لماذا الركود؟

  • "لماذا الركود؟" سؤالٌ تمّ طرحه في الثلاثينيات ثمّ إغفاله من دون تقديم أي إجابة مُرضية. والآن يعيد الواقع طرحه مرّة أخرى. وأعتقد أنّ الوقت قد حان لقبول التحدّي واستئناف البحث عن إجابة.
     
  • عندما بدأ الازدهار في التلاشي، تمّت محاربة الركود لسنوات عدّة من خلال خلق المزيد من الديون على الصعيدين الوطني والدولي، والمضاربات المحمومة والتضخّم. أمّا الآن فقد أصبحت هذه المسكِّنات مُضرّة أكثر من كونها مفيدة.
     
  • هناك حاجة إلى أداء استثماري قوي لتجنّب الركود الاقتصادي. وهذا بالضبط ما نفتقده منذ وقتٍ طويل. لذلك، السبب المباشر للركود الحالي هو نفسه في الثلاثينيات: ميلٌ قوي للادخار وميلٌ ضعيف للاستثمار.

"لماذا الركود؟" سؤال له أهمّية خاصّة بالنسبة لي. لقد بدأت عملي في الدراسات العليا في  الاقتصاد منذ خمسين عاماً بالضبط. كان الانكماش الدوري الذي بدأ في العام 1929 يقترب من القاع. وبلغ معدّل البطالة في ذلك العام، وفقاً للأرقام الحكومية، نحو 23.6% من القوّة العاملة، ووصل إلى أعلى مستوياته في العام 1933 مُسجِّلاً 24.9%. وبقي مكوّناً من رقمين طوال ذلك العقد. مع ذلك، بدأ يحدث انتعاش في العام 1933، واتضح أنه الأطول في سجّلات تلك الفترة. لكن حتّى في ذروة النموّ المحقّقة في العام 1937، ظل معدّل البطالة عند 14.3%. تصادف هذا العام أيضاً مع حصولي على درجة الدكتوراه. فهل يمكن تخيّل مجموعة ظروف أفضل لإقناع اقتصادي شاب بأن المشكلة الاقتصادية الأساسية لم تكن تقلّبات دورية بل ركود طويل الأجل؟

الجدل حول أسباب الركود

في أعقاب الركود الحادّ لعام 1937، بدأ الجدل حول أسباب الركود ينتشر في علم الاقتصاد. وكان ألفين هانسن وجوزيف شومبيتر، كبار الاقتصاديين في جامعة هارفارد في الثلاثينيات، رائدين في ذلك. عُرِضد موقف هانسن في كتابه الصادر في العام 1938 بعنوان "التعافي الكامل أم الركود ؟"، بينما قُدِّم العرض الأفضل لموقف شومبيتر في الفصل الأخير من أطروحته المكوَّنة من مجلّدين في العام 1939 حول الدورات الاقتصادية.

وصف شومبيتر نظرية هانسن بأنها "نظرية تلاشي فرص الاستثمار"، وهو توصيف مناسب. وفقاً لهذه النظرية، يتمتّع الاقتصاد الرأسمالي الحديث بقدرة هائلة على الادخار بسبب هيكله المؤسّسي والتوزيع غير المتكافئ للدخل الشخصي. ولكن في حالة عدم وجود فرص استثمار مربحة كافية، لا تُترجم إمكانات الادخار إلى تكوين رأس مال حقيقي ونموّ مستدام، بل إلى دخل منخفض وبطالة جماعية وكساد مزمن، وهي حالة لُخِّصت في مصطلح الركود. كان إطار هذا التحليل مُستمدّاً بالطبع من نظرية كينز العامّة، التي نُشرت في العام 1936، وكان هانسن أفضل مُتبنّي وشارح لها على هذا الجانب من المحيط الأطلسي.

