Preview ميل معدل الربح إلى الانخفاض

قانون الربحية عند ماركس: أدلة جديدة

  • يَنصُّ قانون ماركس المتعلّق بمَيْل معدّل الربح إلى الانخفاض على أن ربحية رأس المال المُستثمَر تنخفض بمرور الوقت، وهو يُعبّر عن التناقض المتأصّل في نمط الإنتاج الرأسمالي بين إنتاج السلع والخدمات التي يحتاج إليها المجتمع البشري وبين الأرباح التي يجنيها رأس المال، والذي يقود إلى خلق أزمات منتظمة ومتكرّرة على صعيد الاستثمار والإنتاج.
  • لا تقتصر القطاعات الإنتاجية على مجرد إعادة توزيع القيمة التي أُنتِجت بالفعل، بل تضطلع بخلق القيمة الجديدة عبر استثمار رأس المال. وعليه، فإن معدل الربح فيها يُعدّ المؤشر الأفضل على صحة واتجاه الاقتصاد الرأسمالي.

يجادل قانون ماركس المتعلّق بمَيْل معدّل الربح إلى الانخفاض بأن ربحية رأس المال المُستثمَر تنخفض بمرور الوقت. وهو ما عدّه ماركس «القانون الأهمّ في الاقتصاد السياسي»، كونه يُعبّر عن التناقض المتأصّل في نمط الإنتاج الرأسمالي بين إنتاج الأشياء والخدمات التي يحتاج إليها المجتمع البشري وبين الأرباح التي يجنيها رأس المال، والذي يقود إلى خلق أزمات منتظمة ومتكرّرة على صعيد الاستثمار والإنتاج.

تعرّض قانون ماركس للهجوم النظري ووُصِف بالمغلوطِ والغامض واللامنطقي، كما أنه نُبِذ بحجة افتقاره إلى الشواهد التجريبية. مع ذلك، قدّم العديد من الاقتصاديين الماركسيين دفاعاً قوياً عن منطق القانون (كارشيدي وروبرتس، كليمان، موراي سميث). وتجمّعت على مرّ السنين جملة من الأدلة التجريبية التي تؤيِّد انخفاض معدّل الأرباح عن تراكم رأس المال على المدى الطويل.

والآن، يُبادر كلّ من توماس روتا من جامعة غولدسميث في لندن وريشاَب كومار من جامعة ماساتشوستس بتقديم مساهمة إضافية مهمّة بصدد الشواهد التجريبية التي تعزّز قانون ماركس بشأن ميل معدّل الربح إلى الانخفاض. ففي الورقة التي تحمل عنوان «هل كان ماركس على حق؟ التنمية والاستغلال في 43 دولة بين 2000 و2014»، ينتهي روتا وكومار إلى التثبّت من صحّة قانون ماركس: حيث ترتفع كثافة رأس المال بصورة أسرع قياساً إلى معدّل الاستغلال، وبالتالي ينخفض معدل الربح العالمي.

قام روتا وكومار باستحداث لائحة مُحدّثة للبيانات المتصلة بالمتغيّرات الماركسية الرئيسية استناداً إلى قاعدة بيانات المدخلات والمخرجات العالمية التي تغطي قُرابة 56 صناعة في 43 دولة في الفترة بين عامي 2000 و2014. وكتبا يقولان: «في حدود علمنا، تمثل مساعينا المحاولة الأولى على الإطلاق لبلورة مجموعة من البيانات العالمية الشاملة المتصلة بالمتغيّرات الماركسية».

يخلص روتا وكومار إلى أن متوسّط معدّل الربح انخفض على المستوى العالمي بين عامي 2000 و2014، وأن معدّل الربح على إجمالي رأس المال انخفض بالتزامن مع ارتفاع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي لكل بلدٍ بسبب عِظَم الحصة الخاصة برأس المال غير المنتج في البلدان الغنية. وبالنظر إلى تزايد الأنشطة غير المنتجة مع التنمية الاقتصادية، «تُضيف النتائج التي توصلنا إليها آلية ثانية إلى التوقعات الأساسية التي انتهى إليها ماركس فيما يتصل بانخفاض معدل الربح».

