Preview الغسيل الأخضر

COP-28: «الغسيل الأخضر» على الجبهات كلّها

  • أحمد الدروبي: لا تتجاوز الانبعاثات السنوية لأفريقيا، التي تضمّ 55 دولة، نسبة 2% من مجمل الانبعاثات العالمية. في المقابل، تتخطّى حصّة الولايات المتحدة، التي يمثل سكّانها 4% من سكّان العالم، نسبة 25%. الفارق شاسع في المسؤولية، وهناك مطالبة تاريخية بأن تتحمّل الدول المتسبّبة بالتغيّر المناخي الأثمان المترتبة عن مكافحة هذه التغيرات ومعالجتها
  • عمر سمير: ستخسر البلدان العربية نحو 4% إلى 7% من الناتج المحلّي في حال تم الالتزام بتعهّدات اتفاق باريس، وستكون الخسارة أكبر في حال استمرّ المسار الحالي للتغيّرات المناخية، وتصل الى 14% من الناتج المحلي الإجمالي، أما في السيناريو الأسوأ، فستخسر 27% من الناتج المحلي بالمقارنة مع 18% كمعدّل وسطي عالمي
  • يارا عبد الخالق: تشكّل الممارسات الاسرائيلية محور ما يُعرف بـ«الإبادة البيئية» التي تعني التدمير الواسع والمتعمّد للبيئة، بما يؤدي إلى ضرر طويل الأمد لا عودة عنه. ويشمل تعطيل النظم البيئية وتلويث الموارد الحيوية وتعريض المجتمعات البشرية للخطر والتسبّب بالإبادة الثقافية. 

هي المرة الثانية التي تستضيف فيها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مؤتمر قمة الأطراف المعنية بالمناخ. وفيما كان الرهان أن تنصف القمة التي عقدت في دبي، المنطقة التي تعاني أكثر من غيرها من تداعيات الانهيار المناخي عبر التوصل إلى اتفاقيات عملية تحقق العدالة المناخية المنشودة، حافظ المؤتمرون على نهج القمم السابقة حيث الوعود الفضفاضة الواسعة التي تجعل طريق العدالة أصعب. وما تجاهل القمة للإبادة الجماعية الحاصلة على بعد أميال منها في فلسطين، وتوكيل أحد أكبر رؤساء شركات الطاقة لترؤسها إلا دليلاً على هذا النهج. 

انطلاقاً من هنا، نظّم «منتدى البدائل العربي للدراسات»، بالتعاون مع موقع «صفر»، ندوة بعنوان «COP-28 وعدالة التعهّدات المناخية في المنطقة»، والتحدّيات التي يثيرها عدم التزام الدول بجبر الأضرار المناخية، ونشاط شركات الوقود الأحفوري، والغسيل الأخضر الذي تمارسه دولة الاحتلال، وتحدّث فيها أحمد دروبي، مدير الحملات الدولية بشبكة العمل المناخي، وعمر سمير، مدير برنامج العدالة الاجتماعية بمنتدى البدائل العربي للدراسات، ويارا عبد الخالق، منسّقة مرصد سياسات الأرض والمناصرة والعمل المجتمعي في استديو أشغال عامة، وأدار الندوة الباحث في مجال الطاقة مارك أيوب.

وعود التخلّص من الوقود الأحفوري: عنوان بلا محتوى 

أحمد الدروبي، مدير الحملات الدولية بشبكة العمل المناخي

عندما واكبنا انطلاق مؤتمر الأطراف في دبي، كنّا مدركين أن قضية الوقود الأحفوري هي القضية المحورية التي سيتم التركيز عليها، لاسيما بعد تعيين سلطان الجابر، الرئيس التنفيذي لشركة «بترول أبوظبي الوطنية»، لرئاسة المؤتمر. مارس المجتمع المدني ضغوطاً كبيرة وأثار مسألة تضارب المصالح الناجمة عن ترؤس الجابر المؤتمر، ما خلق بدوره ضغطاً شخصياً على الجابر، ودفع المشاركين في القمّة المنعقدة في دبي للاتفاق على إصدار قرار يقضي بالتخفيف التدرّجي للوقود الأحفوري. لا شك أن عنوان هذا القرار عظيم لكنه في الواقع وللأسف خالٍ من أي محتوى.

