التغيّر المناخي كحربٍ طبقية

  • نحتاج إلى نظرية أعمق عن الطبقة، كي نحدّد المسؤول الفعلي عن أزمة المناخ، ويتمثّل الطرح المركزي للكتاب في أنّ السبب الحقيقي لأزمة المناخ هو أقلية من الملّاك الذين يتحكّمون بإنتاج الطاقة والغذاء والمواد الخام والبنية التحتية اللازمة لاشتغال المجتمع ويستفيدون منها.
     
  • من وجهة نظر الذنب الكربوني الذي يتغذّى على قلق من أنماط الحياة المُترفة، ستبدو سياسات التخفيف مسألة جذّابة، إلّا أنّ هذه السياسات تهدف ببساطة إلى إعادة إنتاج التقشّف المفروض على الطبقة العاملة من النيوليبرالية، وهو ما يجعل جاذبيتها موضعاً للشك.

من المفارقات الأساسية لعصرنا أننا نزيد وعياً بشأن مخاطر التغيّر المناخي، فيما نصبح أكثر عجزاً عن تجنّب المصير الذي نُساق إليه بسببه. نمتلك اليوم أدلّة علمية دامغة على وقوع التغيّر المناخي بسبب النشاط البشري، حتّى أنَّ منكريه يُضطرون إلى تغيير أساليبهم، فيلجأوون مثلاً إلى التهوين من التبعات بدل إنكار الواقع برمّته. مع ذلك، لا يفعل أحدٌ شيئاً ذا بال، لأنّ سياسات المناخ أصبحت تنقسم اليوم إلى جناحين عديميْ التأثير بالقدر نفسه: أولاً، هناك اللقاءات الدورية للقادة العالميين، ومؤتمراتهم لوضع أهداف جديدة تفشل في تقليل الانبعاثات الكربونية، ونقاشاتهم اللا نهائية بشأن المسؤولية الأخلاقية وتحمّل التكلفة. وثانياً، هناك حملات النشطاء ومجموعات العمل المباشر مثل "التمرّد ضدّ الانقراض" و"فقط أوقفوا النفط"، وهؤلاء ينتهجون مساراً يائساً من أفعال العصيان المدني مع خطاب زاعق تزداد حدّته ويتضاءل تأثيره أمام جمهور يشغله الوصول إلى العمل في الموعد أكثر كثيراً من انشغاله بذوبان جليد القطبين.

ركّزت استراتيجية الطبقة الوسطى على سياسات الاستهلاك بدل سياسات الإنتاج، وبذلك أخطأت تحديد المتهم، وأبعدت انتباهنا عن أي حلٍّ واقعيفي هذا الوضع العالق، يأتي كتاب ماثيو هوبر، التغيّر المناخي كحربٍ طبقية، مداخلةً ماركسية صريحة لفهم الأزمة. وسلاحه في ذلك التأكيد، من دون مواربة، على مفهوم الطبقة. يقول هوبر إنّنا "نحتاج إلى نظرية أعمق عن الطبقة، كي نحدّد المسؤول الفعلي عن أزمة المناخ"(17-18)، ويتمثّل الطرح المركزي للكتاب في أن "السبب الحقيقي لأزمة المناخ هو أقلّية من الملّاك الذين يتحكّمون بإنتاج الطاقة والغذاء والمواد الخام والبنية التحتية اللازمة لاشتغال المجتمع، ويستفيدون منها"(55)، وفي أن الاستجابة السياسية للأزمة دائماً ما جاءت - في مادتها وصورتها - من ناحية الطبقات الوسطى. يرى هوبر أن استراتيجية الطبقة الوسطى ركّزت على سياسات الاستهلاك بدل سياسات الإنتاج، وبذلك أخطأت تحديد المتهم، وأبعدت انتباهنا عن أي حلٍّ واقعي، وهو يدافع بدلاً من ذلك عن نظرية للتغيّر المناخي تضع نصب أعينها من يتحكّمون في الإنتاج ويديرون دفته، ومن ثمَّ تعيد الالتفات إلى مصالح الطبقة العاملة على اعتبار تناغمهم مع التحوّلات الاجتماعية الجذرية ضرورية لتجنّب كارثة المناخ.

ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أجزاء يُفصِّل المؤلف فيهم الطبيعة الطبقية للتغيّر المناخي. وفي الجزء الأول بعنوان «طبقة الرأسمال»، يتساءل هوبر عمّن يتحمّل اللوم على التغيّر المناخي، ويلحظ أنّ الرواج الحالي لمفهوم "الأنثروبوسين" يصوِّر التغيّر المناخي كأنه نتيجة للوجود البشري مجرّداً، و"يعني أن كلّ البشر مخطئون بالتساوي" (287)، مع أن المساواة الصورية بين أفراد المجتمع لم تعنِ أبداً مساواتهم في المسؤولية بهذا المعنى. يهدف انتقال هوبر إلى التحليل الطبقي الماركسي إذن "إلى التركيز على المتّهمين الرأسماليين منتجي التغيّر المناخي"(24). وقد توحي هذه المقولة وأشباهها بأنّ هوبر ينوي اللجوء إلى لعبة لوم طبقي ساذجة، لكن الأمر ليس كذلك، فهو يدافع عن فهم رأس المال باعتباره قوّة اجتماعية تشتغل كمنطق اقتصادي أعمى، ويلعب الرأسمالي فيها دور رأس المال مشخّصاً. يستخدم هوبر نظرية ماركس عن القيمة ليُظهر "كيف أن الإنتاج ذاته مُنظّم عبر منطق رأس المال، وكيف أن هذا المنطق المجرّد يستبطن اللامبالاة بالمحيط البيئي المادي"(81).

