دول الخليج ومحور «شرق-شرق» للنفط في العالم
انتقال إلى أين؟
في بداية العام 2023، بدأت كبريات شركات النفط والغاز المملوكة ملكية خاصّة في العالم تنشر نتائجها المالية لعام 2022. جاءت «إكسون موبيل» في الصدارة فسجّلت أعلى أرباح في تاريخ الشركة بقيمة 55.7 مليار دولار أميركي. وجاءت بعدها «شل» (تكتل شركات هولندي بريطاني) التي حققت إنجازاً تاريخياً غير مسبوق في تاريخها الممتد على مدار 115 عاماً، بحيث بلغت أرباحها نحو 44 مليار دولار أميركي، وهو ما يتجاوز ضعف ما كسبته في 2021. وفي المجمل، سجّلت الشركات الغربية الخمس الكبرى (إكسون موبيل وشل وشيفرون وتوتال إنرجيز) أرباحاً مجمّعة بقيمة 200 مليار دولار أميركي، وهو ما يعني 23 مليون دولار أميركي لكلّ ساعة في 2022. في العام نفسه، قدًّرت كلفة أكبر عشر كوارث مناخية في العالم بنحو 170 مليار دولار أميركي، منها 30 مليار دولار أميركي بسبب الفيضانات المدمِّرة التي قتلت أكثر من 1700 شخص وأدّت إلى نزوح أكثر من سبعة ملايين شخص في باكستان. إذن كان يمكن بسهولة استخدام نحو نصف أرباح إكسون موبيل في 2022 لتغطية تكاليف الكارثة في باكستان، وهكذا يتضح الفائزون والخاسرون الحقيقيون من الطوارئ المناخية بشكل جلي تماماً.
لكن في 12 آذار/مارس 2023، غطّى على هذه الأرباح غير المسبوقة إصدار مجموعة أخرى من النتائج المالية، وهي نتائج شركة النفط الوطنية السعودية «أرامكو» التي تجاوزت 161 مليار دولار أميركي بقليل، أي أن أرباح «أرامكو» في العام 2022 لم تتجاوز فقط ما حقّقته «شل» و«بريتش بتروليوم» و«إكسون موبيل» و«شيفرون» مجتمعين، وإنما كانت أيضاً أعلى أرباح مُسجّلة لأية شركة في العالم في أي مجال من المجالات في أي وقتٍ. أكّدت نتائج «أرامكو» حدوث تحوّل كبير في السيطرة على النفط في العالم على مدار العقود الأخيرة، يتمثّل بصعود شركات النفط الوطنية التي تديرها الحكومات في الشرق الأوسط والصين وروسيا وغيرها من الدول المنتجة للنفط في جنوب العالم، وهو صعود بدا أنه غير قابل للإيقاف. وقد تطوّرت هذه الشركات جميعاً فأصبحت كيانات ضخمة متنوّعة تخطّت الشركات الغربية الكبرى وفقاً للمقاييس الأساسية، ومنها إنتاج النفط والاحتياطي والقيمة السوقية وكمّيات التصدير. ما زالت الشركات الغربية الكبيرة ممثّلة بقوّة في الولايات المتحدة وكندا وأوروبا الغربية، لكن نفوذها العالمي الإجمالي قل كثيراً بفعل صعود شركات النفط الوطنية.
أهدف هنا إلى دراسة وزن دول الخليج العربية الست ودورها في صناعة النفط في العالم بالنظر إلى هذه الحقائق الجديدة. ولأن دول الخليج موقع بعض أكبر الاحتياطيات في العالم، صارت هذه الدول لفترة طويلة مُصدّرة أساسية للنفط والغاز الطبيعي. لكن خلال معظم القرن العشرين، فإن شركات النفط الأوروبية والأميركية، التي تدفع الإتاوات والرسوم إلى الملوك الحاكمين في المنطقة مقابل الوصول للنفط، سيطرت على صناعة النفط في الخليج. بعد تأميم النفط في خلال سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، اضطلعت حكومات الخليج بالسيطرة المباشرة على صناعة البترول في مراحل التنقيب والاستخراج. فكانت شركات النفط الوطنية مثل «أرامكو» السعودية وشركة «بترول أبو ظبي الوطنية» (أدنوك) و«مؤسّسة البترول الكويتية» تتولّى التنقيب عن نفط الخليج واستخراجه وتصديره. وكما حدث سابقاً في تطوّر صناعة النفط الغربية، صارت شركات النفط الوطنية الخليجية هذه موجودة الآن في أقاليم بعيدة عن حدودها الوطنية حيث تنخرط في أنشطة ممتدّة عبر مختلف أجزاء سلسلة القيمة النفطية. وكما توضح محادثات «مؤتمر الأطراف 27» و«مؤتمر الأطراف 28» بشكل جلي، يقترن هذا التوسّع في صناعة النفط في الخليج ببروز موقع المنطقة في النقاشات الدولية المعنية بتغيّر المناخ.
فيما يلي، أطرح أن صعود الخليج يجب فهمه من خلال التغيرات الهامّة التي حدثت في الرأسمالية العالمية على مدار العقدين الأخيرين. منذ بدايات العقد الأول في الألفية الثالثة، أدّى بروز الصين وآسيا، بشكل عام كمركز جغرافي عالمي لإنتاج السلع، إلى تغيير طريقة تداول الوقود الأحفوري ومنتجاته المتنوّعة في الاقتصاد العالمي. ومن الأمور الرئيسة في هذا الصدد وجود محور جديد للمحروقات يربط احتياطات النفط والغاز في الشرق الأوسط بشبكات الإنتاج في الصين وآسيا.1 ارتبط محور «شرق – شرق» للمحروقات بتسجيل ارتفاع كبير في مستويات الثروة المتراكمة في الخليج، حيث كان لتدفّقات ما يُسمّى بـ«البترودولار» تأثيراً كبيراً على البنى السياسية والاقتصادية في الخليج والشرق الأوسط الأوسع. وهناك مجموعة متنوّعة من أوجه الاعتماد المتبادل بين نخب الدولة والأعمال في الخليج وآسيا تتطوّر أيضاً بالتوازي مع هذا التوجّه شرقاً في صناعة النفط، وهي لا تقتصر على تصدير النفط الخام فحسب، وإنّما تمتدّ إلى القطاعات التي تعمل في أنشطة مثل التكرير والبتروكيماويات. وفي المجمل، إن دور هذا المحور الجديد للنفط في العالم هو ترسيخ موقع الخليج في قلب «رأسمالية الوقود الأحفوري» المعاصرة.2
يجب على نشطاء المناخ الاهتمام بشكل أكبر بهذه التحوّلات في صناعة النفط في العالم ودور دول الخليج. فأرباح «أرامكو» الاستثنائية والخسوف النسبي للشركات الغربية الكبرى يعنيان أن جهود إنهاء اعتماد العالم على الوقود الأحفوري أصبح أمامها عائق أساسي خارج الأسواق الغربية الأساسية. وتتضح مخاطر هذه الاتجاهات في خطط دول الخليج الصريحة للتوسّع الهائل في إنتاج النفط والغاز في خلال العقد المقبل من خلال سلسلة ممّا سُمِّي «قنابل الكربون»،3 وفي الوقت نفسه انتهاز الفرص السوقية التي تطرحها التقنيات الجديدة منخفضة الكربون، التي ما زالت قيد التطوير. وبالتالي، طبيعة أي «انتقال أخضر» في الشرق الأوسط وفي العالم ستحدّدها إلى حدّ كبير أفعال هذه الدول وسياساتها. ومن دون فهم التغيّرات الحاصلة في بنية صناعة النفط وأشكال السيطرة عليها ووضع استراتيجيات كُفوءة للتعامل معها، من المستحيل بناء حملات ناجحة لإيقاف اتجاه آثار التغيّر المناخي الذي تسبّب فيه البشر، وعكسه.
