عودة الفاشية في الرأسمالية المعاصرة

  • يستند الخيار الفاشي دوماً - بحكم تعريفه - إلى الرفض الحازم للديمقراطية. تستبدل الفاشية المبادئ العامة التي تقوم عليها نظريات الديمقراطية الحديثة وممارساتها بقيم الخضوع لمقتضيات الانضباط الجمعي وسلطة القائد الأعلى وعملائه.
     
  • يشاطر الإسلام السياسي جميع أشكال الفاشية خاصيتين أساسيتين: قبول نموذج التنمية الرثّ المُرتبط بتوسّع الرأسمالية النيوليبرالية المعولمة؛ واختيار أشكال الحكم السياسي المناهضة للديمقراطية والدولة البوليسية مثل حظر الأحزاب والتنظيمات والأسلمة القسرية للأخلاق.
     
  • ترتبط عودة الفاشية إلى الغرب والشرق والجنوب بتفاقم الأزمة الهيكلية للرأسمالية الاحتكارية المُعمّمة والمؤمولة والمعولمة. لذلك فإنّ لجوء المراكز المهيمنة إلى خدمات الحركة الفاشية يتطلّب من جانبنا أقصى قدر من اليقظة.

ليس عن عبث أنْ يربط عنوان هذه المساهمة بين عودة الفاشية على المسرح السياسي وأزمة الرأسمالية المعاصرة. فالفاشية ليست مرادفة لنظامٍ بوليسي استبدادي يرفض تقلّبات الديمقراطية البرلمانية الانتخابية، بل تجسِّد استجابة سياسية لتحدّيات تصادفها إدارة المجتمع الرأسمالي في ظروفٍ معيّنة.

وحدة الفاشية وتنوّعها

لقد احتلّت الحركات السياسية التي يمكن وصفها - عن حقّ - بالفاشية صدارة المشهد السياسي في عددٍ من الدول الأوروبية، وتقلّدت فيها السلطة تحديداً في الفترة الممتدّة من الثلاثينيات ولغاية 1945، وقد ضمَّت تلك الدول إيطاليا بينيتو موسوليني، وألمانيا أدولف هتلر، وإسبانيا فرانشيسكو فرانكو، والبرتغال أنطونيو دي أوليفيرا سالازار، وفرنسا فيليب بيتان، وهنغاريا ميكلوس هورثي، ورومانيا إيون أنطونيسكو، وكرواتيا أنتي بافيليتش. يقتضي تنوّع المجتمعات التي كانت ضحية للفاشية - في كلّ من المجتمعات الرأسمالية المتقدّمة والمجتمعات الرأسمالية الخاضعة للهيمنة، سواء أُخضِعَت بحرب ظافرة أو وُلِدت من رحم الهزيمة - ألّا نَجمُلها تحت يافطة واحدة. لذلك، سأحدِّد التأثيرات المختلفة لهذا التنوّع في بنى هذه المجتمعات وأحوالها.

لكن بعيداً من هذا التنوّع، تتشاطر هذه الأنظمة خصيصتين اثنتين:

  1. كانت جميعها، في هذه الفترة، على استعداد لإدارة الحكومة والمجتمع بطريقة لا تضع مبادئ الرأسمالية الأساسية موضع تساؤل، وأعني بالتحديد الملكية الخاصّة، بما فيها مبادئ الرأسمالية الاحتكارية الحديثة. لهذا السبب أدعو هذه الأشكال المختلفة من الفاشية بوصفها أساليب معيّنة لإدارة الرأسمالية وليست أشكالاً سياسية تتحدَّى شرعية الأخيرة، وإنْ كالت خطاباتها الهجاء للرأسمالية والبلوتوقراطيات. تنكشف الكذبة التي تخفي الطبيعة الحقيقية لهذه الخطابات بمجرّد تفحّص "البديل" المُقترح من هذه الأشكال الفاشية المختلفة، التي تظل صامتة على الدوام إزاء النقطة الجوهرية وهي الملكية الخاصة الرأسمالية. الحال أنّ الخيار الفاشي ليس الاستجابة الوحيدة للتحدّيات المطروحة أمام إدارة أي مجتمع رأسمالي. ولا يظهر الحلّ الفاشي بمظهر الحل الأفضل، أو أحياناً الحل الوحيد الممكن، عند رأس المال المُهيمن إلّا في ظروف معيّنة من الأزمة العنيفة والعميقة. لذا، يجب على التحليل أن يركّز على هذه الأزمات.
  2. يستند الخيار الفاشي دوماً - بحكم تعريفه حتّى - إلى الرفض الحازم للديمقراطية. تستبدل الفاشية بالمبادئ العامة التي تقوم عليها نظريات الديمقراطية الحديثة وممارساتها - مثل الاعتراف بتنوّع الآراء واللجوء إلى الإجراءات الانتخابية لتحديد الغالبية وضمان حقوق الأقليات وغيرها من المبادئ - قيم الخضوع لمقتضيات الانضباط الجمعي وسلطة القائد الأعلى وعملائه. يقترن هذه الانقلاب في القيم على الدوام بعودة الأفكار المتخلّفة القادرة على إعطاء شرعية واضحة لإجراءات الخضوع المعمول بها. وتتألّف عُدَّة الخطابات الأيديولوجية للسلطات الفاشية من المناداة بلزوم العودة إلى الماضي ("القروسطي") والخضوع لدين الدولة أو بعض السمات المزعومة لـ"العرق" أو "الأمة" (الإثنية).

