كيف يساهم «تراجع النمو» بتخفيف آثار التغيّر المناخي؟
- يتطلَّب «الإنتاج الأخضر» تعبئة كمّيات هائلة من العمالة والمصانع والمواد والمواهب الهندسية... وفي سيناريو موجّه نحو النمو، يصعب القيام بهذا لأن قدراتنا الإنتاجية مُكرّسة لأنشطة أخرى تُنظّم حول الربح ولا تُسهِم في تحقيق الأهداف الاجتماعية والبيئية.
- يتم التحكّم في التمويل بواسطة رأس المال، ويُستثمَر رأس المال في إنتاج ما هو أكثر ربحية وليس ما هو أكثر ضرورة. ولهذا السبب نحصل على استثمارات كبيرة في الوقود الأحفوري، وسيارات الدفع الرباعي، والموضة السريعة وهي أشياء مربحة للغاية، في مقابل استثمارات غير كافية في الطاقة المتجددة، وخدمات النقل العام، وعزل المباني.
أريد أن أقدِّم هنا مداخلة مُوجَزة لتسليط الضوء على جانب من جوانب استراتيجية تخفيف آثار التغيّر المناخي من خلال تراجع النمو - وهو جانب لم يُطوَّر بشكل كافٍ حتى الآن. من المفهوم على نطاق واسع أن تقليص أشكال الإنتاج الأقل ضرورة من الممكن أن يُسهِم بشكل كبير في نزع الكربون بطريقتين مباشرتين وواضحتين. فهو، أولاً، يقلّل الانبعاثات بشكل مباشر بالإضافة إلى ما يمكن تحقيقه من خلال تحسين الكفاءة ونشر الطاقة المتجدِّدة. وهو، ثانياً، يقلّل من إجمالي الطلب على الطاقة، وبالتالي يجعل من الممكن نزع الكربون من نظام الطاقة بسرعة أكبر، لأنه ليس من الضروري إنشاء القدر نفسه من البنية التحتية الجديدة. تنطوي هذه العملية على قدر أقل من استخراج المواد والانبعاثات. وهذه منافع قوية.
لكن هناك العديد من المنافع الأخرى غير المفهومة على نطاق واسع لسيناريو تراجع النمو والتي تستحق أخذها بالاعتبار.
إليك الشيء الجوهري. إذا كان للبلدان ذات الدخل المرتفع أن تعمل على نزع الكربون بسرعة كافية للبقاء ضمن حصّتها العادلة من ميزانيات الكربون المتوافقة مع «اتفاق باريس»، فإن مهام التخفيف العاجلة من آثار تغيّر المناخ، مثل بناء قدرات الطاقة المتجدّدة، وعزل المباني،1 وتوسيع خدمات النقل العام، وابتكار ونشر تكنولوجيات أكثر كفاءة، وتجديد الأراضي،2 وما إلى ذلك - يجب أن تحدث بسرعة كبيرة جداً. يتطلَّب هذا «الإنتاج الأخضر» تعبئة كمّيات هائلة من العمالة، والمصانع، والمواد، والمواهب الهندسية، وما إلى ذلك. وفي سيناريو موجّه نحو النمو، يصعب القيام بهذا لأن قدراتنا الإنتاجية مُكرّسة بالفعل لأنشطة أخرى، وهي أنشطة تُنظّم حول الربح وقد لا تُسهِم في تحقيق الأهداف الاجتماعية والبيئية. لذلك نحن بحاجة إما إلى التنافس مع أشكال الإنتاج الحالية (على العمالة، والمواد، والطاقة، وما إلى ذلك، وهو الأمر الذي يمكن أن يدفع الأسعار إلى الارتفاع)، أو زيادة إجمالي القدرة الإنتاجية (أي تنمية الاقتصاد). ولا يمكن القيام بذلك بالسرعة المطلوبة. وفي ظل هذه الظروف، هناك حدود مادية حقيقية لمدى سرعة نزع الكربون.
