الإلغاءُ منهجاً

  • أصبحت الجريمة واحدة من أسهل التفسيرات وأكثرها رواجاً لكل أزماتنا، فحلّت محل العنف العرقي والتقشّف الاقتصادي والكوارث البيئية والمؤسّسات السياسية المضادة للديمقراطية والتفاوت الرهيب في الثروات.
     
  • يحلّل كتاب جغرافيا الإلغاء الطريقة والأسباب التي جعلت عنف الدولة، بما فيه من عنف الشرطة والسجن، يبدو اليوم حلاً بديهياً لأزمات أنتجها التطوّر الرأسمالي المثير للجدل في الخمس وسبعين سنة الماضية.

 

كان الصيف الحار الطويل لعام 2020 مناسبة لدمج أسئلة إلغاء السجون والشرطة مع معظم الأجندات السياسية الراهنة، بصورة لم تعرفها هذه الأجندات من قبل. من ساعتها، يتساءل الصحافيون والنشطاء عن معنى الإلغاء وممارسته ورؤيته، ويلجؤون إلى الجغرافية والناشطة روث ويلسون غيلمور بحثاً عن الإجابات. استطاعت غيلمور في بحوثها أن تكشف بنجاح نظري لافت القوى السياسية والاقتصادية التي أدّت إلى سجن ما يزيد عن مليوني شخص في الولايات المتّحدة. أمّا على مستوى النشاط السياسي، فقد استطاعت غيلمور، مع عدد كبير من النشطاء الآخرين، أنّ تتحدّى الزيادة المُطردة في إنشاء السجون، وتقف في وجه التوسّع الهائل للمؤسّسات الشرطية، والحسّ العام الذي يعتبرها حلاً سحريّاً لأي مشكل اجتماعي. وبسبب عمل غيلمور، أصبحت الأفكار الإلغائية أقرب لعددٍ أكبر من الناس، واستمرت في شحذ المخيال الجمعي من أجل تصوّر نظام عيش يخلو من آليّات العقاب بالجملة. مع ذلك، يستمرّ الإلغاء مسألة مربكة حتى بالنسبة لكثير من اليساريين، فلِمَ "نُلغي" الشرطة أو السجون بدلاً من إصلاحهما ليتجاوزا كونهما مؤسّسات عنيفة وعنصرية؟ ولِمَ نتبنّى خطاب الإلغاء في وقتٍ يصرّ الإعلام فيه، مع النخب السياسية، على أن الجريمة هي أهم المشكلات الاجتماعية لعصرنا؟ وبِمَ تعدنا التنظيمات الإلغائية بإزاء صراعات لا تحمل علاقة واضحة بما يسمونه "مجمع صناعات السجون" بقوته الداهسة للبشر؟

زادت حيوية هذه الأسئلة بسبب تحوّلات المشهد السياسي. فبطول العام الماضي، أصبحت الجريمة واحدة من أسهل التفسيرات وأكثرها رواجاً لكلّ أزماتنا، فحلّت محل العنف العرقي والتقشّف الاقتصادي والكوارث البيئية والمؤسّسات السياسية المضادة للديمقراطية والتفاوت الرهيب في الثروات. هذا مع أننا نشهد اليوم انخفاضاً تاريخياً في معدّلات الجريمة وفق الإحصاءات الرسمية التي تجمعها وتنشرها المؤسّسات الشرطية نفسها. وفي هذا الوضع المتناقض، يجيء كتاب غيلمور، جغرافيا الإلغاء، وهو مجموعة من المقالات المكتوبة خلال العقود الثلاثة الفائتة، ليقدّم عمقاً هائلاً في التحليل والموارد اللازمة لفهم خطورة وأسباب الولع المتزايد بالجريمة. تقترح غيلمور أنه منذ بدأ انحدار الرأسمالية الأميركية في أواخر الستينيات، استغلّت التيّارات السياسية الخوف من الجريمة من أجل سحب البرامج الاجتماعية وهجرها، ومن أجل وقف إعادة التوزيع، وإنتاج اتفاق عام لفهم أزمتنا الاجتماعية باعتبارها أزمة أشخاص خطرين يفعلون أشياء سيئة.

