مهندسو الانهيار الاقتصادي
- حافظ الاقتصاد السياسي لحكم السيسي على استقراره. فهو يعتمد على تدفقات ائتمانية لا تنقطع، وهذه بتدفقها أبقت جيوب العسكر عامرة وحقّقت مكاسب استثمارية جيدة للمقرضين الأجانب والمحليين على السواء.
- لا انخفاض قيمة العملة ولا الزيادات اللاحقة في أسعار الفائدة أعادت مصر إلى أسواق رأس المال الدولية. مع انعدام مكان آخر يقصدونه، عاد صانعو السياسة في نظام السيسي إلى صندوق النقد الدولي متوسلين.
لا يزال الاقتصاد المصري بعد عشر سنوات من حكم عبد الفتاح السيسي، وخمسٍ مقبلة، يرزح تحت وطأة أزمة لا تكف تتفاقم. وهذه الأزمة في أحد وجوهها وليدة منظومة التمويل العالمية، لكنّها في جوهرها نتاج حماقة السياسات.
أنزل نظام السيسي بفعل سوء إدارته أفدح الأثر في الشعب المصري بطبيعة الحال. فقد انهارت على يد اللواءات الأجور الحقيقية وارتفعت كلفة المعيشة وتبخّرت مدخرات العديد من العائلات بفعل انخفاض قيمة العملة. وما من بصيص ضوءٍ في نهاية النفق: إذا كان لنا أن نستدل على أي شيء من أسعار صرف السوق السوداء وتداول العقود الآجلة، فسيكون أنّ الجنيه المصري من المرجح انخفاضه بأكثر من 50% خلال الاثني عشر شهراً المقبلة، ليبلغ حدود 55-56 مقابل الدولار. ولتقف على تأثير هذا الانخفاض، لك أن تعلم أنّ سعر صرف الجنيه كان 7.80 لكلّ دولار في أواخر العام 2015. ومع عمليات «أنصار الله» الجارية الآن في مضيق باب المندب، وتبعاتها السلبية على عائدات مصر من رسوم العبور على حركة الشحن عبر قناة السويس – تأتي هذه الرسوم عادةً بعملات صعبة للاقتصاد – وقعت ضغوط جديدة على الاحتياطي الأجنبي قد تجعل من سعر صرف 55-56 أفضل سيناريو لمصر.1 وإذ أدركت وكالة «موديز» أن انخفاض قيمة الجنيه سيُصعِّب على البلاد سداد الديون الأجنبية، فقد ارتأت تخفيض نظرتها المستقبلية لمصر في منتصف كانون الثاني/يناير.
الحال أنّ ما أُصِيبَ به الشعب المصري مأساوي لو وقف الأمر عند هذا الحد، لكن الأسوأ أنّ حماقة السيسي وإدارته قد تتسبّب قريباً بالمعاناة خارج حدود مصر. في خلال الأسبوع الأول من حرب إسرائيل على غزة، سافر وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى القاهرة ليستشعر إمكانية حدوث صفقة. عرض بلينكن على القيادة المصرية، وهو على دراية بيأسها، الدعم المالي في مقابل استقبال مئات آلاف الفلسطينيين النازحين من آلة الحرب الإسرائيلية. رُفِض الاقتراح، على الرغم من أنها لم تكن آخر (أو أول) مرة جسّت فيها واشنطن نبض هذا الاحتمال. لكن القرار الفعلي في هذا الصدد بيد دول الخليج، المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة بالتحديد، بحكم حجم حيازتها من الديون المصرية. وعلى أي حال، لا يمكنّنا في الأشهر المقبلة استبعاد احتمالية تخلّي السيسي عمّا تبقى من كرامة مصر لقاء المليارات اللازمة لوقف السقوط الحر لاقتصاد البلاد.
بناء البيت المصري على رمال
للوقوف على كيفية حدوث ما حدث، على المرء العودة إلى الماضي القريب وكيف حاول نظام السيسي الارتجال في النمو الاقتصادي والاستقرار السياسي بعد انقلاب العام 2013.
