معاينة lebanon public schools

تهاوي المدرسة الرسمية في لبنان

تشهد المدرسة الرسمية في لبنان تسرّباً ملحوظاً، ووفق بيانات المركز التربوي للبحوث والإنماء، انخفض عدد التلامذة في المدرسة الرسمية من 342 ألفاً و303 تلامذة في العام الدراسي 2019-2020، وهو العام الذي انهارت فيه العملة والمصارف، إلى 277 ألفاً و216 تلميذاً في العام الدراسي 2023-2024، وهو العام الذي بدأت فيه الحرب على غزّة وامتدت إلى لبنان وانعكست مزيداً من التدهور في العام الدراسي الجاري. وفي حصيلة السنوات الخمس بين الانهيار والحرب انخفض عدد التلامذة في المدرسة الرسمية بنسبة 19%، وهو تراجع بنحو 65 ألفاً و87 تلميذاً، ولم تعد تستوعب سوى ربع التلامذة في جميع مراحل التعليم ما قبل الجامعي.

في الواقع، شهد التعليم الرسمي أكبر انكماش في أعداد الطلاب مقارنة بفئات المدارس الأخرى، ففي الفترة المذكورة بين العام الدراسي 2019-2020 والعام الدراسي 2023-2024، سجلت المدارس الخاصة المجانية انخفاضاً في عدد طلابها بنسبة 7.4%، بينما ارتفع عدد الطلاب في مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) بنسبة 3.4% فقط، ليوازي إجمالي الانخفاض في هذه الفئات الثلاث من المدارس نحو 74 ألف طالب، وبما أن هذه الفئات من المدارس تُعد الملاذ الأساسي للطلاب الفقراء من اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين، فإن تراجع أعدادهم فيها يشير إما إلى تسربهم من التعليم بشكل نهائي أو الهجرة مع أهلهم أو انتقالهم إلى المدارس الخاصة، ما يضع أعباء مالية إضافية على المداخيل المحدودة لأسرهم، علماً أن المدارس الخاصة غير المجانية شهدت زيادة في أعداد طلابها بنسبة 15.7% - أو 88 ألف طالب - بين العام الدراسي 2019-2020 والعام الدراسي 2023-2024.

تهاوي المدرسة الرسمية في لبنان

لماذا تتراجع حصة المدرسة الرسمية؟

منذ عقود، يطغى التعليم الخاص على التعليم الرسمي ويهيمن عليه بفعل السياسات الحكومية التقشفية والدعم الممنوح للقطاع الخاص، ما جعل التعليم الرسمي رديء الجودة وخياراً للفقراء فقط. إلا أنه مع انهيار القدرات الشرائية لأكثرية الأسر وخسارة مدخراتها في المصارف، وارتفاع أقساط المدارس الخاصة ودولرتها، كانت التوقعات تشير إلى ارتفاع الطلب على التعليم العام مع سحب أسر الطبقة الوسطى لأبنائها من المدارس الخاصة. بالفعل، ارتفع عدد التلامذة في المدرسة الرسمية إلى 384 ألفاً و741 تلميذاً في العام الدراسي 2020-2021، أي العام الأول الذي أعقب مباشرة الانهيار النقدي والمصرفي وانفجار بيروت وجائحة كوفيد، بزيادة 42 ألفاً و438 تلميذاً، وما نسبته 12.4% عن العام الدراسي السابق (2019-2020)، وارتفعت حصّة المدرسة الرسمية من مجمل عدد التلامذة من 32% إلى 36.5%. 

لكن، سرعان ما انقلب الاتجاه في العام الدراسي التالي (2021-2022)، إذ انخفض عدد تلامذة المدرسة الرسمية نحو 48 ألفاً و440 تلميذاً، وما نسبته 12.6%، اي انه انخفض الى مستوى اقل مما كان عليه عشية الانهيار، واستمر بالانخفاض في العامين الدراسيين التاليين (2022-2023 و2023-2024) ليبلغ الانخفاض التراكمي في عدد تلامذة المدرسة الرسمية في السنوات الثلاث الماضية نحو 107 الاف و525 تلميذا، وتقلّصت حصتها الى 25.5% فقط. ما يعني أن السنة الدراسية  2023-2024 سجّلت الانخفاض السنوي الثالث على التوالي في عدد الطلاب في المدارس الرسمية وبنسبة 39% مقارنة بالعام الدراسي 2021-2022.