تتشارك الأشكال المتنوّعة من الفاشية التي ظهرت في تاريخ أوروبا الحديث بهاتين الخاصيتين، وتتصنّف في واحدة من هذه الفئات الأربع:

1) فاشية القوى الرأسمالية المتقدّمة التي كانت تطمح إلى التحوّل إلى قوى مُهيمنة على صعيد النظام الرأسمالي العالمي أو أقلّه الإقليمي

تمثِّل النازية نموذج هذه الفاشية. صارت ألمانيا قوة اقتصادية كبرى منذ سبعينيات القرن التاسع عشر ومنافساً للقوى المُهيمنة في زمانها (بريطانيا العظمى ومن خلفها فرنسا)، وللدولة الطامحة في التحوّل إلى قوّة مُهيمنة (الولايات المتّحدة). لكن بعد هزيمتها في عام 1918 وجب عليها التعامل مع تبعات فشلها في تحقيق طموحاتها الهيمنية. وضع هتلر خطّته بكل وضوح: بسط سيادة "ألمانيا" وهيمنتها على أوروبا، بما فيها روسيا وربما أبعد، أو بعبارة أخرى بسط سيادة رأسمالية الاحتكارات التي رفعت النازية إلى السلطة. كان هتلر على استعداد لقبول التسوية مع خصومه الكبار: يحصل على أوروبا لنفسه، وتحصل اليابان على الصين، وتحصل بريطانيا العظمى على باقي آسيا وأفريقيا، وتحصل الولايات المتّحدة على الأميركيتين. لكنَّه أخطأ إذْ ظنّ أنّ مثل هكذا تسوية ممكنة، فقد رفضتها بريطانيا العظمى والولايات المتّحدة، وفي المقابل دعمتها اليابان.

تندرج الفاشية اليابانية ضمن هذه الفئة نفسها. لقد طمحت اليابان الرأسمالية الحديثة منذ عام 1895 إلى بسط سيادتها على كامل منطقة شرق آسيا. هنا سار التحوّل بسلاسة من الشكل الإمبراطوري لإدارة الرأسمالية الوطنية الصاعدة - المستند إلى مؤسّسات ليبرالية في ظاهرها (برلمان منتخب)، لكنَّه في واقع الحال تحت سيطرة الإمبراطور والأرستقراطية بعدما صبغتهما الحداثة - إلى شكلٍ وحشي تديره مباشرة القيادة العسكرية العليا. تحالفت ألمانيا النازية مع اليابان الفاشية الإمبراطورية، أمّا بريطانيا العظمى والولايات المتّحدة (بعد بيرل هاربر في عام 1941) فقد اشتبكتا مع طوكيو مثلما فعلت المقاومة في الصين - وقد عوَّض الدعم المُقدّم من الشيوعيين الماويين أوجه قصور الكومنتانغ.

2) فاشية القوى الرأسمالية من الصف الثاني

تُعدُّ إيطاليا موسوليني (مخترع الفاشية واسمها أيضاً) المثال الأوضح. جسَّدت الموسولينية استجابة اليمين الإيطالي (الأرستقراطية القديمة والبرجوازية الجديدة والطبقات الوسطى) لأزمة العشرينيات وتنامي التهديد الشيوعي. لكن لم تطمح الرأسمالية الإيطالية ولا أداتها السياسية، فاشية موسوليني، إلى الهيمنة على أوروبا، دع عنك الهيمنة على العالم. لقد استوعب موسوليني، على الرغم من كلّ تبجّحه بإعادة الإمبراطورية الرومانية، أنَّ استقرار نظامه مشروط بتحالفه - بصفة تابع - مع بريطانيا العظمى (سيدة المتوسط) أو ألمانيا النازية. وقد واصلَ تذبذبه بين التحالفين إلى عشية الحرب العالمية الثانية.

تندرج فاشية سالازار وفرانكو ضمن هذه الفئة نفسها. لقد كان كلاهما طاغية نصّبهما اليمين والكنيسة الكاثوليكية استجابة لمخاطر الأحزاب الجمهورية الليبرالية والاشتراكية. ولهذا السبب، لم تنبذهما القوى الإمبريالية الكبرى على الرغم من بطشهما المعادي للديمقراطية (بذريعة معاداة الشيوعية). وقد أعادت واشنطن إنعاشهما بعد عام 1945 (شارك سالازار في تأسيس الناتو ووافقت إسبانيا على القواعد العسكرية الأميركية)، تلتها المجموعة الأوروبية، الضامنة بطبيعتها للنظام الرأسمالي الرجعي. وبعد ثورة القرنفل (1974) وموت فرانكو (1980)، انضمّ هذان النظامان إلى معسكر الديمقراطيات الخفيفة في عصرنا.

3) فاشية القوى المهزومة 

تندرج ضمن هذه الفئة فرنسا - حكومة فيشي وبلجيكا ليون ديغريل وحكومة الدمى الفلمنكية المدعومة من النازيين. في فرنسا، اختارت الطبقة العليا "هتلر بدلاً من الجبهة الشعبية" (انظر كتابات آنّي لاكروا ريز في هذا الموضوع). أُجبِرَت هذه الفئة من الفاشية، المرتبطة بالهزيمة والخضوع "لأوروبا الألمانية"، على الانكفاء بعد هزيمة النازيين. فأفسحت المجال في فرنسا لمجالس المقاومة التي وحَّدت لبعضٍ من الوقت الشيوعيين ومقاتلي المقاومة الآخرين (شارل ديغول بالتحديد). ووجب على ظهورها اللاحق انتظار (مع بدء الإعمار الأوروبي وانضمام فرنسا إلى خطّة مارشال والناتو، أي الخضوع الإرادي للهيمنة الأميركية) اليمين المحافظ واليمين المعادي للشيوعية والاشتراكية الديمقراطية ليقطع كلّياً مع اليسار الراديكالي الآتي من المقاومة المعادية للفاشية والرأسمالية.