في البداية، اقتصرت استراتيجية اللواءات على إنفاق المبالغ الهائلة الممنوحة لهم من الشركاء في الخليج تعويضاً عن قمعهم جماعة الإخوان المسلمين. بعد استنزاف آخر هذه الدولارات وبداية الصعود السريع للتضخّم (نحو العام 2015-2016)، كانت المناورة التالية تحويل مصر إلى سوق جاذبة لرأس المال.
ظفر السيسي وإدارته بأعلى العلامات من خبراء الصندوق عبر تعويمه الجنيه وضغط الأجور، وإنْ دفع بأفعاله هذه الملايين إلى الفقر وملايين أخرى إلى البطالة
كان الوفاء بالشروط المرتبطة بقرض العام 2016 من صندوق النقد الدولي مفتاحاً لتنفيذ هذه الخطة الثانية. ظفر السيسي وإدارته بأعلى العلامات من خبراء الصندوق عبر تعويمه الجنيه وضغط الأجور – والأخيرة جرت عبر تخفيض النفقات العامة والتضييق على العمل المنظم – وإنْ دفع بأفعاله هذه الملايين إلى الفقر وملايين أخرى إلى البطالة2 : بعد إرضاء دائني الأسواق المالية الدولية، باتت القاهرة قادرة على فتح ما تشاء من خطوط الائتمان الجديدة. تدفّقت المليارات من المؤسّسات المتعددة الأطراف كالبنك الدولي وبنك الاستثمار الأوروبي وبنك التنمية الأفريقي لتموِّلَ مشروعات التنمية في البلاد وتدعم البنوك المحلية. جاءت المليارات الأخرى من البنوك التجارية الأوروبية مثل «كريدي أغريكول» و«بي إن بي باريبا» و«سوسيتيه جنرال»، وبعدما أمَّنَت حكومات ألمانيا وفرنسا على هذه القروض، انتهت إلى جيوب الشركات الأوروبية عن طريق عمليات شراء الأسلحة وعقود البنية التحتية.3 وانخرطت فئة العشرة في المئة الأغنى في مصر في هذه اللعبة، وساعدت على تمويل الإنفاق السخي للنظام بمدّخراتها وحصلت بالمقابل على مكاسب كبيرة. لقد حقّق أغنى الأغنياء من هذا الانخراط أموالاً طائلة: بحسب تقرير حديث صادر عن أوكسفام، نما إجمالي ثروة المليونيرات في مصر من 97.7 مليار دولار في العام 2019 إلى 153.9 مليار دولار في العام 2022. 4
ثم كانت المليارات في شكل أموال ساخنة – تدفقات رأسمالية قصيرة الأجل لغرض المضاربة –، قُيّضَ لصنّاع الساسية في مصر جمعها إبان أواخر العقد الثاني من هذا القرن. كانت هذه غنائم سياسات الفائدة وسعر الصرف غير التقليدية. باختصار، من خلال إصدارها سندات الخزانة المقوّمة بالجنيه (أي ديون الحكومة المحلية الواجب سدادها في غضون بضعة أشهر) بأسعار فائدة عالية وربط الجنيه المصري بالدولار بعد تخفيض قيمة العملة العام 2016، جعل صنّاع سياسة السيسي ديون مصر المحلية واحدة من أكثر فرص الاستثمار جاذبية في الجنوب العالمي. سال لهذا لعاب اختصاصيي تداول المناقلة في وول ستريت – مَن يقترض حيث الائتمان رخيصاً (أي في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأوروبا في الغالب) ليُقرِضَ حيث الائتمان باهظاً. فأرسلوا مبالغ طائلة إلى القاهرة، بعد فترة خوف وجيزة في خلال الأيام الأولى من تفشي فيروس كورونا، لشراء سندات الخزانة المحلية هذه. 5
كان لمنظومة الاستدانة هذه أن تستمر ما استمرّ تدفق دولارات ويوروهات جديدة إليها. بيد أنّ حجم العجز التجاري السنوي والتزامات الدين الحكومي جعلت من الأمر ولا ريب مخاطرة. وزاد هذه المخاطرة اعتماد الاقتصاد على الأموال الساخنة، وحقيقة أنّ طاقة الاقتصاد الإنتاجية بالكاد تحسّنت على الرغم من كل هذا الدين. وعلى أي حال استطاعت الحكومة المصرية الإقدام على هذه المخاطرة بنوع من الثقة، مع التزام البنك الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة إبقاء معدلات الفائدة منخفضة. إذ بإبقاء معدلات الفائدة منخفضة، وفّر البنك الاحتياطي الفيدرالي للمستثمرين في نيويورك وهونغ كونغ رؤوس أموال وسهّل الحصول عليها. ومع ندرة الفرص الاستثمارية في أسواقهم المحلية، بسبب ارتفاع أسعار الأصول في فترة الوباء، فضلاً عن سياسات البنك الفيدرالي، ارتأى هؤلاء المستثمرون البحث عن أماكن أخرى كمصر لكسب الأموال. في هذه البيئة، حافظ الاقتصاد السياسي لحكم السيسي على استقراره – يعتمد هذا الاقتصاد على تدفقات ائتمانية لا تنقطع، وهذه بتدفقها أبقت جيوب العسكر عامرة وحقّقت مكاسب استثمارية جيدة للمقرضين الأجانب والمحليين على السواء.