لاستكمال النظرية، كان لا بدّ من توضيح سبب ندرة فرص الاستثمار في الثلاثينيات مقارنة بالفترات السابقة. حاول هانسن ملء هذه الفجوة بما اعتبره تغييرات تاريخية معيّنة لا رجعة فيها، وبدأت تتراكم في العقود السابقة، وهيمنت أخيراً على المشهد بعد بدء ما أسماه شومبيتر "الأزمة العالمية" في العام 1929. للتبسيط، كانت هذه التغييرات، وفقاً لهانسن، (1) نهاية التوسّع الجغرافي، وقد وضِعت أحياناً في إطار "إغلاق الحدود"، إلّا أن هانسن فسّرها بمعنى عالمي أوسع؛ (2) انخفاض معدّل النمو السكاني، و(3) ميل التقنيات الجديدة إلى أن تكون أقل استخداماً لرأس المال ممّا كانت عليه في المراحل السابقة من التطوّر الرأسمالي. من وجهة نظر هانسن، عملت كلّ هذه التغييرات على تقييد الطلب على الاستثمار الرأسمالي الجديد، وبهذه الطريقة حوَّلت قدرة النظام الكبيرة على الادخار إلى قوّة مُولدِّة للركود بدلاً من تحريك النموّ السريع.

لديّ شعورٌ بأنك إذا سألت خبيراً اقتصادياً عن كيفيّة دخولنا في الفوضى التي نحن فيها، سوف يردّ، من دون إنكار أنها فوضى، بإعطاء نصائح حول كيفية الخروج منها، ولكنّه لن يقول شيئاً مفيداً حول أسباب دخولنا إليهالم يرَ نُقّاد هانسن، بمن فيهم شومبيتر، ميزة واحدة في هذه النظرية. لكن ذلك لا يعني نكرانهم لضرورة تكوين رأس المال للحفاظ على النمو والتوظيف المرتفع، بل عدم قبولهم الحجّة القائلة بإن التغييرات التي أشار إليها هانسن كانت حقيقية، أو إذا كانت حقيقية أنّها ستؤدّي بالضرورة إلى إضعاف الطلب على استثمار جديد. انتهى التوسّع الجغرافي في الولايات المتّحدة في أواخر القرن التاسع عشر، فلماذا لم يحدث آثاراً اقتصادية سلبية مماثلة إلّا بعد ثلاثة أو أربعة عقود؟ لا يؤدّي النمو السكّاني بالضرورة إلى تحفيز الاستثمار، بل يمكن أن يولّد المزيد من البطالة، ومضاعفة الطلب على الإسكان، وانخفاض مستوى المعيشة. كانت الطبيعة المزعومة للابتكار التكنولوجي وتأثيراته التغييرية غير مُثبَتة، أو بالأحرى غير قابلة للإثبات وفقاً للنقّاد.

خلافاً لنظرية هانسن، طرح شومبيتر نظرية أخرى بطريقة مختلفة. بدلاً من التساؤل عن سبب الركود الذي حدث في الثلاثينيات، سأل عن سبب انتهاء الانتعاش الدوري الذي بدأ في العام 1933، إنما بخلاف ما افترضه هو وآخرون عن أنه سيكون الوضع "الطبيعي" لنهاية مرحلة الازدهار من الدورة، أي التوظيف الكامل، وارتفاع الأسعار، والائتمان المحدود. سيتذكّر بعضكم أن شومبيتر صنّف الدورات الاقتصادية إلى ثلاثة أنواع، واطلق على كلٍّ منها اسم باحث سابق في هذه الظواهر: "الدورة الكيتشنية Kitchins" (دورات مخزونية قصيرة جداً)؛ "الدورة الجوغلرية Juglars" (أي ما يعتقد معظم الكتّاب أنه الدورة الاقتصادية)؛ و"الدورة الكوندراتيفية Kondratieffs" (دورة مفترضة مدتها نحو خمسين عاماً، آمن شومبيتر بواقعيتها). وقد وصف تجربة الثلاثينيات بأنها "دورة جوغلرية مخيّبة للآمال". لماذا؟

رفض شومبيتر نظرية هانسن عن تلاشي فرص الاستثمار، وألقى باللوم على المناخ المناهض للمشاريع في تلك الفترة، والذي كان يعتقد أنه نتيجة ثانوية حتمية للتطوّر الرأسمالي. وهو ما يمكن أن يُطلَق عليه، بمعنى آخر، "نظرية الصفقة الجديدة للركود"، وقد تبنّاها بشكل أو بآخر معظم المحافظين السياسيين. لكن شومبيتر، كما كان معتاداً، أعطاها لمسة خاصّة: بالنسبة له لم يكن جوهر الأمر في المحتوى التشريعي للصفقة الجديدة - الذي أدرك أنه متوافق مع الأداء الطبيعي للرأسمالية - بقدر ما كان الأفراد الذين أداروا التشريع وهو ما اعتبره الروح المعادية للمشاريع التي تصرّفوا بها. كان يعتقد أن لهذه العوامل تأثير قمعي ومثبط على ثقة روّاد الأعمال وتفاؤلهم، ما أدّى إلى تبديد آمالهم في المستقبل وإعاقة أنشطتهم الاستثمارية في الوقت الحاضر.