4) فاشية المجتمعات التابعة في أوروبا الشرقية

ننزل درجات عدّة لنتفحّص المجتمعات الرأسمالية في أوروبا الشرقية (بولندا ودول البلطيق ورومانيا وهنغاريا ويوغوسلافيا واليونان وأوكرانيا الغربية إبان حقبة الحكم البولندي). يتعيّن علينا هنا الحديث عن رأسمالية متخلّفة وبالتالي تابعة. دعمت الطبقات الحاكمة الرجعية في هذه البلدان ألمانيا النازية خلال فترة ما بين الحربين، لكن علينا النظر في ارتباطها السياسي مع مشروع هتلر على أساس كلّ حالة على حدة.

أسفر العداء القديم للهيمنة الروسية (روسيا القيصرية) في بولندا - لاحقاً سيتحوّل إلى عداءٍ للاتحاد السوفياتي الشيوعي عزّزته شعبية البابوية الكاثوليكية - عن تحويلها إلى تابعٍ لألمانيا على غرار نموذج فيشي. لكن لم يفهم هتلر الأمر على هذا النحو: كان الشعب البولندي شأنه شأن الروسي والأوكراني والصربي محكوماً عليه بالإبادة إلى جانب اليهودي والغجري وبضع شعوب أخرى. بالتالي، ما من مكانٍ لفاشيةٍ بولندية متحالفة مع برلين.

في المقابل، عوملت هنغاريا هورثي ورومانيا أنطونيسكو معاملة الحليف التابع لألمانيا النازية. أتت الفاشية في هذين البلدين من أزمات اجتماعية خاصّة بكلٍّ منهما: الخوف من "الشيوعية" بعد فترة حكم بيلا كن في هنغاريا؛ والتحشيد القومي الشوفيني ضد الهنغاريين والروثينيين تسمية لاتينية تطلق على الروس من سكان ما يعرف اليوم بأوكرانيا في رومانيا.

في يوغسلافيا، دعمت ألمانيا هتلر (وتبعتها إيطاليا موسوليني) كرواتيا "المستقلّة"، بالاعتماد على نظام الأوستاشا المعادي للصرب بدعمٍ قوي من الكنيسة الكاثوليكية، في حين حُكِمَ على الصرب بالإبادة.

لقد غيّرت الثورة الروسية بكل وضوح من آفاق نضالات الطبقة العاملة واستجابة الطبقات الحاكمة الرجعية، ولا يقتصر هذا على الاتحاد السوفياتي قبل عام 1939، بل يمتدّ إلى المناطق السليبة - دول البلطيق وبولندا. بعد معاهدة ريغا عام 1921، ضمّت بولندا الأجزاء الغربية من بيلاروسيا (فولينيا) وأوكرانيا (غاليسيا الجنوبية، وهذه كانت في السابق أراضٍ تابعة للتاج النمساوي، وغاليسيا الشمالية، وهذه كانت إحدى مقاطعات الإمبراطورية القيصرية).

لقد تشكَّل على امتداد هذه المنطقة معسكرَين اثنين بدءاً من 1917 (بل من 1905 مع الثورة الروسية الأولى): معسكرٌ مؤيِّد للاشتراكية (صار لاحقاً مؤيِّداً للبلشفية) حصل على شعبيّة واسعة بين الفلّاحين (إذ طمحوا إلى إصلاحٍ زراعي راديكالي يعود عليهم بالنفع) وبين دوائر المثقّفين (اليهود بالتحديد)؛ ومعسكر معادٍ للاشتراكية (متسقٌ بالتبعية مع الحكومات المعادية للديمقراطية تحت جناح النفوذ الفاشي) أيّدته جميع طبقات ملَّاك الأراضي. وقد تأكّد هذا التضاد مع إعادة ضمّ دول البلطيق وبيلاروسيا وأوكرانيا الغربية إلى الاتحاد السوفياتي في عام 1939.

لقد تشوّشت الخريطة السياسية للصراع بين معسكر "أنصار الفاشية" ومعسكر "أعدائها" في هذا الجزء من أوروبا الشرقية بفعل الصراع بين الشوفينية البولندية (ظلت مستمرّة في صورة مشروعها "لإضفاء الطابع البولندي" على المناطق البيلاروسية والأوكرانية) والشعوب المُتضرّرة من جهة، ومن جهة أخرى بفعل الصراع بين القوميين الأوكرانيين المعادين لبولندا وروسيا (بسبب معاداة الشيوعية) ومشروع هتلر الذي لا يتضمن دولة أوكرانية بصفة حليفٍ تابع، ذلك أنّ شعبها كان في عداد الإبادة ببساطة.