نحن بحاجة إلى طريقة ما لتعبئة الطاقة الفائضة. وهذا يستلزم تمويلًا. وهو ما يقودنا إلى مشكلة أخرى. فمَن يسيطر على التمويل يُحدِّد ما نُنتجه، وبالتالي كيف تُخصَّص قدرتنا الإنتاجية
إن تقليص الإنتاج الأقل ضرورة يحل هذه المشكلة، ليس فقط بسبب المنفعتين المذكورتين أعلاه، ولكن أيضاً لأنه يُحرِّر القدرات الإنتاجية (المصانع، والعمالة، والمواد) التي يمكن حينئذ إعادة تعبئتها للقيام بالإنتاج والابتكار المطلوبين لنزع الكربون بسرعة. على سبيل المثال، يمكن للمصانع المخصَّصة حالياً لإنتاج سيّارات الدفع الرباعي إنتاج الألواح الشمسية. ويمكن للمهندسين الذين يطوِّرون حالياً الطائرات الخاصة العمل على ابتكار قطارات وتوربينات رياح أكثر كفاءة. ومن الممكن تحرير العمالة التي توظِّفها حالياً شركات الموضة السريعة بتدريبها على تركيب - والإسهام في - القدرات المتجدّدة، أو عزل المباني، أو مجموعة واسعة من الأهداف الضرورية الأخرى اعتماداً على مصالحهم، من خلال برنامج لضمان الوظائف العامة مرتبط بالأشغال العامة الخضراء.
يساعدنا هذا على إعادة التفكير في مسألة مزمنة في الاقتصاد البيئي. لقد زعم بعض أنصار الحداثوية البيئية في الماضي أن تحقيق التحول الأخضر في اقتصاد أكبر أسهل من تحقيقه في اقتصاد أصغر، لأن ذلك يعني أن لدينا قدرة أكبر نُكرِّسها للإنتاج الأخضر. لكن هذا الطرح يفشل في فهم طبيعة المشكلة. نعم، قد يتمتَّع الاقتصاد الأكبر بقدرة أكبر، لكن في سيناريو موجَّه نحو النمو، تخضع هذه القدرة للتخصيص بالفعل. وفي هذا الصدد، تواجه الاقتصادات الأكبر المشكلة نفسها التي تواجهها الاقتصادات الأصغر. لكن سيناريو تراجع النمو لا يعني «اقتصاداً أصغر حجماً» (أي اقتصاد منخفض القدرة). إنه اقتصاد عالي القدرة يعمل على تقليص الإنتاج الأقل ضرورة، وبالتالي يكتسب فجأة قدرة فائضة يمكن إعادة توجيهها لتحقيق الأغراض الضرورية. وهذا وضع فريد يحمل إمكانات كبيرة: فهو يتيح تسريع وتيرة الإنتاج والابتكار الأخضرين بمعدل أسرع مما يمكن تحقيقه في سيناريو موجّه نحو النمو.
وبالمناسبة، من الممكن أيضاً توجيه هذه القدرة الفائضة نحو أهداف اجتماعية عاجلة - على سبيل المثال، توفير الخدمات العامة الشاملة - من أجل إنهاء البؤس والحرمان غير اللازمين اللذين يعاني منهما كثير من الناس في اقتصادنا الحالي.
وبطبيعة الحال، نحن بحاجة إلى طريقة ما لتعبئة الطاقة الفائضة. وهذا يستلزم تمويلًا. وهو الأمر الذي يقودنا إلى مشكلة أخرى. فمَن يسيطر على التمويل يُحدِّد ما نُنتجه، وبالتالي كيف تُخصَّص قدرتنا الإنتاجية. وفي اقتصادنا الحالي، يتم التحكّم في التمويل بواسطة رأس المال، ويُستثمَر رأس المال في إنتاج ما هو أكثر ربحية وليس ما هو أكثر ضرورة. ولهذا السبب نحصل على استثمارات كبيرة في الوقود الأحفوري، وسيارات الدفع الرباعي، والموضة السريعة (وهي أشياء مربحة للغاية) واستثمارات غير كافية في الطاقة المتجددة، وخدمات النقل العام، وعزل المباني (وهي إما أشياء غير مربحة بالقدر نفسه، أو غير مربحة على الإطلاق). إذاً، في ظل الرأسمالية، هناك حدود حقيقية لمدى سرعة زيادة الإنتاج والابتكار الأخضرين. فرأس المال يُفضِّل القيام بأشياء أخرى.
