارة، خصوصاً في الرسم والنحت، حيث يُعطى للفنان الموضوع، ويتميّز فقط بمهارته في تنفيذه. وهذا رأي وجيه، إلا أن منتجي الفن في ذلك الزمن لم يكونوا قد أتقنوا التسليع إلى الدرجة نفسها التي وصلوا إليها اليوم. فقد كان حينها تسليعاً حرفيّاً، بالمقارنة مع التسليع الجماهيري المعاصر.

باتت المواضيع تُختار اليوم على يد مختصّين وفق ما يظنّونه قابلاً للبيع. تحدثتُ مرّة واحدة فقط مع وكيل كتب، وما إن بدأ يُملي عليّ ما «ينبغي» أن أكتبه، حتى أدركت أنني لن أتحدث مع وكيلٍ آخر مجدداً. تُراجَع النصوص وتُعدَّل مراراً لتُرضي الجمهور وتتفادى الدعاوى القضائية. والأكثر غرابة، أن كتّاب الرواية يحضرون ورشاً تدريبية تُخفت فيها أصواتهم أكثر، إذ يُعلَّمون كيف يكتبون مثل الجميع.
كل ذلك يبدو منطقيّاً إذا كان الربح هو الهدف الأوحد. بل إن أحد الأسباب التي قيل لي إن وجود وكيل من أجلها «أمر جيد»، هو أنه يستطيع انتزاع أفضل صفقة من الناشر. غير أن المفارقة تكمن في أن قدرته على تحقيق تلك الصفقة تعتمد على خنق أصالة الكاتب.

إنها إحدى ميادين النشاط الإنساني التي لا يمكن أن تثمر نتائج حقيقية تحت هيمنة التسليع المفرِط. وهذه المشكلة بلا حلّ، لأنها نابعة من تناقض بنيوي: بين نظام يربط الربح بإرضاء الجمهور، ونظام آخر يحتفي بالفردانية، وهي بحكم تعريفها نادرة ومغايرة.

نُشِر هذا المقال في مدوِّنة برانكو ميلانوفيتش في 30 نيسان/أبريل 2025، وتُرجِم إلى العربية ونُشِر في موقع «صفر» بموافقة مسبقة منه.