تعالج غيلمور مفهوم الجريمة على خطى المنظِّر السياسي ستيوارت هول، الذي سكّ مفهوم الإزاحة أو "التناقض بين الخطر وردّ الفعل" بحسب تعبيره، أو التناقض بين حجم الجريمة الفعلي وبين الذعر الأخلاقي للجمهور. والجريمة في رأي غيلمور هي مصطلح ذو حمولة إيديولوجية وأهداف سياسية مُحدّدة، أو على الأكثر هو ترميز ضبابي لبعض الطرق التي يعاني بها الناس من العنف وغياب الاستقرار. ولكي تتضح الصورة، فإن "سرقة الأجور" مثلاً، التي تعني فشل أصحاب الأعمال في دفع أجور عمالتهم، هي جريمة أكثر تفشّياً بكثير من كلّ أنواع السرقة الأخرى في الولايات المتحدة مجتمعة، وفق ما أشار إليه المحامي العام أليك كاراكاتسانيس، ومع ذلك لم تفعل العقوبات الجنائية أي شيء لوقف هذا النهب المستمرّ لأجور العاملين الضئيلة، بينما استمرت السجون وأماكن الاحتجاز في الازدحام "بشباب يافع على قدر من التعلّم"، بعبارة غيلمور.

التجريم، الذي نراه في العمليات الاجتماعية والقانونية والسياسية التي تودي بملايين الناس في الولايات المتحدة إلى دوامات السجون المميتة، هو جزء من حرب طبقية. هذا ما يخلص إليه تأريخ غيلمور لذعرنا من الجريمة، وللأجندات السياسية التي تتغذّى على هذا الذعر. تدعونا غيلمور إلى دراسة الأدوات المتاحة لفهم هذه الأوضاع المقيتة وتغييرها، فتوثق مجموعة من الطرق التي لجأ الناس إليها بصبر وإبداع، وأحياناً بيأس، كي ينظّموا أنفسهم ويخلقوا الشروط الضرورية للحرية في حياتهم وحياة الآخرين. وتدفعنا غيلمور حثيثاً نحو إجراء مقارنات جديدة، غير شائعة، لأن جغرافيا الإلغاء قد كُتِب من أجل أن نستخدمه في زمن أصبحت سرعته تصيبنا بالدوار.

نجد في مقالات الكتاب مجموعة واسعة من المداخل المناسبة للقرّاء الذين يتعرّفون حديثاً إلى الأفكار الإلغائية. ففيه نرى العاملين بالقطاع العام مع العمّال المنظّمين في النقابات مع نشطاء مناهضة السجون، كلّهم يتضامنون من أجل وقف بناء السجون الجديدة في كاليفورنيا، التي كانت حتى العقد الأول من الألفية تقود الولايات المتحدة في معدّلات توسِّع أماكن الاحتجاز. فكّر العمّال في أن الموارد التي تستهلكها الدولة لحبس الناس، قد تكون أفضل فائدة لو استُخدمت لتطوير المدارس والمنشآت العامّة الأخرى التي تقدّم أعمال الرعاية. بالطريقة نفسها، نرى النساء السوداوات والشيكانا في لوس أنجلوس يحوِّلون نضالهم إلى حركة منظّمة من أجل إطلاق سراح أطفالهم وأطفال الآخرين، وإنهاء نزيف السنوات الطويل الذي يحاصرهم في السجون. كذلك نرى أطفال النقابيين يستلهمون تاريخ آبائهم الراديكالي لإرشادهم، فيما ينمون المهارات اللازمة لتغيير أوضاعهم. ونرى النشطاء الريفيين من أجل العدالة البيئية جنباً إلى جنب مع مناهضي العنصرية في المدن، عبر اختلافات الأمكنة والهويات، ومن أجل الانتصار في القضايا التي تهم مجتمعاتهم. وبالنسبة للقرّاء المرتبكين من أفكار الإلغاء على اليسار، فإن جغرافيا الإلغاء يسمح لهم برؤية أهدافهم السياسية الخاصة بالاتحادات العمّالية والمجتمعات تتناغم وتزداد قوة مع الرؤى الأشمل عن التحوّل نحو عالمٍ يخلو من السجن الجماعي للحياة الإنسانية.