زعم بعض أنصار الحداثوية البيئية أن تحقيق التحول الأخضر في اقتصاد أكبر أسهل من تحقيقه في اقتصاد أصغر، لأن ذلك يعني أن هناك قدرة أكبر نُكرِّسها للإنتاج الأخضر. لكن هذا الطرح يفشل في فهم طبيعة المشكلة
بُغية التعامل مع هذه المشكلة، نحتاج إلى دور أكبر للتمويل العام. فبدلاً من انتظار رأس المال للقيام بالاستثمارات اللازمة، يمكن للحكومات التي تتمتع بالسيادة النقدية الكافية إصدار العملات للقيام بذلك مباشرة، بالطريقة التي وصفناها في هذا المقال الأخير في مجلة «إيكيلوجيكال إيكونومكس» (ويُمكن الاطلاع هنا على مناقشة للخيارات المتاحة داخل منطقة اليورو). وبطبيعة الحال، هناك حدود لهذه العملية: فإذا تجاوز الطلب الجديد القدرة الإنتاجية للاقتصاد، فإنه سيؤدي إلى التضخم. لكن هذه المشكلة تُخفَّف في سيناريو تراجع النمو، حيث نعمل على خفض الإنتاج الأقل ضرورة وبالتالي تحرير القدرات. علاوة على ذلك، يمكن السيطرة على الضغوط التضخمية من خلال استخدام الضرائب لخفض القوة الشرائية للأغنياء، ومن خلال تنظيم تكوين الأموال الخاصة بطرق كمية ونوعية.
ومن المفيد أن ندرك أنه عندما نتحدث عن «الاستثمار»، فإن المال محض وسيلة. وفي الواقع، يأخذ الاستثمار الحقيقي شكل تخصيص القدرة الإنتاجية الحقيقية: العمالة، والمواد، والطاقة الحقيقية، وما إلى ذلك. وبمجرد أن نفهم هذه الحقيقة، يصبح من الواضح أن سيناريو تراجع النمو يُمكِّن الاستثمار في الإنتاج والابتكار الأخضرين، من خلال إتاحة القدرة الإنتاجية الحقيقية.
يمثِّل هذا دحضاً مهمّاً للادعاء الذي ساقه العديد من خبراء الاقتصاد بأن الطريق الوحيدة لـ«تمويل» التحول الأخضر تتلخّص أولاً في زيادة النمو. والافتراض هنا هو أننا نحتاج إلى زيادة الناتج المحلي الإجمالي من أجل الحصول على عائدات ضريبية أعلى لتمويل الإنتاج الأخضر (وبعبارة أخرى، زيادة إنتاج الشركات، ثم أخذ بعض الأموال من هذا للإنفاق على الإنتاج الأخضر). ومن وجهة النظر هذه، فإن تراجع النمو يأتي بنتائج عكسية: إذ يقل الناتج المحلي الإجمالي، وتقل العائدات الضريبية، ويقل الإنتاج الأخضر. لكن الخلل في هذا التفكير يجب أن يُكشَف على الفور. الشركات لا تُنتِج مالاً. بل تُنتِج أشياء. والقول بأننا بحاجة إلى زيادة النمو، أي زيادة إنتاج الأشياء الموجودة، من أجل «تمويل» الإنتاج الأخضر هو بمثابة القول بأننا بحاجة إلى زيادة إنتاج سيارات الدفع الرباعي، والموضة السريعة، والطائرات الخاصة من أجل زيادة إنتاج الألواح الشمسية والنقل العام. ومن الواضح أن هذا غير منطقي. يمكننا زيادة الإنتاج الأخضر بشكل مباشر من خلال التمويل العام. وفي الواقع، يتم تمكين هذه العملية - لا تُثبيطها - من خلال الحَد من أشكال الإنتاج الأقل ضرورة، وبالتالي تحرير القدرة الإنتاجية بحيث يمكن إعادة توجيهها لأغراض أخرى.
