هل تحلّ الصين محل أميركا أم تدخلان في طريق مسدود؟
كانت الأيام الأخيرة في ميزان الجيوبوليتيك لا تُنسى.
أصدرت إدارة بايدن استراتيجيتها للأمن القومي، ووصفها البعض بأنَّها إعلان عداء تجاه الصين قبل إعلان الحرب. وفي مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني في بكين، حذّر الرئيس شي جين بينغ من "عواصفَ هوجاء" تنتظر الصين في السنوات المقبلة.
يدفعنا هذا إلى التساؤل: هل يتجه العالم إلى ما يطلق عليه في العلاقات الدولية "انتقال في الهيمنة"؟
يتّضح لنا إذْ نقيّم وضع القوة الُمهيمنة على العالم أنَّ الأمولة والعولمة لم تأتِ بتفاوتٍ صارخ فحسب، بل قضت على القاعدة التصنيعية في الولايات المتّحدة أيضاً. وإذ نتحدّث عن تفكيك التصنيع، لا يقتصر حديثنا على فقدان ملايين الوظائف في القطاع الصناعي، من 17.3 مليون وظيفة إلى 13 مليون وظيفة اليوم، بل يشمل خسارة قنوات توارث مهارات العمل في الصناعات الماهرة وشبه الماهرة.
ولا يقل أهمّية عمّا سبق اضمحلال العلاقة بين التصنيع والإبداع التكنولوجي في اقتصادات المركز وظهورها في الاقتصادات المتّجهة بسرعة نحو التصنيع. وعلى عكس التوقّعات القائلة إنّ اقتصادات الأطراف لن تقدّم إلّا العمل الرخيص في حين ستحتكر اقتصادات المركز الأنشطة المُعتمدة على المعرفة، فقد تلا تصديرُ التصنيع إلى الخارج تصديرَ إنتاج التكنولوجيا المتقدّمة.
بيّنت دارسة هامّة طالت ثمانية اقتصادات متقدّمة أنَّ تصدير التكنولوجيا المتقدّمة قد ازداد في أقل من عقد من 14% في تسعينيات القرن العشرين إلى 18% في 2006. ومثلما أشار برانكو ميلانوفيتش إن "ريع الابتكار الذي يحصل عليه قادة التكنولوجيا الجديدة يبدَّد بعيداً عن المركز". وفي الحقيقة، انصب الاقتصاد السياسي لترامب ومستشاره الاقتصادي بيتر نافارو على عكس هذا التدفّق التكنولوجي مهما كلّف الأمر.
الأزمة الشاملة في الولايات المتحدة الأميركية
ما يعقِّد الأزمة الراهنة عند القوّى المُهيمنة أنَّها لا تقتصر على كونها اقتصادية إنَّما أيديولوجية وسياسية أيضاً.
رأى الماركسي البريطاني بول ماسون أنَّه مع انتصار النيوليبرالية والأمولة في الشمال تراجع التضامن وشعور الانتماء على أساس الطبقة ونمط حياة الطبقة الوسطى بين العمّال، لتحلّ محلها الهوية الفردية كمستهلكين وأطراف في السوق، في مجتمعٍ يُبدي بحبوحة مشتركة، ولكن في الواقع حلّ فيه تزايد الديون محل تزايد الدخل بوصفه آلية للتهدئة الاقتصادية.
بعدما استبدل العمّال هويتهم الطبقية بهوية المستهلكين في السوق، وبعدما خسروا حتى هوية المستهلك تلك بسبب أزمة 2008-2009، صاروا ضعفاء أيديولوجياً، لا سيما فيما يتعلّق بالتزامهم بالاعتقاد الديمقراطي الليبرالي بالمساواة الكونية. لقد شعرَ العديد من العمّال، من قبل الأزمة المالية حتى، بالتهديد النفسي من مكاسب حركات العدالة العرقية والجندرية، وكان انزلاقهم إلى عدم الأمان الاقتصادي الخطوة الأخيرة في اتجاههم الراديكالي إلى اليمين.
لقد أسفر المزيج الخطير المكوّن من الأزمة الاقتصادية والضعف الأيديولوجي ودونالد ترامب عن إسباغ الشرعية بمعتقدٍ أساسي معادٍ للديمقراطية انتقل عبر الأجيال والجماعات بطريقة هدَّامة. هذا هو تفوّق العرق الأبيض الذي بات اليوم الأيديولوجيا المسيطرة في الحزب الجمهوري على نحو غير رسمي.