أحيل القارئ هنا على عمل أوستريتشوك المرجعي "الأوكرانيون في مواجهة ماضيهم"Olha Ostriitchouk, Les Ukrainiens face à leur passé [Ukrainians Faced with Their Past] (Brussels: P.I.E. Lang, 2013)، فتحليلها الرصين لتاريخ هذه المنطقة المعاصر (غاليسيا النمساوية وأوكرانيا البولندية وروسيا الصغرى، والأخيرة صارت أوكرانيا السوفياتية) سوف يزوّد القارئ بفهمٍ للقضايا المطروحة في النزاعات الجارية ولمكانة الفاشية المحلّية.

إنَّ الطريقة الحاذقة التي تتستّر بها وسائل الإعلام "المُعتدلة" على دعمها لهؤلاء الفاشيين، هي طريقةٌ بسيطة: تضع مصطلح "قومي" محل مصطلح فاشي

رؤية اليمين الأوروبي المتسقة مع فاشية الماضي والحاضر

كان اليمين في البرلمانات الأوروبية، خلال الفترة بين الحربين العالميتين، متسقاً تماماً مع الفاشية، وحتى مع النازية الأكثر إثارة للتنفير. بل إن "تشرشل"، على الرغم من "بريطانيته" المتشدّدة، لم يُخفِ قَطَّ تعاطفه مع موسوليني. ولم يتبيّن رؤساء الولايات المتحدة الأميركية، ولا الإدارات الديموقراطية والجمهورية، الخطر الذي تمثّله ألمانيا هتلر، دع عنك اليابان الفاشية الإمبراطورية، إلاّ في وقتٍ متأخّر. وبكل الخبث المعهود عن المؤسّسة الأميركية، جاهر "ترومان" بما كان يُضمره الآخرون: السماح للحرب بإنهاك أطرافها - ألمانيا، وروسيا السوفياتية والأوروبيين المهزومين - ثمّ التدخّل في اللحظة الأخيرة لقطف الثمار. هذا ليس بأي حال تعبيراً عن موقف مبدئي مناهض للفاشية. فقد أُعيدَ إنعاش سالازار وفرانكو في عام 1945 من دون أي تردّد. وعلاوة على ذلك، كان التستّر على الفاشية الأوروبية حاضراً على الدوام في سياسة الكنيسة الكاثوليكية. وما من تجنٍّ على الحقيقة في وصف بيوس الثاني عشرالبابا بيوس الثاني عشر بابا الكنيسة الكاثوليكية بالترتيب الستين بعد المائتين، لحبرية طويلة دامت تسعة عشر عاماً بين 1939 – 1958 بالمتعاون مع موسوليني وهتلر.

ولم تُثِرْ معاداة هتلر للسامية الازدراء إلاّ في وقتٍ لاحق، عندما بلغ هتلر المرحلة القصوى من جنونه القاتل. فقد كان الغلو في كراهية "اليهودية البلشفية"، الذي أثارته خطابات هتلر، شائعاً لدى العديد من السياسيين. ولم يغدُ من الضروري إدانة معاداة السامية من حيث المبدأ إلّا بعد إلحاق الهزيمة بالنازية. وقد صارت المهمّة الآن أسهل من ذي قبل، لأن مَنْ نصّبوا أنفسهم ورثة ما يُسمّى بـ"ضحايا المحرقة"، قد أصبحوا صهاينة إسرائيل، حلفاء الإمبريالية الغربية ضدّ الفلسطينيين والشعوب العربية التي، مع ذلك، لم تتورط قَطّ في فظاعات معاداة السامية الأوروبية!

من الواضح أنَّ انهيار النازيين وإيطاليا موسوليني حتَّم على القوى السياسية اليمينية في أوروبا الغربية (غربي "الستار"المقصود هو "الستار الحديدي": مصطلح يصف الحدود السياسية التي كانت تقسم أوروبا إلى منطقتين منفصلتين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945 حتى نهاية الحرب الباردة في عام 1991) أن تُميّز نفسها عن تلك التي كانت، ضمن إطار مجموعاتها، شريكة وحليفة للفاشية. ومع هذا، لم يُفَرض على الحركات الفاشية أكثر من التراجع إلى الخلفية والتواري خلف الكواليس من دون أن تختفي تماماً.

في ألمانيا الغربية، وباسم "المصالحة"، لم تمسّ الحكومة المحلّية ورُعاتها (الولايات المتّحدة، وبصورة ثانوية بريطانيا العظمى وفرنسا) أياً ممن ارتكبوا جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية. في فرنسا، اُتُخِذت إجراءات قانونية ضدّ المقاومة بتهمة ارتكاب "عمليّات إعدام تعسّفية بحجّة التعاون"، عندما عادت قوّات فيشي للظهور على الساحة السياسية مع أنطوان بيناي. في إيطاليا، صمتت الفاشية، إلا أنَّها ظلت حاضرة في صفوف حزب الديمقراطية المسيحية والكنيسة الكاثوليكية. في إسبانيا، حظرت المصالحة التي فرضتها في عام 1980 المجموعة الأوروبية (الاتحاد الأوروبي لاحقاً) أي تذكير بجرائم فرانكو، هكذا بكل بساطة ووضوح.
تتحمّل الأحزاب الاشتراكية والاشتراكية الديموقراطية غرب ووسط أوروبا، بدعمها حملات اليمين المحافظ ضد الشيوعية، حصّة من المسؤولية عن عودة الفاشية. ومع هذا، فقد كانت أحزاب هذا اليسار "المعتدل" ضد الفاشية حقّاً وصدقاً، غير أنّ هذا كلّه قد طواه النسيان. ومع انتقال هذه الأحزاب إلى الليبرالية الاجتماعية ودعمها غير المشروط للبناء الأوروبي المُصمّم منهجياً كضمان للنظام الرأسمالي الرجعي، وخضوعها غير المشروط للهيمنة الأميركية (عبر الناتو وغيره)، تبلورت كتلة رجعية تجمع بين اليمين التقليدي والليبراليين الاجتماعيين، كتلة يمكنها، عند اللزوم، استيعاب اليمين المتطرّف الجديد.

