النظرية الاجتماعية لحنّة آرنت

  • ترى حنّة آرنت أنّ الحياة الحرّة والكريمة لا تتعلّق بتحقيق الإشباع المادي والاقتصادي فقط، بل بالتحرّر من الاضطهاد السياسي والظلم وانعدام المساواة والاغتراب الاجتماعي
     
  • توفّر أفكار الحرّية والثورة التي عبّرت عنها آرنت أداة تحليلية لفهم أحداث ثورات الربيع العربي، إلّا أنّ توظيف هذه المفاهيم يتطلّب مزيداً من الاستكشاف عند تطبيقها

قال الشاعر العراقي الراحل مظفّر النوّاب ذات مرّة: "إذا رأيت عربياً نائماً فأيقظه حتّى لا يحلم بالحرّية" (al-Dik, 2013). كتب النوّاب قصيدته في سياق نقده للأنظمة الحاكمة في العالم العربي وقمعها المُزمِن لحرّية شعوبها (al-Jazeera, 2022). وتستحضر هذه القصيدة عن الحرّية في العالم العربي أعمال حنّة آرنت التي تهتمّ نظريتها الاجتماعية وأعمالها عن الثورة بمفهوم الحرّية.

السياق الفكري

لقد جسّد العمل الأكاديمي لحنّة آرنت تجاربها الشخصية والحياتية بشكل ملحوظ. لقد وُلدت آرنت في عائلة يهودية ألمانية علمانية، حيث أُجبرت على الفرار، أوّلاً إلى فرنسا ثمّ إلى الولايات المتّحدة بعد ظهور الحزب النازي وأيديولوجيته الشمولية في العام 1933. لكن قبل أن تتمكّن من الهروب، تعرّضت للسجن على يد النظام النازي الذي جرّدها من جنسيتها الألمانية (al-Halosh, 2020). ولا يوجد شكّ في تأثير ذلك على فكر آرنت. ففي محاولة لتسليط الضوء على الإجراءات الوحشية للأنظمة النازية والستالينية، أنتجت آرنت أول عمل أكاديمي لها في الولايات المتّحدة تحت عنوان "أصول الشمولية". في هذا النصّ الهامّ، استكشفت آرنت طبيعة ظاهرة الحكم الشمولي وتأثيرها على الحرّية وحقوق الإنسان (Arendt, 1951). بعد ذلك، شرعت آرنت في تحليل الثورات الفرنسية والأميركية والروسية. ومن خلال استكشاف هذه الثورات، حاولت الاشتباك مع مفهوم الثورة، وهي المحاولة التي قصدت من خلالها تقديم وصفة لتحدّي قمع السلطة السيادية المُفرط لحرّية الناس والديمقراطية وحقوق الإنسان (Arendt, 1965: 17).

الحجّة الرئيسية

تتمثّل إحدى الحجج الرئيسية لآرنت حول الحرّية في أنّ الحركات الثورية يجب أن تفهم أن التحرّر ليس الهدف النهائي للثورات الجماهيرية. بالنسبة لها، يجب أن يكون الهدف النهائي للثورات هو تحقيق الحرّية، مع ملاحظة أن التحرّر يمثّل وسيلة لتحقيقها (Salikov, 2017). اعتبرت آرنت أنّ الحرّية، وليس العدالة أو العظمة، هي المعيار الأعلى للحكم على تكوين الهيئات السياسية، وخَلصت إلى أنّ مفهوم الثورة يجب أن يعمل جنباً إلى جنب مع مفهوم الحرّية (Arendt, 1965: 29).

بحسب عبد الرحمن الحلوش، تعتبر آرنت أنّ الحرّية هي قدرة المرء على ممارسة الحرّية بطريقة ملحوظة، من خلال الفعل والممارسة والنقد في المجال العام (al-Halosh, 2020). في كتابها "الحالة الإنسانية"، تشدِّد آرنت على أهمّية أن يتخطّى الإنسان الفرد الحياة الخاصّة، وينضمّ إلى المجال العام، ويتّحد في التجمّعات السياسية ليعيش حياة حرّة وكريمة. وفي هذا الصدد، تشير آرنت إلى أن الحياة الأسرية الخاصّة هي سمة ضرورية لتنشئة الفرد وصقله.