ننتقل أخيراً إلى الأزمة السياسية. لا أخال أنَّ قولنا عن الديمقراطية الليبرالية الأميركية إنَّها في أزمة قد يلقى رفضاً واسعاً. أعتقد أنَّ الخلاف سيكون على مدى خطورة الأزمة. كتبت باربرا والتر في كتابها "كيف تبدأ الحروب الأهلية":
"أين الولايات المتحدة اليوم؟ نحن جماعة أنوقراطية منقسمة [ديمقراطية متدهورة] تقترب بسرعة من التمرّد المفتوح، بمعنى أنَّنا أقرب إلى الحرب الأهلية مما قد يتخيّله أيٌّ منا. فقد مثَّلَ السادس من كانون الثاني/يناير بياناً هاماً من بعض الجماعات، عن أنَّها تتجه نحو العنف الصريح. في الواقع، قد يكون اقتحام الكابيتول أول سلسلة من الهجمات المنظّمة في مرحلة التمرّد المفتوح. لقد استهدف الاقتحام أساس النظام، وتضمّن خططاً لاغتيال بعض السياسيين ومحاولات لتنسيق النشاطات".
ليس تحليل والتر إنذاراً كاذباً ولا حديثاً يساريّاً، بل إنَّه تحليل لشخص من داخل النظام، ومتخصّصة في الحروب الأهلية المقارنة التي استخدمت فيه قواعد بيانات عدّة، لعل أهمّها قاعدة بيانات فرقة عدم الاستقرار السياسي التابعة لوكالة المخابرات المركزية حيث تعمل والتر.
في دراسات والتر وزملائها في الوكالة، برزت الإثنية كمتنبئ رئيس بقابلية حدوث حرب أهلية في مجتمع ما، وفي الولايات المتحدة يحتلّ المتطرّفون البيض المسلحون الطليعة. بيد أنَّ الإثنية بحدّ ذاتها لا تسفر عن نزاع، بل تحتاج إلى محفّزات، أو "مُسرِّعات"، وهذه تأتيها من ظهور مجموعات إثنية مهيمنة و"فصائل كبرى" أو من مفاقمة النزاعات على يد مؤسّسي الحركات الإنثيقومية، أو من التعبئة الموتورة للمواطنين العاديين الذين يرون أنَّ الفصائل الإثنية المسلحة وحدها تقف سداً بينهم وبين مَن يريد تدميرهم وتدمير عالمهم.
ولنوجز الحديث، صارت وسائل التواصل الاجتماعي، وبالتحديد فايسبوك، أحد الأسلحة المحورية في صناعة التطرّف. تسود في غرف الدردشة التابعة للقوميين البيض هذه الأيام "نظريةُ الإحلال العظيم"، يقول البيض بموجبها إنَّهم ضحية مؤامرة يحيكها اليهود والسود والنسويات ومجتمع الميم والمهاجرون والديمقراطيون لتحويلهم إلى أقلّية وتدميرهم آخر الأمر في حربٍ عرقية.
ما يجعلنا نستفيض في تفصيل الأبعاد الأيديولوجية والسياسية لأزمة النظام الليبرالي العالمي أنَّ البعض عند حديثهم عن تراجع القوى المُهيمنة يقتصرون على البُعد الاقتصادي، غير أنَّ البُعدين الأيديولوجي والسياسي ليسا أقل أهمّية. حين تكهن بعض المحلّلين بخسارة الولايات المتحدة الأميركية هيمنتها لصالح اليابان في أواخر الثمانينيات، اقتصروا على البُعد الاقتصادي وحده، ومع أنَّ هذا البُعد كان مركزياً، فإنَّ إهمالهم البُعدين السياسي والأيديولوجي كان من أسباب فشل تكهّناتهم.
وللتأكيد، ما يميّز أزمة القوى المُهيمنة اليوم عن نظيرتها في الثمانينيات هو المزيج القاتل من الاضطراب والتفكّك الاقتصادي والاستياء الأيديولوجي العميق وعدم الاستقرار السياسي. إذْ تصعب ممارسة الهيمنة العالمية إذا باتت القوى المُهيمنة، علاوة على تخلّفها عن الصدارة الاقتصادية، على شفير حرب أهلية وفقدَ قطاع عريض من مجتمعها ثقته بالديمقراطية الليبرالية التي تضفي الشرعية على تفوّقها الاقتصادي العالمي.
