جذور الهجمات على الحقوق الإنجابية

  • هل من الممكن فعلاً أن يتآمر الرأسماليون لتقويض حقوق الإجهاض من دون أن يعترف أي منهم بذلك ولو سهواً؟ لماذا هناك من بين الديمقراطيين من يساند حقوق الاجهاض؟ فهؤلاء يمثّلون أيضاً مصالح الطبقة الرأسمالية. لا يمكن أن يقتصر السبب على إرغام النساء فقط على إنتاج المزيد من العمّال.
     
  • تشكّل الأسرة النواة الأساسية لما يُسمّى بإعادة الإنتاج الاجتماعي. في هذه الأسرة، تقوم النساء بغالبية الأعمال المنزلية وتربية الأطفال ورعاية المسنّين. ولأنّ هذا النموذج العائلي تمّ تناقله في خصائصه الأساسية، تمّ أيضاً تناقل جميع القيم والتقاليد والأعراف الثقافية التي تطوّرت لتفسير وتبرير الفوقية الذكورية.
     
  • لا يمكن لأي نمط إنتاج قائم على اللامساواة الحادّة والاستغلال أن يستمر طويلاً من دون مؤسّسات حكم وأنظمة سياسية وأفكار وتقاليد ترعى وتعمل على ترشيد هذه الصيرورات الاقتصادية. لا تكتفِ الطبقة الحاكمة باستخراج الثروة وحسب بل عليها أيضاً إيجاد السبل لضمان استقرار حكمها.

منذ ثلاثة عشر عاماً، في اجتماعٍ تناول الهجمات اليمينية على حقوق النساء في سياق قانون الرعاية الصحية الأميركي المعروف بـ"أوباما كير"، شدّد أحد المتكلّمين على أهمّية انتخاب الديمقراطيين الداعمين لحق الاختيار (أي مناصري تشريع الإجهاض)، ومن دون أن يعطي أي شرح إضافي بما خصّ الهجمات.

في تلك الفترة، كان اليمين يهاجم قانون الرعاية الصحية لأنه قد يؤدي الى توسيع نطاق الإجهاض والوصول إلى وسائل منع الحمل. بعد بضعة أعوام من صدور القانون، فرضت المحكمة العليا قيوداً على الوصول إلى وسائل منع الحمل، وذلك "احتراماً للمعتقدات الدينية" للشركات إزاء ردّة فعل مالكيها الرجعيين. ولتمرير قانون الرعاية الصحية، ساوم الديمقراطيون، وبكل سرور، على الحقوق الإنجابية. في نهاية المطاف، استمرّ أوباما كير في حجب الأموال الفيدرالية المُخصّصة للإجهاض وفرض على كل ولاية تقديم، على الأقل، خطّة تأمين واحدة لا تشمل تغطية الاجهاض.

خلال الاجتماع، انتقدت امرأة اشتراكية شابّة المتحدّث لأنه لم يطرح "التفسير البنيوي"، وقالت إن الرأسمالية هي وراء هذه السياسات الأبوية، وإن أرباب العمل - الرأسماليين – يريدون الحدّ من وسائل منع الحمل والإجهاض لأنّهم يريدون من الطبقة العاملة أن تنتج المزيد من العمّال، وبالتالي دفع الأجور إلى الإنخفاض. بالإضافة الى ذلك، فهم يريدون دفع تكاليف أقل على الرعاية الصحية لتغطية عمّالهم. أذكر أنني أومأت برأسي في تلك اللحظة، بالفعل لا بدّ من وجود سبب أعمق لذلك. كنت أدرك أن الرأسمالية، كنظام، متورّطة في ذلك. كان هناك شيء من المنطق في كلامها. لكن عندما عدت إلى المنزل، بدأ ما قالته يفقد معناه وبدا أقل منطقية.

هل فعلاً يحتاج الرأسماليون إلى المزيد من العمّال؟ البطالة تطال الملايين من الأفراد، كما أنهم يسجنون العديد ممّن يشكّلون "الفائض" السكّاني. هل من الممكن فعلاً أن يتآمر الرأسماليون بهذا الشكل لتقويض حقوق الإجهاض من دون أن يعترف أي منهم بذلك ولو سهواً؟ لماذا هناك من بين الديمقراطيين من يساند حقوق الاجهاض؟ فهؤلاء يمثّلون أيضاً مصالح الطبقة الرأسمالية. لا يمكن أن يقتصر السبب على إرغام النساء فقط على إنتاج المزيد من العمّال.

