تيَّارات فكرية معاصرة من أجل التنمية العربية

  • يجدر استبدال الموضوعات التقليدية بموضوعات جديدة يشكِّل عدم دراستها مصدر الإعاقة الأهم للتنمية العربية. وهذه الموضوعات هي موضوعات الإدارة العامة و"التصنيع المتأخّر" والتعليم العالي والعلاقة مع النظام الدولي.
     
  • قامت التجربة الآسيوية في ميدان التصنيع على شراء الماكينات وتفكيكها وإعادة تركيبها، وفي ميدان السياسة التجارية على اعتماد الحماية الجمركية، وفي ميدان التمويل على تأميم القطاع المصرفي. وهذه التجربة هي الوحيدة التي أتاحت الخروج من التخلّف.

هذه المراجعة هي عرض مقتضب لكتاب صدر حديثاً عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بعنوان: "تيّارات فكرية معاصرة من أجل التنمية العربية"، للباحث وأستاذ الاقتصاد ألبير داغر. وهو يرمي إلى تقديم أساس نظري جديد للتصدّي لمهمّة التنمية العربية، منطلقاً مما قدّمته تيّارات فكرية ثلاث هي "المؤسساتية المقارنة" و"ما بعد الكينزية" و"البنيوية الجديدة" في ميدان دور الدولة في التنمية. أي أنه على وجه التحديد، كتاب حول دور الدولة في التنمية. وتتناول هذه المراجعة أيضاً النقاش الفكري الذي أشرعته هذه التيّارات الثلاث مع النيو ماركسية كتيّار كان سائداً ولا يزال في الأدبيات حول الدولة ودورها في التنمية.

أساس نظري لتنمية بديلة

هدَفَ هذا الكتاب لتقديم أساس نظري لسياسات تنمية عربية، يرى أنها ينبغي أن تشكّل بديلاً عن تلك القائمة أو المعتمدة حالياً. وعرض ما قدّمته التيّارات الفكرية الثلاث: "المؤسساتية المقارنة" و"ما بعد الكينزية" و"البنيوية الجديدة"، التي يجمع بينها أنها تقف على طرفي نقيض من المقاربة النيوليبرالية التي تقترح تنحية الدولة في مجال التنمية. ثمّ وفّر دليلاً عملياً للسياسات التي يقترح تبنّيها لكي تتحقّق التنمية العربية. وهي سياسات تتناول ميادين الإدارة العامة والتصنيع والتعليم العالي وكيفية انخراط البلدان العربية في العلاقات الدولية. ثم وفّر دليلاً إضافياً على أولوية السياسات التي اقترحها من خلال استعادة ما قدّمته التجربة الآسيوية من ممارسات وما وفّرته من دروس.

وعرض الفصل الأول تحت عنوان: "تيّارات الفكر الاقتصادي المعاصر والتنمية العربية"، ما قدّمته التيّارات الفكرية الثلاث:

استند تيار "المؤسساتية المقارنة" (comparative institutional approach) إلى أعمال المؤسّسين في "المدرسة المؤسساتية التاريخية" ممثلين بـ ماكس فيبر وكارل بولانيي وألكسندر غرشنكرون وألبرت أوتو هيرشمان. وقد أوضح هؤلاء دور الدولة التاريخي في التنمية، أولاً من خلال السياسات التي اعتمدتها وهو ما ركّز عليه بولانيي، وثانياً من خلال البنى الإدارية التي وفّرتها الدولة وجعلت منها حاجة للنمو الرأسمالي وهو ما تناوله فيبر، وثالثاً من خلال "العلاقة التي نسجتها الدولة مع المجتمع" أي علاقتها مع النخب الاستثمارية، وتجسّدت بـ "تعظيم قدرة هذه الأخيرة على الاستثمار" وهو ما تناوله هيرشمان على وجه الخصوص.
وقد تصدّت "المؤسساتية المقارنة" لـ "النفعيين الجدد" (new utilitarianism)، الذين وفّروا القاعدة النظرية لسيطرة النيوليبرالية في حقلي النظرية والممارسة، ولعملية "شيطنة" الدولة منذ الثمانينيات. وقدّم منظّروها ما يبرّر تمايزهم عن النيو ماركسية السائدة في حقل الدراسات حول التنمية.

