تغيّر في المنظومة؟

  • يتطلّب استيعاب النظام الاقتصادي العالمي الناشئ أنّ نزوِّد المقاربة المشهورة لهيون سونغ شين للعولمة المالية، والمعروفة بـ "شبكة الميزانيّات"، بعدساتٍ ترى نظام الدولار العالمي كشبكة من الهيمنة النقدية والعسكرية والقانونية.
     
  • مصادرة مجموعة السبع لاحتياطيات روسيا الأجنبية ستدفع الصين إلى إعادة النظر في استراتيجية مراكمة الاحتياطي الأجنبي بالدولار واليورو، وقد تعجِّل من تدويل أسواق الرينمينبي، وتحفِّز الدول للتحوّل من منظومة سويفت إلى منظومة كيبس.
     
  • الإدارة الأميركية قادرة على وقف تحويل العولمة إلى سلاح، لكن هذا سيتطلّب منها تحوّلاً في الاستراتيجية، بعيداً من "دعم الأصدقاء" عن طريق التحالفات العسكرية والنقدية، صوب تعدّدية جديدة حقيقية في العلاقات النقدية الدولية.

كان تجميد أصول البنك المركزي الروسي محور الصدمة والترويع في الردّ الاقتصادي الغربي على غزو روسيا لأوكرانيا وقصفها. كتب كبير استراتيجيي بنك كريدي سويس الاستثماري، زولتان بوزار، في عدد 7 آذار/مارس من نشرته "Global Money Dispatch" أنَّ مصادرة احتياطيات العملة الأجنبية لروسيا يمثِّل تغيُّراً في منظومة النظام النقدي العالمي، وسمّى هذه المنظومة الجديدة "بريتون وودز 3". يتوقَّعُ بوزار أن تنأى الدول الآسيوية بفوائضها المالية بعيداً من متناول السلطات المالية الغربية، يدفعها إلى ذلك خوفها من تعريض احتياطياتها الأجنبية المقوَّمة بالدولار واليورو لخطر المصادرة حال نشوب نزاعات مستقبلية بشأن السياسة الخارجية. وبحسب بوزار، يؤذن هذا بصعود "العملات المدعومة بالسلع في الشرق" وينذر بدنو مشهد نهاية هيمنة الدولار.

تكهن بوزار، في مادة لاحقة نشرها في 31 آذار/مارس، بأنَّ التطوّرات الأخيرة ستدفع الصين لتحل محل الغرب بصفة المشتري الأخير للنفط الروسي. وبالنتيجة، يتعيّن إعادة توجيه ناقلات النفط من المسار الأسرع بين الشرق والغرب عبر قناة السويس إلى مسارٍ أطول من روسيا إلى الصين (يتطلّب معه النقل من سفينة إلى أخرى). سيرسم الجيوبوليتيك معالم إعادة تنظيم شبكات البنية التحتية، ما يُبطّئ سلاسل التوريد ويرفع من كلفة الائتمان. ويتنبأ بوزار بأنّ إعادة تنظيم حركة السلع والمال هذه تنذر بنظامٍ اقتصادي عالمي جديد تحلّ فيه الصين محل الولايات المتّحدة في الهيمنة النقدية، والبترو يوان محل البترو دولار.

لا يغيب عن تحليل بوزار، كذا عن ردّ آدم توز عليه، إدراك التفاوت في الاقتصاد العالمي، بين اقتصاداتٍ متقدّمة تُهيمن على التمويل العالمي وبلدانٍ نامية تنتج غالبية الناتج المحلّي الإجمالي العالمي (نحو 60% منه). قد تكون آسيا مركز التصنيع العالمي، لكنّ الشركات الأوروبية والأميركية الشمالية لا تزال تستأثر بالجزء الأكبر من أرباح سلاسل التوريد العالمية. ومن المستبعد حلّ هذا التوتر في الاقتصاد العالمي في وقتٍ قريب، لا بل ستزداد حدّته. إذ إنَّ الإدارة الديمقراطية الحالية لم تعمل إلّا على تعزيز سياسة الإدارة الجمهورية السابقة في تسليح التجارة. ويتجسّد هذا المزاج الجديد في الخطاب الأخير لوزيرة الخزانة الأميركية، جانيت يلين، الذي دعت فيه إلى "تعزيز تحالفات سلاسل التوريد مع الأصدقاء"، بمعنى تعزيز الولايات المتّحدة لعلاقاتها التجارية مع دولٍ تشترك معها في المصالح الاستراتيجية والقيم وقطعها مع الباقي. دعت يلين في خطابها أيضاً إلى تنشيط اتفاقية بريتون وودز استناداً إلى وجهة نظرها القائلة إنَّ النظام الاقتصادي الدولاري "يفيدنا جميعًا".

يتطلّب استيعاب هذا النظام الاقتصادي العالمي الناشئ أنّ نزوِّد المقاربة المشهورة لهيون سونغ شين للعولمة المالية، والمعروفة بـ"شبكة الميزانيّات"، بعدساتٍ ترى نظام الدولار العالمي كشبكة من الهيمنة النقدية والعسكرية والقانونية. ونحن اليوم نشهد تبلور فصلٍ جديد في هذا النظام - لئن بلغنا عصراً جديداً يدعى بريتون وودز 3، فإنَّه الشكل الأكثر تسليحاً من نظام الدولار العالمي لغاية تاريخه.