لم يكن صدفة ازدهار هذا الجدل حول الركود في أعقاب التدهور الدوري الحادّ بين العامين 1937 و1938. قبل ذلك، كان من المنطقي أن نأمل استمرار الانتعاش الطويل الذي بدأ في العام 1933 في إنتاج الطاقة والتوظيف الكامل. لذلك جاء الانكماش بمثابة صدمة كبيرة. مع ارتفاع معدّل البطالة إلى 19% في العام 1938 وثباته على مستوى يتجاوز الـ 17% في العام 1939، لم يعد من الممكن إنكار الواقع الكئيب للركود. كان كتاب هانسن في العام 1938، وردّ شومبيتر في العام التالي مجرّد لمحة على ما أصبح واحداً من الخلافات الكلاسيكية في تاريخ الفكر الاقتصادي. لم يكن الاقتصاديون وحدهم من شاركوا فيه، فقد عيّن فرانكلين ديلانو روزفلت - الذي كان يأمل في حدوث صفقة جديدة لكن أفسدتها كارثة اقتصادية غير متوقعة - لجنة اقتصادية وطنية مؤقتة رفيعة المستوى (TNEC) لاكتشاف الخطأ الواقع وما يمكن فعله. لكن قبل إعلان اللجنة عن نتائجها (الهزيلة للغاية)، اندلعت الحرب العالمية الثانية. وبين ليلة وضحاها، اختفى موضوع الركود بالكامل، ولم يتمّ إحياؤه أبداً.

بعد الحرب، في العام 1952، نُشِرت دراسة جادّة وهامّة عن هذا الموضوع في إنكلترا بعنوان "النضوج والركود في الرأسمالية الأميركية" من إعداد جوزيف شتايندل، وهو لاجئ نمساوي قضى سنوات الحرب في معهد أكسفورد للإحصاء. إلّا أن علم الاقتصاد تجاهل الأمر، وبدا أن الفترة الطويلة للتوسّع الرأسمالي بعد الحرب، والتي تزامنت مع وقت نشِر الكتاب، نقلت "إشكالية" الركود إلى عالم الغرائب التاريخية.

هذه قوى مهمّة تتصدّى للركود طالما بقيت موجودة، ولكن هناك خطر دائم من أن يؤدّي القضاء عليها إلى اندلاع حالة ذعر من الطراز القديم والذي لم نشهده منذ فترة 1929-1933مع ذلك، أظهرت الأحداث الأخيرة أن "دفن" الركود كان، على أقل تقدير، سابقاً لأوانه. لا أحتاج إلى تذكيركم أنه بحلول منتصف السبعينيات ظهرت المشكلة مجدّداً، وهذه المرة مع تطوّر جديد عُبِّر عنه بمصطلح "الركود التضخّمي". قد يكون تاريخ بروزه محل جدال ونقاش؛ ربما كان ذلك في أواخر خمسينيات القرن الماضي، إلّا أن حرب فيتنام شكّلت عامل تأجيل مؤقّت، أو ربّما في أوائل السبعينيات، في أعقاب أزمة الائتمان في بنسلفانيا المركزية وتخلّي نيكسون عن قاعدة الذهب وتجربة تحديد الأجور والأسعار القصيرة الأمد، أو ربّما تعود إلى ركود العامين 1974 و1975. على أي حال، أظهر النصف الثاني من السبعينيات هذه الظاهرة في شكلها الجديد، أي الركود التضخّمي، الذي يمكن أن يراه الجميع. وقد يكون هناك قليل من الشكّ في أن الأمور تزداد سوءاً منذ ذلك الحين كما تبيّن مجموعتان من الحقائق. أولاً، من المتوقّع أن تصل البطالة في العالم الرأسمالي المتقدّم (24 دولة من دول منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية) إلى 30 مليوناً هذا العام، أي بنسبة تُقدّر بنحو 10% من إجمالي القوى العاملة (مع أرقام أعلى بكثير بين النساء والشباب والأقلّيات). وثانياً، شهدت الولايات المتحدة ركوداً اقتصادياً في سنوات متتالية، ومن المحتمل جدّاً أن يتحوّل الركود الحالي إلى كساد واسع النطاق. لا يعني ذلك أن أولئك الذين يتوقّعون حدوث انتعاش في المستقبل القريب هم مخطئون بالضرورة. لقد كان هناك انتعاش قصير في العام 1930، وبالطبع انتعاش طويل ألمحنا إليه بالفعل بين العامين 1933 و1937: الصعودات والهبوطات حول الاتجاه، الذي قد يكون بذاته صعودياً أو هبوطياً، ليست ممكنة فحسب بل حتمية.