في بداية انعقاد مؤتمر الأطراف في التسعينيات، كان مبدأ المسؤولية المشتركة المتفاوتة من المبادئ الأساسية في المؤتمر، بمعنى أن الجميع لديه مسؤولية تجاه المناخ وحماية مستقبل الكوكب، ولكنّها مسؤولية متفاوتة، نظراً إلى أن هناك دول مسؤولة تاريخياً عن الانبعاثات المُسبّبة للتغيّرات المناخية. على سبيل المثال، لا تتجاوز الانبعاثات السنوية لأفريقيا، التي تضمّ 55 دولة، نسبة 2% من مجمل الانبعاثات العالمية. في المقابل، تتخطّى الانبعاثات السنوية في الولايات المتحدة، التي يمثل سكّانها 4% من سكّان العالم، نسبة 25% من مجمل الانبعاثات العالمية. الفارق شاسع في المسؤولية، وهناك مطالبة تاريخية بأن تتحمّل الدول المتسبّبة بالتغيّر المناخي الأثمان المترتبة عن مكافحة هذه التغيرات ومعالجتها. لكن هذا الأمر لا نراه يتحقّق على أرض الواقع. بل على العكس، أكبر الدول التي توسّع أعمالها ونشاطها في الوقود الأحفوري، مثل النرويج وكندا والولايات المتّحدة الأميركية، هي أكثر الدول تهرّباً من مسؤولياتها في تمويل الانتقال العادل الذي نحتاجه.

بالعودة إلى القرار الصادر عن مؤتمر المناخ، فقد تمّ الإقرار بالحاجة إلى الابتعاد عن الوقود الأحفوري، وهذا أمر جيّد، ولكن من دون تأمين التمويل اللازم لن يتحقّق هذا الهدف.

أكبر الدول التي توسّع أعمالها ونشاطها في الوقود الأحفوري، مثل النرويج وكندا والولايات المتّحدة الأميركية، هي أكثر الدول تهرّباً من مسؤولياتها في تمويل الانتقال العادل الذي نحتاجه

الهدف المناخي واضح، وهو الانتقال بعيداً من استخدام الوقود الأحفوري بحلول العام 2050. ولكن تطبيقه لا يفترض أن يكون بالتساوي بين جميع الدول وإنّما وفق القدرة النسبية لكل منها. على سبيل المثال النرويج هي دولة غنية، ومصادر دخلها متنوّعة، ولا يمكن مقارنتها بالمملكة العربية السعودية التي تعتمد بشكل أساسي على الوقود الأحفوري. وبالتالي، لا يمكن التوقّع أن تتمكّن السعودية من الابتعاد من الوقود الأحفوري بالطريقة نفسها والفترة الزمنية نفسها كما النرويج. أيضاً، لا يمكن مقارنة دولاً شبيهة بالجزائر والموزمبيق تعاني من أوضاع اقتصادية صعبة بدول أخرى تمتلك مصادر دخل متنوّعة. يجب الأخذ بالاعتبار القدرة النسبية لكل دولة في التخفيف التدرّجي للوقود الأحفوري، ومن الضروري تركيز الضغط على الدول المسؤولة عن النسب الأكبر من الانبعاثات ولديها القدرات المادية والتكنولوجية لتحقيق الهدف.

القرار الصادر عن قمّة المناخ مهمّ لا شك، لكنّه أتى متأخّراً، وهو لا يأخذ بالاعتبار المسؤولية التاريخية، ولا يوفر التمويل اللازم لتفعيله وتنفيذه. ولذلك هو عنوان بلا محتوى. 