بريتون وودز 1

فرِضت بريتون وودز 1، من العام 1952 إلى العام 1973، إخضاع العملات للدولار. فقد تطلّب الحصول على الذهب تحويل العملات الأخرى، الجنيه الإسترليني مثلًا أو الفرنك الفرنسي، إلى دولارات وهذه وحدها كانت تقبل التحويل إلى ذهب. وعلى هذا الأساس، توقّفت هيمنة الدولار على استقرار سعر صرفه مقابل الذهب، وقد عنى هذا الحدّ من المعروض الدولاري، إذْ يمكن طباعة الدولار بسهولة مقارنة بإنتاج الذهب، السلعة النادرة. مع الطلب المتزايد على الدولار في الستينيات، بات من الصعب الحفاظ على معدل ثابت بين الدولار والذهب، ليعمد الرئيس نيكسون في آب/أغسطس 1971 إلى الفصل بينهما خوفاً من انهيار الدولار. فما عاد بإمكان حامل الدولارات الذهاب إلى البنك وتحويل أمواله إلى ذهب. لقد انتهى عملياً النظام النقدي الدولي المعروف ببريتون وودز.

اقترن قرار نيكسون بالتلويح بفرض عقوبات تجارية ما لم يرفع الأوروبيون قيمة عملاتهم لجعل الصادرات الأميركية أرخص وأكثر جاذبية في السوق العالمية. آنذاك، توجّه وزير خزانة نيكسون، جون كونالي، إلى نظرائه في مجموعة العشر بمقولته الشهيرة: "الدولار عملتنا، لكنّه مشكلتكم". لقد تسبّب تخلّي الولايات المتّحدة عن إدارتها للدولار العالمي باضطرابٍ اقتصادي تميّز بارتفاع التضخّم والبطالة استمرّ لما يزيد عن العقد.

حين انفجرت فقّاعة مالية هائلة في مركز نظام الدولار العالمي في العام 2007، صارت تدخّلات الوقاية من الأزمة جزءاً لا يتجزّأ من صلاحيات البنك الفيدرالي وشعاره الجديد

يشبِّه بوزار اللحظة الحالية بذاك الاختلال الهيكلي في المنظومات النقدية. بيد أنّنا لسنا في العام 1971. وإذْ بدا أنَّ الأسواق لم تتأثّر في الأسبوع الأول من الحرب الروسية على أوكرانيا، على حدّ تعبير رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، فذلك "لأنَّنا مأسسنا توفير السيولة". كان باول يشير إلى خطوط المبادلة في الاحتياطي الفيدرالي وتسهيلات إعادة شراء أذون الخزانة - وهذه صارت ممارسة دائمة في الصيف الماضي - المستعدّين بشكل تامّ لمدّ البنوك المركزية الأجنبية وأسواق المال بالدولار عند اضطراب السوق. بالمقارنة مع سيل التدفّقات المالية الخارجية من الصين، واتساع هوامش الديون السيادية في الأطراف الأوروبية بعد أيامٍ من الحرب الأوكرانية، بدا تعزيز الدولار وتوقّعات التضخّم في الولايات المتحدة أمراً حتمياً بسبب تأكيدات الاحتياطي الفيدرالي بأنَّه سيحقّق الاستقرار في أسواق التمويل الدولاري بصفته تاجر الملجأ الأخير.

يتمتّع الاحتياطي الفيدرالي ووزارة الخزانة الأميركية بسلطةٍ لا مثيل لها على النظام المالي العالمي بصفتهما أوصياء على الدولار، بحكم طبعهما له وإصداره وإجراء عمليات المقاصة بين المدفوعات وتسويتها. إنَّ نظاماً مالياً عالمياً لا متكافئاً تدعمه عملة واحدة يغذّي عدم الاستقرار. لقد تسبّب ترك العملة العالمية لتقلبات أسواق العملات العالمية بعقودٍ من الأزمات المالية، اندلع معظمها في أطراف النظام المالي. لكن حين انفجرت فقّاعة مالية هائلة في مركز نظام الدولار العالمي في العام 2007، صارت تدخّلات الوقاية من الأزمة جزءاً لا يتجزأ من صلاحيات البنك الفيدرالي. صارت السياسة التدخلية شعاره الجديد.

إذا كانت العقوبات القبضة الحديدية لنظام الدولار العالمي، فإنَّ خطوط المبادلة قفازه المخملي. إبان الأزمتين الماليتين العالميتين السابقتين، أُتيحَت خطوط مبادلة البنك الفيدرالي مع البنوك المركزية الأجنبية - البالغة زهاء تريليون دولار في 2008 ونصف تريليون في 2020 - لاثني عشر بنكاً مركزياً. وفي أعقاب الأزمة المالية العالمية في 2008، عاد الدولار أقوى من ذي قبل كعملة احتياطي عالمية وعملة تبادل تجاري. وبعد العام 2008، باتت الدورة المالية العالمية للدولار تعني أنَّ الدولار يُملي التقلّبات في التجارة العالمية والإقراض الدولي وعوائد سوق الأسهم والنمو العالمي. وبات على الدول المفتقرة إلى الاستقلال المالي والنقدي تحمُّل قيود أشدّ في الميزانية وتقلّبات أزيد في دورات الأعمال، وفي أوقات أزمات التخلّف عن سداد الديون السيادية. لقد صارت البنية النقدية للهيمنة الأميركية أشمل وأقوى من ذي قبل.