لكن إذا كانت موجات التظاهر ضد العنف الشرطي القاتل، من البرازيل إلى سان لويس إلى نيجيريا، حديثة نسبياً، فإن السيرورات الاجتماعية التي جمَّدت العنف المُنظّم في بنية الدولة المعاصرة ليست كذلك. يحلّل جغرافيا الإلغاء الطريقة والأسباب التي جعلت عنف الدولة، بما فيه من عنف الشرطة والسجن، يبدو اليوم حلاً بديهياً لأزمات أنتجها التطوّر الرأسمالي المثير للجدل في الخمس وسبعين سنة الماضية. وفي أثناء هذا التحليل، توثِّق غيلمور التوزيع غير العادل للمخاطر والموت والوصول للموارد في ظل الرأسمالية العرقية، بالنسبة إلى مختلف طوائف المجتمع، وتقتبس من الشاعر أميري بركة تعبيره لوصف هذه الرأسمالية بأنها "الهو نفسه المتغيّر". تستعير غيلمور كذلك من مفهوم سيدريك روبنسون عن الرأسمالية العرقية كي تشرح الطريقة التي يستغل بها رأس المال الفروق الجماعية من أجل تثبيت التراتبية في المجتمع، ومن أجل تسويغ اللامساواة وتسهيل نزع الملكية. لكن مع أن المجتمع الرأسمالي ينتج اللامساواة ويحتاج إليها، فإن عنف الدولة المنظّم الذي ميّز الحياة الاجتماعية في الولايات المتحدة يظل غير مسبوق من جهة حجمه ونطاقه، وهو ما يدفع غيلمور للتساؤل عن الطريقة التي تحوّلت بها السجون والشرطة إلى موضوع مركزي في الحياة الاجتماعية والسياسية المعاصرة، وما الذي تخبرنا إياه الأشكال المختلفة للعنصرية والرأسمالية والنزوع العسكري عن مهمة الإلغاء؟

تسير حجة غيلمور تباعاً من الثلث الأول للقرن العشرين وحتى اليوم، بالتركيز غالباً على الولايات المتّحدة، وتلحظ أن البرامج الاقتصادية للصفقة الجديدة (New Deal) قد دشَّنت عصراً من "الكينزية العسكرية"، تعتمد على إعادة توزيع الأجر الاجتماعي بتوظيف قدرة الدولة على التدخّل العسكري. يخالف هذا السرد جوهرياً الإعجاب المُعتاد بالصفقة الجديدة باعتبارها لحظة ميلاد للديمقراطية الاجتماعية في الولايات المتحدة، فتقدّمها غيلمور بدل ذلك باعتبارها فترة تفاوض طبقي، استطاع الرأسماليون فيها أن يحصلوا على "ضمان مفتوح" للسيطرة على العمالة والهيمنة الإقليمية، فيما زادت الأجور المُخصّصة لفئات مُحدّدة من العمّال بالتوازي مع النمو العسكري للحرب العالمية الثانية والحرب الباردة. لكن حين بدأت الأرباح بالانخفاض في الستينيات، عانى الرأسماليون من أجل الحفاظ على رفاهيات المرحلة، بينما ناضل العمّال من أجل تعميم امتيازات دولة الرفاه، في شروط أصبحت قسوتها تزيد باطراد.