هكذا تبدو الولايات المتحدة اليوم.
التحدّي الصيني
لننتقل الآن إلى مسألة ما إذا كانت بعض القوى الأخرى تتحرّك لتحل محل الولايات المتّحدة في صدارة المشهد العالمي. يتحدّث الجميع، بالطبع، عن أنَّ الصين المرشحُ الأول وأنَّها تطرح تحديها الأقوى على الجبهة الاقتصادية.
يحاول ريتشارد بالدوين في كتابه "The Great Convergence" (التقارب العظيم) أن يشرح كيف تحوّلت الصين، لا من كونها مجرّد قوة صناعية غير منافسة فحسب، بل من كونها أيضاً من خارج النظام الرأسمالي العالمي إبان السبعينيات، إلى قوة صناعية عظمى في العالم في غضون عقدين فحسب.
لقد تفطّنت الصين، بحسب قوله، إلى ضرورة الاستفادة من انضمامها إلى الاقتصاد العالمي الرأسمالي إبان "التجزئة الثانية" للعولمة. كانت هذه مرحلة إعادة تقسيم العملية الإنتاجية على الصعيد العالمي بفضل التقدّم في تكنولوجيا المعلومات، والتي أنتجت ابتكاراً ثورياً: سلسلة القيمة العالمية. كانت السمة الرئيسة لهذه العملية، كما أسلفنا، نقل التكنولوجيا المتقدّمة من اقتصادات المركز الرأسمالي الغني بالمعرفة إلى البلدان الطرفية ذات الفائض في اليد العاملة.
يرى بالدوين في هذا النقل أمراً حتمياً على ما يبدو، غير أنَّه تيسّر في حالة الصين بفعل ما فرضته بكين من سياسات نقل قسري للتكنولوجيا. ارتابت الشركات الأميركية، إلا أنَّ امتثالها لهذه السياسات كان شرطَ وصولها للعمالة الصينية الرخيصة.
بحلول الوقت، حاول ترامب وبيتر نافارو وقف عمليّات نقل التكنولوجيا الحسّاسة في عام 2017، لكن كان الأوان قد فات، فقد تحوّلت الصين من كونها متلقّية سلبية للتكنولوجيا المتقدّمة إلى مبتكر فاعل في هذا المجال. لو صدر قانون واشنطن الأخير الذي يحظّر تصدير الرقائق الأميركية الصنع إلى الصين قبل عشر سنوات من الآن، لربما كان سيحدث فرقاً، لكن اليوم لن يكون له تأثير يُذكر.
فقد نجحت بكين في إنزال مركبة فضائية على سطح المريخ في أيار/مايو 2021، لتكون ثالث دولة تحقّق هذا بعد الولايات المتّحدة وروسيا. ولم يأتِ هذا بالصدفة. أطلقت شركة بايدو الصينية جهاز كمبيوتر كمّي يستطيع الأشخاص الوصول إليه عبر تطبيق الهاتف الذكي. وتعمل الصين على بناء أكبر محطّة للطاقة النبضية في العالم، ما دفع المتخصّصين إلى توقع أنَّه يمكنها تحقيق طاقة الاندماج النووي بحلول عام 2028. وعلاوة على هذا، تموّل بكين النقل المدني الأسرع من الصوت.
يمكننا ملاحظة أنَّ دولةً قوية قد صنعت الفارق، وهي دولة كانت أقوى بكثير من الدول التنموية الكلاسيكية الآسيوية المطلّة على المحيط الهادئ بسبب جذورها الثورية.
على أي حال، أصبحت الصين اليوم مركز التراكم الرأسمالي العالمي. وتظهر في الصورة الشعبية بمظهر "قاطرة الاقتصاد العالمي"، فقد أنتجت 28% من مجمل النمو العالمي بين عامي 2013 و2018 بحسب البنك الدولي، أي أكثر من ضعف حصّة الولايات المتحدة.