أمّا تيّار ما بعد الكينزية (post-keynesianism) فمثّل بدوره بدءاً من الثمانينيات عودة إلى كينز الأصلي. وهو الذي أكّد أنه يستحيل تحقيق النمو الاقتصادي بالاتكال على الاستثمار الخاص فقط. وأكّد أن على الدولة أن تتدخّل كـ"مستثمر أول" إذا تحوّل المستثمرون إلى مضاربين في البورصة وتخلّوا عن مسؤولية الاستثمار المنتج. أي إذا تحوّلت الرأسمالية إلى رأسمالية "أصحاب ريوع مالية" أو رأسمالية ريعية كما هي حالها منذ 40 عاماً وحتى اليوم. وقد وفّر هذا التيّار تتبّعاً للممارسات النيوليبرالية على مدى الـ 40 سنة الماضية وقدّم نقداً صارماً لها، ووفّر بديلاً عنها في ميدان السياسة الاقتصادية من شأنه لو اعتُمِد أن يحقّق النمو والاستخدام الكامل للقوى العاملة.

وبيّن تيّار "البنيوية الجديدة" (new structuralism) أن ثمّة تراتبية على المستوى الدولي. فهناك دولة مسيطرة ودول تمارس "هيمنة جماعية" من جهة، ودول مستزلَمة من جهة أخرى تربطها بالأولى علاقة تبعية، أي أنها مستزلَمة لديها. وأظهر أنه لا ينفع في شيء تجاهل واقع التراتبية والاستزلام هذا، لأنه العنصر المُحدّد في مآل التنمية لكل بلد بعينه.

أجندة جديدة لدرس الحالة العربية

يحمل الفصل الثاني من الكتاب عنوان: "تحوّلات الدولة الوطنية العربية في ظل النيوليبرالية"، وهو استعرض أولاً باقتضاب الأجندة البحثية التي انطوت عليها أعمال الباحثين حول الدولة العربية. وقد طغت عليها دراسة ثنائية السلطوية – الدمقرطة كموضوع رئيسي. واستوحى في الجزء الثاني منه إسهامات تيّار المؤسّساتية المقارنة لتناول مسألة التنمية العربية بطريقة جديدة. واقترح أجندة جديدة على الباحثين من خلال حثّهم على إعطاء الأولوية لموضوعات بعينها في دراستهم للحالة العربية. أي اقترح استبدال الموضوعات التقليدية بموضوعات جديدة يشكِّل عدم دراستها مصدر الإعاقة الأهم للتنمية العربية. وهذه الموضوعات هي موضوعات الإدارة العامة و"التصنيع المتأخّر" والتعليم العالي والعلاقة مع النظام الدولي.

وقد جاءت مسألة الإدارة العامة في طليعة الأولويات كموضوع. وكان إسهام تيّار المؤسساتية المقارنة الكبير أنه بيّن أن وجود إدارة حكومية فعّالة جرى تنسيب أفرادها على قاعدة الاستحقاق، هو العنصر الأول والمحدِّد في نجاح التنمية أو فشلها. وقدّم هذا التيّار تعريفاً للتنمية باعتبارها "تصنيعاً متأخّراً"، واعتبر أن أي تعريف للتنمية يتجاهل كونها "تصنيعاً متأخّراً" هو كلام من غير طائل. أما بالنسبة للعلاقة مع النظام الدولي، فقد ربط هذا التيّار بين نجاح أو فشل التنمية في بلد ما وبين نوع العلاقة التي ينسجها هذا الأخير مع النظام الدولي.

واعتبر هذا الكتاب أن هناك مشكلة في هذه المجالات الأربعة. أي هناك مشكلة في طريقة التعاطي مع الإدارة العامة، تتلخّص بأن التنسيب إلى هذه الأخيرة لا يقوم على الاستحقاق، ومشكلة في التعاطي مع التصنيع باعتبار أن إنتاج السلع التكنولوجية كهدف وممارسة غائب في كل الدول العربية، ومشكلة في التعاطي مع التعليم العالي الذي هو أبعد ما يكون عن تأهيل قوى عاملة تتمتّع بالتنافسية دولياً، ومشكلة في التعاطي مع النظام الدولي بما يجعل الدول العربية عاجزة كلياً عن التقرير بشأن مستقبلها وعن إشراع تنمية مستقلة. ويمكن أن نناقش لاحقاً أطروحات جلال أمين في هذا المجال. وقد طرح الكتاب أن تكون هذه الموضوعات هي محاور النقاش، وأن تكون دراستها هي المدخل لتقديم تصوّر جديد لأولويات التنمية العربية يكون اعتمادها مدخلاً لإشراع تنمية عربية حقيقية.