 

منطقتنا الأكثر معاناة: الحاجة الى التكيّف

عمر سمير، مدير برنامج العدالة الاجتماعية بمنتدى البدائل العربي للدراسات

لطالما كانت مسألة التمويل المناخي حاضرة في مؤتمرات المناخ، ولاسيما في قمة كوبنهاغن في العام 2009 حين تعهّدت الدول الغنيّة بمساعدة الدول النامية بنحو 100 مليار دولار لمواجهة آثار التغيّرات المناخية، سواء بالتخفيف منها أو المساعدة على التكيّف معها. لكن النظر في جدول الالتزامات يبيّن أنها ليست موزّعة بالتناسب مع الانبعاثات التي تنتجها كلّ دولة، إذ تتحمّل الدول القليلة الانبعاثات أعباءً تمويلية بنسب تتجاوز انبعاثاتها. أكثر من ذلك، قد يبدو مبلغ الـ100 مليار دولار ضخماً للوهلة الأولى، لكن بحسب الباحثين في اقتصاديات المناخ، تقدّر احتياجات تخفيض الكربون بنحو تريليون دولار. ما يعني أن الدول التزمت بعشر الأموال المطلوبة لمواجهة التغيرات المناخية. وأكثر من ذلك، فهي لم تدفع كامل المبلغ إلا بحلول العام 2022، أي بعد 13 عاماً. وهذا يخلق معضلة مهمّة تتمثّل بتنصّل الدول المسؤولة عن الانبعاثات من الالتزام بالأهداف المناخية المعلنة، وتداعيات عدم الالتزام بهذه الأهداف، وأهمها عدم رفع حرارة الأرض بأكثر من 1.5 درجة مئوية بحلول العام 2050، والدليل هو الخطر الداهم بتجاوز هذا السقف قبل الوقت المحدّد. 

أما بالنسبة إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تستضيف قمة الأطراف المعنية بالمناخ للمرّة الثانية على التوالي، فيتوقّع أن تشهد المعاناة الأكبر من التغيّرات المناخية بحسب كل السيناريوهات المناخية المطروحة. في الواقع، سوف تخسر البلدان العربية نحو 4% إلى 7% من الناتج المحلّي في حال تم الالتزام بتعهّدات اتفاق باريس فيما يتعلّق بالحدّ من الانبعاثات، لكن الخسارة سوف تكون أكبر في حال استمرّ المسار الحالي للتغيّرات المناخية، وسوف تخسر هذه البلدان 14% من الناتج المحلي الإجمالي، أما في حال ارتفعت درجات الحرارة بنحو 2 إلى 6 درجات مئوية سو تصل الخسارة إلى 21.5% من الناتج المحلي. أما في السيناريو الأسوأ، فقد تخسر هذه البلدان 27% من الناتج المحلي بالمقارنة مع 18% كمعدّل وسطي عالمي. 

بحلول العام 2023، تم صرف نحو 106 مليارات دولار على المناخ. من هنا، قد يبدو للبعض أن الأهداف المطلوبة تحقّقت، لكن الواقع مختلف للغاية. ففي خلال قمّة شرم الشيخ، قدّرت الاحتياجات المطلوبة بنحو 4 إلى 6 تريليون دولار، ما يعني أننا أمام فجوة سحيقة. 

وفي القمة الأخيرة التي عقدت في دبي، فقد توصّل المؤتمرون إلى اتفاق على وضع «صندوق الخسائر والأضرار»، الذي أقرّ في العام السابق في قمة شرم الشيخ، قيد التنفيذ. وجرى تمويله بما يزيد على 83 مليار دولار. وهو إنجاز محدود بكلّ المعايير. كما تم الاتفاق على إنشاء «صندوق الحلول المناخية»، بالإضافة إلى زيادة القدرة الإنتاجية للطاقة المتجدّدة ثلاث مرات ومضاعفة كفاءة الطاقة. 

يجب توجيه التمويل المناخي نحو التكيّف. وهو ما يستوجب التفاوض من هذا المنطلق، وجماعياً، وتشكيل لوبي يستثني الدول النفطية منعاً لتضارب المصالح

ثمة انتقادات كبيرة تطال القمة، بدءاً من تكليف الرئيس التنفيذي لشركة نفط بترؤسها على قاعدة توكيل الذئب حراسة الغنم، وصولاً إلى المقرّرات التي خرجت بها. فبحسب دراسة صادرة عن معهد «أوكسفورد»، أتت صياغة بعض العبارات فضفاضة وقابلة للتفسير على أكثر من وجه، مما يفتح باباً أمام الدول للتراخي في تنفيذ بنود الاتفاق كما كان يحصل في مؤتمرات المناخ السابقة. وبالفعل أثارت هذه اللغة الضعيفة حفيظة العديد من المندوبين الذين هدّدوا بالانسحاب من القمّة، وأسفر عن صياغة 3 مسودّات للبيان النهائي، وصولاً إلى الصيغة النهائية التي تنطوي على ضعف. 