لا أدّعي أنني مواكبٌ ومُطلع على أحدث الأدبيات الاقتصادية، ولكن لديّ انطباع بأن علم الاقتصاد لم يستأنف بعد النقاش حول الركود الذي انقطع فجأة بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية. لدي شعورٌ بأنك إذا سألت خبيراً اقتصادياً عن كيفيّة دخولنا في الفوضى التي نحن فيها، سوف يرد، مع عدم إنكاره بأنها فوضى، بإعطاء نصائح حول كيفية الخروج منها، ولكنّه لن يقول شيئاً مفيداً حول أسباب دخولنا إليها. ومن الأمثلة الجيّدة على ذلك ليونارد سيلك، المُحرِّر الاقتصادي المُطلع في صحيفة نيويورك تايمز، الذي أكّد في العديد من أعمدته مؤخّراً على هشاشة الوضع الاقتصادي الحالي، وانتقد سياسات إدارة ريغان، واقترح طرقاً أفضل لإدارة الاقتصاد. وفي أحد هذه الأعمدة - في قسم "الأعمال" في جريدة ذا صنداي الصادرة في 14 آذار/مارس - ضمّن الكثير من المواد والخلفيّات التي تركّز على خمسة مخطّطات تعود إلى العام 1965، ما يدلّ على أن جذور المشكلة تعود إلى زمنٍ بعيد. كان عنوان المقال مثيراً للاهتمام: "ما يحدث ليس كساداً. إنّها حالة مُزمنة من البطالة والركود الصناعي. الحكومة هي من تسبّبت فيها". للوهلة الأولى، قد يبدو هذا وصفاً للركود وتفسيراً له. لكن إذا قرأت المقال، فلن تجد الكثير من التفسير. هذا ليس مُفاجئاً نظراً لوجود خمس إدارات مختلفة منذ العام 1965 مع مجموعة متنوّعة من الأيديولوجيات والسياسات، ويبدو أنه من غير المرجّح أن يتمكّن المرء من استخلاص كيان واحد من هذه التجربة يستحق اسم "حكومة" لنلقي اللوم عليه. ولا يحاول ليونارد سيلك فعل ذلك حقاً. لا بل يشكّ المرء في أنّ أحد المُحرِّرين كتب العنوان الرئيسي على عجلة من دون قراءة المقال بعناية.

لذلك لا يزال سؤالنا قائماً: "لماذا الركود؟" لقد تمّ طرحه في الثلاثينيات ثم إغفاله من دون تقديم أي إجابة مُرضية. والآن يعيد الواقع طرحه مرّة أخرى. وأعتقد أنّ الوقت قد حان لقبول التحدّي واستئناف البحث عن إجابة.

تفسير الركود

أعتقد من الحكمة البدء من حيث بدأ هانسن في الثلاثينيات. لا تزال بنية الاقتصاد في كلٍّ من أبعادها المؤسّسية والفردية نفسها كما كانت قبل نصف قرن. لا تزال إمكانات الادخار هائلة، وتميل التغييرات التي حدثت إلى جعلها أكبر بدلاً من تقليلها في الفترة الفاصلة. زاد تركيز الشركات، وظل توزيع الدخل الفردي غير متكافئ إلى حدّ كبير. فضلاً عن ذلك، كانت التغييرات في الهيكل الضريبي مواتية أكثر للشركات والأثرياء. وكما هو الحال دائماً في ظل هذه الظروف، هناك حاجة إلى أداء استثماري قوي ومستدام لمنع الاقتصاد من الوقوع في الركود. وهذا بالضبط ما نفتقده منذ وقتٍ طويل، وخصوصاً في السنوات القليلة الماضية. لذا فإنّ السبب المباشر للركود حالياً هو نفسه في الثلاثينيات: ميلٌ قوي للادخار وميلٌ ضعيف للاستثمار.