أمّا الفصل الثالث من الكتاب فهو تحت عنوان: "السياسات في ضوء التجربة الآسيوية"، وقد استعاد تجربة الدول الشمال-شرق آسيوية باعتبارها تجسّد أجندة للعمل التنموي للدولة تقف على طرفي نقيض من الأجندة النيوليبرالية في هذا المجال. وقدّم ثبتاً بالسياسات التجارية والصناعية وسياسة التمويل وسياسة التخطيط وبناء الإدارة العامة التي اعتمدتها هذه البلدان. وعلى سبيل المثال، قامت التجربة الآسيوية في ميدان التصنيع على شراء الماكينات من السوق الدولية وتفكيكها وإعادة تركيبها مقدمة لإنتاجها بالإمكانات الذاتية وتصديرها إلى الأسواق الدولية. وقامت في ميدان السياسة التجارية على اعتماد الحماية الجمركية للمؤسّسات المُنخرطة في اكتساب المقدرة التكنولوجية الممثّلة بتفكيك وإعادة تركيب الماكينات المستوردة، وقامت في ميدان التمويل على تأميم القطاع المصرفي ووضعه في خدمة "التصنيع المتأخّر". وهو ما سمّته أليس أمسدن "تأميم مخاطر الاستثمار"... إلخ. وهذه التجربة هي الوحيدة التي أتاحت للبلدان التي اعتمدتها الخروج من التخلّف وتحقيق "تصنيعها المتأخّر".

السجال مع النيوماركسيين

تركّز هذه المراجعة في الجزء الثاني منها حصراً على النقاش الفكري الذي أشرعته هذه التيّارات الفكرية الثلاث مع النيوماركسية كتيّار كان ولا يزال سائداً في الأدبيات حول الدولة والتنمية. وأوجه التمايز بين هذه التيّارات وبين النيوماركسية تهمّ القارئ العربي لأنها توضح له مكامن النقص في الأدبيات النيوماركسية كما بيّنتها هذه التيّارات، وتتيح له الحكم على أصالة ما قدّمته التيّارات الجديدة والجديد الذي وفّرته. أي أننا سنقصر هذا الجزء الثاني من العرض على موقف "المؤسساتية المقارنة" من النيوماركسية، وموقف "التيّار ما بعد الكينزي" من هذه الأخيرة وموقف "البنيوية الجديدة" منها.

وبالنسبة لعلاقة "المؤسساتية المقارنة" مع النيوماركسية، فقد خاضت الباحثة تيدا سكوكبول في النقاش مع النيوماركسيين في مساهمتها في الكتاب الجماعي لعام 1985. وهي انطلقت من أن ثمة محدّدات لفعالية الدولة في التنمية، هي استقلاليتها (autonomy) ومقدرتها الإدارية (capacity) والعلاقة التي تنسجها مع النظام الدولي (transnational linkages). وناقشت مسألة "الاستقلالية النسبية للدولة" التي تناولها المنظّرون الماركسيون ومنهم نيكوس بولانتزاس. ووجدت أن هذه التنظيرات كانت تدور في حلقة مفرغة لأنه ينقصها الوقائع التي ينبغي أن ترفد النظرية.

ثم تناول إيفانز وريشماير في الكتاب ذاته وإيفانز وستيفانز في مداخلات لاحقة تركيز الأدبيات الماركسية على دراسة الدولة بوصفها ساحة أو منصّة صراع. ورأوا أن ثمة حاجة للخروج من هذه المقاربة لدور الدولة، وتبنّي مقاربة بديلة تقوم على دراسة بناها الإدارية، لكي تكون هناك جدوى من دراستها كعنصر فاعل في التنمية. وحقّقوا في هذا نقلة من الماركسية إلى ماكس فيبر كمرجعية نظرية. ووجدوا أن الفائدة المتوخّاة من هذه النقلة في التحليل، هي إظهار أن ثمة فوارق بين الدول لجهة الإدارات الحكومية التي تمتلكها، وأن هذه الفوارق بالذات هي العنصر المُحدّد لفشل هذه الدول أو نجاحها في تحقيق التنمية. وهي نقلة جبّارة أتاحت الخروج من التحليل لكل الدول على قاعدة المشترك بينها وهو انتماؤها إلى نمط إنتاج بعينه هو نمط الإنتاج الرأسمالي، ما يؤدّي إلى تغييب الفوارق بينها. ومرّة أخرى، فإن أهم هذه الفوارق هي بناها الإدارية التي هي العنصر الحاسم في نجاحها أو فشلها التنموي.