ما بعد الواقعة: تحليل موجز
اجتاحت روسيا أوكرانيا في شباط/فبراير 2022. ومع القلق من مآل الأمور، انتاب الحذر المستثمرون، لتتراجع عمليات الإقراض والاقتراض على مستوى العالم. وبالتوازي مع هذه الأحداث، ترافقت الانقطاعات في الإمدادات على الأرض بفعل الحرب مع مضاربات على السعر المستقبلي للسلع لترتفع بذلك الكلفة الفورية للبضائع إلى مستويات قياسية، كما في حالة القمح. ثم في آذار/مارس، غيّر مجلس الاحتياطي الفيدرالي توجّهه وبدأ برفع سعر الفائدة، ولم يكن التضخّم بعد يشغله.
سمح تدفق العملة الصعبة بدرء الفوضى، لكنّه لم يكن كافياً لتعويض الدولارات التي خرجت من البلاد: أظهر صافي تدفقات رأس المال في الشتاء وأوائل الربيع عجزاً قدره 14.8 مليار دولار
فجأةً وجد صانعو السياسات في جميع أنحاء الجنوب العالمي أنفسهم في عالمٍ أكثر قساوة، بعدما كانوا يعملون في واحدة من أكثر المناخات المالية تسامحاً في التاريخ. وفي مصر كان هذا التحوّل موجعاً بصورة خاصة. فكونها أكبر مستورد للقمح في العالم، أسفرت الاضطرابات في إمدادات القمح – حصة أوكرانيا 28% من القمح المستورد في البلاد في العام 2021 – مع الارتفاعات الشديدة في تسعير الحبوب عن رفع فاتورة الاستيراد بشدة.6 وتعقّدت الأمور مع زيادة البنك الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة ودفعه المستثمرين نحو التخلّص من الأصول الأقل سهولة في التسييل كالديون السيادية المصرية والودائع بالجنيه المصري. بلغت عملية البيع الاضطراري، الناجمة عن بيع شركات «وول ستريت» جميع حيازاتها المصرية في وقت واحد، من الحجم بحيث خفضت سعر تداول سندات اليوروبوند المصرية (أي السندات الحكومية المقوّمة بالعملات الأجنبية) إلى ثلثَي قيمتها الاسمية بحلول ربيع 2023. وكانت التداعيات أشد على سندات الخزانة المقوّمة بالجنيه: بلغت مبيعات هذه الالتزامات الحكومية في الأسواق الثانوية 22 مليار دولار في شباط/فبراير وآذار/مارس من العام 2022 وحده، وبالتوازي معها بلغت مبيعات الجنيه المصري في أسواق العملات الأجنبية 30 مليار دولار قبل الوصول إلى شهر نيسان/أبريل.7
أدركت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر أنّ نظام السيسي قد يعاني قريباً من نقص في الدولار واليورو اللازمين لدفع ثمن الواردات وعدم التخلّف عن سداد ديونه، ولهذا وافقت على وضع ودائع طارئة قصيرة الأجل بقيمة 13 مليار دولار في البنك المركزي المصري في نهاية آذار/مارس. سمح تدفق العملة الصعبة لمحافظ البنك المركزي طارق عامر بدرء الفوضى، لكنّه لم يكن كافياً لتعويض الدولارات التي خرجت للتو من البلاد: أظهر صافي تدفقات رأس المال في الشتاء وأوائل الربيع، وهو مقياس لصناديق الاستثمار التي تدخل وتخرج من بلد ما، عجزاً قدره 14.8 مليار دولار. وأسفرت الخسارة عن انخفاض مخزون مصر من الاحتياطيات الدولية، ومعظمها مُقترَض، لدرجةٍ أنّها لم تكن كافية لتغطية سوى أربعة إلى خمسة أشهر من الواردات للفترة المتبقية من العام.8