بعد ذلك، أخذت فاشية أوروبا الشرقية تنتعش بسرعة بدءاً من عام 1990. وكانت الحركات الفاشية في جميع تلك البلدان من الحلفاء المُخلصين للهتلرية أو تعاونت معها بدرجة أو بأخرى. مع اقتراب الهزيمة، توزّع عدد كبير من قاداتها النشطاء على الغرب، حيث أمكنهم "الاستسلام" للجيش الأميركي. ولم يُعاد أي منهم إلى الحكومة السوفياتية أو اليوغوسلافية أو أي حكومة أخرى من الديمقراطيات الشعبية الجديدة لمحاكمتهم على جرائمهم (في انتهاكٍ لاتفاقيات الحلفاء). لقد لجأوا جميعاً إلى الولايات المتّحدة وكندا، حيث أحاطتهم السلطات بالعناية والرعاية تقديراً لمعاداتهم الشرسة للشيوعية!

تُقدِّم أوستريتشوك، في كتابها "الأوكرانيون في مواجهة ماضيهم"، كلّ الأدلّة الضرورية على اتساق أهداف سياسة الولايات المتّحدة (ومن ورائها أوروبا) والفاشيين المحلّيين في أوروبا الشرقية (وأوكرانيا، على وجه التحديد). فعلى سبيل المثال، نشر "البروفيسور" دميترو دونتسوف، حتى وفاته في عام 1975، جميع أعماله في كندا. ولا تقتصر كتابات دونتسوف على كونها معادية للشيوعية بشراسة (مصطلح "اليهودية البلشفية" شائعٌ لديه)، فهي - فضلاً عن هذا - مناهضة للديمقراطية بالأساس. لقد دعمت حكومات ما يُسمّى بالدول الديمقراطية في الغرب، بل موّلت ونظّمت أيضاً، "الثورة البرتقالية" (الثورة المضادة الفاشية) في أوكرانيا. ولا يزال هذا كلّه مستمرّاً إلى الآن. وقبل هذا، في يوغوسلافيا، مهَّدت كندا السبيل أمام الأوستاشا الكرواتيةنسبة إلى أوستاشا وهي منظّمة فاشية إرهابية كرواتية نشطت، كمنظمة واحدة، في الفترة ما بين عامي 1929 و1945. قتل أعضاؤها الآلاف من الصرب واليهود والغجر والمعارضين السياسيين في المسرح اليوغوسلافي للحرب العالمية الثانية. عُرفت المنظمة، بشكل خاص، بأساليب الإعدام الوحشية والسادية التي غالباً ما كانت تشمل التعذيب وتقطيع الأعضاء. استندت الأوستاشا في أيديولوجيتها على السياسة العنصرية لألمانيا النازية.

إنَّ الطريقة الحاذقة التي تتستّر بها وسائل الإعلام "المُعتدلة" (التي لا تستطيع الجهر بأنَّها تدعم الفاشيين السافرين) على دعمها لهؤلاء الفاشيين، هي طريقةٌ بسيطة: تضع مصطلح "قومي" محل مصطلح فاشي. وعليه، لم يعد البروفيسور دونتسوف فاشياً، وإنّما "قومياً" أوكرانياً، تماماً مثلما لم تعد مارين لوبان فاشية بل قومية (كما كتبت لوموند على سبيل المثال)!

لن يفلح البديل في الاهتداء إلى وسيلة لتحقيق الاستقرار إلّا إذا نجح في الجمع بين الأهداف الثلاثة التي احتشدت حولها الثورات: مواصلة إرساء الديمقراطية في المجتمع والسياسة، والانجازات الاجتماعية التقدّمية، وتأكيد السيادة الوطنية

هل هؤلاء الفاشيون الحقيقيون "قوميون" حقّاً لا لشيء إلّا لأنهم يقولون ذلك؟ هذا أمر مشكوك فيه. لا يستحقّ القوميون اليوم هذه التسمية، إلّا إذا شكّكوا في سطوة القوى المُهيمنة فعلياً على العالم المعاصر، أي سطوة احتكارات الولايات المتّحدة وأوروبا. على حين أنّ هؤلاء "القوميون" الأدعياء هم أصدقاء لواشنطن وبروكسل والناتو. وتتلخّص "قوميّتهم" في الكراهية الشوفينية للشعوب المجاورة غير المسؤولة عن مصائبهم: تنصب الكراهية في حالة الأوكرانيين على الشعب الروسي (وليس القيصر)؛ وفي حالة الكروات على الشعب الصربي، وفي حالة اليمين المتطرّف الجديد في فرنسا والنمسا وسويسرا واليونان وأماكن أخرى على "المهاجرين".