من «الأخوات السبع» إلى «أوبك»
لم يصبح النفط وقود العالم الأحفوري الأساسي بشكل نهائي إلّا بحلول خمسينيات القرن العشرين. لكن العقود الأولى في القرن العشرين كانت أساسية في تشكيل بنية الصناعة لاحقاً.4 على مدار قرابة سبعين عاماً (من العام 1870 إلى عشية الحرب العالمية الثانية)، برزت حفنة من شركات النفط الكبيرة في الولايات المتّحدة وأوروبا الغربية. واتسمت هذه الشركات بدرجة عالية جدّاً من التكامل الرأسي مقارنة بأية صناعة أخرى مشابهة. وعن طريق هذا التكامل الرأسي كان النفط الخام يُنقَل داخلياً في الشركة نفسها ليُكرّر ويباع. لقد مَكّن التكامل الرأسي الشركات الكبرى من الضغط على المنافسين ودفع الأنشطة المحقّقة للأرباح إلى المراحل الأخيرة من سلسلة القيمة وفقاً لتقلّبات الأسعار وطلب السوق.5 ولأن هذه الشركات المتكاملة رأسياً تمدّدت بسرعة خارج أسواقها الوطنية، صارت متحكّمة في شبكات متداخلة بكثافة من حقول النفط والبنية التحتية الشريانية الممتدّة في مختلف أنحاء العالم. بحلول منتصف القرن العشرين، كانت سبع من هذه الشركات فقط تسيطر على كلّ إنتاج وتجارة النفط في العالم.6 أطلق عليهم منافسوهم في الصناعة نفسها اسم «الأخوات السبع» في خمسينيات القرن العشرين، وشركات النفط الكبرى التي ما زالت قائمة حتى اليوم في قلب النقاشات العالمية عن استخدام الطاقة والانتقال المناخي («إكسون موبيل» و«شيفرون» و«بريتيش بتروليوم» و«رويال داتش شل») هي أحفادها المباشرين.7
بقيت هذه الشركات الغربية السبع صاحبة القوة المهيمنة على النفط في العالم حتى سبعينيات القرن العشرين، لكن لم يكن هناك توازن متكافئ بينها. وعلى الرغم من الوجود الدولي المُعتبَر للاعبين الأوروبيين الأساسيين - مثل «رويال داتش شل» (المملكة المتحدة/هولندا)، و«بريتيش بتروليوم» (المملكة المتحدة) - اتجهت الصناعة في النصف الأول من القرن العشرين بثبات نحو مشهد متسم بالمركزية الأميركية. ومن أسباب ذلك وجود احتياطيات نفطية كبيرة في الولايات المتّحدة، ثبتت موقع البلاد باعتبارها المركز الرئيسي لإنتاج واستهلاك الخام في العالم لوقت طويل من القرن.8 شغلت شركات النفط الأميركية أيضاً دوراً مهيمناً في الدول المنتجة للنفط في أميركا اللاتينية مثل فنزويلا. وقد عكست القوة العالمية لعمالقة النفط الأميركيين ترسُّخ سلطة الولايات المتّحدة الأوسع نطاقاً أثناء تلك الفترة؛ فالرأسمالية العالمية المعتمدة على النفط أصبحت مرادفة بشكل متزايد للرأسمالية المتمحورة حول الولايات المتحدة.
بعد الحرب العالمية الثانية، اقتحمت شركات النفط الأميركية، أخيراً، المناطق الرئيسة الغنيّة بالنفط في الشرق الأوسط منهية استئثار الشركات الأوروبية السابق لها. لكن الحركات القومية الراديكالية والمناهضة للاستعمار الصاعدة في الدول الرئيسة المنتجة للنفط في الشرق الأوسط وأميركا اللاتينية بدأت تربك سيطرة شركات النفط الغربية على إنتاج النفط وتكريره وخطوط أنابيبه وتسعيره.9 تصاعدت هذه الحركات حتى تشكّلت منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك) في العام 1960، وتألّفت في البداية من المملكة العربية السعودية وفنزويلا والعراق وإيران والكويت. في ذلك الوقت، كانت الدول الخمس المكوّنة لـ«أوبك» تنتج 37% من الخام في العالم ومعظم النفط المنتج خارج الولايات المتّحدة. توسّعت عضوية المنظّمة على مدار العقد التالي. ومعظم منتجي النفط الأساسيين اليوم - مع الاستثناءات الهامّة للولايات المتحدة وروسيا وكندا - هم أعضاء في «أوبك».
مع تأسيس «أوبك»، أمَّمت الحكومات في مختلف أنحاء الشرق الأوسط وأميركا اللاتينية الموارد النفطية بالتدريج، وتولّت شركات النفط المملوكة للدول معظم أعمال التنقيب عن الخام وإنتاجه خارج الولايات المتحدة. احتفظت الشركات الغربية الأكبر بهيمنتها على قطاعات التكرير والتصنيع والتسويق في صناعة النفط، لكنها أصبحت مضطرة لمواجهة منافسة متزايدة من شركات النفط الوطنية غير الغربية القوية في قطاعات الاستكشاف والاستخراج والإنتاج في مختلف الدول الرئيسة المنتجة للنفط. الأمر الحاسم هو فقدان الشركات الغربية قدرتها على تحديد سعر النفط الذي ارتفع بشكل كبير في الأعوام 1973 و1974، ومن ثم في 1978 و1980. وقد أدّى ارتفاع أسعار النفط مقترناً بتغيّر بنية الملكية في صناعة النفط إلى زيادة هائلة في الفوائض المالية - سُمِّيت لاحقاً بترودولار - المتدفقة إلى الدول المنتجة للنفط خصوصاً تلك الموجودة في الخليج.10 وبنهاية سبعينيات القرن العشرين، أصبحت الشركات الغربية تمتلك أقل من ثلث النفط الخام الموجود خارج الولايات المتحدة.