أمّا بما يخصّ التكاليف والأرباح، فإن قانون الرعاية الصحّية كان سيسمح لشركات التأمين والقطاع الصحي والمصارف بتحقيق أرباح ضخمة مع أو من دون تغطية الإجهاض، فلماذا إذاً حاولوا القضاء على مشروع القانون على هذا الأساس؟ لم يكن الأمر مقتصراً على الأرباح فقط.

كانت الشابة على حقّ بأن هذه الهجمة "ممنهجة" وأن السياسات المُنحازة ضدّ النساء مُرتبطة بالرأسمالية، إلّا أن الجواب الذي تقدّمت به بدا غير كافٍ. تعمّقت في الكتابات الماركسية والتاريخية التي تناولت الحركة المناهضة للإجهاض، لأنني أردت فهم هذا الموضوع لكي أصبح قادرة على شرحه لنفسي وللآخرين.

غالباً يساء فهم أو توصيف المقاربة الماركسية لقمع النساء وتحرّرهن. إذ يتمّ، في الأوساط الجامعية، تصويرها بـ"الحتمية الاقتصادية" أو "الاختزالية" – تأكيدًا على اختزال الماركسيون لكل مسألة بالاقتصاد. بطريقة أو بأخرى، هذا ما قامت به الاشتراكية التي تحدّثت من بين الحضور خلال الاجتماع. إلّا أن ذلك ليس بتوصيف دقيق للنهج الماركسي.

صحيح أن الماركسيّين يشدّدون على أهمّية النظام الاقتصادي، حيث يلعب نمط الإنتاج دوراً أساسياً في رسم ملامح النظام الاقتصادي وبنى المجتمع. ينطلق الماركسيون من الطريقة التي ينتج المجتمع من خلالها ويعيد إنتاج نفسه، ومن المعايير السائدة والقوانين والعلاقات التي يجري في ظلّها الإنتاج وإعادة الإنتاج. هذا ما يعنيه "الاقتصاد" في الحقيقة. ينخرط كلّ مجتمع بالأساس في عملية إنتاج وإعادة إنتاج. إن الأفكار والقوانين والمؤسّسات الرسمية والدينية التي تقوم بتبرير الصيرورات والعلاقات الكامنة في قاعدة الإنتاج وإعادة الإنتاج، وتعزيزها وتثبيتها، هي ما وصفها ماركس بالبنية الفوقية.

نمط الإنتاج الرأسمالي والأسرة

في ظل الرأسمالية، على سبيل المثال، هناك من يمتلك وسائل الإنتاج (الأرض والمصانع والتكنولوجيا، إلخ…)، فيما يذهب آخرون يومياً إلى العمل على وسائل الإنتاج هذه، ويحقّقون الأرباح التي تعود إلى مالكي هذه الوسائل. هذا الاستغلال هو في أساس المجتمع. ما كان لهذه الصيغة أن تستمرّ يوماً واحداً لو لم تكن مسنودة بالقوانين والمحاكم والشرطة – التي تقوم بحماية مالكي وسائل الإنتاج والأراضي– كما والمدارس ووسائل الإعلام والسياسيين والمؤسّسات الدينية التي، ومنذ اليوم الأوّل، علّمتنا بأن هذا هو المسار الطبيعي للأمور.

تطوّر نمط الإنتاج الرأسمالي تاريخياً من أنماط الإنتاج السابقة لا سيّما العبودية والإقطاع. شكّلت الرأسمالية تغيّراً كبيراً في الشكل السائد للملكيّة والعمل، وتغيّرت العديد من الأمور بفعل ذلك. تشكّل العنصرية والتفوّق الأبيض جزءاً لا يتجزّأ من ركيزة الرأسمالية الحديثة، أمّا السلب الاستعماري والعبودية العرقية، في حالة الولايات المتّحدة الأميركية، فهو ركيزة مراكمة الثروة في نمط الإنتاج الرأسمالي.

لم تمحِ الرأسمالية العالم الذي سبقها ولم تبدأ من صفحة بيضاء. قامت الأبوية منذ فجر المجتمع الطبقي وهي جزء من نسيج النظام الرأسمالي. في المجتمع ما قبل الطبقي، قبل ظهور الملكية الخاصّة، وجدت ترتيبات عائلية أكثر تنوّعاً، ولعبت النساء عادةً دوراً قيادياً في هذه المجتمعات.