اسمحوا لي بالاستطراد لأشير إلى أن الأداء العام للاقتصاد في السنوات الأخيرة لم يكن أسوأ بكثير مما كان عليه في الثلاثينيات، أو حتّى سيئاً بالقدر نفسه، ويعود ذلك بشكل رئيسي إلى ثلاثة أسباب: (1) الدور الأكبر للإنفاق الحكومي والعجز الحكومي؛ (2) النمو الهائل للديون الاستهلاكية، بما فيها الرهون العقارية، لا سيما خلال السبعينيات؛ و(3) تضخّم القطاع المالي للاقتصاد، الذي، بصرف النظر عن نمو الديون، ينعكس تضخماً في جميع أنواع المضاربات القديمة والجديدة، والتي بدورها تولّد ما هو أكثر من مجرّد تحسّن في القوة الشرائية، إنّما زيادة في الطلب على السلع الكمالية. هذه قوى مهمّة تتصدّى للركود طالما بقيت موجودة، ولكن هناك خطر دائم من أن يؤدّي القضاء عليها إلى اندلاع حالة ذعر من الطراز القديم الذي لم نشهده منذ فترة 1929-1933.

إن الحافز القوي للاستثمار ينتج عنه موجة من الاستثمار تقوِّض بدورها حافز الاستثمار. هذا هو سرّ الطفرة الطويلة التي أعقبت الحرب وعودة الركود في السبعينياتإذن نعود إلى حيث توقّف النقاش في الثلاثينيات: لماذا يكون الحافز للاستثمار ضعيفاً جداً؟ أعتقد أن إجابات هانسن باتت أقل - وليس أكثر-  إقناعاً ممّا كانت عليه عندما قدّمها للمرّة الأولى. وبالتأكيد لا يمكن اتباع مسار شومبيتر في إلقاء اللوم على السياسات المعادية للمشاريع، التي وفقاً له جعلت الرأسماليين يحجمون عن الاستثمار في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية، لا سيّما مع وجود إدارة مماثلة لما لدينا الآن في واشنطن. إذاً يجب أن ننظر في مكان آخر.

أقترح أن الإجابة تكمن في تحليل الفترة الطويلة - خمسة وعشرون عاماً أو نحو ذلك - التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، ولم نواجه خلالها مشكلة ركود. في الواقع خلال تلك الفترة كان حافز الاستثمار قوياً ومستداماً، وربّما كان سجل نمو الاقتصاد الأفضل بين الفترات المماثلة من تاريخ الرأسمالية. لماذا؟

يعود السبب برأيي إلى أن الحرب غيّرت معطيات الوضع الاقتصادي العالمي بطرق عزّزت بشكل كبير الحافز للاستثمار. وسأدرج بإيجاز العوامل الرئيسية: (1) الحاجة إلى إحداث ضرر كبير في زمن الحرب؛ (2) وجود طلب كبير محتمل على السلع والخدمات التي تم القضاء على إنتاجها أو خفِّض إنتاجها بشكل كبير خلال الحرب (المنازل والسيّارات والأجهزة وغيرها). لقد تراكمت قوة شرائية ضخمة خلال الحرب لدى الشركات والأفراد وكان بإمكانهم استخدامهم لتحويل الطلب المحتمل إلى طلب فعّال؛ (3) تأسيس الهيمنة الأميركية العالمية نتيجة الحرب حيث أصبح الدولار الأميركي أساس النظام النقدي الدولي، وتفكّكت كتل تجارة وعملات قبل الحرب، وهيِّئت الظروف لتحرّكات رأس المال الحرة نسبياً؛ وهي أشياء عملت على دعم توسّع هائل في التجارة الدولية؛ (4) الفوائد المدنية من التكنولوجيا العسكرية، وخصوصاً الإلكترونيات والطائرات النفاثة؛ و(5) قيام الولايات المتحدة ببناء صناعة ضخمة للأسلحة في زمن السلم، مدفوعة بحروب إقليمية كبرى في كوريا والهند الصينية. ومن الأمور المهمّة التي غالباً ما يتمّ التغاضي عنها هو أن هذه التغييرات انعكست في الوقت المناسب في تغيير جوهري في مناخ الأعمال. لم يتبدّد التشاؤم والحذر الموروثان من الثلاثينيات على الفور، ولكن عندما أصبح واضحاً أن طفرة ما بعد الحرب لها جذور أعمق بكثير من مجرّد إصلاح الأضرار والخسائر التي خلّفتها الحرب نفسها، تغيّر المزاج إلى حالة من التفاؤل على المدى الطويل. أُطلِقت طفرة استثمارية كبيرة في جميع الصناعات الأساسية للمجتمع الرأسمالي الحديث: الصلب، والسيارات، والطاقة، وبناء السفن، والمواد الكيميائية الثقيلة، وغيرها. وبنيت القدرات بسرعة في جميع البلدان الرأسمالية الرائدة وفي عدد قليل من البلدان الأكثر تقدّماً في العالم الثالث مثل المكسيك والبرازيل والهند وكوريا الجنوبية.