أيضاً انتقدت الأمم المتّحدة التمويل المناخي وعدم كفاية الالتزامات المالية المتعلّقة بالتكيّف. فبحسب اتفاقية باريس يجب تحقيق التوازن بين التمويل المخصّص للتكيّف والتمويل المخصّص لتخفيف الانبعاثات. ففي حين تحتاج الدول النامية الأكثر تضرراً من التغيرات المناخية إلى تمويل أكثر فيما يتعلّق بالتكيّف خصوصاً أنها غير منتجة للانبعاثات، يتركّز 80% من التمويل على التخفيف من الانبعاثات الذي تستفيد منه الدول المنتجة للانبعاثات والأقل تضرراً منها. وهذا ما أعادت القمة الأخيرة تثبيته، وهو في خلاصاته يعفي الدول الغنية واللوبي الأحفوري من التزاماتهم. 

وبالعودة إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وضعيتها المناخية لا تختلف عن دول الجنوب، فهي تحتاج إلى التركيز على التكيّف نظراً إلى أن حصّتها من الانبعاثات العالمية قليلة نسبياً حتّى مع إضافة الدول الخليج النفطية، ولكنها في المقابل من الأكثر تضرراً من التغيّرات المناخية. وبالتالي يجب توجيه التمويل المناخي نحو التكيّف. وهو ما يستوجب التفاوض من هذا المنطلق، وجماعياً، وتشكيل لوبي يستثني الدول النفطية منعاً لتضارب المصالح. 

 

الحرب الإسرائيلية: تغطّية الإبادة بالغسيل الأخضر 

يارا عبد الخالق، منسّقة مرصد سياسات الأرض والمناصرة والعمل المجتمعي في استديو أشغال عامة

صحيح أن الانتهاكات البيئية التي يمارسها الاحتلال حالياً في غزة سيكون لها تأثيرات طويلة المدى، لكن هذه التجاوزات ليست جديدة على الكيان الصهيوني، بل هي جزء من سياق تاريخي معتمد منذ نشأة الكيان.

وإلى ممارسات التهجير والتوسّع والاستيطان، انتهج الكيان الصهيوني عمليات تدمير النظم الإيكولوجية، إذ لطالما استهدف الأشجار الأصيلة والمواسم الزراعية، بهدف محو ما تبقى من آثار وجود الفلسطينيين التاريخي على الأراضي المحتلة.

في غزة تحديداً، دمّرت الجرّافات الإسرائيلية بشكل ممنهج أشجار الزيتون والحمضيات، وخلقت ما يسمّى بـ«المنطقة العازلة» بموازاة الجدار الفاصل، الذي حدّ من إمكانية وصول المزارعين الفلسطينيين الى أراضيهم الزراعية.

في لبنان أيضاً، ومنذ 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، عمدت إسرائيل إلى حرق نحو 462 هكتاراً من الغابات والأراضي الزراعية، التي تسبّبت بخسارة أكثر من 40 ألف شجرة زيتون. ويُثبت استخدام الاحتلال الإسرائيلي الفسفور الأبيض الحارق المحرّم دولياً نية الإخلال المقصود في توازن الطبيعة والقضاء على وسائل العيش البيئية والزراعية. وتتسبّب القنابل الفسفورية بآثار طويلة الأجل على البيئة وتلوّث المياه والتربة وتجعلها غير قابلة للاستخدام لفترة طويلة. 