بريتون وودز 2

لا ريب أنَّ مصادرة مجموعة السبع لاحتياطيات روسيا الأجنبية ستدفع الصين إلى إعادة النظر في استراتيجية مراكمة الاحتياطي الأجنبي بالدولار واليورو. وقد تعجل هذه المصادرة من تدويل أسواق الرينمينبي، وتحفّز الدول للتحوّل من منظومة سويفت إلى منظومة كيبس، وهي منظومة صينية أقل استخداماً من سويفت تنظِّم المدفوعات بين الدول وتشمل مئة دولة. لكن في الوقت الحالي، لا تزال الصين تحت عباءة المنظومة المالية الأميركية. ولا يزال اقتراضها بالدولار بغالبيته، سواء مشترياتها من سندات الخزانة الأميركية أو القروض المموِّلة لمبادرة الحزام والطريق. وعلى الرغم من جميع الأحاديث عن الاصطفاف الروسي الصيني ضد القوى الغربية، يبدو أنَّ الصين في الوقت الراهن تمنع تمويل مبيعات النفط الروسي بغية تجنّب تبعات العقوبات الأميركية. إنَّ العوامل الخارجية صاحبة تأثير قوي في الاقتصاد.

وفي حين يرى بوزار أنّ بنك الشعب الصيني "بوسعه الرقص على إيقاعه الخاص"، فإنّ الصين لا تستطيع الفكاك من حقيقة أنّ الاقتصاد العالمي لا يزال يرقص على إيقاع الدولار. فجل الاحتياطيات العالمية للحكومات، والتجارة العالمية والدين الدولي، مقوّمة بالدولار. وتعتمد أسواق الاقتصادات الناشئة على مستهلكي الدول المتقدّمة لشراء ما تصنعه. وتراكمُ الدول عائدات صادراتها في أصول مالية مقوّمة بالدولار واليورو. ومنذ أواخر التسعينيات، تميزَ الاقتصاد العالمي بوجود دول مُصدِّرة تربط عملاتها بالدولار، فكانت تضع أرباح صادراتها في الاحتياطيات الأجنبية المقوّمة بالدولار والصناديق السيادية المموَّلة من مصدِّري المصنوعات والسلع الأساسية. وقد أطلق مايكل دولي وبيتر غاربر على هذه الترتيبات مسمى "بريتون وودز 2"، ومعناها مبادلة مخاطر ائتمانية تكون بموجبها الاحتياطيات السيادية المقوّمة بالدولار بمثابة ضمان لتأمين استثمار الشركات المتعدّدة الجنسيات في الدول الشيوعية سابقاً مثل الصين.

العوامل الخارجية صاحبة تأثير قوي في الاقتصاد، إذ على الرغم من جميع الأحاديث عن الاصطفاف الروسي الصيني ضدّ القوى الغربية، يبدو أنّ الصين في الوقت الراهن تمنع تمويل مبيعات النفط الروسي بغية تجنّب تبعات العقوبات الأميركية.

افترضت فرضية بريتون وودز 2 استقرار التراتب المالي العالمي. راكمت الصين في احتياطياتها من العملة الأجنبية ما يزيد على 3.5 تريليون دولار، والحال أنّ جزءاً من هذا المبلغ كان من الممكن إنفاقه على تحسين الرعاية الاجتماعية للمواطن الصيني. بعد عقدين، لا يزال تدعيم الدولار مستمراً بفعل المراكمة الهائلة للأصول المقوّمة بالدولار. لكنّ السؤال: أما زالت البنوك المركزية الأجنبية على استعداد لتحمُّل المخاطر المُفرطة لشراء كمّيات كبيرة من سندات الدين الأميركية أو الأوروبية في وقتٍ يستعرض فيه مُصدِر العملة الصعبة قدرته على مصادرة احتياطياتها من العملة الأجنبية؟

يؤكّد دولي وغاربر وديفيد فولكيرتس-لانداو، في ورقةٍ جديدة، أنّ الأحداث الحالية تُثبِت أطروحتهم عن بريتون وودز 2. فمن منظورهم، ليست العقوبات مبرّرة فحسب، بل النتيجة "الطبيعية" حال نقضت الدول "العقد الاجتماعي العالمي". وهكذا، يجب مصادرة الضمان إذا أساءت الجهة التصرّف. و"الحجز" على الأصول الروسية، من منظورهم، بمثابة مثال للدول الأخرى على أنّ الولايات المتحدة قادرة على ممارسة سلطتها لانتزاع الأصول الدولارية. ويرون أنّ المصادرات ستذكِّر الاقتصادات "الخطيرة جيوسياسياً" بأنّ عليها تقديم المزيد من الضمانات لتشارك في سلاسل التوريد العالمية.