عند تتبّع أسباب عودة ظهور الركود في السبعينيات، فإن النقطة الحاسمة التي يجب وضعها في الاعتبار هي أن كل القوى التي دعمت التوسّع الطويل بعد الحرب كانت، ولا بد أن تكون، مقيدة ذاتياً. هذا في الواقع جزء من طبيعة الاستثمار: فهو لا يستجيب للطلب فحسب، بل يلبّيه أيضاً. أُصلِحت أضرار الحرب. ولبِّي الطلب المؤجّل منذ اندلاعها. إن بناء صناعات جديدة (بما في ذلك صناعة الأسلحة وقت السلم) تتطلب استثمارات أكثر بكثير من الحفاظ عليها. إن توسيع القدرة الصناعية ينتهي دائماً بخلق إفراط في العرض.

ولإيضاح الأمر بشكل مختلف، فإن الحافز القوي للاستثمار ينتج عنه موجة من الاستثمار، تقوِّض بدورها حافز الاستثمار. هذا هو سرّ الطفرة الطويلة التي أعقبت الحرب وعودة الركود في السبعينيات. عندما بدأ الازدهار في التلاشي، حورِب الركود لسنوات عدّة من خلال خلق المزيد من الديون على الصعيدين الوطني والدولي، والمزيد من المضاربات المحمومة، والمزيد من التضخم. والآن أصبحت هذه المسكّنات مُضرّة أكثر من كونها مفيدة، وأُضيفت إلى مشكلة الركود مشكلة الوضع المالي المتدهور بسرعة.

الدرس واضح بما فيه الكفاية: بدلاً من الانتظار حتّى تحدث معجزة أو كارثة لا يمكن إصلاحها، لقد حان الوقت لتكريس أفكارنا وطاقاتنا لاستبدال النظام الاقتصادي الحاليهل هذا يعني أنني أجادل أو أشير إلى أن الركود أصبح حالة دائمة؟ لا على الإطلاق. اعتقد بعض الناس - أرى من المنصف وضع هانسن في هذه الفئة - أن ركود الثلاثينيات وُجِد ليستمرّ وأنه لا يمكن التغلّب عليه إلّا من خلال التغييرات الأساسية في بنية الاقتصادات الرأسمالية المتقدّمة. لكنّهم، كما أثبتت التجربة، كانوا مخطئين، وأي حجّة مماثلة اليوم يمكن إثبات خطأها أيضاً. ولا أعتقد أن حرباً جديدة يمكن أن يكون لها النتائج نفسها كما المرّة السابقة - أو كما حدث على نطاق أقل بعد الحرب العالمية الأولى - إذا اندلعت حرب طاحنة بما يكفي لإحداث تأثير كبير على الاقتصاد، فمن المرجّح أن تتحوّل إلى حرب نووية، ولن يبقى بعدها سوى القليل لإعادة بنائه. لكن لا يستطيع أحدٌ التأكّد من عم وجود محفّزات جديدة للاستثمار، على سبيل المثال، كما قدّمتها الثورة الصناعية والسكك الحديدية والسيّارات في الأزمنة السابقة. ما يمكن قوله بكلّ تأكيد هو عدم وجود أمر مماثل في الأفق. لمن يفهم الأمر، الدرس واضح بما فيه الكفاية: بدلاً من الانتظار حتى تحدث معجزة، أو كارثة لا يمكن إصلاحها، لقد حان الوقت لتكريس أفكارنا وطاقاتنا لاستبدال النظام الاقتصادي الحالي بنظام يعمل لتلبية حاجات الإنسان لا أن يكون مجرّد نتيجة ثانوية لوجود أو عدم وجود فرص استثمارية جذّابة لحفنة من الرأسماليين غير المسؤولين اجتماعياً.