فضلاً عن ذلك، تدرك آرنت أن للعمل قيمة لأنه يغطّي احتياجات الحياة اليومية ويملأ أوقات الفراغ. مع ذلك، يجب ألّا تأتي هذه الضرورات على حساب المشاركة السياسية الحرّة والفعّالة في المجال العام (Arendt, 1958: 32). على هذا النحو، ترى آرنت أن الحياة الحرّة والكريمة لا تتعلّق فقط بتحقيق الإشباع المادي والاقتصادي، ولكنها تُعنى أيضاً بالتحرّر من الاضطهاد السياسي والظلم وانعدام المساواة والاغتراب الاجتماعي (Arendt, 1958: 47).

من المثير للاهتمام أن آرنت اعتبرت أن الحداثة - بكل سماتها المُتمثّلة في تراكم الثروة وملكية العقارات والتطوّرات الاقتصادية والصناعية - تلعب دوراً رئيسياً في تمزيق التماسك المجتمعي وتحويل الفرد إلى عبد للأجهزة التكنولوجية والإدارات البيروقراطية (Melfi, 2016:13). بالإضافة إلى ذلك، أفرغت هذه السمات الحديثة الحياة السياسية من محتواها، وأضعفت التضامن الاجتماعي وعمّقت الاغتراب الاجتماعي (Arendt, 1958: 250-3).

تتصوّر آرنت الحرّية باعتبارها الإنجاز الأكبر للثورات والاحتجاج على السياسات المتطرّفة للسلطة السيادية والجشع الرأسمالي في العصر الحديث (Salikov, 2017)، وتشير إلى أن الانخراط في الثورات يوفّر فرصة للانضمام إلى المجال العام وتنمية الشعور بقيمة الذات والانتماء المجتمعي والتضامن، كذلك توفّر هذه المشاركة فرصة للأفراد للتصرّف والظهور والتحدّث وتبادل الآراء حول أفضل الأساليب الثورية لخلق حياة سياسية حرّة وتحقيق العدالة الاجتماعية. على هذا النحو، أصبحت الثورات تمثّل الأحداث السياسية الأساسية القادرة على خلق إجراءات فعّالة لتحرير المجتمع من السياسات الظالمة وغير المتكافئة وإرساء الحرية (Arendt, 1958:50).

تشير آرنت إلى أن توافق وجهات النظر بين الأفراد المشاركين في المجال العام سيضعف ويخرِّب مسعى الثورات، فيما يتيح الاختلاف في الرأي أساليب مقاومة فعّالة طالما أن المعنيين لا يغيرون هويّتهم وهدفهم الرئيسي (Arendt, 1958:57). كذلك ترى أن مثل هذه الثورات ستلجأ حتماً إلى بعض العنف لإعطاء صوت للبائسين.

على الرغم من أن آرنت تدعو إلى نوع من الاحتجاج السلمي مثل المظاهرات الجماهيرية المُنظّمة والاعتصامات والإضرابات العامة عن الطعام، فإنها تقرّ بأن العنف يؤتي ثماره ويلفت الانتباه إلى الجماعات المحرومة (Arendt, 1969: 79). في هذا الصدد، توضح آرنت فيما الهدف الأساسي للثورة هو إنهاء الاستبداد وتحقيق الحرّية، فإنها تؤدّي في كثير من الأحيان إلى اندلاع الحرب بكل عنفها وأضرارها. وبالتالي، قد يضطر الناس إلى مواجهة العنف إذا أرادوا الحصول على الحرّية السياسية (Arendt, 1965: 23). فضلاً عن ذلك، تُلمِّح آرنت إلى تأثير التدخّل الخارجي على الثورات، وتحذّرنا من أن السلطة السيادية أو النخب التجارية قد تحاول استمالة قادة الثورة وتخريب جهود الحركات الثورية. أخيراً، تعبّر آرنت عن حسرتها وأسفها لكون العديد من قادة الحركات الثورية لديهم القدرة على التحوّل إلى نخب جديدة تنخرط في استراتيجيات التمييز والقسوة، وتنخرط في نهاية المطاف في سياسات مماثلة لتلك التي احتجّوا عليها وتحدّوها في البداية (Salikov, 2017).