بدأت موجة دمج كبيرة بين شركات النفط الغربية عكست الضغوط الحاصلة بسبب منافسة «أوبك» وانخفاض أسعار النفط منذ منتصف ثمانينيات القرن العشرين. كان أهم نموذج فيها اندماج عملاقي النفط الأميركيين «إكسون» و«موبيل» في العام 1999 مكوِّنين «إكسون موبيل»، التي هي أكبر شركة خاصّة في العالم.11 في ذلك الوقت، شكّل هذا أكبر اندماج صناعي في التاريخ، فقد تجاوز صفقة سابقة في قطاع الطاقة حقّقت ذلك الموقع، أي استحواذ «بريتش بتروليوم» على شركة «أموكو الأميركية» في العام 1998. من حالات اندماج الشركات الهامّة الأخرى في ذلك الوقت، شراء «شيفرون» لـ«تكساكو» في العام 2001، واندماج «كونوكو» و«فيليبس للنفط» لتأليف شركة «كونوكو فيليبس» في العام 2002. أمّا خارج الولايات المتّحدة، فقد اندمجت شركة النفط الفرنسية الكبيرة «توتال» مع «بتروفينا» في العام 1999، ثمّ اشترت «إلف أكويتين» لتتألف شركة «توتال إس إيه» المعروفة حالياً بـ«توتال إنرجيز». وكانت النتيجة النهائية لهذه الاندماجات إعادة تشكيل صناعة النفط الغربية في مدار حفنة من الشركات المسيطرة: «إكسون موبيل» (الولايات المتحدة)، و«بريتيش بتروليوم» (بريطانيا)، و«رويال داتش شل» (بريطانيا/هولندا)، و«شيفرون» (الولايات المتحدة)، و«إيني» (إيطاليا)، و«توتال إنرجيز» (فرنسا)، و«كونوكو فيليبس» (الولايات المتحدة).
كانت هذه الموجة من الاندماجات الصناعية مصحوبة بتغيّرات أخرى هامّة في الطريقة التي تعمل بها شركات النفط الغربية. فشركات النفط الكبرى هي أكبر الشركات الخاصّة في العالم، ولهذا انخرطت بشكل عميق في التحوّل الأوسع نطاقاً نحو رأسمالية الأمولة (financialised capitalism) الذي حدث في خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين وخصوصاً في الأسواق المالية الأميركية. والجدير بالذكر هو تركيز الشركات المذكورة على إعادة شراء الأسهم وإعطاء الأولوية لتوزيعات الأرباح لحملة الأسهم، وهي سمة مستمرّة في شركات النفط الغربية حتى اليوم.12 مع انخفاض القدرة على الوصول إلى حقول النفط البرّية التقليدية التي تسيطر عليها الآن شركات النفط الوطنية الكبرى غير الغربية، توجّهت كبريات شركات النفط الغربية إلى إنتاج النفط بسبل كثيفة تكنولوجياً وخطيرة بيئياً في مناطق كان استخراج النفط فيها صعباً، مثل الحفر تحت المياه العميقة والتصديع المائي للوصول إلى موارد النفط والغاز الصخرية، وما زالت تركز على أنشطة التكرير والتصنيع والبيع، خصوصاً إنتاج البتروكيماويات. وقد سعت العديد من الشركات الكبرى الغربية أيضاً إلى تقديم نفسها باعتبارها «شركات طاقة»، بل حتى بدأت تروِّج لنفسها في حملاتها الدعائية بشكل يبعد الصورة الذهنية الخاصة بها عن النفط بشكل مُضلِل.13
الصين ونفط العالم والاقتصاد السياسي للخليج
بدءاً من نهاية تسعينيات القرن العشرين، اهتزّت هذه السمات البنيوية لصناعة النفط في العالم بشدّة بسبب انفتاح الصين على الاقتصاد العالمي وتموضعها بعد ذلك في قلب التصنيع في العالم. خلق صعود الصين باعتبارها «ورشة العالم»، ازدهاراً في الطلب العالمي على الطاقة، الذي غذّته تدفّقات رؤوس الأموال الأجنبية الساعية للاستفادة من الأعداد الهائلة من العمالة الصينية الرخيصة مع زيادة استهلاك النفط سنوياً في العالم بحوالى 30% بين عامي 2000 و2019. في العام 2000، كانت الصين مسؤولة عن 6% فقط من الطلب العالمي على النفط، لكن بحلول العام 2019 أصبحت تستهلك حوالى 14% من نفط العالم، أي أكثر من أي بلد آخر باستثناء الولايات المتّحدة. ومع استقرار المناطق الصناعية الصينية في قلب شبكة إنتاج إقليمية أكبر منها، ازداد الطلب على النفط وغيره من المواد الخام بشكل كبير في مختلف أنحاء آسيا كلّها. وبحلول العام 2019 اقترب استهلاك النفط في آسيا من ثلث الإجمالي في العالم، وزاد عن استهلاك أوروبا وروسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية والوسطى مجتمعين.14
على الرغم من كونها واحدة من أكبر منتجي النفط في العالم (الخامسة في العالم في 2010)، لم تكن احتياطات الصين الكبيرة كافية لتلبية الطلب المتصاعد في البلاد. ولهذا، لم يؤدِّ صعود الصين إلى تحفيز الزيادة في استهلاك النفط في العالم فحسب، وإنما كان له أيضاً تأثير كبير على مقدار واتجاه تجارة النفط العالمية. فالصين المعتمدة بالكامل على النفط الوارد من الخارج لتكملة الاحتياطيات المحلّية، صار موقعها الجديد في الاقتصاد العالمي يدفع تصدير النفط بعيداً من الغرب نحو الشرق. وبحلول العام 2019 أصبح نحو 45% من كافة صادرات النفط في العالم يتجه إلى آسيا، ونصف هذه الكمّية يتجه إلى الصين وحدها. أتت معظم إمدادات النفط من الشرق الأوسط، وخصوصاً دول الخليج والعراق التي صارت توفر مجتمعة قرابة نصف واردات الصين النفطية بحلول العام 2020، مرتفعةً من قرابة الثلث في العام 2001.15 ومرّة أخرى، أصبح هذا الطلب على نفط الشرق الأوسط اتجاهاً في آسيا كلّها، وحالياً تذهب نحو 70% من كلّ صادرات النفط الخام من الشرق الأوسط، والقادمة من الخليج أساساً، إلى آسيا.