ملاحظات

اسمحوا لي أن أختم ببعض الملاحظات حول أهمّية التحليل السابق لموضوع يكرّس الاقتصاديون اهتماماً مُتزايداً به في السنوات القليلة الماضية، وهو ما إذا ما تميّز تاريخ الرأسمالية بدورة اقتصادية طويلة ممتدّة على خمسين عاماً، أو ما أسماه شومبيتر الدورة الكوندراتيفية. أولاً، يجب أن نكون واضحين بأنّ القضية لا تتعلّق بما إذا كان التطوّر الرأسمالي يحدث بطريقة غير مُتكافئة، وتتخلّله فترات من التوسّع السريع تليها فترات من التوسّع البطيء، والعكس صحيح، بما يُشار إليه غالباً على أنه موجات طويلة. مع ذلك، لا يمكن إنكار وجود موجات طويلة، ويمكن الاعتماد على براعة الإحصائيين الذين يتعاملون مع الكثير من المصادر الإحصائية المُحتملة لإثبات التسلسل الزمني لمعدّلات نمو متسارعة ومتأخّرة تتوافق مع وجود آليّة دورية أساسية.

لكن التوافق مع وجود آلية دورية يختلف تماماً عن إثبات وجود مثل هذه الآلية. وقبولنا بوجود دورات اقتصادية قصيرة نسبياً (أي دورات تقل مدّتها عن عشر سنوات، جوغلرية وكيتشنية) يعود إلى إمكانية توضيح الآليات العاملة بشكل تحليلي وكذلك التحقّق منها تجريبياً. تكمن النقطة المهمّة في القدرة على إثبات أن المرحلتين الأساسيتين من الدورة، وهما التوسّع والانكماش، هما البذرة لنموّ كلّ منهما. يكمن هذا المبدأ في جوهر جميع نظريات الدورات الاقتصادية الحديثة. ونقتبس هناك مما كان لفترة طويلة كتاباً نموذجياً حول هذا الموضوع:

تتكوّن الدورات الاقتصادية من تناوب مُتكرّر للتوسّع والانكماش في النشاط الاقتصادي الكلّي. يبدو أن الاقتصاد غير قادر على البقاء مستقرّاً، بحيث تفسح فترات التوسّع دائماً وفي وقت قريب المجال لانخفاض الإنتاج والتوظيف. فضلاً عن ذلك، وهذا هو جوهر المشكلة، تعزّز كلّ حركة صعود أو هبوط نفسها ذاتياً. فهي تتغذّى من نفسها، وتخلق مزيداً من الحركة في الاتجاه نفسه، وبمجرّد أن تبدأ، فإنها تستمرّ في اتجاه مُعيّن إلى أن تتراكم القوى اللازمة لعكس الاتجاه. (روبرت غوردون، التقلّبات الاقتصادية، نيويورك، 1952، 214)

والعبارة الرئيسية هنا هي "إلى أن تتراكم القوى اللازمة لعكس الاتجاه". يحدث هذا في كلّ من مرحلتيّ التوسّع والانكماش للدورة الاقتصادية العادية، لكن التناظر ينهار عندما يتعلّق الأمر بالموجات الطويلة. وكما أشرنا بالفعل في حالة التوسّع الطويل الذي أعقب الحرب العالمية الثانية، فإن الانعكاس يحدث بالفعل، لأن من طبيعة الطفرة الاستثمارية أن تستنفد نفسها. لكن من الواضح من تجارب الثلاثينيات والسبعينيات أنّ الموجة الطويلة من مرحلة الركود لا تولّد "قوى انعكاسية". وإذا ظهرت هذه القوى، أو عندما تظهر، فإنها لا تنشأ في المنطق الداخلي للاقتصاد، ولكن في السياق التاريخي الأوسع الذي يعمل فيه الاقتصاد. لقد أنهت الحرب العالمية الثانية ركود الثلاثينيات، لكننا لا نزال لا نعرف ما الذي سينهي ركود السبعينيات والثمانينيات، أو كيف ستكون النهاية.

نُشِر هذا المقال في The monthly Review في العام 1982