أتى هذا التحوّل نتيجة السياسات التضخمية والتقشفية التي اتبعتها الحكومة اللبنانية والتي أدت إلى انهيار أجور المعلمين والمعلمات وتوقف التعليم الرسمي لفترات طويلة أو استمراره شكلياً. في موازنة العام 2019، خصصت الحكومة نحو 1.2 مليار ليرة لبنانية لتعليم الأساسي والثانوي، أي ما يوازي 787 ألف دولار بسعر الصرف حينها (1507.50 ليرة للدولار)، أما في العام 2020 فقد خصصت الرقم نفسه تقريباً، لكنه بلغ 305 آلاف دولار أميركي بسبب انهيار سعر الليرة الى 3,688 ليرة لبنانية للدولار كمعدل وسطي في تلك السنة بحسب تقدير البنك الدولي، أما في العام 2022، فلم تبلغ مخصصات التعليم الأساس والثانوي سوى 52 ألف دولار أميركي أي نحو 15 سنت لكل طالب في التعليم الرسمي في ذلك العام، أو 42 دولار لكل مدرسة رسمية. في العام 2025، خصصت الموازنة 16.7 ترليون ليرة للتعليم الأساسي والثانوي، أو 187 ألف دولار بحسب سعر الصرف الحالي، وهذا الانفاق لا يزال يشكّل أقل من ربع المخصصات في موازنة العام 2019.

أين يكمن التسرّب من المدرسة الرسمية؟

تشكّل الجنسيات اللبنانية والسورية والفلسطينية الفئات السكانية الأساسية في لبنان، ويشكل الطلاب من هذه الجنسيات الشرائح الطلابية الأكبر في لبنان. منذ الأزمة الاقتصادية التي بدأت مع العام الدراسي 2019-2020 وحتى العام الدراسي 2023-2024،  شهد عدد طلاب التعليم الرسمي من جميع هذه الجنسيات تراجعًا ملحوظًا، ما يدلّ على أن أزمة التعليم العام طالت جميع الجنسيات الأساسية في البلاد وإن بنسب وأعداد متفاوتة.

كان التراجع بارزاً بين الطلاب الفلسطينيين بشكل خاص، حيث انخفض عددهم في التعليم العام بنسبة 44% بين العامين الدراسيين 2019-2020 و 2023-2024. مع ذلك، يظل هذا التراجع صغيرًا بالقيمة المطلقة،  إذ بلغت الخسارة في التعليم الرسمي حوالي 2700 طالب فلسطيني فقط، والسبب أن ما يقارب من 70% من الطلاب الفلسطينيين يتلقون تعليمهم في مدارس الأونروا التابعة للأمم المتحدة. مع ذلك، لا يبدو أن مدارس الأونروا هي من امتصت النزيف من القطاع العام، حيث لم يطرأ تغيير ملموس على أعداد الطلاب فيها في خلال الفترة المذكورة، بل يبدو أن غالبية الطلاب الفلسطينيين الذين تركوا التعليم الرسمي اتجهوا نحو التعليم الخاص غير المجاني وتحملت أسرهم تكاليف مالية إضافية، حيث ارتفع عددهم في هذا القطاع بنسبة 40%، أي ما يعادل 3,300 طالب. أيضاً، يبدو أن الكثير من الفلسطينيين تركوا التعليم أساساً او هاجروا حيث لم يضف إلى إجمالي الطلاب الفلسطينيين في جميع القطاعات التعليمية إلا 169 طالباً على مدار 4 سنوات.

فقد التعليم الرسمي في لبنان 16 ألف طالب سوري، وهو ما يمثل تراجعًا بنسبة 37% في أعدادهم بين العامين الدراسيين 2019-2020 و 2023-2024. يبدو أن عدداً كبيراً من هؤلاء الطلاب انتقلوا الى التعليم الخاص، لتتحمل أسرهم تكاليف إضافية كذلك، فقد ارتفع عدد الطلاب السوريين في التعليم الخاص غير المجاني بنسبة 111% أي زيادة 44 ألف طالب جديد في الفترة المذكورة، مقابل ارتفاع عددهم بزيادة 4373 طالب فقط في التعليم الخاص المجّاني.