إن الميزة الكبرى التي تنطوي عليها دراسة روتا وكومار تكمن في أنها تستند إلى معدل الربح ضمن القطاعات الإنتاجية. بحسب النظرية الماركسية، لا تقتصر هذه القطاعات على مجرد إعادة توزيع القيمة التي أُنتِجت بالفعل، بل تضطلع بخلق القيمة الجديدة عبر استثمار رأس المال. وعليه، فإن معدل الربح في القطاعات الإنتاجية يُعدّ المؤشر الأفضل على صحة واتجاه الاقتصاد الرأسمالي، وذلك على أساس أن معدل الربح في القطاعات غير الإنتاجية (المالية والتجزئة والتجارية والعقارية) إنما يعتمد في نهاية المطاف على معدل الربح في القطاعات الإنتاجية الخالقة للقيمة.

يشير الباحثان إلى قصور التقديرات السابقة لمعدل الربح على المستوى العالمي عن إبراز هذا التمييز. عن طريق استخدام البيانات المتعلقة بالأنشطة الصناعية المستقاة من «الحسابات الاجتماعية والاقتصادية» التابعة «لقاعدة بيانات المدخلات والمخرجات العالمية»، والبيانات المجمّعة على مستوى الدولة والمأخوذة من «جداول Penn العالمية الموسّعة»، يعيد روتا وكومار حساب القيمة المضافة لكلّ نشاط صناعي بذاته عبر الاعتماد على التفريق بين النشاط الإنتاجي وغير الإنتاجي.

ووجدا أن معدّل الربح العالمي لكل من رأس المال الإجمالي ورأس المال الخاص بلغ ذروته عند 13.7% قبل الأزمة المالية التي اندلعت في العام 2008، ثم انخفض واستمر في الانخفاض التدريجي إلى 12.7% في العام 2014. وبالتزامن، ارتفع التكوين العضوي لرأس المال (نسبة الأصول الثابتة والمواد الخام إلى أجور العمل) على نحو أسرع من معدل فائض القيمة (الأرباح قياساً إلى الأجور)، ويتّسق كل ذلك مع قانون ماركس المتعلّق بالربحية. هذا الانخفاض الإجمالي كان مدفوعاً بانخفاض معدل الربح في القطاعات الإنتاجية.

ميل معدل الربح إلى الانخفاض

تشير الزيادة المقدرة بـ 12.4% في معدل فائض القيمة إلى أن الانخفاض في معدّل الربح العالمي كان مدفوعاً بزيادة أكبر في كثافة رأس المال. ارتفعت نسبة رأس المال الإنتاجي إلى العمل بنحو 25.8% (من 314% إلى 395%)، في حين ارتفعت نسبة إجمالي رأس المال إلى العمل بنحو 16.8% (من 763% إلى 892%) بين عامي 2000 و2014. وعلى هذا، فإن الانخفاض الذي شهده معدل الربح العالمي كان مدفوعاً بالنمو السريع لرأس المال المتغيّر بالقياس إلى نمو فائض القيمة، تماماً على نحو ما توقّع ماركس.

تنطوي مجموعة البيانات الخاصة بروتا وكومار على ميزة إضافية، وهي أنها تسمح بتحليل المتغيرات الماركسية الخاصة بمعدل الربح داخل البلدان وفيما بينها. فقد توصّلا إلى تمكُّن «الصين في غضون 15 عاماً لا أكثر من زيادة وزنها في القيمة المضافة العالمية من 5.3 إلى 19.3%. وفي الوقت نفسه هبط وزن الولايات المتحدة في القيمة المضافة العالمية من 30.1 إلى 22.3%، كما تقلّص وزن اليابان من 16.3 إلى 6.7% في الفترة نفسها. وكذلك ألمانيا، فعلى الرغم من ضآلة حصتها، إلاَّ أنها شهدت تحولاً هبوطياً سريعاً من 6.6 إلى 6.0%.