بعد أن تمّ القضاء على أنماط الإنتاج ما قبل الطبقية، وبالتالي على أشكال التنظيم المجتمعي والعائلي التي رافقتها، وضِعت النساء في موقع التبعية وأصبحت فوقية الذكر هي القاعدة. لآلاف السنين، حُصِرت حالة ومكانة النساء داخل المنزل. وبفعل القانون والأعراف والأيديولوجيا أُسِرت النساء في حالة تبعية وخضوع كامل لأهواء الذكر القائد للعائلة، وحُدِّد العمل المنزلي ورعاية الأطفال، بالإضافة إلى العمل في الحقول (في حالة المجتمعات الزراعية) على أنها أعمال نسائية. شكّل ذلك عنصراً أساسياً لأنماط الإنتاج القائمة على الملكية الخاصّة.

أما اليوم في الولايات المتّحدة فقد تغيّر نمط الإنتاج الرأسمالي من نواحي عدّة، ومعه تبدّل هيكل وتفصيل البنية الفوقية. إلّا أنّ السمات التاريخية الأساسية لا تزال قائمة. ففي حين يمكن للنساء المشاركة في القوى العاملة بأجر، ويتمتعن بحقّ الملكيّة وبالحقوق السياسية والمدنية، تشكّل الأسرة النواة الأساسية لما يُسمّى بإعادة الإنتاج الاجتماعي. في هذه الأسرة، تقوم النساء بغالبية الأعمال المنزلية وتربية الأطفال ورعاية المسنين. ولأنّه هذا النموذج العائلي تمّ تناقله في خصائصه الأساسية، أيضاً تمّ تناقل جميع القيم والتقاليد والأعراف الثقافية التي تطوّرت لتفسير وتبرير الفوقية الذكورية.

في حين قضت الرأسمالية على العديد من العلاقات الاقتصادية التي كانت في صميم الأسرة، إلّا أنها لم تلغِ العائلة. لقد تبدّلت الوحدة الأسرية، لكن هشاشة العمّال في ظل الرأسمالية حتّمت على الأكثرية منهم العيش ضمن الأسرة للاستمرار، لأن دخلاً واحداً لا يكفي. وتُعد ظروف الكثير من مجتمع الميم عين مثال على ذلك، ولا سيما من رفضتهم أسرهم. إن غياب الأسرة في هذه الظروف يعني التعرّض لأسوأ أشكال الحرمان والتشرّد والوحشية التي يمكن أن تسبّبها الرأسمالية.

للوحدة الأسرية قيمة عالية لتحقيق غايات النظام الرأسمالي، خصوصاً فيما يتعلّق بإنجاب ورعاية الجيل القادم من العمّال. تسلّط ليزا فوغل الضوء على ذلك في نظريّتها حول إعادة الإنتاج الاجتماعي. وقد اعتمد آخرون اتجاهات مختلفة للإشارة إلى الأشكال الأخرى للعمل، التي غالباً ما تكون غير مدفوعة أو متدنية الأجر، على الرغم من كونها أساسية لإنتاج قوى عاملة سليمة ومستقرّة بشكل كافٍ لمواصلة العمل.

النظرة الرجعية للعالم تفسّر التحوّلات الاقتصادية

كيف يرتبط ذلك بالهجمات على حقوق النساء وإصرارهن المتزايد على التصدّي للعنف الجنسي والخطاب الذكوري؟ لا تطرح هذه الأسئلة نفسها كمسائل متعلّقة بالأداء الأساسي لنمط الإنتاج. وقد تبدو مختلفة ومنفصلة، فلا يلحظ الأشخاص الذين يناضلون من أجل حقوق النساء العلاقة بالرأسمالية. ومع ذلك، يتحدّث المزيد  من النشطاء عن الأبوية النظامية. وقد حظيت لافتات حزب "الاشتراكية والتحرّر" بشعبية واسعة خلال هذه التحرّكات إذ رُفِع شعار " النظام بأكمله ذكوري! النضال من أجل الاشتراكية".

