Preview الاستعمار الاستيطاني

3 أصوات من فلسطين
تحليل الاستعمار الاستيطاني وعودة الفاشية

  • أباهر السقّا: منذ الانقلاب داخل منظّمة التحرير الفلسطينية في خمسينيات القرن الماضي، تسلّل خطاب عن الاحتلال والصراع، ليحلّ محل الإطار التحليلي لتوصيف الحالة الفلسطينية كحالة استعمار استيطاني إحلالي يندرج ضمنها الاحتلال. وقد سبّب ذلك تشوّهاً في تشخيص الحالة التي نعيشها.
  • لينا ميعاري: اللحظات المقاومة تجعلنا ننظر إلى النكبة لا كلحظة يأس مُطلقة دمّرت حياة الفلسطينيين، وإنما كومضات تحريرية لا يمكن رؤيتها إذا استمرينا في مقاربة الحالة الفلسطينية كنموذج للاستعمار الاستيطاني ينطبق عليها ما انطبق على الشعوب الأصلية الأخرى في أميركا وغيرها. 
  • مُضر قسيس: إسرائيل هي رأس حربة الإمبريالية في المنطقة، بمعنى هي الميدان التجريبي للإمبريالية، وهي وكيلها الإقليمي. وبالتالي إن مكافحة إسرائيل لا تكون بمواجهتها وحدها، بل مواجهتها مع مشغّليها ومن يوجّهون توجّهاتها. وهذا يعني تأليف أوسع حلف عالمي بمواجهة الإمبريالية.

 

«من أجل فلسطين: تحليل الاستعمار الاستيطاني وعودة الفاشية»، هو عنوان ندوة نظّمها مركز الآداب والانسانيات، وبرنامج الدراسات النقدية الإنسانية، وبرنامج المقاربات النقدية لدراسات التنمية، في الجامعة الأميركية في بيروت. تحدّث فيها 3 أساتذة من جامعة بيرزيت في فلسطين، هم: أباهر السقّا، الأستاذ في قسم علم الاجتماع وعلم السلوك، ولينا ميعاري، الأستاذة في قسم علم الاجتماع وعلم السلوك، ومُضر قسيس، الأستاذ في قسم الفلسفة والدراسات الثقافية، وأدارتها ريما ماجد، أستاذة علم الاجتماع في الجامعة الأميركية في بيروت.

هذه ليست ممارسات احتلالية بل استمرار للنكبة بما هي إبادة جماعية وتهجير قسري 

أباهر السقّا 
أستاذ في قسم علم الاجتماع وعلم السلوك في جامعة بيرزيت - فلسطين

واحدة من المعضلات التي تواجهنا في فلسطين على المستويين السياسي والاجتماعي هو غياب الإطار التحليلي للاستعمار الاستيطاني. فمنذ الانقلاب داخل منظّمة التحرير الفلسطينية في خمسينيات القرن الماضي، تسلّل الخطاب عن الاحتلال والصراع والانسحاب من الأراضي العربية المحتلة، ليحلّ محل الإطار التحليلي لتوصيف الحالة الفلسطينية كحالة استعمار استيطاني إحلالي يندرج ضمنها الاحتلال. وقد سبّب ذلك تشوّهاً في تشخيص الحالة التي نعيشها. 

منذ 15 عاماً تقريباً، عاد هذا النقاش إلى الأوساط الأكاديمية لأسباب عدّة، أهمّها: تعثّر مشروع حلّ الدولتين الذي قادته منظّمة التحرير الفلسطينية من جهة، وطغيان تيّار ما بعد الكولونيالية في بلدان أميركا الشمالية من جهة أخرى. 

أذكر هذا الجزء لما له من أهمّية، في خضم النقاش عمّا إذا كنّا بصدد فكفكة الاستعمار أو مواجهته. وأنا أعتقد أننا في مرحلة ضدّ-استعمارية تفترض إعادة الاعتبار لهذا الإطار التحليلي. نحن لسنا في ترف ما بعد الاستعمار، لا لأن الحالة الفلسطينية هي حالة استعمارية فحسب، بل أيضاً لأن المنطلقات المعرفية لها حدودها خصوصاً بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، الذي أعتبره حدثاً مفصلياً، وأعتقد أننا أمام مرحلة جديدة على مستوى العالم.