ولا يجب الاستهانة بالخطر الذي يمثّله التواطؤ بين القوى السياسية الرئيسية في الولايات المتّحدة (الجمهوريين والديمقراطيين) وأوروبا (اليمين البرلماني والليبراليين الاجتماعيين) من جهة، وبين فاشيي الشرق من جهة أخرى. لقد نصّبت هيلاري كلينتون نفسها المتحدّثة الرسمية الأولى باسم هذا التحالف، وقامت بدفع هستيريا الحرب إلى أقصى حدودها. بل إنّها فاقت جورج بوش الابن في بعض الأحيان، إذ تدعو إلى حرب وقائية بنية الانتقام ضدّ روسيا، وليس إلى مجرّد تكرار الحرب الباردة معها، إلى جانب تدخل مفتوح في أوكرانيا وجورجيا ومولدوفا وغيرها، وحرب وقائية مماثلة ضدّ الصين وضدّ الشعوب المتمرّدة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. ومع الأسف، قد يوفّر هذا التوجّه المتهور للولايات المتّحدة، المرتبط بتراجعها، دعماً كافياً لهيلاري كلينتون لتصبح "أول امرأة تتولّى رئاسة الولايات المتّحدة"! دعونا لا نغفَل عما يحتجب وراء هذه النسوية الزائفة.

لا ريب أنَّ الخطر الفاشي قد يلوح اليوم وكأنه لا يمثل تهديداً للنظام "الديمقراطي" في الولايات المتّحدة وأوروبا غربي "الستار" القديم، على اعتبار أنَّ الاتساق بين اليمين البرلماني التقليدي والليبراليين الاجتماعيين يطرح عن الرأسمال المُهيمن ضرورة اللجوء إلى خدمات اليمين المتطرّف خَلَف الحركات الفاشية التاريخية. لكن عندئذٍ ما الذي يتعيّن علينا استنتاجه من النجاحات الانتخابية لليمين المتطرّف خلال العقد المنصرم؟ مما لا شك فيه أنَّ الأوروبيين هم، أيضاً، ضحايا انتشار الرأسمالية الاحتكارية المعمّمةلمزيد من التفاصيل انظر Samir Amin, The Implosion of Contemporary Capitalism (New York: Monthly Review Press, 2013) في استطاعتنا أن نفهم لماذا، إذاً، عندما يُجابَهون بالتحالف بين اليمين وبين ما يسمّى باليسار الاشتراكي، فإنَّهم يلجأون إلى الامتناع عن التصويت أو التصويت لليمين المتطرّف. إنَّ المسؤولية التي تقع على عاتق اليسار الراديكالي المُحتمل في هذا السياق لكبيرة: إذا كان لدى هذا اليسار الجرأة لاقتراح تقدمٍ حقيقي يتجاوز الرأسمالية الحالية، فسيربح المصداقية التي يحتاج إليها. ولا بدّ من وجود اليسار الراديكالي الجريء لتحقيق التماسك الذي ما تزال تفتقر إليه حركات الاحتجاج المجزّأة والنضالات الدفاعية الحالية. ومن ثمّ، يغدو بمقدور "الحركة" أن تقلب توازن القوى الاجتماعي لصالح الطبقات العاملة، وتجعلَ التقدّم التدريجي ممكناً. في هذا المقام، تمثِّل نجاحات الحركات الشعبية في أميركا الجنوبية خير دليل على ذلك.

في ظل الأوضاع الراهنة، تنبع النجاحات الانتخابية لليمين المتطرّف من الرأسمالية المعاصرة نفسها. وتسمح هذه النجاحات لوسائل الإعلام بأن تجمع تحت عارٍ واحد "شعوبية متطرّفي اليمين واليسار"، حاجبة بذلك حقيقة أنّ الفريق الأول مؤيد للرأسمالية (كما يبيّن مصطلح اليمين المتطرف) وبالتالي حليف مُحتمل لرأس المال، في حين أنّ الفريق الثاني هو الخصم الوحيد الخطير المُحتمل لنظام سلطة رأس المال.

ونلحظ حالة مماثلة، مع مراعاة ما يقتضيه اختلاف الظروف، في الولايات المتّحدة وإنْ كان اليمين المتطرّف فيها لا يُدعى بالفاشي. فإنّ متعصبي حفلات الشاي ودعاة الحرب اليوم (هيلاري كلينتون مثلاً)، على غرار مكارثية الأمس، يدافعون جهراً عن "الحرّيات"، المقتصرة بنظرهم على مالكي رأس المال الاحتكاري ومديريه، ضدّ "الحكومة" التي يشتبهون في تجاوبها مع مطالب ضحايا النظام.
ثمّة ملاحظة أخيرة حول الحركات الفاشية: يبدو أنّ هذه الحركات غير قادرة على معرفة متى وكيف تتوقّف عن الدفع بمطالبها. إذْ إنّ عبادة القائد، والطاعة العمياء، وتقديس البنى الأسطورية العرقية أو الدينية الزائفة التي تبث التعصّب، وتجنيد الميليشيات لأعمال العنف، تجعل من الفاشية قوّة يصعب السيطرة عليها. لذا لا مفرّ من وقوع الأخطاء، أو أقلّه الانحرافات غير المبرّرة من وجهة نظر المصالح الاجتماعية التي يخدمها الفاشيون. لقد كان هتلر مختلاً بلا ريب، ومع هذا استطاع إجبار كبار الرأسماليين الذين رفعوه إلى السلطة على اتباعه إلى نهاية جنونه، حتى أنَّه حصل على دعم قطاع كبير للغاية من السكان. ومع أنّ هتلر كان حالة متطرّفة وموسوليني وفرانكو وسالازار وبيتان لم يكونوا مختلين، فإنّ عدداً كبيراً من رفاقهم وأتباعهم لم يتردّدوا في ارتكاب أعمال إجرامية.