يغامر بوزار بالقول إنّ الصين لن تستمرّ في الحفاظ على تفوّق الدولار عالمياً، وأنّ الدول في الشرق ستربط عملاتها بالسلع بدلاً من الدولار لأسباب عدّة، منها ندرة الموارد لمواجهة التغيّر المناخي والحاجة الماسّة إلى السلع في البنية التحتية الخضراء. لكنّه يغفَل عن ذكر أنّ الولايات المتّحدة، على العكس من الصين، منتِجٌ رئيس للنفط والغاز. وللمفارقة، صبّت الحرب في مصلحة صناعة الوقود الأحفوري الأميركية. فقد اقترن السحب غير المسبوق من الاحتياطي البترولي الاستراتيجي الأميركي، لتخفيف اضطرابات المعروض بسبب الحرب، بالتهديد بفرض جزاءات على الشركات الأميركية التي تمتنع عن زيادة عمليات التنقيب. كما أنّ قوة العمل المشتركة مع المفوضية الأوروبية (الرامية إلى تحقيق ما يُسمّى الأمن الطاقوي من خلال فطم أوروبا عن الطاقة الروسية) التي أعلنتها إدارة بايدن مؤخراً لا عمل لها سوى أن تضمن سوقاً أوروبية أكبر للغاز المُسال الأميركي حتى العام 2030 على أقل تقدير. يمثِّل الالتزام بتأمين عقود طاقة لموردي الغاز المسال الأميركيين تحولاً شاملاً في أوروبا التي كانت قد أوقفت عقود الغاز الأميركي بسبب مخاوف بيئية. إنَّ هذه الزيادة في صادرات الغاز الأميركي إلى أوروبا ليست سوى مؤشّراً على كيفية توجّه الولايات المتحدة للخروج من الأزمة الحالية أقوى.

تحمل وجهات النظر الساذجة إزاء بريتون وودز نظرة إيجابية لهيمنة الدولار، لكن النقد العالمي كان على الدوام مسألة جيوسياسية.

تحويل النقد العالمي إلى سلاح

تحمل وجهات النظر الساذجة إزاء بريتون وودز نظرة إيجابية لهيمنة الدولار، لكن النقد العالمي كان على الدوام مسألة جيوسياسية.

في أواسط القرن العشرين، كان الجنيه الإسترليني لا يزال يموّل قرابة نصف التجارة العالمية. وكان النفط المستخرَج من الآبار الإيرانية بواسطة الشركات البريطانية يُباع بالجنيه الإسترليني. في العام 1950، أمرت الحكومة البريطانية أعضاء منطقة الإسترليني - كتلة عملتها الاستعمارية التي فرضت على حكوماتها الأعضاء إيداع أرباحها بالعملة الصعبة في لندن - بتقليل مشترياتهم من النفط الدولاري المُنتَج من شركاتٍ أميركية وشراء "النفط الإسترليني" عوضاً عنه. وقد أُجبِرَت مصر، على الرغم من خروجها من الكومنولث، على اتباع هذه التوجيهات. عندما طالبت مصر، عند خروجها من الاتحاد الاستعماري، بتحويل رصيدها من الجنيه الإسترليني إلى دولار، خرقت المملكة المتّحدة اتفاقها مع مصر وأوقفت قابلية تحويل الجنيه الإسترليني على غرار ما فعلت من قبل مع احتياطيات الهند من العملة الأجنبية. في العام 1951، حين أمَّم مصدق أصول شركة النفط الأنغلو إيرانية، فرضت بريطانيا حصاراً جزائياً على إيران. وبحلول العام 1953، أطاحت عملية استخبارية مشتركة بين المخابرات الأميركية والبريطانية بمصدق. وفي العام 1956، حين أمَّم جمال عبد الناصر شركة قناة السويس (البريطانية الفرنسية)، معرقلاً بذلك حركة النفط الإسترليني عبر البحر الأبيض المتوسط، احتلّت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل قناة السويس.

منذ العام 1950، كانت قرابة نصف العقوبات العالمية مفروضة من جانب الولايات المتحدة. اقتصادٌ مثل الاقتصاد الإيراني - فرض عليه الرئيس جيمي كارتر عقوبات في العام 1979- حُرِمَ لعقود من المشاركة الكاملة في الاقتصاد العالمي. لقد جلبت عولمة التسعينيات معها زيادةً في العقوبات، وتلتها زيادة أخرى في أعقاب الأزمة المالية العالمية في 2008. إحدى السمات المميّزة للعقوبات أنَّها أحادية الجانب، إذْ تفرضها في الغالب دول أوروبية على شعوب إفريقية.

تمثِّل العقوبات،التي تفرضها الدول الأقوى على الأضعف، الجانب القسري القبيح من الاقتصاد العالمي. وليس بجديد على القوى الغربية أن تصادر أصول بنكٍ مركزي لدولة أخرى. ففي العام 2018، حجز بنك إنكلترا مليار دولار من الذهب الفنزويلي المحتفظ به في خزائنه، على الرغم من قوانين الحصانة السيادية الأجنبية في القانون الأميركي والبريطاني التي تنصّ بوضوح على الاستثناء السيادي، أي الحصانة من مصادرة الأصول.