تشكّل هذه الممارسات محور ما يُعرف بـ«الإبادة البيئية» التي تعني التدمير الواسع والمتعمّد للبيئة، والذي يؤدي إلى ضرر طويل الأمد لا عودة عنه. ويشمل هذا التدمير تعطيل النظم البيئية وتعريض المجتمعات البشرية للخطر والتسبّب بالإبادة الثقافية عبر عرقلة الطرق التقليدية لحياة السكان. وما يحصل حالياً في جنوب لبنان وفلسطين هو إبادة بيئية تشمل تدمير النظم البيئية وفقدان التنوّع البيولوجي وتلوّث الموارد الحيوية.

تتميّز الإبادة البيئية بقدرتها على الإخلال بالتوازن الدقيق للطبيعة، وتهدّد أيضاً الثقافة المحلية من خلال منع الناس من اتباع أساليب حياتهم الأصلية والتقليدية. 

اقترح مصطلح «الإبادة البيئية» للمرّة الأولى في السبعينيات في خلال حرب فيتنام، عندما استخدم الجيش الأميركي المواد الكيميائية لتدمير الغطاء النباتي والمحاصيل. ومنذ ذلك الوقت، أيّد الكثير من الناشطين والمنظّمات الحقوقية تجريم الإبادة البيئية بالقانون الدولي

اقترح مصطلح «الإبادة البيئية» للمرّة الأولى في السبعينيات في خلال حرب فيتنام، عندما استخدم الجيش الأميركي المواد الكيميائية لتدمير الغطاء النباتي والمحاصيل. ومنذ ذلك الوقت، أيّد الكثير من الناشطين والمنظّمات الحقوقية تجريم الإبادة البيئية بالقانون الدولي.

ولفهم كيف يصنّف ما يحصل في المنطقة كإبادة بيئية، يجب الإشارة إلى السياق التاريخي للاحتلال وانتهاكاته المتراكمة. ما يحصل في فلسطين لا يعد صراعاً ولا نزاعاً، إنّما هو احتلال ونظام تطهير عرقي منذ نشأة نظام التمييز العنصري الاستيطاني وتهجير أهل الأرض. في عام النكبة، العام 1948، اقتلعت الدولة الصهيونية أكثر من نصف السكّان الفلسطينيين الأصليين، أي أكثر من 750 ألف شخص، ودمّرت 531 قرية، وأفرغت 11 حياً حضرياً من السكان. في العام 1967، احتلت الضفّة الغربية، وهجّرت 350 ألف فلسطيني آخرين. ومنذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، نشهد على إبادة، أدّت إلى نزوح أكثر من 85% من سكّان غزة، واستشهاد أكثر من 25 ألف شخصاً من بينهم أكثر من 10 آلاف طفل، وإصابة أكثر من 60 ألف إنساناً. بالإضافة إلى تدمير أكثر من 360 ألف وحدة سكنية، و278 مؤسّسة تعليمية، و221 عيادة، و16 من أصل 35 مستشفى، و122 سيارة إسعاف، و11 مخبزاً. يحاول هذا التدمير، الذي يطال أهداف غير مشروعة، تغيير معالم المكان وهويته وطرقه، وهدفه جعل غزة مكان غير قابل للحياة. وبالتالي تهجير ما تبقى من الفلسطينيين. وهذا الواقع لا يمكن توصيفه إلا بإبادة مكانية وبيئية وثقافية. كما أنها إبادة للذاكرة الجماعية أيضاَ. 

تقدّم إسرائيل العديد من الذرائع لتبرير انتهاكاتها، في حين أن جميع ممارساتها منذ العام 1948 هدفها الإبادة والمزيد من التهجير. إذ لم يتوقف الاحتلال يوماً عن سياسات الاستيطان ومصادرة الأراضي الفلسطينية الخاصة والعامة. في العام 2021 وحده، بنى الاحتلال في القدس الشرقية أكثر من 14 ألف وحدة متجاهلاً الاتفاقات الدولية، وفي كانون الثاني/يناير 2024، صادقت سلطات الاحتلال على بناء مستوطنة جديدة فيها 1792 وحدة استيطانية جنوب القدس. كما صادقت بلدية القدس على مخطّط وادي السيليكون الذي سيبنى على أنقاض 200 مصلحة تجارية وصناعية فلسطينية في حي وادي الجوز.