يبقى نجاح هذا المخطّط الاستعماري المدعوم دولياً مرهوناً بقدرة المقاومة وقدرة المجتمع الفلسطيني على إعاقته

هناك انحيازات كبرى تحدث في الجامعات في العالم بشأن كيفية التعامل مع القانون الدولي وكلّ المنظومات المعيارية، التي تهاوت واحدة تلو الأخرى، لا بسبب ازدواجية المعايير فحسب، وإنما أيضاً من وجاهة هذه الطروحات. وأعتقد أن 7 تشرين الأول/أكتوبر يؤسّس لمرحلة تدعونا جميعاً، كمواطنين أولاً، وكمستَعمَرين وأكاديميين لإعادة التفكير بكلّ هذه المفاهيم وخلق أطر جديدة للمعرفة خصوصاً في الجنوب العالمي ومنطقتنا. 

الحرب الجارية على غزّة تعيد الاعتبار لتوصيف الحالة الاستعمارية، بما تتضمّنه من مجازر وعمليات طرد وتهجير قسري، وهذه ليست ممارسات احتلالية بالمعنى الكلاسيكي، بل هي استمرارية للنكبة. ما يحصل أمامنا اليوم في غزّة هو إبادة حضارية مستمرّة، وقد أدّت في شكلها الحالي إلى تدمير نصف مباني القطاع، وهذه النسبة قد تزداد، كما أننا أمام إبادة جماعية وتهجير قسري متواصلين. وهذه ممارسات سبق أن مارسها الاستعمار، سواء في المستعمرة الأولى في العام 1948، أو في أجزاء من المستعمرة الثانية في 1967. كما مارسها في غزة التي استمرت بتسجيل عمليّات تهجير أكثر من غيرها من المناطق، نتيجة طرد أعداد كبيرة من سكّان النقب والمجدل وعسقلان إليها بعد النكبة. كما مورست فيها الإبادة باستمرار من خلال المجازر الكثيرة التي ارتكبها الاستعمار في غزة، ومنها مجزرتي خان يونس ورفح في العام 1956. 

ما يحدث اليوم مكرّر. هناك مخطّطات يتم تداولها لتقسيم القطاع وفتح مناطق حدودية فارغة وتغيير الديموغرافيا، وبالتالي دفع السكّان للانتقال من كلّ منطقة شمال قطاع غزة نحو الجنوب، بما يؤدّي إلى تقليص القطاع، ولو لم يذهب المستعمرون إلى طرد السكّان كلّهم. أيضاً سيسجّل لاجئون جدد علاوة على اللاجئين السابقين، وهؤلاء هم سكّان غزة وبيت حانون ودير البلح، أي السكان الأصليين لغزة، الذين سيصبحون أيضاً لاجئين في خان يونس ومناطق رفح، آنياً، لأنني أعتقد أن المشروع الاستعماري سيذهب بعيداً، لا سيما أن توجّهات طرد الجميع قائمة. 

مع ذلك، يبقى نجاح هذا المخطّط الاستعماري المدعوم دولياً مرهوناً بقدرة المقاومة وقدرة المجتمع الفلسطيني على إعاقته. 

هذه الممارسات ليست جديدة، ولكنها غير مسبوقة بحجم الدمار والقتل، وأيضاً بحجم الاصطفاف العالمي لدعم المشروع الاستعماري. وفي المقابل، هناك حراك عالمي لآلاف الأشخاص في الشوارع ضدّ هذا المشروع الاستعماري وممارساته، التي تنقل بشكل مباشر وحيّ. ثمّة تشابهات كثيرة بين الماضي والحاضر وتكرار لممارسات مرتبطة بطبيعة المشروع الاستعماري. وربما تكون الفائدة الوحيدة من كلّ هذا الألم والقسوة هو إعادة تذكيرنا جميعاً، أولاً نحن كفلسطينيين وعرب وجنوبيين بأن هذه دولة استعمار، وهذا مشروع استعماري، وبأن هذه الممارسات تُسقِط كلّ الحلول التي تشوّه حالة الاستعمار، وبأن ما من حلّ إلا عن طريق مواجهة هذا الاستعمار. 