أصبحت الصين الدولة صاحبة الحصة الأكبر من رأس المال العالمي المستثمر في النشاط الإنتاجي، ما أدّى إلى الارتفاع السريع في وزنها من 6.0 إلى 23.6%. وهذا بالقياس إلى انخفاض ثقل الولايات المتحدة من 24.8 إلى 17.4%، واليابان من 21.2 إلى 8.8%، وألمانيا من 6.5 إلى 4.6%. وليس من المستغرب أن تهيمن الولايات المتّحدة على حصص الدخل العالمي ورأس المال المستثمر في النشاط غير المنتج، أي التمويل والعقارات والخدمات الحكومية. تغدو الولايات المتحدة والمملكة المتحدة «اقتصادات ريعية» أكثر فأكثر، حيث يستند عيشهما على القيمة الجديدة التي تولدت في الصين وغيرها من الاقتصادات الإنتاجية الكبرى.

بحسب روتا وكومار، تتسم الاقتصادات الرأسمالية المتقدّمة وفق ماركس بأكثر معدّلات فائض القيمة ارتفاعاً، وبالتكوِين العضوي الأعلى لرأس المال، ومتوسط معدّل الربح الأقل. ومع ذلك، فقد تبيَّن لهما أن معدل فائض القيمة في البلدان الفقيرة هو الأعلى. ويعود ذلك إلى الارتفاع الشديد في مستوى الأجور في البلدان الغنية قياساً إلى الأجور في البلدان الفقيرة، وهذا الفارق هو المسؤول عن ارتفاع معدل فائض القيمة في الأخيرة. «يتسم معدل الأجر لكل ساعة بالعلو الشديد في البلدان الغنية: فبينما تصل نسبة إنتاجية العمل بين الهند والولايات المتّحدة إلى حوالى 5%، لا تتجاوز نسبة الأجور 2% فحسب. وبالتالي، أنْ تكون عاملاً في الهند يعني ضمناً الحصول على أجور أقل بكثير مقارنةً بكونك عاملاً في فرنسا أو ألمانيا».

ويتماثل هذا مع التفسير الذي قدّمناه، كارتشيدي وأنا، في ورقتنا عن الإمبريالية الحديثة، حيث لاحظنا اتّسام التكوين العضوي لرأس المال بالارتفاع في الاقتصادات الإمبريالية، وارتفاع معدّل فائض القيمة في الأطراف. مع ذلك، يعتقد روتا وكومار أن هذه النتيجة توفر سنداً تجريبياً لأطروحة الاستغلال الفائق التي قال بها روي ماورو ماريني وآخرين. ولو أنني لا أعتقد ذلك.

لا تشير الأجور المنخفضة إلى المعنى نفسه الذي أسبغه ماركس على «الاستغلال الفائق»، والذي حدّده بانخفاض مستويات الأجور قياساً إلى قيمة قوّة العمل، أي مقدار القيمة اللازمة لإعادة إنتاج قوّة العمل. وكما ناقشنا المسألة بإسهابٍ في كتابنا «الرأسمالية في القرن الحادي والعشرين»، في الصفحات المحصورة بين 134 و140، لا يلزم أن يكون متوسط مستويات الأجور في البلدان الفقيرة أقل من قيمة قوّة العمل حتى يقود إلى المعدل المرتفع لفائض القيمة في تلك البلدان.

خلص روتا وكومار إلى أن البلدان الأغنى تتوافر على معدّلات ربح منخفضة. وهما يفسران ذلك بإرجاعه إلى المخزون الكبير الذي تتمتع به البلدان الغنية من رأس المال الثابت المرتبط بالنشاط غير الإنتاجي. وذلك في ضوء بالبيانات التي تكشف عن تمتُّع رأس المال الإنتاجي بمعدلاتِ ربحٍ أعلى في البلدان الغنية.