ونتحدّث هنا عن صراعات في عالمي السياسة والثقافة، عن البنية الفوقية. وهي تظهر على أنها معارك داخل الرأسمالية – بمعنى أنّه يمكن النضال والوصول إلى حقوق الإجهاض الكاملة والخدمات الإنجابية الأخرى في إطار الرأسمالية. مثلما هو الحال في بعض الدول. فيمكن الحدّ من التحرّش أو العنف الجنسيين أو مقارعتهما في ظل الرأسمالية. على الأقل، من الناحية النظرية، هذا ليس محورياً لنمط الإنتاج.

ولكن، إذا كان هذا هو الحال، فلماذا يصعب تحصيل هذه المكاسب؟ لماذا يصرّ الاشتراكيون على ضرورة الثورة لتحقيقها فعلياً؟ ببساطة لأن السيطرة على النساء ما زالت من ركائز شكل حكم الطبقة الرأسمالية الأميركية.

أصبح الوصول إلى الإجهاض مسألة سياسية كبرى في أواخر السبعينيات بحيث شكّل ركيزة أساسية لموجة رجعية صاعدة. الرجعي هو الشخص الذي يعتبر أن حال الأشياء في المجتمع كانت أفضل قبل أن تتبدّل. من هنا، "أعيدوا عظمة أميركا" هو شعار رجعي بامتياز، إذ يدعو للعودة إلى الماضي. تلجأ شرائح واسعة من الطبقة الحاكمة لأجندة رجعية عندما تشعر أن سيطرتها الاجتماعية تتلاشى أمام حركة اجتماعية قوية، أو حين تزعزع الرأسمالية ذاتها استقرار الاقتصاد ويخيّم الغموض على حياة شرائح واسعة من السكان.

شهدت الولايات المتّحدة، في أواخر السبعينيات، كلا الحدثين. إذ تزامنت انتفاضات الستينيات وأوائل السبعينيات الشعبية مع النضال من أجل حقوق النساء وحركة تحرّر السود وتحرّر مجتمع الميم عين والحركة المناهضة للحرب، والتي شكّلت تحدّيات قوية لستاتيكو الرأسمالية الأميركية. شكّلت الهزيمة التي ألحقتها المقاومة الفيتنامية المناهضة للاستعمار ضربة قوية للامبريالية الأميركية المنخرطة حينها في مواجهة محتدمة مع الكتلة الاشتراكية.

كذلك، دخل الاقتصاد الأميركي في فترة ركود تخلّلها ارتفاعٌ في حالات التسريح والبطالة وانخفاض في الإنفاق الاستهلاكي. يحصل الركود الرأسمالي بطريقة دورية وبانتظام بسبب فائض الإنتاج. بين عامي 1979 و1984، خسر نحو 11.5 مليون عامل وظائفهم أو انتقلوا إلى وظائف خدمية أقل أجراً. طال فقدان الوظائف بشكل أساسي الصناعات التحويلية مثل صناعة الصلب والسيّارات والتعدين والإلكترونيات.

تمتلك القوى الرجعية القدرة على الجذب، وعلى الاشتراكيين فهم طريقة عملها. وغالباً يقولون إن "الحياة كانت أفضل من قبل، أليس كذلك؟ هناك شعور بالارتياب من المستقبل، أليس كذلك؟ حسناً، هذا مفهوم لأن أشياء كثيرة تغيّرت. لقد أضعنا الطريق. ونحن الآن نتّجه إلى الجحيم بسلّة فارغة ما لم نلتفت الى الوراء". ثمّ يربطون ذلك بأي قضية، سواء الإجهاض أو التربية الجنسية أو حقوق المثليين/المثليات. وفي حين تلقي القوى الرجعية اللوم على "ضعف" الحكومات التي استسلمت للضغط ورفضت الدفاع عن "قيمنا"، تقوم في أحيان أخرى بمهاجمة هذه الأخيرة بسبب حجمها الكبير.

ويبرز مثال آخر يتمثّل بلوم النساء السود بالتسبّب بالدمار الاقتصادي لمجتمعات السود بأكملها من خلال "إنجابهن الكثير من الأطفال خارج إطار الزواج" أو لوم الرجال السود "الغائبين". تستند هذه النظرة الرجعية على الطابع العنصري الشديد للنظام الرأسمالي الأميركي وآلاف السنين من التلقين الثقافي المتجذّر في العقليّات الذي يرى أن الأسرة القوية - أي وجود النساء والرجال "في أماكنهم" – الضمانة لحسن سير الأمور.