أنتج هذا الوضع ما تسميه غيلمور "الدولة المضادة للدولة"، وحجتها كالتالي: بعد أن أطلق نيكسون في 1986 حملة "القانون والنظام"، بدأ اليمين بإلقاء اللوم على الفقراء والملونين مُحمِّلاً إياهم المسؤولية عن الاضطرابات الاجتماعية، بعد أن كان الأغنياء وذوي السطوة هم المتهم التقليدي. بهذه الطريقة أصبح التجريم وسيلة أساسية للنزعات المحافظة والمناهضة للصفقة الجديدة في سعيها لكسر شوكة برامج الدعم الاجتماعي، وكبح النزعات الراديكالية المناهضة للرأسمالية، وتفتيت تحالفات عصر الحقوق المدنية وحصار اليسار. هذا التحوّل الجذري في الأسلوب، الذي اعتمد على تقاليد العنصرية القائمة وأعاد إنتاجها في الوقت نفسه، أسّس إيديولوجياً للتحوّل إلى ما سمّته غيلمور "عسكرتارية بعد كينزية"، تقلّص فيها "نظام الرفاه قصير الأمد الذي صاحب العسكرة المتزايدة"، بينما زادت الدولة من قدرات العنف المنظّم لاحتواء آثار التخلّي التدريجي عن المجتمع. اشتمل التجريم عادة على مكوّنات عنصرية معلنة أو مضمرة، وأصبح سلاحاً في يد التحالفات السياسية من أقصى اليمين إلى يسار الوسط، يستخدمونه من أجل لوم قطاعات متعدّدة من الطبقة العاملة على المشكلات الاجتماعية، بينما تتحرّك الثروة من دون توقّف إلى الأعلى، وتنكسر التنظيمات العمّالية وعناصر حمايتها، ويزيد التفاوت الاقتصادي بدرجة هائلة.

لم يكن هذا الانتقال حتمياً. تشكّك غيلمور في التفسير المهيمن لتوسّع نظام الاحتجاز، خصوصاً كما يظهر في التصوّر الخاطئ القائل إن السجون تزداد ازدحاماً بسبب زيادة الجريمة، إذ كانت الجريمة فعلاً في طور الانخفاض في كاليفورنيا منذ الثمانينيات، حين بدأ توسّع السجون. تبتعد غيلمور كذلك عن التفسيرات التي تخلط الأسباب بالنتائج، حتى إن كان خلطها مُبرّراً، فلا شك أن الاحتجاز يشبه العبودية، كونه يحمل طابعاً عرقياً واضحاً، ويجرِّد الناس من الحرية، لكن غيلمور ترفض اعتبار النمط الحديث للسجن شكلاً جديداً للعبودية، وترفض القول إنه تطوّر خصيصاً للتأكيد على التمييز العرقي القائم قبله.

تبرهن غيلمور على أن الزيادة في عدد المساجين كان لاحقاً للزيادة في أعداد السجون، لا سبباً لها، أمّا فهم السبب الذي جعل نزع الناس من مجتمعاتهم ووضعهم في أقفاص مبنية للتوّ أمراً ممكناً، فيتطلّب التساؤل عن سبب بناء هذه الأقفاص بالمقام الأول، وهو ما تحاول فعله بالتركيز على كاليفورنيا. تجادل غيلمور بأن توسّع السجون أصبح مُمكناً بسبب أربعة فوائض: فائض من الأراضي الزراعية التي أصبحت غير مستخدمة بسبب الجفاف والديون، وفائض من رأس المال المالي الباحث عن استثمار بعائد مضمون، وفائض من العمّال - أي الناس - الذين فقدوا وظائفهم بسبب تفكيك الصناعة، وفائض من قدرة الدولة على القمع والاحتواء مع تراجع مهام الحماية الاجتماعية وإعادة التوزيع. في هذه الحالة يصبح "الحل السجني" - وهو مفهوم مكمّل لمفهوم ديفيد هارفي عن "الحل المكاني" - طريقة لدمج هذه الفوائض بصور جديدة وقاتلة. هكذا تخبرنا غيلمور: "تستطيع الدولة أن تشغّل الكثير من إمكاناتها المالية والتنظيمية في امتصاص الناس والتورّط في دين عام من دون وعد بالسداد واستخدام الأراضي المنتزعة من مجال الإنتاج، مع تجنّب التحدّيات التي قد تطرأ إن حاولت تشغيل هذه الإمكانات من أجل، مثلاً، بناء جامعة جديدة". يسمح الحلّ السجني بإصلاح وضع رأس المال عن طريق تعزيز الدولة العسكرية بعد الكينزية، فتتحرّك الموارد بوفرة بالنسبة إلى بعض الملّاك، عن طريق احتجاز آخرين في أماكنهم، بينما تُمتص الحياة من الطبقة العاملة التي تجد نفسها تعيش بصورة متزايدة في ظل الشرطة والسجون.