وضع فلسطين داخل نموذج واحد للاستعمار الاستيطاني فقط ينفي إمكانية المقاومة

لينا ميعاري
أستاذة في قسم علم الاجتماع وعلم السلوك في جامعة بيرزيت - فلسطين

كل ما درسناه وكتبنا عنه وتابعناه من مجازر منذ العام 1948، وما قبله وما بعده، وحديثنا عن تواطؤ الإمبريالية مع الرجعية العربية والنخب الفلسطينية، فضلاً عن استكشافنا لمفهومي الإبادة والتهجير، كلّ ذلك يمثل أمامنا اليوم، فيندمج إدراكنا الذهني لما يحدث مع وجدانية هذه اللحظة، وضرورة أن يشتبك ذلك مع حقّ الشعب الفلسطيني، والشعب العربي عموماً، في مقاومة الاستعمار والتحرّر بكافة الوسائل والسبل. 

أشتبك هنا مع مفهوم الاستعمار الاستيطاني وأدبيّاته من منظور المقاومة، بمعنى تناول نموذج الاستعمار الاستيطاني الذي أصبح سائداً في الأدبيات الأكاديمية، وحضور فلسطين ضمنه، من منطلق مقاومته وفهم إمكانيات هذه المقاومة، لا سيما أن النتائج الماثلة أمامنا لتناول هذا النموذج أكاديمياً من منظور القوة الاستعمارية ومشروعها وممارساتها وسياساتها وأهدافها بغياب مقاربة مقاومته، بيّنت الخلل المعرفي لهذا الاستخدام، والأهم الخلل السياسي في الإمكانيات وتخيّلنا للممارسة.

الفكرة المركزية التي أحاول طرحها تدور حول مقولات الاستعمار الاستيطاني المركزية، التي تحدّد أهدافه بإزالة السكان الأصليين، وتوصّفه كبنية وليس حدثاً، بحيث يتجاوز كونه استعماراً ليصبح بنية طبيعية قائمة لا يمكن الانفكاك منها، كما حصل مع السكان الأصليين في أميركا ونيوزيلاندا وأماكن أخرى من العالم. وبالتالي، إن وضع فلسطين داخل هذا النموذج حصراً، كأنه ينفي عن الحالة الفلسطينية خيار مقاومة الاستعمار بالأساس. 

الومضات واللحظات المقاومة تنسف السلسلة المتصلة للتاريخ بوصفه تاريخاً من الهزائم ونجاحاً للمشروع الاستعماري الاستيطاني

وأنا لا أنفي هنا وجود هذا النموذج، فهو لديه نقاط قوة كثيرة في توصيف الحالة الفلسطينية بدءاً من محاولات إبادة الفلسطينيين منذ النكبة، وبأشكال مختلفة مثل القتل والتهجير والدمج، ولكنّي أطرح مقاربة الاستعمار الاستيطاني من منظور المقاومة - أسوة بالحالة الجزائرية - لما هي من مقاربة مهمّة وممكنة وتفتح الآفاق أمام التخلّص من الاستعمار بحرب تحرير وبمقاومة وحرب شعبية. 

وأظن ما حدث في 7 تشرين الأول/أكتوبر- لحظة المقاومة التي فجّرت البنى الاستعمارية الطبيعية- هو فتح لإمكانات كبرى في المخيال والممارسات وإقرار بأن التحرير ممكن، خصوصاً أن مشروع بناء الدولة والذات الديمقراطية والمؤسّسات الفاعلة الذي استبدل مشروع التحرّر في أوسلو نُسِف بالكامل.

ومن المهم التأكيد هنا بأن المقاومة كنموذج وفعل ليست ممارسة جديدة على السياق الفلسطيني أو على الفلسطينيين الذين واجهوا المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني بما هو مشروع إبادة وتهجير ودمج، منذ نهايات القرن التاسع عشر، عندما حضرت المقاومة بقوّة في مشروع الثورة الفلسطينية وفي المشروع الوطني الفلسطيني من أجل التحرير. واستحضر هنا الشهيد والمثقف المشتبك باسل الأعرج، الذي عكف في خلال فترات طويلة على تأريخ المقاومة الفلسطينية، وبالتالي يمكن القول إن ما كان يفعله الأعرج في مقاربة السياق الفلسطيني من منظور المقاومة الفلسطينية وتأريخ فلسطين من خلال مقاومتها للاستعمار الاستيطاني، ينطوي على رؤية مختلفة للتاريخ بما هو أحداث وأفعال وممارسات مقاومة. 