انحسار تأثير اليسار في ظل النيوليبرالية

وفي علاقة "ما بعد الكينزية" مع النيوماركسية، خاض الباحث والأكاديمي الكبير في جامعة أوتاوا مارك لافوا في النقاش مع النيوماركسيين أكثر من مرّة. استغرب أن يناصب الماركسيون "كينزية ما بعد الحرب" العداء.

قدّم لافوا تفسيراً لموقف النيوماركسيين العدائي هذا. وهو أن "كينزية ما بعد الحرب" جعلت الهدف هو تحقيق الاستخدام الكامل للقوى العاملة. وهو الأمر الذي لا يتوافق مع جوهر النظام الرأسمالي الذي يحتاج إلى الإبقاء على كتلة كبيرة من العاطلين عن العمل للتحكّم بالأجور.

وقال الماركسيون في تفسيرهم لأزمة السبعينيات أنها تعود إلى ارتفاع الأجور بأكثر من ارتفاع إنتاجية العمل. الأمر الذي خفّض الربح لدى المستثمرين وجعل هؤلاء يمتنعون عن الاستثمار. وارتفاع الأجور هذا نسبَه الماركسيون إلى قوة النقابات آنذاك ومقدرتها على فرض هذه الارتفاعات في الأجور. أي جعل الماركسيون من مشاكل العرض، أي ارتفاع كلفة الإنتاج، وأولها ارتفاع الأجور، كما عند النيوكلاسيكيين، أصل المشكلة.

وانتقد لافوا مواقف متطرّفة لباحثين من "مدرسة التنظيم" (école de la régulation) أشادوا بعملية رفع الفوائد في أواخر السبعينيات وفي مطلع الحقبة النيوليبرالية، معتبرين أنها ردّة فعل مبرّرة لدى الأسواق المالية للحفاظ على ثروات أصحاب الريوع المالية في مواجهة التضخم.

أي أن النيوماركسيين توافقوا مع النيوكلاسيكيين في نسبة الأزمة إلى مشاكل العرض أولاً، وأهمها ارتفاع الأجور بأكثر من إنتاجية العمل، وإلى مشاكل الطلب ثانياً، وهو الطلب الذي افتعلته الحكومات بالسياسات المالية والنقدية التوسّعية التي اعتمدتها خلال السبعينيات لمواجهة الركود آنذاك وأدت إلى ارتفاع التضخّم. بل هم بدوا متزمّتين مثل النيوكلاسيكيين في مسألة ضبط الأجور لصون أرباح الرأسماليين، وكانوا متزمّتين في إدانة الطلب بوجهيه الاستثماري والاستهلاكي كمصدر رئيسي للنمو. والطلب هذا هو الأساس في نظرية كينز وفي تنظيرات المدرسة ما بعد الكينزية.

وإذا كان النيوماركسيون يوافقون النيوكلاسيكيين أي النيوليبراليين في ضرورة ضبط الأجور لرفع معدل الربح وتحفيز الاستثمار، وإذا كانوا يوافقون النيوليبراليين في ضرورة خنق الدولة ومنعها من الإنفاق لضبط الطلب، فبماذا يمكن أن يتمايزوا عن النيوليبراليين؟ وهذا ما يفسّر انحسار تأثير اليسار بالكامل على امتداد الحقبة النيوليبرالية.