أدّت الزيادة الكبيرة في استهلاك النفط في الصين، واستهلاك النفط في آسيا عموماً، دوراً مؤثراً في إحداث قفزة كبيرة في أسعار النفط العالمية أثناء العقدين الأوليين من الألفية الجديدة، ولو أنه لم يكن السبب الوحيد خلف هذه القفزة في الأسعار.16 كان متوسّط السعر الشهري نحو 25 دولاراً أميركياً للبرميل في كانون الثاني/يناير 2000، ثم وصل في منتصف العام 2008 إلى ما دون 150 دولاراً أميركياً للبرميل بقليل. وبعد الانهيار الاقتصادي العالمي في العام 2008، سجِّل هبوط قصير وحادّ في أسعار النفط، لكنها استأنفت اتجاهها التصاعدي نحو الأعلى منذ كانون الثاني/يناير 2009، ووصلت إلى نحو 100 دولار أميركي للبرميل في معظم الفترة من 2011 حتى منتصف 2014.17 من الأمور الهامّة أنه على مدار هذه الفترة، كان النفط في قلب حالة أعمّ من الصعود في أسعار السلع العالمية، بما في ذلك أسعار المعادن والأغذية والأسمدة. ومثلما حدث وقت صدمات النفط في سبعينيات القرن العشرين، كان لارتفاعات الأسعار آثار سلبية عميقة على الدول الأفقر التي تعتمد على صادرات الغذاء والطاقة.
لكن بالنسبة للدول المنتجة للنفط، مثّلت فترة الارتفاعات المتزايدة في الأسعار والصادرات التي امتدّت لنحو 14 عاماً فترة رواج هائل.18 بالنسبة لدول الخليج بالتحديد، جلب ارتفاع الأسعار فوائض رأسمالية بآلاف مليارات الدولارات إلى المنطقة. وكان هذا بمثابة منجم من البترودولار حوّل الخليج إلى أحد «سماسرة الطاقة الجدد» في العالم وفقاً لشركة الاستشارات العالمية ماكنزي. لكن تلك الكميات من فائض رأس المال لم تبقَ في أيدي حكومات دول الخليج فقط. فكما كان يحدث تاريخياً، الكثير من هذه الثروة المحققة حديثاً أعيد توجيهها نحو القطاع الخاص في الخليج، وساعدت في دعم تراكم تكتلات رأسمالية كبيرة تهيمن على الاقتصاد السياسي للمنطقة.19 حدث هذا من خلال آليّات عدّة، منها ترسية العقود العامة المُربحة في أعمال التطوير العقاري والإنشاءات، وتعزيز المشروعات المشتركة والشراكات بين الشركات الخاصّة والشركات التابعة للدولة، وقيام البنوك المملوكة للدولة بتقديم قروض سخية للشركات الخاصة الكبيرة. علاوة على ذلك، أصبحت البورصات الخليجية طريقاً هاماً للتراكم الرأسمالي المحلّي مع إدراج أسهم الشركات الكبرى المملوكة للدولة بشكل جزئي في تلك الأسواق، ومن ثم إتاحة جزء من العوائد التي حقّقتها تلك الشركات للمواطنين الأثرياء. أبرز نموذج على هذه الآليّة، كان إدراج 1.5% من «أرامكو» السعودية في بورصة الرياض في العام 2019، والذي شكّل حدثاً كبيراً. وقد بشّر ولي العهد محمد بن سلمان بهذه الخطوة في العام 2016، فكانت أكبر عملية طرح أسهم في التاريخ، لا سيما أن قيمة «أرامكو» سُعِّرت بأقل من 2 تريليون دولار أميركي بقليل، أي أنها تجاوزت شركة «أبل» وأصبحت الشركة الأعلى قيمة في العالم.
وجد البترودولار الخليجي طريقه أيضاً إلى الأسواق العالمية. في السنوات الماضية، كان يتم استثمار فائض رأس المال الخليجي بالأساس في أميركا الشمالية وأوروبا الغربية، ولهذا أدّى دوراً حيوياً في تطوير الهياكل المالية العالمية. أثناء الازدهار النفطي في الألفية الجديدة، بقيت الدول الغربية وجهة هامة للاستثمارات الخليجية، لكن جزءاً متزايداً من الثروة الخليجية العامة والخاصة استهدف أيضاً الدول العربية المجاورة، حيث اجتذبته فرص الاستثمار التي ازدهرت بعد تبني الكثير من حكومات المنطقة حزم التكيف الهيكلي منذ بدايات الألفية الجديدة.20 وقد منح تدويل رأس المال الخليجي هذا التكتلات العاملة في الخليج موقعاً مهيمناً في قطاعات اقتصادية أساسية في مختلف أنحاء الشرق الأوسط ومنها العقارات والبناء والتشييد والبنوك والخدمات المالية والأعمال التجارية الزراعية وتجارة التجزئة والبنية التحتية.21
بكل هذه السبل، ارتبطت شهية آسيا النهمة للطاقة بشكل وثيق بصعود اقتصاد إقليمي في الشرق الأوسط متمحور حول وتيرة التراكم الرأسمالي في الخليج.
التكرير والبتروكيماويات
عند التفكير في هذه التحوّلات الجغرافية في تجارة النفط العالمية، من الضروري الاعتراف بأن النفط الخام سلعة لها القليل من الفائدة العملية قبل تحويلها إلى أنواع مختلفة من الوقود السائل أو المواد الخام. ولهذا من الضروري عند تصنيف الأنماط الصاعدة للتحكّم في النفط أن يُنظَر إلى القسم المتعلّق بالأنشطة المتأخّرة في صناعة النفط، ومنها التكرير والتصنيع والبيع، وخصوصاً المرحلة المهمّة جداً المتعلّقة بالتكرير. على امتداد القرن العشرين، كانت أقسام التكرير والتصنيع في صناعة النفط تُدار بالكامل تقريباً من شركات النفط الغربية الكبرى. وبالفعل من خلال سيطرتها على تكرير وتسويق النفط تمكّنت هذه الشركات من الحفاظ على هيمنتها العالمية بعد تأميم «أوبك» لاحتياطات النفط الخام في سبعينيات القرن العشرين. وبالتالي، كانت ملكية مصافي النفط في العالم متركّزة في أيدي عدد صغير جداً من الشركات تقودها الشركات الغربية الكبرى. في العام 1999، على سبيل المثال، كانت قرابة 15 شركة تمتلك نحو 40% من مجمل الطاقة التكريرية في العالم، واحتلّت «رويال داتش شل» و«إكسون» و«بريتيش بتروليوم أموكو» ثلاثة من أول أربعة مواقع بينها.22 واليوم تم القضاء تماماً على هذه الهيمنة الغربية الطويلة على نشاط التكرير. نحو نصف أكبر 15 شركة في العالم هي الآن شركات نفط وطنية، والمواقع الأول والثاني والرابع بينها تحتلّها شركات سعودية وصينية وهي «سينوبك» و«مؤسسة البترول الوطنية» الصينية و«أرامكو» السعودية. «إكسون موبيل» هي الوحيدة الباقية ضمن الأربعة الكبار في أنشطة التكرير في العالم. كذلك، تغيّر التركّز الجغرافي للتكرير بشكل عكس توجّه صادرات الخام شرقاً. في بدايات تسعينيات القرن العشرين، كانت قرابة نصف الطاقة التكريرية في العالم موجودة في أميركا الشمالية وأوروبا، وقد انخفضت هذه النسبة حالياً إلى قرابة الثلث. وبالعكس، زادت القدرات التكريرية الآسيوية ثلاث مرّات بين عامي 1992 و2020 حيث تنامى العدد المطلق لمصافي النفط في المنطقة بأكثر من مرّتين. بحلول العام 2020 كان نصيب آسيا من الطاقة التكريرية في العالم قد توقّف عند 37% أي أكثر من نصيب أميركا الشمالية وأوروبا مجتمعتين.