كان الانسحاب الأميركي من أفغانستان بمثابة اختبار لاستخدام إدارة بايدن للعقوبات كسلاح اقتصادي. فقد أوقفَ سحب بايدن للقوات الأميركية في آب/أغسطس 2021 شحنات الدولار إلى كابول، بعدما كانت تصل أسبوعياً محمولةً بالطائرات. تعتمد الاقتصادات ذات الأنظمة الائتمانية والمصرفية الضعيفة على الكاش، والدولار كاش بكل معنى الكلمة. هكذا، أعقب الانسحاب العسكري حرباً نقدية. منعت وزارة الخزانة الأميركية، بفرضها عقوبات مالية على حكومة طالبان الجديدة، المصرفَ المركزي الأفغاني من الوصول إلى احتياطياته من النقد الأجنبي الموجودة في الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك. تعتمد أفغانستان على بيع الدولارات بالمزاد العلني لتحديد سياستها النقدية، ومع العقوبات توقّف عمل بنكها المركزي لتندلع عندها أزمة مصرفية. مع اختفاء الدولارات، انهار الاقتصاد الأفغاني. وفي شباط/فبراير 2022، جمَّدت إدارة بايدن، باستخدامها قانون الصلاحيات الاقتصادية الطارئة الدولي، احتياطيات النقد الأجنبي الأفغانية المُحتفظ بها في الاحتياطي الفيدرالي. لكن في وقت لاحقٍ من ذلك الشهر، وفي ضوء المجاعة المتفاقمة في البلاد، خفّفت الولايات المتّحدة بعض عقوباتها.

شهدت الشهور القليلة الماضية تمدّد هذه الحرب الاقتصادية. فقد ضمّت مجموعة العقوبات الأميركية ضدّ روسيا حظر المؤسسات المالية الروسية من تحويل المدفوعات والمقاصة عبر البنية المالية مثل سويفت، ومصادرة الأصول الخارجية لبوتين وأتباعه. صارت هذه الإجراءات ممكنة بفعل الظلال القانونية للصلاحيات الطارئة التي يعود استخدامها إلى قانون باتريوت الأميركي لعام 2001. كذا أسفرت الحرب الاقتصادية عن موجة من التدخّلات الدبلوماسية التي شملت إرسال مبعوثين أميركيين إلى فنزويلا للتفاوض بشأن إعادة ضخّ احتياطياتها النفطية في الأسواق العالمية (الأمر الذي يتطلّب رفع العقوبات الأميركية عن البلاد)؛ وتملّق أعضاء أوبك لإنتاج المزيد من النفط للحدّ من ارتفاع أسعار الطاقة؛ وبيان مجموعة السبع الذي التزمت فيه الولايات المتّحدة إلى جانب أوروبا بفرض سقف سعري على الوقود الأحفوري إذا لزم الأمر؛ وإرسال نائب مستشار الأمن القومي الأميركي ومهندس العقوبات، داليب سينغ، إلى الهند لتوبيخ حكومتها على شرائها النفط الروسي المخفض (لم يوجَّه مثل هذا الغضب للألمان الذين استمروا في شراء الطاقة الروسية). وقد تجسّدت بعض تحرّكات إدارة بايدن في الضغط على الدول المنتجة للنفط لزيادة الإنتاج مع طمأنة مواطني مجموعة السبع أنَّ الاستقلال الطاقوي مرتبط بشكل وثيق بالطاقة النظيفة على المدى الطويل، وتشريع لوائح جديدة بشأن العملة المشفّرة، والمضي قدماً في الدولار الرقمي المدعوم من الاحتياطي الفيدرالي. جاءت هذه الجهود الهرقلية لتحقيق الاستقرار في نظام البترودولار عقب معضلة سياساتية تواجه الاحتياطي الفيدرالي، إذْ قد يترتب على سعيه للحدّ من التضخّم عبر رفع أسعار الفائدة تأثيرٌ سلبي في الاقتصاد العالمي.

كانت العقوبات المالية على روسيا من حيث حجمها ونطاقها وطبيعتها المتغيّرة تكتيكياً بمثابة ضربة للاقتصاد الروسي القائم على الريع، إذ استهدفت في البداية أكبر مصرفَيْن في روسيا واستثنت صادرات الطاقة الروسية ثم شملت مصادرة الاحتياطيات الأجنبية للمصرف المركزي الروسي وحظراً أميركياً على واردات البترول الروسي. لقد تشكّل هذا الاقتصاد على وقع العلاج بالصدمة الأميركي الذي تسبّب بانهيار الروبل في العام 1998. وتتالت العقوبات إلى أن وصلت حدّ إزالة سندات الاستثمار الروسية من ثلاث مؤشّرات رئيسة في أسواق السندات. وقد زاد من وتيرة السقوط الحرّ للاقتصاد الروسي مغادرة الشركات الغربية للبلاد، بما فيها بريتيش بتروليوم أكبر مستثمر أجنبي في روسيا.