الفاشية في بلدان الجنوب المعاصر

كان اندماج أميركا اللاتينية في الرأسمالية المعولمة، في القرن التاسع عشر، قائماً على استغلال الفلّاحين، الذين انحدروا إلى مرتبة "عمّال سخرة"المصطلح الأصلي "بيونز". (م) وخضعوا للممارسات الوحشية لكبار ملّاك الأراضي. ويُعدُّ نظام بورفيرو دياث في المكسيك مثالاً نموذجياً. وقد أدّى تعزيز هذا الاندماج في القرن العشرين إلى "تحديث الفقر". فقد أفضت الهجرة الجماعية السريعة، التي كانت في أميركا اللاتينية أكثر بروزاً وأسبقية منها في آسيا وأفريقيا، إلى أشكالٍ جديدة للفقر في الأحياء الحضرية المعاصرة، قامت مقام الأشكال القديمة للفقر الريفي. بالتزامن مع هذا، جرى "تحديث" أشكال السيطرة السياسية على الجماهير، عبر إقامة الدكتاتوريات، وإلغاء الديمقراطية الانتخابية، وحظر الأحزاب والنقابات، ومنح أجهزة المخابرات "الحديثة" كافة حقوق التوقيف والتعذيب بأساليبها الاستخباراتية، على غرار الفاشية الموجودة في بلدان الرأسمالية التابعة في أوروبا الشرقية. خدمت ديكتاتوريات أميركا اللاتينية في القرن العشرين مصالح الكتلة الرجعية المحلّية (كبار ملاك الأراضي والبرجوازية الكومبرادورية، وأحياناً الطبقات الوسطى التي أفادت من هذا النوع من التنمية الرثة)، إلا أنَّها قد خدمت، قبل كل شيء، الرأسمال الأجنبي المُهيمن، وبصفة أخص الرأسمال الأميركي الذي دعم، لهذا السبب بالذات، تلك الديكتاتوريات إلى أن أطاح بها الانفجار الأخير للحركات الشعبية. حالت قوّة هذه الحركات، والإنجازات الاجتماعية والديمقراطية التي حقّقتها، دون عودة الديكتاتوريات الموالية للفاشية، على الأقل في المدى القصير. لكن المستقبل لا يزال غير مؤكّد، فالصراع بين حركة الطبقات العاملة وبين الرأسمالية المحلّية والعالمية، قد بدأ للتو. وشأنها شأن جميع أنماط الفاشية، لم تنجُ ديكتاتوريات أميركا اللاتينية من ارتكاب الأخطاء، وبعضها كان قاتلاً لها. وهنا أفكّر، على سبيل المثال، في ليوناردو فورتوناتو غاليتيري الذي خاض الحرب على جزر مالفيناس من أجل استمالة الشعب الأرجنتيني لجانبه.

حلّ الطابع التنموي الرثّ المرتبط بتوسّع الرأسمالية الاحتكارية المُعمّمة محل الأنظمة الشعبوية الوطنية في عصر باندونغ في كلّ من آسيا وأفريقيا، وأنتج أنماطاً شبيهة بتحديث الفقر والعنف القمعي، وتقدّم تجاوزات الأنظمة ما بعد الناصرية وما بعد البعثية في العالم العربي أمثلة على ذلكانطلاقاً من ثمانينيات القرن الماضي، حلّ الطابع التنموي الرثّ، المرتبط بتوسّع الرأسمالية الاحتكارية المُعمّمة، محل الأنظمة الشعبوية الوطنية في عصر باندونغ (1955-1980) في كلِّ من آسيا وأفريقيابصدد انتشار الرأسمالية الاحتكارية المعممة، انظر المرجع السابق أنتج هذا التحوّل أنماطاً شبيهة بتحديث الفقر وتحديث العنف القمعي، وتعطينا تجاوزات أنظمة ما بعد الناصرية وما بعد البعثية في العالم العربي أمثلة جليّة على ذلك. ولا يجوز لنا أن نخلط بين الأنظمة الشعبوية الوطنية في عصر باندونغ، وبين الأنظمة التي أعقبتها وقفزت إلى عربة الليبرالية الجديدة المعولمة، بحجة "غياب الديمقراطية" في كليهما. فعلى الرغم من ممارساتها السياسية الاستبدادية، استفادت أنظمة باندونغ من بعض الشرعية الشعبية نتيجة إنجازاتها الفعلية، التي أفادت غالبية العمّال، فضلاً عن مواقفها المناهضة للإمبريالية. أمّا الديكتاتوريات التي جاءت في أعقابها، فقد خسرت هذه الشرعية بمجرّد قبولها الانصياع للنموذج النيوليبرالي المعولم والتنمية الرثّة المُصاحبة له. فقد أفسحت السلطات الشعبية والوطنية، وإن لم تكن ديمقراطية، المجال لعنف الشرطة على هذا النحو خدمة للمشروع النيوليبرالي المناهض للشعب والوطن.

لقد ذهبت الانتفاضات الشعبية الأخيرة، التي اندلعت في عام 2011، إلى التشكيك في الديكتاتوريات، إلى التشكيك فحسب لا أبعد. لن يفلح البديل في الاهتداء إلى وسيلة لتحقيق الاستقرار إلّا إذا نجح في الجمع بين الأهداف الثلاثة التي احتشدت حولها الثورات: مواصلة إرساء الديمقراطية في المجتمع والسياسة، والانجازات الاجتماعية التقدّمية، وتأكيد السيادة الوطنية.