تقدّم هذه النظرة الرجعية للعالم تفسيراً شاملاً للمشاكل العامّة أو التغيّرات المربكة، ويستفيد منها الساسة لتجنّب النقاش في الأسباب الحقيقية للضائقة الاجتماعية والاقتصادية على حدّ سواء، أي عدم الاستقرار الرأسمالي. ويتطابق هذا التفسير أيضاًَ مع التفسيرات التي ترعاها المؤسّسات الدينية المحافظة التي تميل الى التركيز على العودة إلى عصر أكثر أخلاقي، وإلى التنظير في مشاكل المجتمع الحديث باعتبارها انعكاساً لغياب التقوى والقيم. إذاً، هذه الأفكار والنظريات متداولة أصلاً، ويصبح من السهل ترديدها من السياسي الذي يسعى إلى تقديم نفسه على أنّه بطل "القيم العائلية"، فيما يمتنع عن فعل أي شيء من شأنه تغيير واقع العائلات المادي.

هكذا، بدأ "اليمين الجديد" الصاعد داخل الحزب الجمهوري في أواخر السبعينيات التركيز بشدّة على الإجهاض خلال الثمانينيات والتسعينيات. وحُدِّدت حقوق الإجهاض كنقطة ضعف للحركة النسائية باعتبار أنه تمّ تأمينها بقرار من المحكمة العليا الأميركية في قضية رو ضدّ وايد، وليس عبر التشريع. كانت هناك معارضة قائمة على أسس دينية من المُمكن حشدها، وقد جرى تكريس حقوق الإجهاض بالقانون في أنحاء واسعة من البلاد، إلّا أن الحركة كانت لا تزال ضعيفة.

دخلت الكنائس الإنجيلية الضخمة والتبشير التلفزيوني إلى السياسة على نحو كبير – أشهرها حركة "الغالبية الأخلاقية" – وتحوّلوا في نهاية المطاف إلى سماسرة سلطة وازنين يختارون ويربّون الممثلين المنتخبين. ووفّروا الموارد الوافرة والجمهور المأسور للسياسيين الطامحين شرط أن يتبنّى هؤلاء قضاياهم وتأطيراتها. استهدف رأسماليو اليمين حركة "الغالبية الأخلاقية" لتكون قاعدة دعم لهم حتى لو لم يكترثوا للإجهاض أو للقضايا الأخلاقية الأخرى، بل أرادوا التخلّص من القوانين والأنظمة الرسمية والإنفاق الاجتماعي وقوّة النقابات العمّالية. مع الوقت، أنتجت هذه العلاقة تدفقاً كبيراً للموارد لتمويل الحملات الانتخابية وتأمين ظهور إعلامي.

بإختصار، أصبح الإجهاض القضية الأكثر إثارة انتخابياً، وتحوّل سريعاً من كنف السياسة المحلية وسياسة الولاية إلى السياسة الفيدرالية، وأصبح بإمكان سياسيّو اليمين المتطرّف تصوير الديموقراطيين المؤيّدين لحق الاختيار على أنّهم "قتلة أطفال" وربطهم بـ"تدهور الأسرة". لا يقتصر الأمر على تهديد هذه القضايا لأرباح الرأسماليين، بل بتوفيرها وسيلة لقطاع واحد من الطبقة الرأسمالية – بالاعتماد على المؤسّسات القوية للبنية الفوقية في مجالاتها لترسيخ الشرعية السياسية – لصرف انتباه الناخبين عن هموم اجتماعية واقتصادية لا يرغب السياسيون في التطرّق إليها.

بات الإجهاض بمثابة استراتيجية سياسية مركزية لليمين المحافظ. وقد اعتُبِر الحزب الجمهوري "مناصراً للرأسمالية والنظام والقانون. ولو أن البعض كانوا ليبراليين فيما يتعلّق بـ"القضايا الاجتماعية"، ولكن تبدّل الحال مع اصطفاف الحزب أكثر فأكثر إلى اليمين.