تلجأ غيلمور لمفهوم تسمّيه "الإلغاء الراديكالي"، في مواجهة الظلم والتفاوت والكوارث البيئية والتضحية الإنسانية الذين تجعلهم السجون واقعاً للناس، لكن ما تقصده بالإلغاء يتجاوز مجرّد تحرير الناس من أغلال السجون، فحسب فهمها التاريخي لما سمّته "الهو نفسه المتغيّر" للرأسمالية العرقية، فعنف الدولة نوع من الحرب الطبقية، ومن ثمَّ فإن هدف الإلغاء لا يقتصر على إنهاء الكارثة الأخلاقية للاحتجاز الجماعي، لكن كذلك خلق مجتمع تصبح الحرية والوفرة فيه علاقات كونية شاملة. هدف الإلغاء "تغيير الطريقة التي نتفاعل بها بعضنا مع بعض ومع الكوكب عن طريق تقديم الناس على الأرباح، والرخاء على الحرب، والحياة على الموت".

لهذا لا يمكن اختزال الإلغاء إلى سلسلة من النضالات للقضاء على صور مُحدّدة من عنف الدولة، مع أنه يشمل بالتأكيد هذا المعنى. تكثِّف غيلمور هذه الملحوظة النقدية، وتحوِّلها إلى صيغة مختصرة: "ما دمنا نتخيّل الإلغاء فقط باعتباره غياباً، أو نهاية مفاجئة، فإن ردّ الفعل التلقائي سيكون غير ممكن. يفشل خيالنا لأننا نعجز عن تصوّر الإلغاء كأكثر من غياب. الإلغاء هو الوجود المادي والمتجسّد لحياة اجتماعية مغايرة". وثمة أمثلة كلاسيكية للصراعات الإلغائية التي تسعى لإنهاء دولة الاحتجاز بهذا المعنى، في التنظيم داخل السجون وخارجها لوقف بناء أماكن الاحتجاز، وإنهاء الحبس الانفرادي، ومنع تجريم المخدّرات والعمل بالجنس، ووقف ممارسة التلاعب الانتخابي بالسجون، وإعادة الاعتبار لأصحاب الصحائف الجنائية الملوّثة، وفكّ الارتباط بين اتحادات العمّال ومنظّمات الشرطة الرسمية، وإعادة توجيه الميزانيات البلدية من أجهزة الشرطة إلى الخدمات الاجتماعية. إلّا أن هذه المشاريع السلبية لا تستنفد الإلغاء، إذ يُضاف إليها، وفق غيلمور، ضمان السكن والصحّة باعتبارهما حقّين ماديين محفوظين، لا سلعاً تُشترى في السوق، وأخذ المزيد من الخطوات نحو الإصلاح الزراعي وإعادة التوزيع، والنضال من أجل الانتقال الاشتراكي إلى مجتمع مستدام بيئياً، ودعم قوة وتنظيم الطبقة العاملة، وكل هذا يُعد جزءاً من مشروع الإلغاء.