المنطقة الأخرى الوحيدة في العالم التي شهدت نمواً في نصيبها من الطاقة التكريرية العالمية هي الشرق الأوسط، حيث زادت طاقتها المطلقة بأكثر من مرّتين بين عامي 1992 و2020. وتتركّز فيها الآن نحو 10% تقريباً من الطاقة التكريرية الإجمالية في العالم. ومن الأمور اللافتة أن ثلثي مصافي النفط التي شُيِّدت على مدار السنوات الخمس الأخيرة وأكثر من 80% من تلك الجاري إنشاؤها موجودة في الشرق الأوسط وآسيا. وكما هو الحال بالنسبة لصادرات النفط الخام، يرتبط نمو نشاط التكرير في الشرق الأوسط وآسيا بشكل وثيق بشبكات الإنتاج في الصين وآسيا عموماً. فالنفط الخام إمّا يُستخرَج في الشرق الأوسط ويُصدَّر إلى الصين أو أي دولة أسيوية أخرى للتكرير أو يُستخرَج ويُكرَّر في الشرق الأوسط قبل أن يُصدَّر إلى آسيا. وهكذا، يدخل الوقود المكرَّر والكيماويات المنتجة من نفط الشرق الأوسط في سلاسل الإنتاج الأسيوية حيث يجرى تحويلها إلى سلع تُستهلك على مستوى العالم. وفي هذا المحور، تهيمن شركات نفط وطنية كبيرة مقرّاتها في الشرق الأوسط والصين وآسيا عموماً على عملية التكرير، بينما تحتلّ الشركات الغربية موقعاً هامشياً إلى حد ما.
البتروكيماويات جزء أساسي من شبكات الإنتاج الأسيوية هذه، وهي تشكِّل المُدخَل الأساسي في المواد البلاستيكية وغيرها من المواد المصنّعة.23 مع تنامي الهيمنة الصينية في التصنيع؛ قفز استهلاك البتروكيماويات في الصين وصار الكثير من الطلب عليها تُلبيه مصانع البتروكيماويات الموجودة في الخليج. الأكثر أهمّية هو الإيثيلين الذي يوصف بأنه «أهم مادة كيماوية في العالم» ويعتبر جوهرياً في صناعات التعبئة والتغليف ومواد البناء وقطع غيار السيّارات.24 بين عامي 2008 و2017 نما نصيب الخليج من الطاقة الإنتاجية للإيثيلين من 11.5% إلى 19%. في هذه الفترة، تقدّم الخليج بعد أن كان رابع منتج للإيثيلين في العالم إلى الموقع الثاني، أي خلف أميركا الشمالية مباشرة (التي تراجع نصيبها من الطاقة الإنتاجية للإيثيلين من 27% إلى 21%). تُصنَّع هذه المادة الكيميائية في مصافٍ متكاملة ضخمة ومجمّعات للبتروكيماويات في مختلف أنحاء المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتّحدة ودول الخليج الأخرى، ثم يتم تصديرها شرقاً. في الواقع، أقل من نصف واردات الصين من الإيثيلين بقليل يأتي حالياً من الشرق الأوسط. وما كان صعود الصين كـ«ورشة للعالم» سيصبح ممكناً لولا هذه التدفّقات من المنتجات الكيميائية المكرّرة من الشرق الأوسط إلى آسيا.
هذه الاتجاهات دفعت شركات، مقرّاتها في الخليج، إلى مركز صناعة البتروكيماويات في العالم. والأمر الأكثر أهمّية هنا هو أن «سابك» (الشركة السعودية للصناعات الأساسية) تحتل الآن الموقع الرابع بين شركات الكيماويات وفقاً للمبيعات بعد أن كانت في المرتبة التاسعة والعشرين في العام 2000. تم تأسيس «سابك» بموجب مرسوم ملكي سعودي في العام 1976 بهدف استخدام غاز البلاد ونفطها الخام لتصنيع الكيماويات الأساسية في مجموعة متنوّعة من الصناعات، ومنها السيّارات والزراعة والبناء والتعبئة والتغليف. في بدايات الألفية الجديدة، بدأت الشركة تنمو على المستوى العالمي من خلال استثمارات في أوروبا والولايات المتّحدة. وكان استحواذ «سابك» على قسم البلاستيك في شركة «جنرال إلكتريك» الأميركية في العام 2007 محطّة أساسية مكّنت الشركة من اتخاذ خطوات كبيرة في إنتاج البتروكيماويات المتطوّرة. ومنذ ذلك الوقت، توسّعت «سابك» أكثر فأكثر وصار لديها الآن أنشطة في أكثر من 50 بلداً في العالم.
في خلال معظم تاريخ شركة «سابك» كانت الدولة السعودية تمتلك 70% منها أما الـ30% الأخرى فمُدرجة في البورصة السعودية. لكن في العام 2020 حصلت «أرامكو» على نصيب الدولة في «سابك» في إطار عملية إعادة هيكلة هامة لصناعة النفط السعودية، اتضح من خلالها التوجّه القوي نحو التكامل الرأسي في الخليج. وبالمثل، فإنّ شركات البتروكيماويات الكبرى في الإمارات العربية المتّحدة والكويت وقطر وعمان كلّها شركات تابعة لشركات النفط الوطنية التي تتحكّم فيها الدول. وشركات البتروكيماويات التي تديرها الدولة هذه مرتبطة بشكل وثيق بالتكتلات الخليجية المملوكة للقطاع الخاص من خلال شركات المشاريع المشتركة والشراكات الاستراتيجية، بالإضافة إلى الإدراج الجزئي لشركات مثل «سابك» في أسواق المال الخليجية.25 وبهذه الطريقة، يعمل قطاع البتروكيماويات كمسار آخر هام لتراكم الثروات الخاصة في الخليج.