هذه الومضات واللحظات المقاومة تنسف السلسلة المتصلة للتاريخ بوصفه تاريخاً من الهزائم ونجاحاً للمشروع الاستعماري الاستيطاني، وتبرز كإعاقة لاستمرارية تاريخ الاستعمار وتجَسُّده على أرض فلسطين. وبالتالي هذه اللحظات المقاومة، التي هي من لحم ودم وليست نظرية، تجعلنا ننظر إلى النكبة لا كلحظة يأس مطلقة دمّرت حياة الفلسطينيين، وإنما أن نستكشف فيها ومضات تحريرية بإمكانها أن تستمر في هذا الحاضر. 

لا يمكن أن نرى هذا الجزء من الرؤية وأن نتخيّله إذا استمرينا في مقاربة الحالة الفلسطينية كنموذج للاستعمار الاستيطاني ينطبق عليها ما انطبق على الشعوب الأصلية الأخرى في أميركا وغيرها.

مرحلة وقاحة الطغمة الكولونيالية في عصر انحطاط النيوليبرالية

مُضر قسيس
أستاذ في قسم الفلسفة والدراسات الثقافية في جامعة بيرزيت – فلسطين 

حُكِي الكثير عن 7 تشرين الأول/أكتوبر، وأن هذه العملية نقلت المعركة إلى داخل أراضي الـ48، وأنها ضربة مؤلمة لإسرائيل ونتج عنها ما بين 1,200 – 1,500 قتيل، وأنها تضمنت هجمات على ثكنات وقواعد عسكرية. وأخيراً، أنها استخدمت تكتيكات مبتكرة. لكن كلّ هذه الأمور ليست جديدة، كون جزء أساسي من عمليات المقاومة في تاريخ فلسطين كانت تحصل داخل أراضي الـ48، ويسجّل فيها أعداد ولو أقل من القتلى، وتتضمّن هجمات على ثكنات ومواقع عسكرية وتُستخدم فيها تكتيكات مبتكرة. الجديد اللافت في هذه العملية هو التحدّي الشامل للمنظومة الأمنية الإسرائيلية على المستوى الاستخباراتي والمشاة والطيران وأنواع الأسلحة. ولكن أي من هذه الأسباب والاعتبارات لا تفسّر ردّة الفعل الإسرائيلية الوحشية، والدعم الأميركي بما تضمّنه من إرسال بوارج حربية، والاصطفاف العالمي غير المسبوق بعدم مشروطيّته مع إسرائيل.

نحن نتكلم اليوم عن موجة ثالثة من النكبة الفلسطينية وعن محاولة جديدة لتهجير مئات آلاف السكّان. وصحيح أن الحرب تدور في غزة فعلياً، ولكن الضفّة الغربية تشهد هجوماً غير مسبوق أيضاً. فمنذ العام 1969، لم يحصل أن هرب أهل قرية بالكامل كما يحصل في جنوب الخليل، أو حصلت هجمات استيطانية كما يحصل في قرية حوارة في نابلس. هذه تطوّرات جديدة بحجمها وعلنيتها وسرعتها ووقاحتها. ولكن لا بدّ من النظر إلى ما يحصل في سياق عالمي، وليس في سياق فلسطين كجزيرة معزولة عن العالم. 