تختلف هذه المقاربة الشاملة والإيجابية لأنها تسمح بالردّ على بعض التحفّظات المفهومة بشأن الإلغاء ومعناه ورؤيته. فالإلغاء، كما تؤكّد الكاتبة والناشطة ماريام كابا، لا يعني التخلّي عن بسطاء الناس وتركهم فريسة للجريمة، وإنّما يعني فهم الظروف التي تؤدّي بالفقراء والعمّال إلى عيش حياة مشحونة بالعنف وموسومة بالحرمان في مجتمعات تفتقر للمساواة. يريد الإلغائيون عكس ذلك بالضبط، أي علاقات اجتماعية تضمن الوصول العام للموارد التي نحتاج إليها، والتي يقصدها الناس حقّاً حين يتحدّثون عن الأمان. ولأن الإلغاء مشروع إيجابي وسلبي في الآن نفسه، لأنه يشمل بناء المؤسّسات والقدرات التي تسمح باستمرار وجود الناس والأماكن، كما يشمل القضاء على القوّة العنصرية للعنف المنظم، فمن الممكن للنشطاء أن يتقدّموا على جبهتين في الوقت نفسه. بعضنا سيناضل من أجل "إصلاح بلا إصلاحيات"، وهو ما نحتاجه لتعطيل آلة التجريم، وبعضنا سيناضل من أجل تحوّل يضع السلطة والموارد في أيدي الفقراء والعمّال.

أمّا بالنسبة إلى من يدعمون أجندة "إصلاحية" بمواجهة الطوباوية المزعومة للإلغاء، فإن كتاب غيلمور يحتشد بأمثلة على خطر الاكتفاء بالتعديلات البسيطة على مجمع صناعات السجون. لقد أدّت الجهود المبذولة مثلاً من أجل بناء سجون أكثر إنسانية، مثل إصلاحات "العهد التقدّمي" التي فصلت النساء والأحداث في سجون خاصة، إلى سجن المزيد من الناس في المحصلة الأخيرة، وأدّت الجهود المبذولة في منتصف العقد الماضي لإصلاح جهاز الشرطة إلى موجة مضادة تمثّلت في استراتيجية "الإنسانية الشرطية"، حيث حاولت النخب كسب التأييد الشعبي لصالح أجهزة شرطة قاتلة ومتخمة بالتمويل. وأخيراً، تقدّم غيلمور تذكِرة إمبيريقية لليساريين الذين يتبنّون مشاريع إعادة توزيع راديكالية، لكنهم يتشكّكون بشأن مبدأ أو استراتيجية الحرب ضد التجريم: يمتلك 70 مليون إنسان بالغ في الولايات المتّحدة سجلات إدانة أو اعتقال تجعلهم مستثنين من أشكال مختلفة للحماية الاجتماعية، مثل السكن الحكومي، وتجعل فرصهم في الحصول على عمل أصعب بكثير، لأن أصحاب الأعمال يرفضون عادة تعيين أشخاص بسوابق اعتقال. الآن أضف إلى هؤلاء ملايين المهاجرين الذين لا يملكون الأوراق الضرورية للعمل، وستجد أنك بإزاء نصف القوة العاملة لأكبر اقتصادات العالم. إذا كانت نصف الطبقة العاملة الأميركية تعاني بسبب التجريم، فإن الطبقة قاطبة مُهدّدة بالوقوع تحت طائلته، ويساعدنا حسّ غيلمور بالأرقام والإحصاءات على إبراز قدرة التفكير الإلغائي على المساعدة حين يتعلّق الأمر بالوصول إلى مجتمع حرّ وعادل ومستدام، ويساعدنا كذلك على تحذير المتشكّكين في أجندة الإلغاء من أجل مزيد من النفعية السياسية.