في هذه المرحلة، انعدمت عملياً فرصة إعادة بناء المخزون الاحتياطي من خلال إصدار الدولة لديون جديدة. ويعود ذلك إلى أنّ أياً من دائني مصر لم يعد يجرؤ على إقراضها. وكما كانوا يدركون جيداً، فإنّ مدفوعات الفائدة على ديون الدولة بالعملة المحلية وحدها ستصل إلى 8.6% من الناتج المحلي الإجمالي للسنة المالية 2022/2023 و12.5% من الناتج المحلي الإجمالي للفترة 2023/2024، بحسب أحدث توقّعات صندوق النقد الدولي. وفي الوقت نفسه، كان على الحكومة دفع زهاء 20 مليار دولار في العام 2023 وأكثر من 25 مليار دولار في العام 2024 لقاء خدمة الديون الخارجية العامة والمضمونة.9 وبإضافة المبالغ الدولارية اللازمة لتغطية الديون الخارجية للقطاع الخاص والعجز التجاري المتوقع، تغدو احتياجات التمويل الخارجي لمصر مهولة. والواقع أنّها بهولها هذا أبعدَت عن البلاد أكثر المضاربين مخاطرة: لم يُجدِ مع «وول ستريت» شيء حتى مع رفع البنك المركزي أسعار الفائدة على سندات الخزانة لأجل ثلاثة أشهر إلى أكثر من 15% في آب/أغسطس.
وإذ رأى نظام السيسي ما ينتظره، قام بمحاولة أخيرة في أواخر الصيف. استقال طارق عامر – وهو رجل، كالعديد من كبار صانعي السياسات الاقتصادية الآخرين، ترجع خلفيته إلى حركة الضباط الأحرار – من منصبه في البنك المركزي في آب/أغسطس. ثم شرع بديله، حسن عبد الله، في الإشراف على تخفيض قيمة الجنيه في نهاية تشرين الأول/أكتوبر. في غضون أيام، فقدت العملة أكثر من ربع قيمتها. وعلى الرغم من تفاقم أزمة تكاليف المعيشة في البلاد، فلا انخفاض قيمة العملة ولا الزيادات اللاحقة في أسعار الفائدة أعادت مصر إلى أسواق رأس المال الدولية. مع انعدام مكان آخر يقصدونه، عاد صانعو السياسة في نظام السيسي إلى صندوق النقد الدولي متوسلين. وقد تم التوصل قبل نحو سنة من اليوم (كانون الأول/ديسمبر 2022) إلى اتفاق في إطار برنامج تسهيل الصندوق الممدّد (EFF) برأسمال قدره 3 مليارات دولار.
«حزمة الإنقاذ» من صندوق النقد الدولي
إذا نَحّينا المساعدة المالية الفعلية جانباً، فقد وعد اتفاق الصندوق بأنّ التعافي يتمثّل في التزام مصر بمبادرة إصلاح تطال السياسة النقدية والسياسة المالية وسياسة المنافسة/ملكية الدولة. وآخر هذه المبادرات، وهي أهمها، تتمحور حول زيادة دور القطاع الخاص في الاقتصاد من خلال الإسراع في خطط الخصخصة ومعالجة أي عوامل تعيق الوصول إلى السوق (اقرأ: التعامل مع الجيش وحيازاته التجارية الواسعة). وفي الواقع، توقفت وتتوقف خطة صندوق النقد الدولي على هذا الأمر: إذا فشلت هذه الجهود في جذب 10 مليارات دولار من الاستثمار المباشر الأجنبي و17 مليار دولار سنوياً على مدار نصف العقد المقبل، بالإضافة إلى تدفقات سنوية بقيمة 6 مليارات دولار إلى 8.5 مليارات من الاستثمارات في المحافظ (أي الأموال الساخنة)، فإنّ حسابات صندوق النقد الدولي تُظهِر أنّ مشكلات ميزان المدفوعات في مصر – جوهر المأزق الحالي – على موعد مع المفاقمة.