بالإضافة إلى نزع الممتلكات والأراضي الفلسطينية والإخلاء القسري والتهجير، مارس الاحتلال سياسة الفصل العنصري وتجزئة الفلسطينيين جغرافياً وإدارياً وقانونياً بهدف بسط السيطرة وعزلهم عن اليهود.

هذا النظام نفسه، يحرم الفلسطينيين من حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية، ويمارس الإفقار المتعمّد، ويستبعد العديد منهم عن فرص العمل، ويبقيهم في وضع سيء مقارنة مع اليهود. بالاضافة إلى القيود المفروضة على استخدام الأراضي الزراعية والمياه والغاز والنفط والقيود المفروضة على الخدمات الصحية والتعليمية الأساسية.

يُصعِّب هذا النظام الوصول إلى تراخيص البناء بهدف حجب القوننة عنها، وبالتالي تحويل الأبنية الى أبنية غير شرعية معرّضة للهدم في أي وقت، كما يمنع الفلسطيينين من استعمال البنى التحتية. الاحتلال الإسرائيلي مسؤول عن هذه الممارسات التاريخية، وهو مسؤول اليوم عن الإبادة والتدمير التاريخي المقصود للأحياء والمنازل والطبيعة.

الانتهاكات البيئية التي ارتكبتها اسرائيل كثيرة ومتمادية بالزمان والمكان. تصادر اسرائيل أكثر من 80% من المياه في الضفّة الغربية المحتلّة لاستخدامها في المستوطنات، وتحدّد مصادر استخراج المياه بما يؤدّي إلى انخفاض منسوب المياه الجوفية وتشويه التدفق الطبيعي لها. على سبيل المثال، دمّرت إسرائيل جودة  مياه أكبر مصدر للمياه العذبة في فلسطين (بحيرة طبريا)، وأزالت 25 ألف فداناً من الأراضي الرطبة المحلّية، وجفّفت بحيرة حولا لإفساح المجال أمام المستوطنات الزراعية. 

تزيد هذه الممارسات الظواهر المناخية المتطرفة مثل الفيضانات والجفاف. إلى ذلك، تلوّث المستوطنات الأودية والأراضي الزراعية الفلسطينية بملايين الأمتار المكعبة من المياه غير المعالجة، التي تلوّث بدورها المياه الجوفية وتزيد من ملوحة التربة وتوسّع ظاهرة التصحر. اقتلعت اسرائيل الأشجار المحلية والمحاصيل الزراعية مثل الخروب والبلوط والزيتون والتين واللوز واستبدلتها باكثر من أربعة ملايين نوع من النباتات الأوروبية كجزء من مساعي  إخفاء الهوية الفلسطينية. ما حدَّ من التنوع البيولوجي وفاقم حرائق الغابات. شكّل التدمير الواسع لأشجار الزيتون، استراتيجية رئيسية يبذلها الإسرائيلي لطرد الفلسطينيين من أراضيهم وتوسيع المستوطنات.

تقدّر النفايات الصلبة التي تنتجها المستوطنات وتُرمى في الأراضي الفلسطينية بنحو 250 ألف طن سنوياً. وشكّلت سيطرة الاحتلال على الأراضي عائقاً أمام إقامة مكبّات نفايات صحية، ما أنتج مكبات عشوائية وسمح بحرق النفايات وغيرها من الممارسات التي تهدّد حياة الفلسطينيين، وترفع خطر إصابتهم بأمراض خطيرة. كذلك، نقلت إسرائيل مصانعها الملوِّثة إلى الضفة الغربية، ويقدّر عددها بنحو 200 مصنع تنتج مواداً سامّة مثل الزينك والرصاص وغيرها من المواد التي تلوّث الهواء والتربة. وأنشأت ستة مقالع في الضفة الغربية لتكسير الصخور واستخدامها في قطاع البناء. تغطّي هذه المقالع نحو 80% من احتياجات الإسرائيليين، وتسبّبت بتدهور التضاريس وألحقت الضرر بالصحة العامة نتيجة الغبار الكثيف، وهدّدت المناطق المحيطة بالتصحّر. كذلك، أدّت أعمال التجريف الواسعة للتربة بغرض إقامة مستوطنات وشق الطرق الى تفتت التربة. وتقوم إسرائيل باستخدام اليورانيوم أثناء تطوير ذخيرتها العسكرية ما يسبّب أضراراً إضافية بالفلسطينيين. 