ثمّة تراتبية داخل هذه الفوضى تربط بين الدولة المسيطرة من جهة، وبين الدولة المستزلّمة من جهة أخرى والنخب المستزلَمة لها التي تقع في أسفل الهرمو"البنيوية الجديدة"، هي الاسم الذي أطلقه الباحث الاسكتلندي ريموند هينبوش على المقاربة الجديدة في العلاقات الدولية التي تحمّل نخب العالم الثالث حصّتها من المسؤولية في علاقة التبعية والاستزلام التي تنسجها هذه البلدان مع الدولة المسيطرة ودول العالم الأول. وهي تقوم على نقد "البنيوية القديمة" التي تنحو باللائمة على النظام الدولي وتجعله مسؤولاً وحيداً عن المصير البائس للدول المتخلّفة أو النامية. أي أن "البنيوية الجديدة" مثلها في ذلك مثل "المؤسساتية المقارنة" تقوم على نقد "نظرية التبعية" التي طوّرها الماركسيون خلال حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

قدّم هينبوش قراءة للعلاقات الدولية هي على نقيض ما تراه "المدرسة الواقعية" من أن هذه العلاقات هي مجرّد فوضى عارمة. رأى أن ثمة تراتبية داخل هذه الفوضى تربط بين الدولة المسيطرة من جهة، وبين الدول المستزلَمة (client states) والنخب المستزلَمة (client elites) لها التي تقع في أسفل الهرم. وفي قراءته للواقع العربي تحدّث عن النظام الإقليمي المخترق (penetrated) وعن الأنظمة السياسية المخترقة. ووصف النخب بأنها تابعة (dependent) ومستوعَبة أو مستقطَبة (coopted) ومفروضة من الخارج (imposed).

وفي التأريخ للعلاقة القائمة على التراتبية والاستزلام في النظام الدولي، كانت هناك إسهامات شيّقة لـ رونالد روبنسون وطوني سميث وغيرهما. وثمة نقص شديد في الأدبيات التي تتناول علاقة الدول المستزلَمة والنخب المستزلّمة خصوصاً العربية منها مع الدولة المسيطرة. ولم يتسنّ لـ هينبوش أن يكوّن ويقدم وقائع كافية في هذا المجال حول الواقع العربي. ويجد الباحث صعوبة كبيرة في إيجاد الوقائع حول النظم السياسية المخترقة.

وأود أن أختم هذا العرض بالعودة إلى تيار "المؤسساتية المقارنة" وعلاقته بالماركسية، وأقول أن النقاش لم يتوقّف بين المنتصرين لماكس فيبر والمنتصرين للقراءة الماركسية لدور الدولة في التنمية. وقد رأى الباحث الماركسي ويليام جونسون أن فهم ماكس فيبر للدولة منقوص لأنه لا يأخذ بالاعتبار سوى بناها الإدارية في تعريفها، ويغفل بالتالي أنها تجسّد "علاقات تعكس سلطة طبقات بعينها"، أي أنها فعلاً منصّة صراع للقوى الاجتماعية المختلفة[1]. وأرى أن بيتر إيفانز كممثل رئيسي لتيّار "المؤسساتية المقارنة" لم يُغفل هذا الجانب في تعريف الدولة. وقد ركّزت دراساته مع رهط من الباحثين المشاركين منذ 2008 وعلى امتداد السنوات اللاحقة على تبيان "الأسس السياسية لفعالية الدولة"[2]. أي أنه لم يتجاهل أن الدولة هي أيضاً منصّة صراع، وانطلق من ذلك لتعيين الأنظمة السياسية الأكثر قدرة على توفير فعالية للدولة في مجهودها التنموي.

 


[1]  - Robinson  William, “ Capitalist globalization and the transnationalization of the state”, in Rupert M. and Smith H., (eds.), Historical Materialism and Globalization, London: Routledge, 2002, pp. 210-229, p. 216.
[2]  - Evans, P., E. Huber, and J. Stephens, ‘The Political Foundations of State Effectiveness’, In M. Centeno, A. Kohli, and D. Yashar (eds), States in the Developing World. Cambridge: Cambridge University Press, 2017.

ألبير داغر

دكتور في العلوم الاقتصادية من جامعة باريس العاشرة (نانتير) (1985). أستاذ في كلية العلوم الاقتصادية وإدارة الأعمال في الجامعة اللبنانية (1985-2020)، وشغل منصب رئيس قسم الاقتصاد فيها 14 عامًا. له عشرات الدراسات المنشورة في مجلات فرنسية وعربية، ومن كتبه "كيف دمّرت النخبة المفترسة لبنان؟" (2021)، و"لبنان المعاصر: النخبة والخارج وفشل التنمية" (2017).