وهذا وحده لا بد يبعث في أي متابع القلق، سواء وافقت مصر وصندوق النقد الدولي على زيادة التسهيل الحالي إلى أكثر من 5 مليار دولار أم لا، ويبدو في وقت كتابة هذه المادة أنّ الموافقة هي الأرجح.
على الرغم من ترويج الحكومة لصفقاتها الناجحة، لم تصل الزيادة في تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشر لعام 2023 إلى 10% على أساس سنوي بحسب أحدث تقارير وزارة المالية. ومع أنّ عمليات بيع الشركات المملوكة للدولة في قطاعات التبغ والنفط والمواد الكيميائية لمستثمرين محليين وخليجيين قد هدّأت بعض الشيء من مخاوف مراقبي الصندوق، يبدو أنّ الاستثمار الأجنبي المباشر في مصر لعام 2023 بالكاد يكسر عتبة 10 مليارات دولار المشار إليها أعلاه. وأقل ما يقال عن هذا إنه بداية مشؤومة، بدايةٌ دفعت حكومة مدبولي إلى البحث عن المزيد من المؤسسات المملوكة للدولة لتخصخصها (61 مؤسسة بحسب إحصاء حديث).10
رؤوس الأموال الخليجية تبحث إمّا عن ريع ثابت، أو العقارات الفاخرة للحصول على مكاسب رأسمالية. وفي كلتا الحالتين، لن تفعل هذه الاستثمارات الكثير لتعزيز قدرة مصر على صنع الأشياء أو توليد العملة الصعبة
إلى جانب ما سبق، تبدو توقعات التدفقات المستقبلية متفائلة على نحو لا مبرّر له. وبعيداً من الاستثمارات المحتملة في قطاع الطاقة، من المرجح أنّ الشركات الغربية، مع إدراكها لمخاطر العملة وعدم موثوقية النظام القضائي والمصالح التجارية الواسعة وغير المتناقصة للجيش،11 لن تقترب من الاستثمارات الثابتة طويلة الأجل. ومن المرجح ألّا يهرع المستثمرون المضاربون من أوروبا والولايات المتحدة إلى القاهرة أيضاً: علاوة المخاطرة التي يطلبونها لشراء الأسهم المصرية تعجيزية،12 ولا يزال الطلب هزيلاً على سندات الخزانة المصرية – على الرغم من أسعار فائدتها العالية.13 ولكي لا يعتقد أحد أنّ هذه سحابة صيف، خفّض أحد المراكز المالية الكبرى في الولايات المتحدة، «مورغان ستانلي»، توقعاته لمصر في تشرين الأول/أكتوبر 2023، وفي كانون الثاني/يناير 2024. وقرّر «جي بي مورغان» إخراج مصر من مؤشره للسندات الحكومية في الأسواق الناشئة، ما عجّل بالتخارج الفوري لـ 1.2 مليار دولار.14 ومع أنّ الحرب الإسرائيلية على غزة دفعت البعض في «وول ستريت» إلى تغيير لهجتهم قليلاً – واثقين الآن من أنّ الدول الأميركية والأوروبية، إلى جانب المؤسسات المالية الدولية التي تقودها، ستقدم الأموال اللازمة للحفاظ على استقرار جارة إسرائيل الجنوبية – فالعوامل الأساسية لا تزال على حالها.15
أما فيما يتعلق بالمستثمرين الخليجيين، وهؤلاء وصفهم صندوق النقد الدولي بطوق النجاة، فلدينا سبب للاعتقاد بأنهم لن يكونوا كذلك. بادئ ذي بدء، يطرح هؤلاء صفقات صعبة لجهة سعرها المحتمل وعملتها. وعلى هذا النحو، قد تُبرَم في آخر الأمر الصفقات الكبرى مثل استحواذ قطر على حصة تتراوح بين 30 و45% في «فودافون» مصر واستحواذ أبو ظبي على شركة الوطنية لبيع الوقود، لكن من المحتمل أن تكون