منذ العام 2008، يبرز نمو لافت للفاشية في العالم، وقد وصلت إلى ذروتها في إسرائيل، مع حصول فاشيين مُعلنين ووقحين على مقاعد في الكنيست وانتقالهم إلى الحكومة أمثال بتسلئيل سموتريش (وزير المالية) وإيتمار بن غفير (وزير الأمن القومي). ويرتبط هذا النمو الفاشي بحاجة بارزة إلى التصعيد في خلال ما أسمّيه «مرحلة وقاحة الطغمة الكولونيالية في عصر انحطاط النيوليبرالية». بمعنى أوضح، ثمّة أزمة كبرى في العالم، هناك حقبة تنتهي وموازين تتغيّر، ويتخلّل ذلك تمسّك الإمبريالية الأميركية - وحلفاؤها القريبون - بآخر قشّة أمام تزعزع هيمنتها العالمية. من هنا، نشأت حاجة في الولايات المتّحدة تحديداً، لإثبات أنها ما زالت قادرة على الحل والربط. والمكان الوحيد الذي تشعر فيه بقدرتها على ممارسة تفرّدها، وإعلان الحرب وإيقافها وتحديد معالم الأمور والمستقبل، هو هنا، والسبب هو وجود إسرائيل والرجعيّات العربية والدول الريعية في ظل التحدّي الذي تواجهه في أوروبا الشرقية وآسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية. هذا المكان أصبح ضرورة للولايات المتّحدة، قبل إسرائيل، في سياق الوضع الجيوسياسي العالمي. فتأجيج الصراعات يعيد خلط الأوراق، وهذا يصب في مصلحة الولايات المتحدة التي قد تحسّن وضعها المتراجع.

ثمّة أزمة كبرى في العالم، هناك حقبة تنتهي وموازين تتغيّر، ويتخلّل ذلك تمسّك الإمبريالية الأميركية - وحلفاؤها القريبون - بآخر قشّة أمام تزعزع هيمنتها العالمية

يبرز هذا الوضع الترابط العالمي بين الفعل الإسرائيلي والأميركي والأوروبي الغربي، ويظهر ضرورة مراجعة المفاهيم، وعلى رأسها مفهوم الاستعمار الاستيطاني. ليس لأن الاستعمار ليس استيطانياً. كلا، هو استعمار استيطاني وواضح والمستوطنات تملأ الدنيا. وإنّما للبحث بما يتبع هذا التحليل وكيفية استخدام هذا المصطلح ومزاياه. 

ثمّة في ما يحصل نوع من أنواع عودة الفاشية، التي لم تختفِ بالمطلق، وإنّما جرى تحجيمها بعد الحرب العالمية الثانية. وهي لم تنتهِ لأن أسبابها لم تنتهِ، لا سيّما الطبقية وعلاقتها بالنظام الرأسمالي، وطبيعة النظام العالمي. وبالتالي إن اختصار الأحداث والأزمات بصراعٍ إثني أو بصراعٍ على الجغرافيا أو كصراع ناس ضدّ ناس، يعمي الواقع ولا يسمح برؤية الصورة الشاملة التي تفسّر عودة الفاشية في إسرائيل وفي أنحاء العالم. 

للتفاعل مع هذا الواقع، بشكله الراهن، يجب مراجعة الخطاب التقليدي الذي يحلّل موازين القوة ومواقف الدول والجيوش، من دون أن يحسب الجماهير ضمن المعادلة، بل ينظر إليها كمجرّد حلقات من المظاهرات في الشارع أو حركات التأييد والتعاطف والتضامن والمساندة. 

من هنا، يجب التخلّص من صنمية القوى الممأسسة والعودة إلى التحليل الطبقي الذي ينظر إلى القوى الموجودة في الشارع بمعزل عن شكلها، سواء كانت مظاهرات في الشارع أو عمليات عسكرية أو مقاومة ميليشياوية أو عمليات عشوائية. هذا الخطاب الصنمي عن القوة والقوى لا ينسى الجماهير فحسب، بل ينسى أيضاً أن المعارك تخاض لأسباب مختلفة بما فيها المعارك التحرّرية. 

هناك فرق ويجب أن نراه دائماً بين المشروع التحرّري الذي تلزمه الأرض من أجل تحرير البشر، وبين المشروع التحرّري الذي تلزمه الهيمنة على البشر خدمة لهدفه الأساسي أي الأرض. هناك مشروع مقاومة غير تحرّرية، ولا أتكلّم عن حماس بالضرورة، بل عن المقاومة التي يدعمها رأس المال الكبير والمطبّعين والشركاء في الاقتصاد الإسرائيلي. هناك الكثير من الناس ضدّ الاحتلال، بمعنى هيمنة إسرائيل على السوق الفلسطينية، لأنهم يريدون الهيمنة عليها. وهناك مقاومة تحرّرية تريد إنساناً حرّاً، ذكراً وأنثى. 