أزمة نمو مقابل أزمة تراجع
بات من المؤكّد اليوم أنَّ الاقتصاد الصيني يشهد أزمات عدّة، من قبيل ظهور تفاوتات كبيرة في الدخل وفائض القدرة الهائل والتفاوتات الإقليمية والفقاعات العقارية والمشكلات البيئية. لكنَّني أرى هذه الأزمات تجلّيات للنمو غير المتوازن الذي يُعِدّه
الاقتصادي ألبرت هيرشمان سمة لازمة للتطوّر الصناعي السريع في ظل الرأسمالية.
هذه أزمات نمو على النقيض من أزمات التراجع التي يشهدها الاقتصاد الأميركي.
لكن دعونا ننتقل إلى الأبعاد السياسية والأيديولوجية للاقتصاد السياسي الصيني. على النقيض من النظرة التبسيطية لسكانٍ يخضعون للقمع، كانت الاحتجاجات السياسية شائعة في الصين، سواء على الأرض أو على الإنترنت، على الرغم من حديث البعض عن خبوها في عهد شي جين بينغ.
لكنَّ قلة فحسب تدَّعي أنّ النظام الحاكم يمرّ بأزمة شرعية. فقد انصبّت الاحتجاجات على المشكلات المحلية، من قبيل مصادرة الأراضي وانخفاض الأجور والتلوّث البيئي، مع عدم قدرة أيٍّ منها على ترجمة نفسها إلى حركة جماهيرية في جميع أنحاء البلاد. وبالتالي، لا تواجه هيمنة الحزب الشيوعي السياسية تحدّيات لافتة، باستثناء نشطاء الديمقراطية وحقوق الإنسان الذين قد يكونون شجعاناً ومثاليين إلا أنَّهم قلّة متفرّقة. لا ريب أنَّ الاستقطاب الموجود في الولايات المتّحدة لا وجود له هنا.
ننتقل الآن إلى مسألة الأيديولوجيا. تعتمد الشرعية الأيديولوجية على قدرة الحزب على الأداء الاقتصادي وتوفير الاستقرار السياسي وإقناع السكّان بضرورة وجوده لتحقيق ما أسماه شي جين بينغ "التجديد الوطني". ههنا يمثِّل الفساد تهديداً دائماً ولا يمكن القضاء عليه فعلياً لكونه –وأنا أتفق هنا مع ميلانوفيتش– متجذّراً في نظام اتخاذ القرار الاجتهادي أو التطبيق الانتقائي للقانون الذي، للمفارقة، يصاحب التوجّه التكنوقراطي لما يسمّيه "الرأسمالية السياسية".
بيد أنَّه لا يجب السماح بخروج الفساد عن السيطرة لأنّه بخروجه يخرب المنطق التكنوقراطي الذي هو قلب النظام، ويعرقل النمو الاقتصادي ويقوِّض شرعيّة نخبة الحزب الشيوعي الحاكمة. لذا، لا بد من حملات دورية لاحتوائه، على غرار حملة شي جين بينغ الشعواء منذ عشر سنوات، لتكون التضحية بكبار المسؤولين المختلسين ثمنَ استقرار النظام.
يُعَدُّ الفساد تهديداً، لكنه بعيد كل البعد من أن يكون شبيهاً بالتهديد الذي تمثّله أيديولوجيا منافسة، على شاكلة ما تواجهه الديمقراطية الليبرالية من أيديولوجيا تفوّق العرق الأبيض التخريبية التي سيطرت على الحزب الجمهوري في الولايات المتّحدة.
عند النظر إلى نفوذها السياسي والأيديولوجي العالمي، نجد أنَّ الصين تمكّنت من كسب حلفاء خصوصاً في الجنوب العالمي من خلال دبلوماسيتها الاقتصادية مثل مبادرة الحزام والطريق، بيد أنَّ ما يجذب الحكومات إليها ليس سخاء حكومتها وتجارتها، بل نموذج القيادة التكنوقراطية المرنة والفعّالة الذي يبدو أنَّه يَعِدُ بنمو سريع في المرحلة الأولى من التنمية ويلبّي الرغبة الشعبية في مستويات معيشية أعلى، وإنْ كان الثمن زيادة التفاوتات وانتشار الفساد.
واشتد هذا الانجذاب مع تزايد الإدراك بأنَّ الديمقراطية الرأسمالية الليبرالية، بصراعاتها السياسية المنفلتة وإخفاقات السوق والركود الاقتصادي، لم تعد تقدِّم لدول الجنوب أي بديلٍ مجدٍ.