شروط البيع أقل مما تأمله القاهرة: موقفها هنا موقف المغلوب على أمره. علاوة على ذلك، فإنّ أخشى ما نخشاه استمرار عدم اهتمام هؤلاء المستثمرين بالصناعات الإنتاجية الموجّهة نحو التصدير. تستهدف الشركة السعودية المصرية للاستثمار، وهي إحدى شركات صندوق الثروة السيادية السعودي (صندوق الاستثمارات العامة)، صراحة القطاعات المصرفية والتجارية والإعلامية. أما الشركات الإماراتية البارزة – بينها شركة أبوظبي التنموية القابضة، المشترية لشركة التبغ الواردة أعلاه – فتستهدف قطاعات مماثلة مع سعيها إلى تعزيز حضورها في سوق العقارات الفاخرة. وفي الوقت نفسه، تبتعد قطر قليلاً عن نموذج استثمارها في «سيتي غايت 2021»، وتستهدف الفنادق والبيئة المبنية أيضاً.16
إذا نظرنا إلى هذا في مجموعه، فإنّ رؤوس الأموال الخليجية تبحث إما عن الصناعات المحلية الممكن من خلالها الحصول على ريع ثابت (البنوك وشركات البيع بالتجزئة وشركات الاتصالات)، أو العقارات الفاخرة الممكن من خلالها الحصول على مكاسب رأسمالية. وفي كلتا الحالتين، لن تفعل هذه الاستثمارات الكثير لتعزيز قدرة مصر على صنع الأشياء أو توليد العملة الصعبة، وعلى هذا النحو، لن تفعل الكثير لتخفيف اختلال الميزان الخارجي في الاقتصاد. وفي حين لا ينبغي لأحد التقليل من أشكال المساعدة الأخرى القادمة من الخليج مثل خط مبادلة العملة بقيمة 1.4 مليار دولار المبرم بين البنك المركزي الإماراتي والبنك المركزي المصري في أيلول/سبتمبر، لكن لا بد أن يكون واضحاً أنّ الأنظمة الملكية في شبه الجزيرة لا توفر الحجم ولا نوعية رأس المال اللازم لانتشال مصر من مشكلاتها.
إصلاح مؤقّت يفاقم المشكلات البنيوية
علاوة على ذلك، حين يلقي المرء نظرة من بعيد، تتضح له مدى خطورة استراتيجية صندوق النقد الدولي. ولنتأمل على وجه الخصوص الحسابات الخاصة بصافي إيرادات الاستثمار الدولي. تركّز الخطة الموضوعة لتجديد احتياطيات مصر الدولية على أمرين: (أ) بيع مراكز الأسهم في مجموعة من العقارات المربحة لأطراف أجنبية (أي جذب الاستثمار الأجنبي المباشر)؛ و(ب) بيع الديون الحكومية قصيرة الأجل (العالية الفائدة) إلى أطراف أجنبية (أي جذب استثمارات المحافظ). من شأن هذين الأمرين زيادة العائد الاستثماري على حيازات الأصول المصرية لغير المقيمين، وبالتبعية زيادة التدفّقات المتكرّرة لرأس المال إلى الخارج مع قيام الشركات الأجنبية بإعادة أرباحها إلى الوطن. في الواقع، يزيد هذا النمط من الاستنزاف الحالي لاحتياطيات البلاد: مع اتساع الفجوة بين عوائد استثمارات غير المقيمين في مصر وعوائد استثمارات المصريين في الخارج – حيث الأخير في انخفاض لأنّ استثمارات مصر الدولية تتركّز في أصول آمنة منخفضة العائد كالذهب والدولار وسندات الخزانة الأميركية –، تزداد الخسائر السنوية من العملة الصعبة. وإذْ تجاوزت الخسائر الناجمة عن الاستثمار الدولي 10 مليارات دولار سنوياً في السنوات الأخيرة، فإنّ هذا سيسبب مشكلة حقيقية في المستقبل.