التطبيق

مع بداية ما يُسمّى بثورات "الربيع العربي"، ازداد الأمل بشكل كبير لتغيير مقولة النوّاب عن حلم الحرّية في العالم العربي. كان حلم تحقيق الحرّية السياسية وتحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية المزرية وحقوق الإنسان للشعب العربي يوشك على التحقّق (al-Dik, 2013)، لكن سرعان ما فشلت معظم هذه الثورات، ما دفع بعض المحلِّلين السياسيين إلى اعتبارها غير مُكتملة، أو وصفها بأنها انتفاضات اجتماعية واسعة النطاق بدلاً من أن تكون ثورات. وقد لجأ هؤلاء المحلّلون إلى إعادة قراءة منظور آرنت للثورة والتحليل بناءً على مقارنة الحرّية بمفهوم البدايات الجديدة. في هذا الصدد، قال معتز ممدوح فيما معظم ثورات "الربيع العربي" كانت راديكالية وأدّت إلى وضع حدّ لبعض السمات الاستبدادية، إلّا أنها لم تنفصل في النهاية عن السياقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية السابقة للدول العربية (Mamdouh, 2018).

نتيجة لذلك، لم تؤدِّ هذه الثورات إلى إرساء الحرّية، ولم تقدّم بديلاً حقيقياً للسلطة السياسية. وبالتالي، ذكر هؤلاء المحلّلون أن الشرط الذي لا مفرّ منه لنجاح مثل هذه الثورات يتطلّب توافر بدائل اجتماعية وسياسية لتحلّ محل الأنظمة السياسية القائمة. كانت هذه البدائل مفقودة ضمن التيّارات السياسية أو الاجتماعية أو الفكرية في العالم العربي، حيث أدّت فترة المراهقة السياسية التي ميَّزت معظم الأحزاب أو الحركات التي وصلت إلى السلطة بعد الثورات إلى استبداد أشدّ قسوة.

أيضاً رأى هؤلاء المحلّلون أن الثورات العربية فشلت في تحويل الاحتجاج الشعبي إلى أنظمة دستورية تؤسّس للحرية، على الرغم من أن بعض هذه الثورات نجحت في تجنّب الانزلاق إلى الحرب الأهلية مثل الثورتين التونسية والمصرية. لكن الأسوأ من ذلك هو فشل دول عربية أخرى في الحفاظ على الوحدة السياسية، حيث أدّت الثورات إلى حرب أهلية دموية كما حدث في ليبيا وسوريا واليمن. هكذا، أكّد العديد من المحلّلين أنه حتّى تنضج البدائل الاجتماعية والسياسية وتنجح في التحرّر من التجربة القاسية للماضي السياسي - ويُظهر المواطن العربي إرادة للتغيير السياسي - يبدو أن العالم العربي سيظل أسيراً للبنى السياسية السلطوية القائمة. لذلك، اتفق هؤلاء المحلّلون مع قراءة آرنت للثورات، وخلصوا إلى أن تجارب الربيع العربي لا يمكن اعتبارها ثورات لأنها فشلت في إحداث تغيير دستوري (Mamdouh, 2018).

في المقابل، اعتبر باحثون آخرون أن هذه الاستنتاجات مُتسرِّعة ومُضلِّلة. تحت عنوان "لا مستقبل للديكتاتوريات في الوطن العربي" قال الباحث عماد العلي إن الرجل العربي شهد نهضة وتحوّلاً في فكره السياسي بعد ثورات 2011 (al-Ali, 2019). من هنا، حقّقت هذه الثورات نجاحاً كبيراً وأحدثت تغييراً في الوضع السياسي، ما دفع النخب الحاكمة في الوطن العربي إلى التفاعل مع الناس وفقاً لهذا التغيير الجديد. بناءً على مفهوم آرنت للحراك، أكّد العلي أن الحرمان السابق من الحرية السياسية الذي استمر لعقود طويلة أدّى إلى تضاؤل الوعي الاجتماعي والسياسي الكامل للجمهور العربي. ومن هذا المنظور، أوضح العلي أن انعدام الحرّية السياسية في العالم العربي أفرغ السياسة من جوهرها، ما قلّص المشاركة السياسية المستقلة والطوعية. وطوال الوقت، استمرّت بِنى السلطة في قمع وتقييد حرية الفكر والحراك للشعوب العربية (al-Ali, 2019).