 تساهم كل هذه النتائج في تعزيز قانون ماركس عن الربحية. لكن يبرز سقف للنهج الذي يتبعه روتا وكومار. فكما يشيران، تتسم السلسلة الزمنية المُرتكزة إلى قاعدة بيانات المدخلات والمخرجات العالمية بالقِصَر الشديد، إذ أنها تنحصر في حدود 15 عاماً لا أكثر، بين عامي 2000 و2014. والأهم من ذلك أن جداول المدخلات والمخرجات تعاني من بعض العيوب النظرية، لأنها تقيس المدخلات والمخرجات (سواء من ناحية المال أو من ناحية العمل) في العام نفسه. فهي لا تقيس أسعار الإنتاج ومعدلات الربح بشكل ديناميكي. وهذا هو الجانب الذي تتمتع فيه بيانات باسو وفاسنر، التي تتكئ على «جداول Penn العالمية الموسّعة»، وتتسم بالإشارة إلى التغيرات والاتجاهات بمرور الوقت، على الرغم من انعدام قدرتها على التمييز بين القطاعات الإنتاجية وغير الإنتاجية.

كما كانت هناك محاولات سعت إلى استخدام البيانات القومية من أجل الوقوف على معدلات الربح في كلٍّ من القطاعات المنتجة وغير المنتجة. وهذا ما حاول القيام به تسولفيديس وباتريديس. وتكشف النتائج التي توصَّلا إليها فيما يختص بالولايات المتحدة عن أنه، في خلال التسعينيات، برز ارتفاع في معدل الربح الإجمالي في فترة النيوليبرالية الممتدة من أوائل الثمانينيات حتى نهاية القرن العشرين، لكن معدل الربح في القطاعات الإنتاجية (معدل الربح الصافي) ضمن الاقتصاد الأميركي لم يرتفع، بينما اتجه الاستثمار الرأسمالي أكثر فأكثر صوب القطاعات غير المنتجة (المالية والعقارات).

ميل معدل الربح إلى الانخفاض

وبالاعتماد على تصنيفٍ يشبه التصنيف الذي يعتمده روتا وكومار، توصّلتُ أخيراً في عملٍ حديث غير منشور يشرح معدل الربح داخل القطاعات الإنتاجية وفي الاقتصاد الأميركي بشكل عام، إلى نتائج مماثلة لما توصل إليه تسولفيديس وباتريديس. اتسعت الفجوة بين معدل الربح المتحقق في «الاقتصاد كَكُلّ» ومعدل الربح المتحقق في إطار القطاعات الإنتاجية منذ أوائل الثمانينيات. حافَظ المعدل الإجمالي على ثباته إلى حد ما منذ العام 1997، إذ شهدت الربحية المتحقّقة في القطاعات الإنتاجية انخفاضاً حاداً منذ العام 2006 على وجه التقريب، وذلك بعد الارتفاع المتواضع الذي أحرزته في خلال التسعينيات. يجني الرأسماليون الأميركيون أرباحاً أفضل عبر الاستثمار في القطاعات غير المنتجة، وهو ما يلحق الضرر بالاستثمار الإنتاجي.

Previewميل معدل الربح للانخفاض

لكن تقتصر هذه النتائج على الولايات المتحدة دون سواها. وحدها ورقة روتا وكومار بلورت للمرة الأولى جُملة المتغيرات الماركسية التي تميز بين القطاعات المنتجة والقطاعات غير المنتجة على الصعيد العالمي، وبالتالي تسلّط المزيد من الضوء على وضع الإنتاج الرأسمالي، فيما يمثل خطوة مُهمّة في إطار العمل التجريبي الذي يعزّز قانون ماركس.

نشر المقال على مدوّنة مايكل روبرتس في 23 كانون الثاني/يناير 2024.