إن استخدام الديون من قبل إدارة السيسي – بتوجيهها إلى كل من البيئة المبنية، من خلال مشروعات البناء والبنية التحتية الفخمة، وجيوب المقرضين المحليين والأجانب – جعل الكارثة الاقتصادية قدراً محتوماً
على صعيدٍ بنيوي. تشي الخطط الموضوعة من صندوق النقد الدولي ومحاوريه في القاهرة عن جهلٍ أو تجاهلٍ، لجذر مشكلات ميزان المدفوعات في مصر. بعبارة بسيطة، هذه المشكلات مردها أنَّ مصر، ولجملة من الأسباب – بعضها يرجع إلى أخطاء سياسية تراكمت عبر أجيال وبعضها الآخر يرجع إلى طابع الرأسمالية العالمية – تفتقر إلى القدرة التكنولوجية والصناعية وحقوق الملكية الفكرية التي تستفيد منها الدول الأخرى لتحصل على حصة كبيرة من القيمة والريع من التجارة الدولية. تعجز مصر أيضاً عن تلبية الاحتياجات الأساسية للسكان من خلال الإنتاج المحلي. وآخر ترتيبات الإقراض من صندوق النقد الدولي يغيب عنه حتى التظاهر بمعالجة هذه المشكلات الهيكلية. ومن المرجح أنه سيقلِّل من فاتورة استيراد مصر (ويجوّع أطفالها) عن طريق فرض التقشف وتخفيض القوة الشرائية للأسر من خلال تخفيض قيمة العملة. لكنّه لن يفعل أي شيء يذكر لمعالجة المشكلة الأساسية المتمثلة في الطاقة الإنتاجية. على العكس من ذلك، مع ارتفاع أسعار الفائدة إلى مستويات غير مسبوقة على أمل اجتذاب المقرضين الأجانب، لا ريب أنّ الشركات المحلية سوف تخفّض من الاستثمار – كما فعلت منذ العام 2016 – لتزيد من تراجع الطاقة الإنتاجية للاقتصاد أكثر فأكثر.
دأب السيسي وإدارته على تضخيم فكرة أنّ مشروع دولتهم أكبر من أن يفشل. إذا سقطت مقاليد الحكم من أيديهم، كما تقول القصة، فالفوضى ستعمُّ البلاد، وبعدها بوقت قصير تتحقّق أكثر مخاوف أوروبا ترويعاً: الإرهاب والهجرة، ومَن يدري ماذا في مجال السياسة الخارجية. في نظر المصريين، بالطبع، فقد وقعت الكارثة إنْ لم تكن قد وقعت الفوضى أصلاً.
تشهد مشكلات مصر على مدى السنوات العشر الماضية على ما يستطيع النظام المالي العالمي فعله في مناطق الأطراف من ناحية، وعلى أوجه القصور الصارخة عند مَن يديرون حكومة البلاد، من ناحية أخرى. إن التدفقات النمطية لرأس المال التي يسهّلها النظام المالي العالمي – فيضان الائتمان عالي الفائدة خلال الأوقات الجيدة، وخروج العملة الصعبة خلال الأزمة المالية السيئة – جعلت تحديد مسار تنموي تدريجي أمراً بالغ الصعوبة. لقد جعل استخدام الديون من قبل إدارة السيسي – بتوجيهها إلى كل من البيئة المبنية (من خلال مشروعات البناء والبنية التحتية الفخمة) وجيوب المقرضين المحليين والأجانب – الكارثة الاقتصادية قدراً محتوماً.