يجب أن يكون الهدف النهائي للثورات هو تحقيق الحرّية، مع ملاحظة أن التحرّر يمثّل وسيلة لتحقيقها

إلى ذلك، اجتاحت المشاكل الاجتماعية مثل الفساد والفقر والبطالة وإساءة استخدام السلطة والظلم الاجتماعي جميع جوانب الحياة اليومية للشعوب العربية. وبالتالي، أدّت هذه المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلى اندلاع هذه الثورات ودفعت بالشعوب العربية إلى الثورة في وجه الحكومات الاستبدادية. وعلى الرغم من أن هذه الحكومات سارعت لقمع الثورات، فقد استمرّ النشاط السياسي للناشطين الثوريين من خلال الشبكات الاجتماعية والمنابر السياسية، وكذلك في التعليقات على موضوعات معيّنة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ما أثار مناقشات حيّة حول القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. لذلك، خلُص العلي إلى أن هذه الثورات أرسلت إشارة للنخب الحاكمة بأن العمل السياسي المسؤول أمر لا مفرّ منه، مشيراً إلى أن الإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية يجب أن تراعي مصالح المواطنين العرب، وأنّ آليّات السيطرة التي نُشِرت سابقاً أثبتت أنها غير مناسبة في عصر العولمة والتطوّرات التكنولوجية (al-Ali, 2019). في السياق نفسه، خلص آري الميري هيفونين إلى أن ثورات الربيع العربي أتاحت فرصاً للشباب لحرّية التجمّع والنشاط في المجال العام. بالنسبة له، مكّن هذا التجمّع الثوّار من تحدّي الإكراه البنيوي ومقاومة الإغراءات الرأسمالية، وكذلك مناقشة القضايا ذات الاهتمام العام مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والتضامن الاجتماعي، ما جعل بداية شيء جديد أمراً ممكناً (Hyvonen, 2016:209). وتعليقاً على مأساة الثورة الفاشلة في مصر، اقتبس هيفونين تصريحات آرنت عن الثورة المجرية عندما قالت: "كانت هذه الثورة حدثاً حقيقياً لن تعتمد مكانته على الانتصار أو الهزيمة، وعظمتها مكفولة في المأساة التي أحدثتها (Hyvonene, 2016: 208).

توفّر أفكار الحرية والثورة التي عبّرت عنها آرنت أداة تحليلية لفهم أحداث ثورات الربيع في العالم العربي إلى حدّ كبير. مع ذلك، فإن توظيف واستخدام هذه المفاهيم يتطلّب مزيداً من الاستكشاف عند تطبيقها في العالم العربي. ينبع هذا في بعض النواحي من التوتّرات الموجودة في فكر آرنت، ولكن في نواحٍ أخرى، فهو نتيجة للتطبيق التجريبي. على سبيل المثال، قامت آرنت - في بعض النقاط - بتقدير العمّال كعنصر مهمّ لإطلاق أعمال ثورية جماهيرية، بينما أظهرت درجة من الازدراء لهم في نقاط أخرى ولا سيّما بعد صعود الأنظمة الشمولية، باعتبار أن هذه الأنظمة اعتمدت عليهم في طريق الحرّية (Canovan, 1978:6). بالمثل، لا تزال المخاوف نفسها موجودة فيما يتعلّق بالثورات العربية التي يمكن أن تؤدّي إلى ظهور الجماعات المتطرّفة وعودة الاستبداد (Mahmood, 2018). بالإضافة إلى ذلك، ميّزت آرنت بشكلٍ حادّ بين المجالات الخاصة (الاجتماعية) والعامة (السياسية)، مع تجاهل تأثير الاهتمامات الخاصة على الوعي العام والعكس بالعكس (d’Entreves, 2019). في الواقع، هذا أمر متأصلٌ جداً في العالم العربي، حيث تلعب التقاليد دوراً رئيسياً في تحديد خيارات الناس. يتبقى أن نرى إلى أي مدى تقدّم نظرية آرنت الاجتماعية حول الثورات تحليلاً شاملاً لانتفاضات الربيع العربي، مع ذلك لا شكّ في أن عملها يساعد على فهم الديناميكيّات الأوسع التي تلعب دوراً في المجال السياسي.

نشر المقال في SEPAD في 13 تموز/يوليو 2022.