ثمّ يقدم الفصل الثالث دراسة حالة مهمّة عن صناعة مُحدّدة هي صناعة الأسمدة النيتروجينية، التي يظهر فيها بوضوح منطق رأس المال الأعمى في سعيه وراء الربح على حساب كلّ ما عداه. يستخدم هوبر فكرة ماركس عن فائض القيمة النسبي ليبيِّن ببراعة دور الأسمدة في السياق الأوسع للتراكم الرأسمالي. فلما كان رأس المال يستبدل بالعمل البشري الآلات العاملة بالوقود من أجل تقليل تكلفة الإنتاج ورفع الأرباح، فإنّ هذا الاستبدال يؤدّي - في إطار صناعة الأسمدة - لا فقط إلى خفض تكلفة المدخلات الزراعية، لكن إلى خفض أسعار المنتجات الزراعية أيضاً، ومن ثمَّ يؤدّي من طريق غير مباشرة إلى خفض سعر العمالة وما تنتجه. يقول هوبر إنّ هذا الخفض الممنهج لأسعار السلع هو المحرّك الأساسي لزيادة الاستهلاك، والمحرّك الأساسي لتأثير هذه الزيادة على البيئة. ومع أنّ سياسات المناخ المعاصرة تركِّز حصراً على سياسات الاستهلاك، فإنها دائماً ما تغفل "نزوع رأس المال نحو استقطاع المزيد من فائض القيمة النسبي في سياق نمط الإنتاج المعطى" (84)، ويبقى هذا النزوع خارجاً عن اهتمام طبقات المهنيين التي تهيمن على خطاب أزمة المناخ.

وفي الجزء الثاني بعنوان "طبقة المهنيين"، ينتقد هوبر هيمنة الطبقة الوسطى على سياسات المناخ، إذ أدّت هذه الهيمنة إلى التشويش على المشكلة وإضعاف إمكانات الفعل السياسي الناجع. يوافق هوبر أولاً على القسمة الماركسية التقليدية للمجتمع إلى طبقتين متنازعتين، ثمّ يزيد الصورة تعقيداً باعترافه بأنّ "مجموعات مُتزايدة من العمّال ذوي التعليم الجامعي يحصلون على درجة من الاستقلال الوظيفيط (118)، ويتميّزون مادياً وأيديولوجياً عن الطبقة العاملة وفق الفهم التقليدي. يقترح هوبر أنّ طبقة المهنيين ترى التغيّر المناخي عبر عدسة مصالحها النوعية، ولأنها تعمل عادة خارج نطاق الإنتاج المادي، فإنّها تميل لتجاهل دوره. تنظر طبقة المهنيين إلى التغيّر المناخي من منظور العلم والوقائع، بما أنّ موقعها الاجتماعي يرتبط وثيقاً بإنتاج وتطبيق المعرفة، وهو ما يؤدّي إلى نزع التسييس عن القضية، فتتحوّل سياسات المناخ إلى مجموعة متتابعة من الخطوات تبدأ بتصديق العلم، ثمّ ابتكار الحلّ السياسي أو التقني المناسب، هكذا في تجاهل للجوهر السياسي للمسألة، الذي يتعلّق بمن يملك السلطة على ما ننتج وعلى كيفية إنتاجه.

ينتقل هوبر إلى مشكلة ثانية تتعلّق بالرخاء النسبي لطبقة المهنيين في المجتع الرأسمالي، الأمر الذي يجعل نظرتها إلى التغيّر المناخي وما يجب فعله بشأنه تتمحور حول الشعور بالذنب. هكذا تنتشر الأفكار عن تراجع النموّ (degrowth)، ومخطّطات الاستدامة البيئية بالعودة إلى الإنتاج المحلّي محدود النطاق، والاعتماد على الأنظمة الغذائية النباتية. يقول هوبر: "من وجهة نظر الذنب الكربوني الذي يتغذّى على قلق من أنماط الحياة المُترفة، ستبدو سياسات التخفيف مسألة جذابة"(107)، إلّا أنّ هذه السياسات تهدف ببساطة إلى إعادة إنتاج التقشّف المفروض على الطبقة العاملة من النيوليبرالية، وهو ما يجعل جاذبيتها موضعاً للشك. لا تحتاج الغالبية العظمى من المجتمع إلى الاقتصار على الضروري من الحاجات، وإنّما أساساً في بلوغ هذا الضروري، بعد أن أبعدتهم السياسات الاقتصادية عن سبل العيش الكريم. لهذا السبب يعتقد هوبر أن "سياسات التخفيف هي استراتيجية رديئة"(173).