يحاول الكيان الصهيوني تغطية جميع هذه الممارسات عبر ما يُعرف بالغسيل الأخضر، من خلال المشاركة بالمؤتمرات والفعاليات البيئية وعرض «إنجازات» إسرائيل وابتكاراتها التي تدّعي أنها في خدمة البشرية، وتهدف إلى التخفيف من الأزمة المناخية، في حين  أنها أحد أبرز  المسؤولين عنها.

والغسيل الأخضر هو بروباغندا سياسية واستراتيجية دعائية تمارس على مستوى الخطاب والتأثير الإعلامي، تُنفّذها الشركات وبعض الحكومات، ولا سيما الاستعمارية والاستيطانية، لتحسين صورتها والترويج لسرديتها عبر التلاعب بالقيم البيئية، وخلق وهم بالمسؤولية البيئية لصرف الانتباه عن ممارستها المؤذية وانتهاكاتها لحقوق الإنسان. 

على مر سنوات، لعبت إسرائيل، على غرار حكومات أخرى لديها إرث استعماري، دوراً هاماً في تفاقم الأزمة المناخية في حين أنها تستخدم تكتيكات الغسيل الأخضر لإبراز وجه داعم للبيئة ومسؤول لصرف الانتباه عن أعمالها المتوحشة.

إسرائيل لا تلوّث الأراضي الفلسطينية فحسب، بل تدمّر الحياة الحيوانية والنباتية بشكل ممنهج، وتعمد إلى إدخال أنواع محدّدة من الحيوانات والحشرات، وتقوم بإنشاء محميات بيئية لإخفاء القرى التي تم تدميرها وتهجير سكّانها، وتصور بشكل خاطئ استيلائها على المياه الفلسطينية كحل لندرة المياه.

في الأساس، قامت إسرائيل على سردية كاذبة تتمثل بتشجير الصحراء، على الرغم من أن هذا المفهوم يناقض المنطق البيئي الذي ينص على أن الصحراء هي واحدة من النظم البيئية التي لديها أساليب زراعية خاصة بها.

وبالتالي، لا يمكن الحديث عن إبادة مكانية مفتعلة من دون الإشارة إلى الإبادة البيئية التي حضرت في الممارسات المتراكمة للاحتلال. تقول الدراسات إن إعادة إعمار 100 ألف وحدة سكنية فقط ينتج 30 مليون طناً من الغازات الدفيئة، ما يعني أن تكلفة الحرب، التي تشمل الحوب نفسها وإعادة الإعمار من بعدها، لديها تكاليف مناخية. وبالتالي، لا يمكن الحديث عن عدالة بيئية ومناخية في ظل الاحتلال والصراعات. شهد مؤتمر المناخ فعاليات جانبية ومظاهرات تندّد بما يحصل في فلسطين، إلا أن هذه القضية لم تطرح بشكل فعلي على أجندة المؤتمرين. كان الوفد الإسرائيلي يسوّق لابتكاراته للحلول المناخية في مجال احتجاز الكربون وكأنه دولته لا تمارس إبادة في فلسطين.

كيف يمكننا أن نتوقّع من الفلسطينيين أو من أي شعب يرزح تحت الاحتلال التفكير بالبيئة والمناخ وهو عاجز عن الوصول إلى أدنى مقومات الحياة؟ هناك ضرورة واجبة على مؤتمر الأطراف تتمثّل بفرض خطوات عملية لزيادة الشفافية المرتبطة بتأثير النزاعات العسكرية على المناخ، وبالتالي توظيف الأموال التي تستخدم على الإنفاق العسكري لمعالجة أزمة المناخ. 

لا تندرج الإبادة البيئية ضمن جرائم الحرب بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية، وهذا ما يستوجب الدعوة إلى إدراجها ضمن جرائم الحرب على أمل أن تشكّل رادعاً أقوى قابلاً للتنفيذ من قبل الدول والشركات.