في هذه المرحلة، ليس السؤال هل يمثّل السيسي وإدارته خطراً منهجياً يستدعي معه فرض عملية إنقاذ، بل هل المشكلات التي خلقها اللواءات من الفداحة بحيث تفتح الباب أمام خيانة تاريخية للشعب الفلسطيني. في وقت كتابة هذه المادة، من السابق لأوانه التكهن بمآل الأمور. ولن تكون هذه المرة الأولى التي تستفيد فيها الولايات المتحدة من مشكلات مصر المالية لأغراض جيوسياسية (أنظر/ي: عرض تخفيف عبء الديون على نظام مبارك مقابل دعم الحرب الأولى التي قادتها الولايات المتحدة على العراق في العام 1991). وبغض النظر عن ذلك، ليست المشكلات الاقتصادية في مصر أقرب إلى نهايتها من بدايتها. مصر على موعد مع عقد آخر ضائع من النمو، ومعه اضطرابات اجتماعية وسياسية.
نشر هذا المقال في Noria Research في 23 كانون الأول/ديسمبر 2023.
- 1أنظر/ي Alternative Policy Solutions, “Suez Canal Losses and Low Real Estate Financing Rates”, Adasa Newsletter (American University of Cairo: January 7, 2024).
- 2Osama Diab, “Fighting inflation fiscally”, Brief: Alternative Policy Solutions (American University of Cairo: April 2022)
- 3Stephan Roll, “Loans for the President: External Debt and Power Consolidation in Egypt”, SWP Research Paper (Stiftung Wissenschaft und Politik: December 2022)
- 4Alexandros Kentikelenis, Amine Bouzaiene, Sahar Mechmech, Rowaida Moshrif, and Nabil Abdo, “The Middle East and North Africa Gap: Prosperity for the rich, austerity for the rest”, Report: Oxfam International (October 2023).
- 5بالإضافة إلى العديد من الدائنين المستفيدين من مدفوعات الفائدة، تجدر الإشارة إلى أنّ من بين المستفيدين من الطفرة المالية للدولة الشركات التي يديرها الجيش – جرى التعاقد معها لبناء وإدارة عدد من مشروعات البناء الضخمة – والمسؤولين (الحاليين والمتقاعدين) الذين أداروا تلك الشركات أو تعاقدوا من الباطن معها أو كلا الأمرين. أنظر/ي في هذا الصدد: Sarah Taweel, “Al-Sisi’s bubble in the desert: the political economy of Egypt’s new administrative capital”, Report: Project on Middle East Democracy (June 2023).
- 6Staff Writer, “Economic crisis pushes up Egypt’s wheat, oil imports to $15.6 bln in 2022”, Arab Finance (May 16, 2022).
- 7International Monetary Fund, “Arab Republic of Egypt: Request for Extended Arrangement Under the Extended Fund Facility Staff Report”, IMF Country Report No.23/2 (January 2023)
- 8Central Bank of Egypt, “External Position of the Egyptian Economy: July/March of FY 2021/2022”, Volume no.77 (March 2022).
- 9Central Bank of Egypt, “External Position of the Egyptian Economy: Fiscal Year 2021/2022”, Volume no.78 (July 2022)
- 10بصدد مبادرة الخصخصة الموسعة، أنظر/ي: Staff Writer, “AM—Going Down?”, Newsletter: EnterpriseAM (January 10, 2024).
- 11أُدرِجَت شركتان مملوكتان للجيش – صافي والوطنية – في قائمة 32 شركة مملوكة للدولة مستهدفة للبيع أو البيع الجزئي في العام 2023. وكشفت الإفصاحات أيضاً عن أنّ الجيش سحب أصولاً من تلك الشركات المضطر إلى بيعها ونقلها إلى تلك التي سيحتفظ بها.
- 12Fatmah Salah, “Economic crisis continues to take toll on Egyptian stocks as investors ask for risk premium”, Daily News Egypt (August 22, 2023).
- 13Netty Ismail Idayu and Tarek El-Tablawy. “Egypt’s $35,000 bond sale shows currency risk sapping demand”, Bloomberg (April 4, 2023)
- 14Mirette Magdy, “JPMorgan cuts Egypt from key bond indexes as FX shortages mount”, Bloomberg (January 11, 2024).
- 15Mirette Magdy, Paul Abelsky, and Ziad Daoud, “Egypt needs cash and Gaza war gives world new reasons to help out”, Bloomberg (December 7, 2023).
- 16Reuters Dubai. “Qatar’s Sovereign Wealth fund in talks with Egypt over hotels investment: Report”, Reuters (June 14, 2023).