وأخيراً، يرى هوبر أنّ هيمنة الطبقة الوسطى على سياسات التغيّر المناخي كما نراها اليوم، تشتت الانتباه بعيداً من أي إمكانات أخرى لبرامج بديلة قد تُكلَّل بالنجاح. هكذا يقترح في الجزء الثالث، بعنوان "الطبقة العاملة"، أن الأمل الوحيد في مواجهة التغيّر المناخي هو استراتيجية "تلتفت للاهتمامات المادية اليومية" (40) لمعظم الناس. لا تتعلّق المشكلة بالاستهلاك، بل باستهلاك الوقود الأحفوري تحديداً، ولهذا يدعو هوبر إلى صفقة خضراء جديدة (Green New Deal)، أي برنامج ضخم للاستثمار في الانتقال بعيداً من الوقود الأحفوري بطريقة تتناغم مع مصالح الطبقة العاملة. يقول هوبر إن "الرهان يتعلّق ببرنامج مناخي قادر على بناء وعي طبقي مناخي أشمل بسبب عنايته بالمصالح المادية المباشرة، وقادر على عقد الرباط بين وقف الوقود الكربوني ورفع جودة الحياة"(46).

لكن الحجج التي يقدِّمها الكاتب في هذا الجزء الأخير تصبح أقل إقناعاً. يعتمد الدفع بالصفقة الخضراء هذه أولاً على الديناميّات الرأسمالية نفسها التي جعلها هوبر موضع اتهام منذ البداية، وليس من الصعب تصور أن يُزاح جانبها "الأخضر" إلى الخلفية، بينما تصبح الأولوية لإسعاف النمو الرأسمالي. في الواقع، هذا هو ما يحدث الآن تحت قيادة بايدن.

لكن ثمّة مشكلات أخرى تتعلّق بالاستراتيجية المُحدّدة التي يقترحها هوبر لإنجاح هذه الصفقة، لأنّه يقدم قطاع الكهرباء منفرداً باعتباره البقعة الأساسية التي يجب أن تتركّز فيها جهود وقف الوقود الأحفوري، وهو ما ينتهي به إلى وضع مخطّط للاستيلاء الشعبي على هذا القطاع المحوري. يقول هوبر إن "النقابات في مجال الكهرباء يتوجّب عليها خلق الشروط الضرورية لحشد قياداتها ومواردها وقدراتها التنظيمية وراء صفقة جديدة وطنية خضراء"(274). يمكنهم فعل ذلك بالتأكيد، لكن يمكنهم كذلك ألّا يفعلوا، وهو الأرجح بالنسبة إلى أي ناظر في التاريخ الطويل للسياسات النقابية. يوجد هنا إشكال أعمق، فتحليل هوبر النقدي لرأس المال يكشف مسؤوليّته فعلاً عن الاحتباس الحراري، لكن تأكيده في المقابل على حلٍّ تقليدي ترشده سياسات الغالبية العاملة المُمثّلة بالنقابات، والساعية إلى "أخذ سلطة الدولة"(201) يظل حبيس الديناميات الرأسمالية نفسها، فالحرب الطبقية التي يدعو إليها كحلٍّ لمشكلة التغيّر المناخي هي عنصر داخلي للنظام الرأسمالي، سبق أن أشار إليها باعتبارها متهماً. وبالمثل، فإن الدولة التي يدعونا للاستيلاء عليها واستخدامها سلاحاً في صراع العمّال ضدّ رأس المال، قد يجدر بنا فهمها باعتبارها شكلاً سياسياً للصراع الطبقي، لا حَكَماً مُحايداً أو متجاوزاً لهذا الصراع.

هكذا بينما تتميّز الحجج في الجزأين الأوّلين بكونها مُقنّعة ومهمّة لفهم التغيّر المناخي ومحاربته، فإنّ التشديد على الطبقة كمركز للنقد الماركسي يحمل أيضاً تبعات مؤسفة حين يتعلّق الأمر بحجج الجزء الأخير. لكن لنكن منصفين، يحمل الفصل الأخير في دفاعه عن سياسات التضامن الأممي إشارات باتجاه تجاوز الحلّ الديمقراطي الاجتماعي الذي تمثّله الصفقة الجديدة الخضراء. ومع ذلك، لا يحاول الكتاب أن يفكّ العقدة الأساسية بما يكفي، ويترتّب على ذلك أن نصفيه يتحرّكان باتجاهين مختلفين. لكنّنا الآن نعرف أن أي نظرية عن التغيّر المناخي، إذا اعتمدت نقد ماركس للاقتصاد السياسي، عليها كذلك أن تسعى لتجاوز المفاهيم الرأسمالية التي يصرّ عليها هذا الكتاب بإصراره على سياسات الطبقة العاملة، أي الدولة والنقود واقتصاد العمل.

نُشرت هذه المراجعة بموافقة مُسبقة من Marx & Philosophy Review of Books.