بكين المتردّدة وواشنطن العدائية
على أي حال، كانت بكين شديدة الحذر بشأن تقديم مسارها على أنَّه المسار الواجب اتباعه في دول الجنوب، على الرغم من ترويجها لمساهماتها في العالم النامي. كما أنَّها لم تسعَ إلى تغيير الهيئات المتعدّدة الأطراف التي أنشأها الغرب لتكون مظلة للحوكمة العالمية، ولا سعت إلى استبدال الدولار بالرينمنبي كعملة احتياطي عالمية.
لقد بذلت الصين، في الحقيقة، جهوداً دؤوبة لكي لا يُنظر إليها على أنَّها تطمح إلى أخذ مكان الولايات المتحدة، ليس لتجنّب استفزاز الأخيرة فحسب، بل أيضاً لتخفّف من أعباء مهام القيادة العالمية، ولعل السبب الأهم هو إيمان بكين بأنَّ نموذجها ليس للتصدير، أو بعبارة دينغ شياو بينغ إنَّها "اشتراكية بخصائص صينية".
في حين أنَّ تردد الصين يؤدّي دوراً كبيراً في عدم إزاحة الولايات المتّحدة وتولي دور المُهيمن، تظل العقبة الكبرى قدرة واشنطن على استغلال المورد الوحيد الذي لا تزال تتمتع فيه بالتفوّق المُطلق – القوة العسكرية – لتعديل توازن القوى والحفاظ على وضعها المُهيمن الآخذ بالتقلقل.
لن ندخل في مقارنة عسكرية تفصيلية بين الولايات المتّحدة والصين، لكن لنَقُل فحسب إنَّ الصين ليست في سباق تسلّح مع الولايات المتّحدة، وموقفها الاستراتيجي دفاعي، لكن لا يعني هذا أنَّها لا تنخرط في هجمات تكتيكية في مناطق تشعر بوجود تهديدٍ وجودي فيها، مثل بحر الصين الجنوبي.
حوّلت إدارة بايدن تركيزها إلى الجبهة العسكرية، إثرَ محدودية نتائج الضغط التجاري لترامب ونافارو على الصين، وكان آخر تحرّكاتها جلب السفن البحرية التابعة للناتو من أوروبا ومعها سفن من اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين وأستراليا للقيام بدوريات منتظمة في بحر الصين الجنوبي. شجب النقّاد هذا التصعيد في اللهجة وعلى الأرض لأنَّه يزيد من احتمالية نشوب نزاع مسلّح، إذْ مع غياب قواعد الاشتباك يصبح من شأن أي حادث بسيط في البحر أن يتحوّل بسهولة إلى شكل أعلى من النزاع.
بيد أنَّ هدف سياسة إدارة بايدن إزاء الصين يتجاوز تذكير الأخيرة بضرورة خفض سقف طموحاتها أو مواجهة تهديد وجودي. فالأرجح أنَّ الهدف الأهم يتمثّل بالتأثير الرمزي لاستعراض القوة، أي تأثيره في السياسة الداخلية الصينية.
لربّما كان هذا ما دفع نانسي بيلوسي إلى زيارة تايوان بُعيد أيام على مرور مدمّرة أميركية عبر مضيق تايوان. لقد كان توظيف هذا الحدث، المدعوم ضمنياً بالقوة العسكرية، شديد الرمزية ويرمي إلى إثارة أزمة سياسية في الصين –في هذه الحالة، انهزّ الدور القيادي لشي– بتبيان أنَّ الولايات المتّحدة يمكنها في أي وقت تمزيق سياسة الصين الواحدة ودعم تايوان بكل بجاحة من دون أن تكون بكين قادرة على الردّ بسبب خوفها من القوة الأميركية.
أما عن توقيت هذا الحدث فما من توقيت آخر يضاهيه أهمّية، إذ أتى قبيل شهرين ونصف من مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني في منتصف تشرين الأول/أكتوبر، حيث كان من المتوقّع أن يسعى شي جين بينغ إلى الحصول على إجماع حول مبادرته لإلغاء العرف المعمول به ويقضي بحدّ مدّة ولاية الرئيس بعشرة أعوام. ويُقال أنَّ ثمَّة تقارير تتحدّث عن استياء كبير في بعض أوساط الحزب والجيش والشعب من ردّ فعل شي المُعتدل نسبياً والرمزي إلى حدٍ كبير على استفزاز بايدن–بيلوسي.