بينما خسر قطاع التعليم الرسمي 46 ألف طالباً لبنانياً في خلال الفترة المذكورة، وهو الرقم الأكبر في القيمة المطلقة بين الجنسيات الثلاث، لكن الخسارة بالنسبة المئوية بلغت 16% وهي أقل من نصف نسبة التراجع لدى الطلاب السوريين والفلسطينيين، وتجدر الإشارة إلى أن القطاع الخاص المجاني خسر نحو 13 ألف طالباً لبنانياً (12.5%)، وهو ثاني ملاذ تعليمي للبنانيين محدودي الدخل بعد المدارس الرسمية. في المقابل ارتفع عدد الطلاب اللبنانيين في القطاع الخاص غير المجاني بنسبة 8% في الفترة نفسها، أي أكثر بقليل من 40 ألف طالب، ما يرجّح أن قسماً كبيراً من الطلاب اللبنانيين الذين تركوا التعليم الرسمي التحقوا بالقطاع الخاص غير المجاني. بينما ترك الكثير من اللبنانيين التعليم عموماً او هاجروا الى الخارج مع أسرهم، إذ انخفض عدد الطلاب اللبنانيين بنسبة 2% أو 18 ألف طالب في جميع القطاعات التعليمية منذ الأزمة الاقتصادية.

تسرّب عابر للمناطق

تلقّت بيروت الخسارة الأكبر في عدد طلاب التعليم الرسمي، حيث خسرت 40% من الطلاب، أي ما يقارب 7 آلاف طالب بين العامين الدراسيين 2019-2020 و 2023-2024، ولم يزد الطلاب في المدارس الخاصة غير المجانية سوى 2,600 طالب فقط، بينما انخفض عددهم في قطاع التعليم المجاني بنحو 80%. المرجّح أن قسما من طلاب التعليم العام في بيروت نزحوا مع بداية الأزمة إلى قراهم او مناطق اخرى تقلّ فيها كلفة السكن عمّا هي في بيروت، او هاجروا إلى الخارج مع اسرهم، او تركوا التعليم كلياً بسبب الفقر وعمالة الأطفال، ويؤكد ذلك انخفاض العدد الإجمالي للطلاب في بيروت (مجموع الحكومي والخاص والاونروا) بنسبة 10.6% منذ بداية الأزمة الاقتصادية. ومن المستبعد أن يكونوا قد انتقلوا إلى مدارس ضواحي بيروت، لأن المنطقة هذه خسرت بدورها 4 آلاف طالب في الفترة نفسها، وتحديدًا 10 آلاف طالب في القطاع الرسمي، وهو ما يمثل تراجعًا بنسبة 35%، لتكون بذلك ثاني أكبر خسارة في القطاع الرسمي بحسب المنطقة.

في الواقع، شهدت جميع مناطق لبنان تراجعًا في أعداد طلاب القطاع الرسمي، باستثناء عكار. فقد حافظت عكار على عدد طلابها ثابتًا عند 50 ألف طالب في القطاع الرسمي. لا يعني هذا أن المدارس الرسمية في عكار لا تعاني من تسرّب دراسي، بل معناه أن الطلاب الملتحقين لأول مرة في قطاع التعليم الرسمي - بما في ذلك طلاب الروضات الذين يعكس قدومهم النمو الطبيعي في قطاع التعليم - يوازي عددهم العدد الكبير للطلّاب المتسرّبين - زائد الطلاب المتخرّجين -  وما يدعّم ذلك، انخفاض حصة طلاب القطاع الرسمي في عكار من مجموع الطلاب من 46.8% إلى 43.7% بين العامين الدراسيين 2019-2020 و2023-2024. مع ذلك، تحظى عكار بأعلى نسبة طلاب تعليم رسمي من إجمالي الطلاب مقارنة بباقي المحافظات، وقد يعزى ذلك إلى متوسط الدخل المنخفض في المحافظة، مما يحد من قدرة الأهالي على تسجيل أبنائهم في مدارس القطاع الخاص، ولو عنى ذلك إبقائهم في قطاع التعليم شكلياً.