نخضع جميعاً لهذا النظام الاقتصادي الجديد غير واضح المعالم بعد - قد نسميه "بريتون وودز 3" - الذي يتميّز بعدوانية الدولار وتحويل الاقتصاد العالمي إلى سلاح

ومع أنَّ ضوابط رأس المال ورفع أسعار الفائدة من جانب البنك المركزي الروسي قد انتشلت الروبل من انهياره في الأيام الأولى من حرب أوكرانيا، ونأت به عن البنية المالية العالمية، إلّا أنّ ديون روسيا الخارجية البالغة نحو 194 مليار دولار باتت صعبة التسييل. وافقت السلطات الأميركية على تنفيذ مدفوعات الفائدة الروسية الأخيرة، البالغة 117 مليون دولار، عبر المصارف الأميركية، لتجنّب التخلّف عن سداد الديون السيادية. لكن في 4 نيسان/إبريل، لم تسمح وزارة الخزانة الأميركية بتنفيذ نحو 600 مليون دولار من مدفوعات الفائدة والسداد على السندات الروسية. وأعلن مستشار الأمن القومي الأميركي، جايك سوليفان، أنَّ الولايات المتحدة لن تسمح لروسيا بعد الآن بسداد مدفوعات الدين عبر المصارف الأميركية. هذه النية الصريحة لدفع دولة "غير صديقة" إلى أزمة ديون سيادية تستحضر تلك اللحظة المفصلية في العام 1956 حين هدَّد أيزنهاور الحكومة البريطانية بأنّ الولايات المتحدة سوف تخفض قيمة السندات الإسترلينية ما لم تنسحب بريطانيا من السويس. كانت هذه الحادثة المثال الوحيد على عقوبات أميركية تحقّق الهدف المنشود منها في السياسة الخارجية.

بريتون وودز 3

على هذا النحو، يُبدي النظام الاقتصادي الآخذ في التكوّن زيادةً في استخدام الدولار كسلاح. إنّ مصادرة مجموعة السبع لأصول البنك المركزي الروسي غير مسبوقة من حيث حجمها، إذْ تُقدَّر الاحتياطيات الأجنبية الروسية في الخارج بمبلغ 300 مليار دولار، أي ضعفَي حجم نظيرتها الأفغانية. وتحتل روسيا المرتبة الثالثة بين منتجي النفط، وتنتج ما يزيد عن عُشر الإنتاج العالمي من النفط والغاز. وتودع بترودولاراتها في أسواق المال العالمية في الخارج. 80% من صفقات روسيا، قبل العقوبات كانت مع الخارج ونصف تجارتها يتم بالدولار. يمتلك رأسماليو روسيا الجامحونبالأصل Turbo-Capitalist والرأسمالية الجامحة مصطلح يُطلق على الرأسمالية وقد تحرّرت من القيود التنظيمية الحكومية ومن رقابة النقابات العمّالية وموظّفي شركاتها، لتمييزها عن مرحلة الخضوع للتنظيم والضغط النقابي والنشاط العمّالي. (المترجم، ويشار له لاحقًا بالحرف "م"). استثمارات بمليارات الدولارات في العواصم المالية العالمية، ولا يقتصر الأمر على ثروات شخصية في صورة عقارات في نايتسبريدج أو نوادي كرة قدم مثل تشيلسي - واجه الملياردير رومان أبراموفيتش مصاعب عند محاولته بيع هذا النادي بسبب العقوبات المفروضة عليه من الحكومة البريطانية - بل يشمل استثمارات في صناديق سيادية تُقرِض الأموال في أسواق المال اللندنية. أقرضت روسيا، بحسب بوزار، زهاء 200 مليار دولار في سوق المبادلات العالمية. (تُعدُّ لندن أحد أهم مراكز هذه السوق العالمية).

تكشف مصادرة مجموعة السبع المتناغمة لأصول روسيا عن كيفية اتحاد النظام الاقتصادي الغربي على مستوى التراتب النقدي العالمي. ويأتي هذا على حساب نهج تعدد الأطراف. إنَّ الموقف الحيادي لخمس وثلاثين اقتصاداً امتنعت عن التصويت على إدانة روسيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة معقّد، ويكشف عن الولاءات المتضاربة في وجه خطوط المعركة الآخذة في التشدد. أعرب داليب سينغ عن هذا الشعور بدقة أثناء رحلته الأخيرة إلى الهند: "لا خطوط حمر بين الأصدقاء. نحث جميع الدول، لا سيما حلفاءنا وشركاءنا، على عدم تأمين قنوات تدعم الروبل وتقوض النظام المالي الدولاري". تعيش ثلث دول العالم، معظمها من الجنوب، تحت العقوبات الأميركية. ويفاقم نقص إمدادات القمح والسلع الأخرى بسبب الحرب من حالة عدم الاستقرار في هذه البلدان. فقد أُعلِنَت حالة الطوارئ في سريلانكا والبيرو عقب اندلاع أعمال شغب إثر ارتفاع أسعار الوقود والغذاء.