الأدهى أنَّ زيارة بيلوسي تتبع سيناريو وضعه عميد الدراسات الأمنية الأميركية، غراهام أليسون، في كتابه (The Thucydides Trap) "فخ ثيوسيديدس"، حيث يترافق تحشيد القدرات العسكرية مع استغلال نقاط الضعف السياسية الصينية في تايوان وهونغ كونغ وشينجيانغ والتيبت لتقويض شرعية الحزب الشيوعي الصيني.
إيجابيات الجمود وسلبيّاته
بالعودة إلى سؤالنا الأساسي، وفي ظل الصين القوية اقتصادياً والمتردّدة للغاية في تولّي القيادة العالمية، والولايات المتّحدة المتراجعة اقتصادياً وسياسياً والساعية بشدّة إلى الحفاظ على مكانتها بإظهار تفوّقها العسكري الكاسح، أيمكننا الحديث عن انتقالٍ في الهيمنة؟ أم حريٌ بنا الحديث بدلاً من ذلك عن جمود الهيمنة أو فراغها؟
ربما للمقارنة علينا النظر في فراغ الهيمنة، وليس انتقالها، على غرار ما أعقب الحرب العالمية الأولى، ولكنَّه لا يتطابق معه. آنذاك، فقدت الدول الضعيفة في أوروبا الغربية القدرة على استعادة وضعها المُهيمن قبل الحرب، في حين فشلت الولايات المتّحدة في مواصلة توجّهات وودروو ويلسون لتأكيد القيادة السياسية والهيمنة الأيديولوجية لواشنطن.
في ظل هذا الجمود أو الفراغ، تظل العلاقة بين الولايات المتّحدة والصين بالغة الأهمّية. لا يستطيع أي من الطرفين إدارة مسار الأحداث بحزم، مثل الأحداث المناخية المتطرّفة، والحمائية المتزايدة، وانحلال النظام متعدّد الأطراف الذي وضعته الولايات المتّحدة خلال أوجها، وعودة الحركات التقدّمية في أميركا اللاتينية، وصعود الدول الاستبدادية واحتمالية تحالفها لإزاحة النظام الدولي الليبرالي المُتعثّر، وتزايد التوترات المنفلتة بين الأنظمة الإسلامية الراديكالية في الشرق الأوسط وإسرائيل والأنظمة العربية المحافظة.
يصوغ كل من صنّاع السياسة المحافظين والليبراليين هذا السيناريو لتبيان المُبرّر وراء حاجة العالم إلى قوة مُهيمنة، حيث يؤيِّد الفريق الأول وجود جالوت ينفرد في اتخاذ القرارات ولا يتردّد في استخدام التهديد والقوة لفرض النظام، أما الفريق الثاني فيفضِّل جالوت ليبرالياً يتحدّث بلطفٍ والعصا الغليظة بيده، إذا استخدمنا عبارة تيدي روزفلت بشيء من التصرّف.
بيد أنَّه يوجد فريق آخر، نحن منه، يرى في أزمة الهيمنة الأميركية اليوم العديد من الفرص وليس الفوضى.
تفتح حالة الفراغ أو الجمود، على ما بها من مخاطر، الطريقَ إلى عالم يمكن أن تزداد فيه لا مركزية السلطة، لتكتسب في ظله الدول الصغيرة والأقل امتيازاً في الجنوب المزيد من حرية المناورة السياسية والاقتصادية، ويتسنى في ظله بناء نظامٍ متعدّد الأطراف حقيقي عبر التعاون بدلاً من أن تفرضه الهيمنة الأحادية أو الليبرالية.
قد تأتي الأزمة بأزمة أعمق، بطبيعة الحال، لكنَّها قد تأتي بفرصٍ أيضاً.
نُشِر هذا المقال بداية في مؤتمر عُقِد في جامعة ولاية نيويورك يومي 21 و22 تشرين الأول/أكتوبر 2022 بعنوان "نحو نظام عالمي جديد؟ الولايات المتّحدة والصين وصعود اليمين المتطرّف"، احتفاءً بمسيرة والدن بلو العلمية والنضالية، وقد صدرت لاحقاً بمراجعة على صفحات موقع "فورين بوليسي إن فوكَس" في تشرين الأول/أكتوبر الماضي.