الأوجه الجديدة للاعتماد المتبادل بين الشرق والشرق
تؤكّد هذه الأنماط أوجه الاعتماد المتبادل القوية الناشئة بين الشرق الأوسط (وخصوصاً منطقة الخليج) وآسيا (خصوصاً الصين) في قطاع النفط. لكن هذا يتضمّن ما هو أكثر بكثير من مجرد تصدير الخام من الشرق الأوسط إلى آسيا، فالأمر عبارة عن عملية تتضمّن زيادة ملحوظة في الاستثمارات العابرة للحدود فيما بين المنطقتين. تأتي هذه الاستثمارات من كلّ من شركات النفط الوطنية الأسيوية والخليجية الكبيرة، بالإضافة إلى التكتلات الأخرى الكبرى المملوكة للقطاع الخاص في كلا المنطقتين. ومن خلال تدفّقات رأس المال هذه، يحدث تشابك مكثّف بين كلّ الخطوات في سلسلة القيمة الخاصة بالنفط: التكرير وإنتاج البتروكيماويات وإيصال المنتجات النفطية للمستهلك. وهكذا تكون المصالح الخليجية المرتبطة بالمحروقات متضمّنة في شبكات الإنتاج الآسيوية والعكس صحيح. وعلى المستوى السياسي، كانت هذه الارتباطات مصحوبة أيضاً بتطوير روابط وثيقة بين المنطقتين متمثّلة في مجموعة كبيرة من الاتفاقيات الثنائية الحديثة والزيارات الحكومية عالية المستوى والعديد من المبادرات الدبلوماسية الأخرى.
للوقوف على صورة أوضح لتدفّقات رأس المال هذه وتداعياتها يجب النظر لكافة جوانب دورة المحروقات سواء في مراحل الاستكشاف والإنتاج أو مراحل التكرير والتصنيع أو في أنشطة مثل النقل والحفر والتخزين ومدّ خطوط الأنابيب. في مختلف هذه الأنشطة النفطية حقّقت الصين أكثر من 76 مليار دولار أميركي في الاستثمارات الموجّهة إلى الخارج على مستوى العالم بين عامي 2012 و2021.26 جاءت المرحلة الأولى من هذه الاستثمارات الصينية (2012-2016) بعد إعلان مبادرة الحزام والطريق، وتركّزت بالأساس في أميركا اللاتينية وأوروبا الغربية وروسيا ووسط آسيا. لكن بعد العام 2016، حدثت إعادة توجيه كبيرة في استثمارات النفط الصينية في الخارج. وبين عامي 2017 و2021 ذهب أكثر من 30% من الاستثمارات الصينية في الأنشطة المتعلّقة بالنفط إلى منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يتجاوز نصيب أي منطقة أخرى في العالم، ويشكّل زيادة بنحو خمس مرّات في النصيب النسبي للشرق الأوسط مقارنة بالفترة بين 2012 و2016.
أعطى هذا الاستثمار الشركات الصينية دوراً بارزاً في الأنشطة المتعلّقة بالنفط في مختلف أنحاء منطقة الشرق الأوسط. ففي الإمارات العربية المتّحدة، على سبيل المثال، تعدّ الشركات الصينية شريكاً أساسياً لشركة «بترول أبوظبي الوطنية» المملوكة للدولة، ولها أنصبة كبيرة في حقول النفط البرّية والبحرية. وفي العراق هناك شركة صينية مملوكة للقطاع الخاص تشغل حالياً أحد أكبر حقول النفط في العالم وهو حقل «مجنون» العملاق. وفي الكويت أصبحت شركة تابعة لشركة النفط الصينية «سينوبك» أكبر متعهّد لحفر آبار النفط وتتحكّم في نحو 45% من عقود التنقيب في البلاد. وفي العام 2021، تم الانتهاء من الاتفاق على أكبر صفقة تشارك فيها الصين في قطاع النفط في الشرق الأوسط، وهي الصفقة التي تضمّنت مشاركة صينية في ائتلاف متعدّد الجنسيات يمتلك حصة بنسبة 49% في شركة «أرامكو» لإمداد الزيت الخام وهي شركة سيكون لها حقوق لمدة 25 عاماً في التعرفة المدفوعة عن الكميات التي تتدفّق عبر شبكة «أرامكو» لخطوط أنابيب النفط الخام في المملكة العربية السعودية.
في الوقت نفسه الذي تدخل فيه الاستثمارات الصينية بقوة إلى الشرق الأوسط، تصبح دول الخليج الطرف الأجنبي الأهم في قطاع النفط الصيني من خلال مشروعات عدة مشتركة مع كيانات صينية. تهدف هذه المشروعات إلى تأمين النصيب السوقي من صادرات الخام الخليجية، وتتضمّن مصافٍ ومصانع بتروكيماويات وبنى تحتية للمواصلات وشبكات لتسويق الوقود. من النماذج الهامّة لهذه المشروعات المجمع الصيني الكويتي المتكامل للتكرير والبتروكيماويات وهو مشروع مشترك مناصفة بين «سينوبك» و«مؤسّسة البترول الكويتية»، ويعتبر أكبر مشروع مشترك للتكرير في الصين ويتضمّن أكبر ميناء للبتروكيماويات في البلاد (تم استكماله في أيار/مايو 2020). يُنظَر إلى كلّ من مصفاة التكرير والميناء على أنهما جزء لا يتجزأ من مبادرة الحزام والطريق الصينية، فهما يمكّنان الصين من استيراد النفط الخام من الخليج لتصنيع الوقود وغيره من الكيماويات الأساسية التي تُصدَّر لاحقاً إلى الدول الأسيوية المجاورة. أما المملكة العربية السعودية فوجودها الهام في الصين يتّضح من خلال مجموعة متنوّعة من المشروعات المشتركة بين «أرامكو» السعودية وشركات صينية في قطاع البتروكيماويات والتكرير، بالإضافة إلى شبكة من أكثر من ألف محطّة خدمة في مقاطعة فوجيان، التي كانت أول مشروع مشترك لبيع الوقود بالتجزئة على مستوى المقاطعات في البلاد. هذه الشراكات تتضمّن شركات نفط وطنية صينية مثل «سينوبك»، بالإضافة إلى شركات تكرير خاصة بارزة في الصين (تتحكّم في نحو 30% من كمّيات الخام المكرّر في الصين). قطر هي الأخرى مستثمر خليجي هام في قطاع الطاقة في الصين، وتركّز بشكل خاص على تأمين أسواق لصادراتها من الغاز الطبيعي المسال.