تميل الحكومات الرأسمالية إلى إعادة إنتاج سرديات عن فرض الضرائب للتمكَّن من الإنفاق وخفِّض العجز، مع علمها بأن هذه الادعاءات كاذبة، لأنها تسيطر على توقعاتنا بشأن مقدار الإنتاج العام الذي يمكننا القيام به وتضمن بقاء حصة أكبر من قدرتنا الإنتاجية في أيدي رأس المال الخاص
لكن إذا كانت هذه المقاربة في التعامل مع التمويل العام واضحة ومباشرة إلى هذا الحد، فلماذا لا تُفعِّلها الحكومات؟ الجواب القصير هو: لأنها حكومات رأسمالية. تُمثِّل المقاربة التي وصفتها هنا زيادة في السيطرة العامة الديمقراطية على القدرة الإنتاجية. وهذا جيد. يجب أن نتمتّع بسيطرة أكبر على عملية تخصيص عملنا ومواردنا الجماعية، حتى نتمكّن من توجيهها نحو الأهداف الضرورية، مقارنة بالوضع الحالي، حيث يتحكَّم رأس المال في قدرتنا الإنتاجية، بطريقة غير ديمقراطية، ويوجهها نحو تحقيق أهداف ما هو مُربِح بالنسبة إلى رأس المال. لكن هذا يتطلَّب بالضرورة الحَد من السيطرة الرأسمالية على القدرة الإنتاجية، وهو ما يتعارض بطبيعة الحال بشكل مباشر مع مصالح تراكم رأس المال. ولهذا السبب تميل الحكومات الرأسمالية إلى إعادة إنتاج سرديات مثل «علينا أن نفرض الضرائب قبل أن نتمكَّن من الإنفاق» و«علينا أن نُخفِّض العجز»، حتى مع علمها بأن هذه الادعاءات كاذبة، لأن مثل هذه الأساطير تسيطر على توقعاتنا بشأن مقدار الإنتاج العام الذي يمكننا القيام به، وتُبرِّر بالفعل تقليص الإنتاج العام من أجل ضمان بقاء حصة أكبر من قدرتنا الإنتاجية في أيدي رأس المال الخاص.
بطبيعة الحال، في البلدان ذات الدخل المرتفع، فإن إعادة تعبئة الإنتاج لتحقيق الأهداف البيئية يجب أن تتمّ في إطار التخفيض الإجمالي الكلي للطاقة وإنتاجية المواد إلى مستويات مستدامة (تراجع النمو)، كما أثبت خبراء الاقتصاد الصديق للبيئة. ويجب أن نكون واضحين أيضاً في أن ما وصفته أعلاه لا يحتاج إلى إعادة تضمين الرؤى القائمة على النزعة الإنتاجويّة أو النزعة النُمُويّة. نعم، إن الإنتاج المتسارع لأشياء معينة ضروري لإنجاز المهام الاجتماعية والبيئية المُلِحّة (بناء قدرة كافية في مجال الطاقة المتجدّدة واستحداث خدمات عامة شاملة، على سبيل المثال)، لكن هذه المهام ليست لأجل غير مسمى - على عكس هدف النمو الرأسمالي - ولا تستلزم زيادة الإنتاج بشكل دائم. فبمجرَّد تحقيق الأهداف الضرورية، يمكن تعديل مستوى الإنتاج بطريقة ديمقراطية وفقاً لما هو ضروري اجتماعياً وبيئياً.
إن قوة هذه المقاربة غير عادية. وأولئك الذين يرغبون في إطلاق العنان للابتكار والإنتاج التكنولوجيين لتحقيق أهداف بيئية غالباً ما يربطون وسائلهم بالنمو الرأسمالي. لكن الرأسمالية والنزعة النموية يحدّان مما يمكننا تحقيقه، للأسباب التي وصفتها هنا. من الممكن أن يساعدنا خفض النمو، مقترناً باستراتيجية مالية عامة قوية، في التغلب على هذه القيود، وتحسين إمكاناتنا في مجال الإنتاج والابتكار الأخضرين، وتمكيننا من تحقيق نزع الكربون بسرعة.
نشر هذا المقال على مدوِّنة الكاتب في 21 كانون الأول/ديسمبر 2023.
- 1من خلال تركيب مواد عازلة مُعينة، تَستخدم المباني طاقة أقل للتدفئة والتبريد على حد سواء، ويواجه شاغلوها تقلبات حرارية أقل بسبب وجود حاجز بين درجة الحرارة داخل المبنى ودرجة الحرارة خارجه. وتُعدُّ عمليات إعادة مواءمة المباني بمزيد من العَزْل من بين الأساليب المهمة للتخفيف من آثار تغير المناخ لأنها تُقلل من استخدام الطاقة - المترجم.
- 2من خلال إعادة بناء المواد العضوية في التربة واستعادة تنوعها البيولوجي، يمكن عكس آثار تغير المناخ - المترجم.