تجسِّد هذه الحرب القانونية الاقتصادية أحد مكوّنات هذا المشهد المسلّح الجديد. ويجب النظر إلى نظام الدولار العالمي بحد ذاته على أنَّه شبكة من النقد-العسكر المدعومة بترسانة قانونية، وعواصمه الكبرى نيويورك ولندن. فالكمية الأكبر من التدفقات المالية تحدث بين وول ستريت وحي السيتي اللندني. في المقابل، فإنَّ منطقة اليورو بقيودها على الموازنة هي اختصاصٌ نقدي طرفي في نظام الدولار في الخارجيستخدم ستيفن موراو وزملاؤه 3 فئات لتمييز التراتبية المالية على الصعيد العالمي: 1) تراتبية العملات؛ 2) تراتبية الدول؛ 3) تراتبية الاختصاص (القانوني) النقدي. أمّا نظام الدولار في الخارج، فالمقصود به دورة الدولار (إصداره واستخدامه) خارج الولايات المتّحدة. (م). يقبع الجزء الأكبر من أموال العالم - من سندات الدين الدولية إلى الذهب - في نيويورك ولندن. ويتفوّق حي السيتي اللندني على وول ستريت، إذ يحتضن كبرى أسواق العملات الأجنبية العالمية التي تقدّم أشكال التمويل الدولاري الرئيسة كالمشتقات مثلًا. تستند أكثر من 90% من عقود المشتقّات إلى الدولار، مثل عقود مبادلة أسعار الصرف، وهذه أحد أشكال التمويل العالمي الرئيسة. كما تهيمن نيويورك ولندن على المهن القانونية الدولية. وتُحَل نصف المنازعات القانونية العالمية في محاكم إنكلترا وويلز ونحو ربعها في محاكم نيويورك. ويحمل القانون الدولي طابع الأحادية الأميركية. وتتصدّر الدائرة الثانية الأميركية، وفيها نيويورك (الاختصاص القضائي الذي نظر في قضية البنك المركزي الأفغاني)، تطبيق الأحكام القضائية في خارج منطقة الاختصاص. في المقابل، تعارض الولايات المتّحدة بشدّة تطبيق الدول الأخرى لقوانينها خارج منطقة الاختصاص ضدّ المقيمين في الولايات المتّحدة. لقد ثبت أنّ ممارسة القانون من خلال العقوبات مجزية لأنغلو أميركايشير المصطلح إلى المناطق الناطقة بالإنكليزية في أميركا الشمالية لتمييزها ثقافياً عن أميركا اللاتينية والإيبيرية والإسبانية. (م).

يؤلِّف تضافر شبكات الثروة والدفاع مع الشبكات القانونية والمالية الأنغلو-أميركية جهازاً أمنياً عابراً للقوميات. فالفايف آيزتحالف أمني يتكوّن من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا وكندا ونيوزيلندا. (م)، وهي أقوى شبكة لمشاركة المعلومات الاستخبارية في العالم، اتفاقية أنغلوسفيرية. والحروب الدائمة قادتها الولايات المتحدة على الدوام بالاشتراك مع المملكة المتحدة بصفتهما قوات احتلال. كما تأتي المملكة المتحدة في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة مباشرةً من حيث امتداد شبكتها العسكرية. تدلِّل اتفاقية "أَوكوس"، وهي تحالف عسكري بين الولايات المتّحدة والمملكة المتّحدة وأستراليا، على تجدّد "قابلية العمل المشترك" بين القوات. ومع أنّ هذا التعاون الجديد لا يعكس مباشرةً زيادة حصة الدولار الكندي والدولار الأسترالي في العملات الاحتياطية، إلا أنَّه يحدث بالتوازي معها. يمثِّل هذا التوافق بين القوة الخشنة والناعمة - الفايف آيز والفيدوايرالفيدواير: نظام تسوية للتحويلات المالية بين المؤسسات المالية يديره الاحتياطي الفيدرالي الأميركي. (م) - تكامل القوة العسكرية والقانونية والاقتصادية.

في صالح مَن؟

نخضع جميعاً لهذا النظام الاقتصادي الجديد غير واضح المعالم بعد - قد نسمّيه "بريتون وودز 3" - الذي يتميّز بعدوانية الدولار وتحويل الاقتصاد العالمي إلى سلاح. أعقب عودة تدخّل الدولة إثر الوباء تجدّداً في عدوان الدولة. وفي حين اتسمت بريتون وودز 2 بالاعتماد المتبادل بين الصين والولايات المتحدة (يوصَف بشاعرية بـ"الصيمريكا" "Chimerica")، تمثِّل بريتون وودز 3 سلالةً خبيثة من نظام الدولار العالمي. وقد انكشف منطقها مع الغزو الروسي لأوكرانيا - الذي تعود أسبابه إلى توسّع الناتو في أوروبا الشرقية - والردّ الغربي عليه بالحصار الاقتصادي. في حين رمت العقوبات الأنغلو-أميركية ضدّ إيران إلى تدمير صادراتها النفطية، فقد استثنت العقوبات الأميركية ضد روسيا قطاع الطاقة فيها. وما استثناء صادرات النفط والغاز الروسية من العقوبات (بالإضافة إلى عقود الزراعة والمشتقات) - لتحقيق الاستقرار في أسعار الوقود الأحفوري والأسواق المالية في الغرب - مرورًا بحظر استيراد الطاقة الروسية في الأنغلوسفير إلا الشكل الآخذ في التكشّف وغير المتوقَع للعولمة المسلحة اليوم.

لقد سلّطت الأسابيع القليلة الماضية الضوء على الدمار الذي أحدثه تحويل الدولار العالمي إلى سلاح. ولم تزد الحرب القانونية بين روسيا ومجموعة السبع إلّا اشتداداً. رأت الحكومة الألمانية في مطالبة الحكومة الروسية بسداد ثمن صادراتها من الغاز بالروبل بدلاً من الدولار انتهاكاً للعقود. ودفعَ حظر الولايات المتّحدة لمدفوعات روسيا على سندَين سياديَين مقومَين بالدولار (يضمنهما القانون الإنكليزي) إدارة بوتين إلى رفع دعوى قضائية في محاكمها ضد الإجراءات التي تمنع روسيا من سداد ديونها واستعادة احتياطيات البنك المركزي المصادرة.