إن توسّع صناعة المحروقات الخليجية في الصين جزء من انخراط أوسع نطاقاً لدول الخليج في القطاعات المرتبطة بالنفط في البلدان الآسيوية الأخرى. فبين عامي 2012 و2021 كانت قرابة نصف الاستثمارات الأجنبية من خارج آسيا (من حيث القيمة) في الأصول الأسيوية المرتبطة بالنفط من الخليج، ويتضمّن هذا أكبر أربع صفقات تمت في خلال هذه الفترة.27 وقد سعت شركات الخليج من خلال هذه الاستثمارات إلى التوسّع في إنتاجها من منتجات النفط المكرّر والكيماويات الأساسية في آسيا نفسها (باستخدام الخام المستورد من الخليج) التي يتم تداولها بعد ذلك في آسيا عن طريق الأذرع التجارية للشركات الخليجية. وتُنوِّع شركات النفط الخليجية المناطق الأساسية المستهدفة بأنشطة التكرير والتصنيع لتشمل كوريا الجنوبية وسنغافورة وماليزيا واليابان. ففي هذه الدول الأربع، التي تمتلك كلّ منها طاقة صناعية مرتبطة غالباً بشكل وثيق بتراكم المجموعات الرأسمالية المحلّية، استحوذت الشركات الخليجية بشكل كلّي أو جزئي على شركات بارزة، وفازت أيضاً بأنواع أخرى من الشراكات مثل المشروعات المشتركة.
لا يجب أن يندهش أحد من أن «أرامكو» السعودية كانت الشركة الخليجية الأساسية في هذا الصدد، فلها الآن وجود ملحوظ في دول آسيوية هامة. في العام 2015، على سبيل المثال، استحوذت «أرامكو» على الشركة الكورية الجنوبية «إس أويل»، وهي ثالث أكبر شركة تكرير في البلاد، وتستحوذ على نحو 25% من حصة السوق، وتشغّل سادس أكبر مصفاة في العالم موجودة في مدينة أولسان في كوريا الجنوبية. هذا الاستحواذ مكّن «إس أويل» من توسيع طاقتها البتروكيماوية في كوريا. وأصبحت الشركة الآن منتجاً رئيسياً للعديد من أنواع الوقود المكرّرة والكيماويات الأساسية التي تصدّرها بعد ذلك الذراع التجاري الإقليمي لـ«أرامكو» («أرامكو للتجارة» في سنغافورة) إلى الدول الأسيوية الأخرى. كذلك أصبحت «أرامكو» السعودية ثاني أكبر حامل أسهم في شركة «هيونداي أويل بنك» في العام 2019 بعد شراء 17% من أسهم الشركة. «هيونداي أويل بنك» هي رابع أكبر شركة تكرير في كوريا، ويمتلك تكتل «هيونداي» الصناعي غالبية الأسهم فيها. وفي ماليزيا تبني «أرامكو» السعودية حالياً مصنع بتروكيماويات وتكرير يُتوقّع أن يصبح أكبر مصنع بتروكيماويات يعمل في المراحل النهائية من صناعة النفط في آسيا. هذا المشروع عبارة عن مشروع مشترك بالمناصفة مع شركة النفط الوطنية الماليزية «بتروناس». وفي اليابان أصبحت «أرامكو» السعودية ثاني أكبر حامل أسهم في شركة «إدميتسو كوسان» في العام 2019، وهي ثاني أكبر شركة تكرير في اليابان وتتحكّم في قرابة ثلث سوق منتجات النفط المحلّية من خلال ست مصافي وشبكة من 6,400 محطة خدمة.
مواجهة الطوارئ المناخية: التعامل بجدية مع الشرق الأوسط
مع التواجد المتزايد لشركات النفط الوطنية وغيرها من الشركات الرأسمالية الخليجية بشكل مباشر في شبكات الإنتاج الآسيوية – وليس العمل كموردين للخام فقط – يجب أن نعيد التفكير في مقاربتنا للأبعاد الجغرافية لصناعة الوقود الأحفوري في العالم، فلا يكفي التركيز على تقليل الاستهلاك المباشر للوقود الأحفوري أو انبعاثات الكربون في المراكز الغربية التقليدية فقط. لا يزال إنتاج السلع العالمي – بما في ذلك الكثير مما يُستهلَك في النهاية فعلياً في أميركا الشمالية وأوروبا الغربية – له أساس قوي في محور رأسمالية الوقود الأحفوري الذي يربط حقول النفط والمصافي والمصانع في الشرق الأوسط وآسيا. وتُعتبر أوجه الاعتماد المتبادل العميقة بين مختلف أجزاء هذا المحور مكوّناً هاماً من تراكم رأس المال في كلا المنطقتين، وتساهم في دعم قوة نخب الدول والقطاع الخاص. ومن منظور بيئي، يؤدّي هذا الاعتماد المتبادل شرق-شرق إلى إعادة ترسيخ الوقود الأحفوري في قلب سلاسل الإنتاج العالمي، ومن ثم فهو يشكّل عائقاً كبيراً أمام أي انتقال ناجح للأخضر.
تفسّر هذه التحوّلات العالمية لماذا لا تعتزم دول الخليج تقليل إنتاجها من الوقود الأحفوري قريباً. بل كدول رأسمالية، تكمن مصالحها الاستراتيجية في استمرار اعتماد العالم على النفط كوقود لأطول وقت ممكن. وقد طرح وزير الطاقة السعودي، الأمير عبد العزيز بن سلمان، هذا المنظور بشكل صريح في العام 2021 متعهّداً بـ«استخراج كلّ ذرة هيدروكربون» في إطار خطط زيادة الطاقة الإنتاجية للنفط في المملكة بأكثر من 8% بحلول العام 2027 لتصل إلى 13 مليون برميل في اليوم. وفي اتجاه تحقيق هذا الهدف، استثمرت «أرامكو» السعودية بشكل أكبر في توسّع حقول النفط في العام 2022 أكثر من أي شركة أخرى في العالم. وقد دفعت هذه التحرّكات الـ«فاينانشيال تايمز» لتلاحظ أن «أرامكو» تضاعف إنتاجها بهدف أن تكون «آخر منتج كبير للنفط»، و«تراهن على أنها قادرة على الاستمرار في القيام بأكثر شيء تعرفه: ضخّ النفط لعقود مقبلة واكتساب المزيد من القوّة في السوق مع قيام المنتجين الآخرين بتقليل إنتاجهم»(2023). وقد عبرت كل الدول الغنية بالهيدروكربون في الخليج عن نيّتها اتباع المسار نفسه.