يتوافق منظور غيلمور مع نشطاء إلغائيين آخرين مثل ماريام كابا، وراتشل هيرزنغ التي سبق أن كتبت: "لن يأتي التحرّر بصورة سحرية ما لم نأتِ نحن به"، وتؤكّد غيلمور بالمثل على أنّ الناس قادرون على بناء القوّة اللازمة لتغيير أوضاعهم، حتى مع مواردهم المحدودة، وهي تؤمن بعدم وجود مخرج من الوضع القائم وأزماته لا يمرّ عبر التنظيم. وبمعنى من المعاني، يساعدنا عمل غيلمور كذلك على رؤية حدود التظاهرات الكبيرة ضدّ عنف الشرطة، والتي هزّت مدن العالم من دون أن تؤدّي إلى أي تحوّل كبير بما يكفي لتفكيك قوة الدولة المضادة للدولة، أو على الأقل دفعها للاضمحلال. فإذا كنّا جادين بشأن أهداف الإلغاء، ستصبح مهمّتنا أكثر وضوحاً من مجرّد إظهار الغضب دوريًّا.

وتحتفظ غيلمور بمزاج جمعي ترحيبي في ما يتعلّق بأشكال التنظيم. في مثالٍ لافتٍ، تناقش إضراباً عن الطعام نظّمه مساجين في خليج بيليكان بكاليفورنيا. كان المساجين محتجزين في "وحدة الإسكان الآمن"، وهي نظام قاسٍ للحبس الانفرادي الذي يمتدّ أحياناً لفترات مفتوحة. لم يكن السجناء قادرين على رؤية أو لمس بعضهم بعضاً، لكن الإضراب وصل مع ذلك في أوجه إلى 30 ألف إنسان داخل سجون كاليفورنيا وعبر الفروق العرقية. تمكّن المضربون كذلك من فرض تسوية قانونية في 2015 أنهت الحبس الانفرادي مفتوح الأمد في كاليفورنيا، وسمحت لنا بتخيّل تنظيم مُتعدّد عرقيّاً، وقدّمت صوراً لبناء المقاومة سبق أن حاولت الدولة منعها بكل ما تملك من قوة.

توضح هذه القصة إصرار غيلمور على أن المحرومين قادرين على تغيير أماكن عيشهم باستخدام أي شيء يقع في المتناول. وفي هذه الحالة يتمثّل مشروع التنظيم الإلغائي في خلق أماكن تجعل الحرّية ممكناً ماديّاً عن طريق جمع الناس لأجل هدف مشترك، حتى تلك "المجموعات التي تتصوّر أنها على النقيض، بنيويّاً، بعضها من بعض". توضح غيلمور مع ذلك أن الإلغاء ليس مجموعة محدّدة من الإرشادات أو الخطات، فهو يوجّه الناس في نضالهم، لكنه لا يخبرنا بما علينا فعله بالضبط. ليس الإلغاء كذلك عقيدة ينبغي علينا إعلانها، وإنّما يمكننا التفكير فيه بدلاً من ذلك باعتباره منهجاً يسهم في تشكيل وإرشاد النظرية والممارسة لكلّ هؤلاء الذين يناضلون من أجل مجتمع عادل ومتساوٍ، حتى إن كانت الظروف تتغيّر باستمرار.

تكتب غيلمور في المقالة المأخوذ منها عنوان الكتاب: "إذا كان التحرّر غير المكتمل هو مشروع في طور العمل من وجهة نظر الإلغاء، ففي التحليل الأخير، لا يجب علينا إلغاء الماضي أو شبحه الحاضر، وإنّما يجب علينا إلغاء السيرورات الخاصة بالتراتبية ونزع الملكيّة والحصار، التي تتجسّد في ما يبدو كأنه حساسية مجتمعات بعينها للموت المبكر". هدف جغرافيا الإلغاء، أكثر من التفسير أو الحث على أي تغيير كمّي في الحياة الاجتماعية، هو تطوير قدرة قرّائه على دراسة تحوّلات الرأسمالية العرقية، وفهم ما يمكن فعله بشأنها، والاندماج في النضال بصبرٍ كافٍ للصبر على ضخامة المهمّة وبحماسٍ كافٍ لإنهائها.

نُشِر هذا المقال بموافقة مُسبقة من مجلّة Dissent