من الواضح أنَّ ارتفاع قيمة الدولار سيلحق الضرر مرة أخرى بالأجزاء الفقيرة من الاقتصاد العالمي. وإزاء الاستقرار - بأي وسيلة - في مركز نظام الدولار العالمي، ستكون الأطراف على موعدٍ مع اضطراب هائل. تعيد تعقيدات تحويل الدولار العالمي إلى سلاح في الحرب الاقتصادية طرح المعضلات القديمة لإدارة العملة المهيمِنة. توجد على الأقل طريقتان يمكن أن يمضي بهما نظام الدولار العالمي المسلّح. ومن المتوقّع أن يمضي بمسار دفع الأنظمة في منطقة الهندوباسيفيك ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى الاصطفاف مع محور شمال الأطلسي لنظام الدولار العالمي من خلال المساعدات العسكرية والنقدية. تميل البلدان التي تتلقى سيولةً بالدولار إلى أن تكون منخرطة في الشبكات العالمية للبنوك الأميركية والشبكات العسكرية.

في المقابل، دعا أنصار استقرار القوّة المُهيمِنة المعطاءة من أمثال تشارلز كيندلبيرغر ورونالد ماكينون إلى خلع أنياب نظام الدولار من خلال تعدّدية الأطراف. ويعني هذا، برأي ماكينون، أنّ على البنك الاحتياطي الفيدرالي أن يتحمّل بجدّية أكبر مسؤوليّته بصفته البنك المركزي العالمي. ليست هذه مهمّة سهلة: يترتّب على كبح جماح التضخّم عن طريق رفع أسعار الفائدة نتائج مالية سلبية على الاقتصادات النامية التي تشتغل وتقترض بالدولار، ويثير تساؤلات حول قدرة العملة السيادية على أن تكون نقداً عالمياً مستقراً. لقد اتخذ الاحتياطي الفيدرالي في عهد باول خطوة في هذا الاتجاه من خلال تأمينه السيولة للحكومات. الحال أنَّه يمكن توسيع شبكة خطوط المبادلة أكثر من ذلك بكثير. ومن شأن تكملة أكثر ديمقراطية لخطوط المبادلة تفعيل تقنيات المراقبة والتقاضي عند الاحتياطي الفيدرالي ووزارة الخزانة لوقف التهرّب الضريبي والملاذات الضريبية. وكخطوة في هذا الاتجاه، لا يزال يتعيّن تنفيذ اتفاقية العام الماضي الخاصة بالحدّ الضريبي الأدنى عالمياً.

يدعو البيان المشترك لوزراء الطاقة في مجموعة السبع، الصادر في 10 آذار/مارس ردّاً على الغزو الأوكراني، إلى اتباع طرق نظيفة لتحقيق الاستقلال الطاقوي. وإذ يَعِد البيان "بعدم انقطاع تدفّق الطاقة إلى الفئات السكانية الأكثر ضعفاً"، يبدو للوهلة الأولى أشبه بخطابات صادرة عن منظّمة بيئية تقدّمية، لكنّه في نهاية المطاف يزاوج بين الطاقة النظيفة و"الأمن الطاقي" على أساس النزعة القومية السلبية. وقد يأتي هذا الزواج بسياسات متضاربة: بوريس جونسون يغازل الأموال السعودية لتمويل مصنع طيران مستدام في المملكة المتحدة، وفي الآن ذاته يحاول إقناع المملكة العربية السعودية بزيادة إنتاج النفط.

قد يشتمل نظام الدولار العالمي منزوع الأنياب على تأمين حدٍ أدنى من الدخل للمجتمعات الهشّة عن طريق حسابات في بنك الاحتياطي الفيدرالي، وإعادة هيكلة عادلة لديون الاقتصادات الفقيرة التي تعثّرت عقودها الآجلة بسبب أعباء الديون المرهقة (البلدان ذات الديون الضخمة المقوّمة بالدولار معرّضة بازدياد لمخاطر الأزمات المصرفية)، والتمويل العام للبنية التحتية الخضراء في الجنوب. لكن يبدو أنَّ الاقتصاد العالمي يسير في الاتجاه المعاكس. فقد تجاوزت النفقات العسكرية العالمية مبلغاً غير مسبوق قدره تريليوني دولار في العام 2021. وتشكّل نفقات الولايات المتّحدة وحدها 40% من هذا الرقم. في الوقت نفسه، تعثّرت الحملة العالمية لتطعيم الدول الفقيرة ضد الفيروس. إنَّ الإدارة الأمريكية قادرة على وقف تحويل العولمة إلى سلاح، لكن هذا سيتطلّب منها تحوّلاً في الاستراتيجية بعيداً من "دعم الأصدقاء" عن طريق التحالفات العسكرية والنقدية صوب تعدّدية جديدة حقيقية في العلاقات النقدية الدولية. إنَّ التخلّي عن بعض امتيازات الدولار المبالغ فيها قد يحرّر الولايات المتّحدة من بعض أعباء الهيمنة الاقتصادية.

نشِر هذا المقال في Phenomenal World في 27 نيسان/أبريل 2022.

علاء بريك هنيدي

مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.