لكن هذا لا يعني أن ممالك الخليج تنكر حقيقة التغيّر المناخي أو تنأى بنفسها عن التوجّه العالمي نحو التقنيات «الخضراء» الجديدة. بل الحال هو العكس تماماً؛ فكلّ شركات النفط الوطنية الكبرى في الخليج عبّرت عن دعمها لأهداف «اتفاقية باريس» وتبنّت تعهّدات بلادها بالوصول إلى صافي الانبعاثات الصفري.28 فهي تستثمر أيضاً بشكل هائل في الهيدروجين وحجز الكربون والطاقة الشمسية، وهدفها الصريح أن تصبح رائدة عالمياً في هذه التقنيات (أنظر/ي الفصل الخاص بكريستيان هندرسون في هذا الكتاب). والأمر الأكثر وضوحاً هو أن دول الخليج احتلّت موقعاً بارزاً في المحافل الإقليمية والدولية، مثل مؤتمر الأطراف في اتفاقية تغيّر المناخ (كوب 27) ومؤتمر الأطراف (كوب 28). في كوب 27 المنعقد في مصر في العام 2022، على سبيل المثال، كان أكبر جناح وطني هو الجناح الخاص بالمملكة العربية السعودية ثمّ الجناح الخاص بالإمارات العربية المتّحدة وقطر والبحرين. كانت مساحة الجناح السعودي 1,008 أمتار مربعة أي ضعف مساحة الجناح المستضيف لقارة أفريقيا كلّها. وأفريقيا هي الجزء المهدّد بدرجة أكبر من آثار التغيّر المناخي في العالم. أما مؤتمر الأطراف كوب 28 فسوف ينعقد في الإمارات العربية المتحدة.
يوضح كل هذا أن دول الخليج لا ترى تناقضاً بين تبنّي «حلول منخفضة الكربون» والمضي في مسار تسارع إنتاج الوقود الأحفوري. لكن الأمر الشديد الأهمّية أن هذا ليس مجرّد خطابة إنشائية تمارسها لاستخدام الانتقال الأخضر كدعاية لتحسين صورتها، حيث إن توسّع قطاع الطاقة المتجدّدة يعتبر إلى حد كبير خطوة ضرورية نحو تمكين دول الخليج من بيع المزيد من الغاز والنفط. فمع وجود مستويات عالية جداً من استهلاك الطاقة محلياً، يعني الإحلال المحلّي لمصادر الطاقة البديلة محل النفط والغاز إتاحة المزيد من الوقود الأحفوري للتصدير. تكمن طريقة التفكير هذه بالفعل بشكل واضح خلف خطة المملكة العربية السعودية لإنتاج نصف كهرباء البلاد من مصادر متجدّدة بحلول 2030، وهو ما سيكون أسرع من معظم مناطق العالم الأخرى بما في ذلك الاتحاد الأوروبي. وقد عبّر الأمير عبد العزيز بن سلمان عن الأمر حين اعتبر أن الانتقال نحو مصادر الطاقة المتجدّدة «نجاح ثلاثي الأبعاد»: زيادة صادرات النفط وتخفيض التكلفة المحلّية للطاقة ونيل الوجاهة والتقدير بسبب تحقيق أهداف خفض الانبعاثات.
كذلك توفر التقنيات والبنية التحتية للطاقة المرتبطة بالانتقال للأخضر فرصاً مربحة للشركات التي مقرّاتها في الخليج، بما في ذلك شركات النفط الوطنية مثل «أرامكو». في كانون الأول/ديسمبر 2022، أصبحت المملكة العربية السعودية أول بلد في العالم يُرسِل عن طريق البحر شُحنة من «الهيدروجين الأزرق» لأغراض تجارية، وكانت هذه الشحنة موجّهة إلى كوريا الجنوبية، ما عزّز التوقّعات بأن محور الشرق–شرق في صناعة النفط في العالم سوف يتّجه قريباً نحو مصادر الطاقة المتجدّدة.29 وتخطّط كلّ من الإمارات العربية المتّحدة والبحرين وسلطنة عمان والكويت لتشغيل مواقع ضخمة للهيدروجين على أراضيها، وهو ما سيجعل المنطقة واحدة من أكبر مراكز إنتاج الهيدروجين في العالم.30 وبالمثل، تحصل أنشطة حجز الكربون والطاقة الشمسية على استثمارات كبيرة من حكومات الخليج (ومرّة أخرى تمرّ في معظم الأحوال من خلال شركات النفط الوطنية). فكل شركات الطاقة المتجدّدة الكبيرة في الشرق الأوسط مثل «مصدر» (الإمارات العربية المتّحدة) و«أكوا باور» (المملكة العربية السعودية) و«نبراس للطاقة» (قطر) تقع مقرّاتها في الخليج. وسيلعب الخليج من خلال هذه الشركات وهيمنتها على أسواق الطاقة المتجدّدة الصاعدة دوراً مسيطراً في تحديد شكل الانتقال «الأخضر» في المنطقة.
تعمل دول الخليج على أن تبدو وكأنها تحوّل نفسها إلى أطراف فاعلة أساسية في المعركة ضد تغيّر المناخ، وهكذا تخفي استمرارية مركزيتها في الرأسمالية المعولمة المعتمدة على الوقود الأحفوري. هذا هو الهدف الحقيقي وراء الدور القيادي الذي تلعبه في مداولات مؤتمر الأطراف كوب 27 ومؤتمر الأطراف كوب 28. وهو وسيلة لتشكيل تعامُل العالم مع أزمة التغيّر المناخي ومقاومة أي ابتعاد عن النظام العالمي المتمحور حول النفط. لكن هذه الحقائق تربط بقوّة النضالات السياسية في الشرق الأوسط بمستقبلنا على الكوكب أيضاً. فمع تربُّع ممالك الخليج على قمّة أشكال متطرّفة من اللامساواة في الثروة والسلطة في المنطقة، يجب اعتبار الحركات الشعبية التي تهدف إلى تحدّي هذه الأنظمة وتحقيق عدالة اجتماعية واقتصادية في مختلف أنحاء المنطقة حلفاء جوهريين للنضالات البيئية في العالم. وأي منظور لأزمة المناخ يتجاهل الخليج وسياسات المنطقة بشكل أوسع – ويصوِّب سهامه على الحكومات الغربية وصناعة النفط الغربية فقط – لا يُعتبَر منفصلاً عن حقائق النفط في العالم فحسب، وإنّما أيضاً غير ملائم للتحدّيات الجسام القائمة.
هذا النص هو فصل من كتاب «تحدّي الرأسمالية الخضراء: العدالة المناخية والانتقال الطاقي في المنطقة العربية»، تحریر: حمزة حموشان وكایتي ساندویل، صادر عن دار النشر: صفصافة للنشر والتوزيع والدراسات، طبعة العام 2024.
تستند أجزاء من هذا الفصل من مقال آدم هنية «World oil: Contemporary transformations in ownership and control» (نفط العالم: تحولات معاصرة في الملكية والسيطرة)، الصادر في العدد 59 من Socialist Register 2023، تحرير غريغ ألبو ونيكول أشوف وألفريدو ساد جونيور، دار نشر مرلن برس.