في الولايات المتّحدة، حيث يسيطر المال على على نواحٍ كثيرة من السياسة، تُحدّد الأجندة السياسية من قبل المزايد الأعلى. ومع قرب التخلّص من قوانين التمويل الانتخابي، أصبح الأمر أكثر علانية. يمكن لبعض أصحاب المليارديرات القول إن "هذه هي اهتماماتي السياسية، هذه هي أولويّاتي وسأنفق أموالي فقط على من يحملون برنامجي ومصالحي". عندما كتب كارل ماركس وفريديريك إنغلز إن" أفكار الطبقة الحاكمة هي في كلّ حقبة الأفكار المهيمنة"، عنوا بذلك أن أفكار الطبقة الحاكمة هي المهيمنة لأن هذه الطبقة "تملك وسائل الإنتاج المادي تحت تصرفها"، وبالتالي "تتحكّم بالوقت نفسه بوسائل الإنتاج الذهني". اليوم، أفكار الطبقة الحاكمة هي المهيمنة بسبب التدخّل المباشر والصريح لكبار الرأسماليين وسياسييهم. لذلك في غياب حركة مضادة، يمكن للهوس الرجعي لبعض الرجال الأثرياء أن يحدّد ملامح السياسة، وأن يقرّر مصير قضايا رئيسية لمئات الملايين من نساء الطبقة العاملة في الولايات المتّحدة والعالم.

لا ينفق أصحاب المليارديرات المناهضون للإجهاض أموالهم لأن ذلك سيساعدهم على جني أرباح فورية، بل يخصّصون أجزاء كبيرة من ثرواتهم على هذه القضايا اليمينية. وهنا تعود الرأسمالية إلى المستوى البنيوي. إنّها ليست مؤامرة لجني الأرباح، بل أحد أشكال الحكم السياسي القائم على التأديب والترهيب لقسم من الفقراء والطبقة العاملة، والتشتيت والتشويش لقسم آخر، وأخيراً استمالة واسترضاء فئات أخرى.

لا يمكن تحصيل الحقوق الحقيقية إلّا بنمط إنتاج جديد

لا يمكن لأي نمط إنتاج قائم على اللامساواة الحادّة والاستغلال أن يستمر طويلاً من دون مؤسّسات حكم وأنظمة سياسية وأفكار وتقاليد ترعى وتعمل على ترشيد هذه الصيرورات الاقتصادية. لا تكتفِ الطبقة الحاكمة باستخراج الثروة وحسب؛ بل عليها أيضاً إيجاد السبل لضمان استقرار حكمها.

تعمل الأشكال الذكورية بقوّة في قاعدة الرأسمالية من حيث طريقة النظام في إنتاج وإعادة إنتاج نفسه يومياً. وهي أيضاً حجر الزاوية على مستوى البنية الفوقية وخصوصاً كعنصر أساسي على الأجندة الرجعية. فكيف إذا للبطريركية أن تنتهي في ظل الرأسمالية وهي راسخة في كلّ مستوى من مستويات النظام الرأسمالي؟ هذا مستحيل.

على نقيض ذلك، تزيل الاشتراكية التبعية الاقتصادية للوحدة الأسرية. من خلال تغيير من يتحكّم، ويمتلك وسائل الإنتاج الواسعة، بحيث يصبح بإمكان كلّ شخص ضمان السكن والغذاء والرعاية الصحّية ورعاية الأطفال والتقاعد والاحتياجات الانسانية باعتبارها حقوقاً مضمونة. وبذلك يمكن، بين ليلة وضحاها، إحداث انقلاب في الفجوات الجندرية للأجور و"عمل النساء" الذي يتمّ التقليل من قيمته. فحكومة بين أيدي عمّال لديهم وعي طبقي من شأنها اجتثاث أتباع المليارديرات المتعصّبين من الحكم، وإطلاق مبادرات جريئة لتعزيز المساواة وتحرير النساء في عالم الثقافة والأيديولوجيا والتعليم والسياسة.

بالطبع سيكون ذلك مسار مستمرّاً لكنه يختلف جذرياً عن معركة من أجل حقوق النساء في ظل الرأسمالية. في الوقت الحالي، نحن نناضل من أجل حقوق داخل نظام يعيد إنتاج العلاقات الاقتصادية الأبوية يومياَ، وفي ظل طبقة حاكمة تذهب بشكل تلقائي نحو أجندة رجعية كوسيلة لحماية حكمها الاستغلالي. هذا يفسّر لماذا "تحطيم البطريركية" غالباً يبدو مستحيلاً. في الاشتراكية، على العكس تماماً، ستتمحور المعركة حول تحقيق بنية فوقية متساوية من شأنها الانسجام مع نظام اقتصادي جديد قائم على تلبية احتياجات الجميع.

نُشِر هذا المقال في liberation School في 7 أيار/مايو 2022.