بيد أنَّنا لا نزال بعيدين عن ذلك. ولهذا السبب توجد بدائل متعدّدة مُمكنة في المدى المنظور: أثمّة عودة مُحتملة إلى النموذج الشعبي الوطني لعصر باندونغ، ربّما مع مسحة من الديمقراطية؟ أو ماذا عن بلورة أدق لجبهة ديمقراطية شعبية ووطنية؟ أو الانغماس في الوهم المتخلّف الذي يتخذ، في هذا السياق، شكل "أسلمة" السياسة والمجتمع؟

في الصراع حول هذه الاستجابات الثلاث المُحتملة للتحدّي، اتخذت القوى الغربية (الولايات المتّحدة وحلفاؤها الأوروبيون التابعون) خيارها بأن تدعم الأخوان المسلمين و/أو غيرهم من "السلفيين". والسبب وراء ذلك بسيط وواضح: هذه القوى السياسية الرجعية تقبل ممارسة سلطتها في إطار النيوليبرالية المعولمة (والتخلّي، بالتالي، عن أي احتمال للعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني). هذا هو الهدف الوحيد الذي تسعى إليه القوى الإمبريالية.

وعليه، فإنّ برنامجَ الإسلام السياسي ينتمي إلى نمط الفاشية الموجود في المجتمعات التابعة. وفي واقع الأمر، يشاطر الإسلام السياسي جميع أشكال الفاشية خاصيتين أساسيتين: (1) عدم إدانة الجوانب الأساسية للنظام الرأسمالي (وفي هذا السياق، يشير هذا إلى قبول نموذج التنمية الرثّ المُرتبط بتوسّع الرأسمالية النيوليبرالية المعولمة)؛ (2) اختيار أشكال الحكم السياسي المناهضة للديمقراطية، والدولة البوليسية (مثل حظر الأحزاب والتنظيمات، والأسلمة القسرية للأخلاق).

بالتالي، فإنّ خيار القوى الإمبريالية المناهض للديمقراطية (الذي ينقض الخطاب المؤيّد للديمقراطية المُدْرَج في طوفان الدعاية الذي يغمرنا) لا ينبذ "التجاوزات" المُحتملة للأنظمة الإسلامية المعنية. وكغيره من الأنواع الأخرى للفاشية، ونتيجة للأسباب نفسها، فإن تلك التجاوزات منقوشة في "جينات" أنماط تفكيرهم: الخضوع الأعمى للقادة، والتقيّد المُتعصّب باعتناق دين الدولة، وتشكيل الميليشيات لفرض الخضوع. وفي الحقيقة، يمكن رؤية هذا بالفعل، فالبرنامج "الإسلامي" لا يُحرِز تقدّماً سوى في غمار حرب أهلية (بين السنّة والشيعة مثلاً) ولا ينتج عنه سوى الفوضى الدائمة. هذا النوع من السلطة الإسلامية، إذاً، يضمن بقاء المجتمعات المعنية عاجزة تماماً عن تأكيد وجودها على الساحة العالمية. ومن الواضح أنّ الولايات المتّحدة المتدهورة قد تخلّت عن الحصول على شيء أفضل، كحكومة محلية مستقرّة وخاضعة لصالح هذا الخيار الثاني "الأفضل".

لوحظت تغييرات وخيارات مماثلة خارج العالم العربي الإسلامي، الحالة الهندوسية مثلاً. فحزب الشعب الهندي، باراتيا جاناتا، الفائز لتوّه في الانتخابات، حزب ديني هندوسي رجعي يقبل اندماج حكومته في النيوليبرالية المعولمة. وهو الضامن بأنّ الهند، في ظل حكومته، سوف تتراجع عن مشروعها في التحوّل إلى قوة صاعدة. من ثمّ، لا يكون وصفه بالفاشية تجنّياً على حقيقته.

أخيراً، لقد عادت الفاشية إلى الغرب والشرق والجنوب، وهذه العودة مرتبطة بطبيعة الحال بتفاقم الأزمة الهيكلية للرأسمالية الاحتكارية المُعمّمة والمؤمولة والمعولمة. لهذا، فإنّ اللجوء، سواء الفعلي أو حتى المُحتمل، إلى خدمات الحركة الفاشية من جانب المراكز المهيمنة في هذا النظام الذي يتعرّض لضغوط شديدة، إنّما يتطلّب من جانبنا أقصى قدر من اليقظة. قَدَرُ هذه الأزمة أن تتفاقم، وبالتبعية يصبح التهديد باللجوء إلى الحلول الفاشية خطراً ملموساً. إنّ دعم هيلاري كلينتون لصيحات الحرب في واشنطن لا يبشِّر بالخير للمستقبل القريب.

نشر هذا المقال في Monthly Review في العام 2014.

سمير أمين

مفكّر واقتصادي مصري، يُعدُّ من أهم مؤسّسي نظرية المنظومات العالمية ورائدًا في نظرية التبعية، لديه عشرات الكتب السياسية والاقتصادية.
أنشأ أمين العديد من المؤسسات من بينها مجلس تنمية أبحاث العلوم الاجتماعية في إفريقيا، وعمل في مجال التدريس ومديراً للمعهد الأفريقي للتنمية الاقتصادية والتخطيط، ومديراً لمنتجى العالم الثالث في دكار.

علاء بريك هنيدي

مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.