وبتحليلنا للمواقف وتقييم الأحداث، يجب أن يكون واضحاً أن اتجاهات مقاومة الاحتلال لا تسير وفق البوصلة نفسها. هناك أكثر من بوصلة ويجب أن نكون مدركين أين هي بوصلتنا، وحتى لو أدركنا أننا بحاجة لأكبر جبهة وطنية لمقاومة الاحتلال يجب أن يكون واضحاً أيضاً أن في هذه الجبهة بوصلات عدّة وليست بوصلة موحّدة. وهذا يعني التخلّي عن تأليه الفعل المقاوم بما هو مقاوم، والتركيز على الفعل المقاوم التحرّري. 

وما أقصده هو النظر إلى 7 تشرين الأول/أكتوبر، ونقدها من اليوم الأول لا انتظار انتهاء الحرب، لأن في ذلك مراجعة لثقافتنا النضالية، وما الذي ندمجه معاً. في 7 تشرين الأول/أكتوبر، هاجمت مجموعة من الشباب الأبطال والشجعان ثكنات عسكرية إسرائيلية، ولكن لم تخرج حماس لتقول إن أهدافها كانت عسكرية محض ولم تكن مدنية. ولا أقول أن ذلك كان ليمنع إسرائيل من الردّ. بالعكس، أكبر ألم لإسرائيل هو مهاجمة ثكناتها وجيشها وقواها الأمنية واستخباراتها وليس المدنيين. لأن في ذلك فخر إسرائيل. وهو فخر كسرته عملية 7 تشرين الأول/أكتوبر. ويجب التذكير بأن ما حصل مع المدنيين، هو فعل إسرائيلي وليس فلسطيني، وفق كل المؤشّرات الماثلة. انطلاقاً من هنا، لن أكون سوى مع العمل المقاوم الموجّه نحو ضرب البنية الاستعمارية الإسرائيلية، وليس مع أي فعل مقاوم. فأنا مع الأفعال التي أراها تحرّرية وضدّ الأفعال التي اعتقد أنها تعبّر عن موقف غير واعي أو رجعي، لأن الافتراض بأن كل الناس أعداء بمن فيهم كلّ اليهود فيه مشكلة. مشروعنا يجب أن لا يكون مع المقاومة لمجرد المقاومة وإنما مع المقاومة بما هي طريق إلى الحرية. 

ما هو الأفق؟ وماذا سيحصل لاحقاً؟ وهل لنا دور فيه؟ أم سنكتفي بطرح الأسئلة وانتظار ما إذا كانت الحرب ستنتقل إلى لبنان، أو تتدخل إيران، أو تلين الولايات المتحدة؟ 

إسرائيل هي رأس حربة الإمبريالية في المنطقة، بمعنى هي الميدان التجريبي للإمبريالية، وهي وكيلها الإقليمي. وبهذا المعنى تسعى إسرائيل للمحافظة على النظام الأحادي القطب، وعلى توازنات القوة التي نشأت مع بداية التسعينيات، وبالتالي إن مكافحة إسرائيل لا تكون بمواجهتها وحدها، بل مواجهتها مع مشغّليها ومن يوجّهون توجّهاتها. وهذا يعني تأليف أوسع حلف عالمي بمواجهة الإمبريالية، يضمّ أصلانيين وغير أصلانيين، طالما هم مع الحرية وأحرار. 

على المستوى الإقليمي يجب أن نكون أيضاً حذرين في ضوء محاولات إعادة الانقسام المشابهة لما حصل في خلال الحربين العالميتين وقبلهما وبعدهما. هناك إمبرياليات صاعدة وإمبرياليات صغيرة ناشئة، وهناك من يحاول التحوّل إلى إمبريالية جديدة. وأقصد هنا تركيا وإيران، والأدوار التي تؤدّيها كلّ من الإمارات وقطر، فضلاً عن نماذج متنوّعة تسعى لأن تكون قوّتها السياسية والجيوسياسية أكبر من حجمها السكّاني والاقتصادي. وبالتالي يجب الانتباه إلى أحلافنا، فليس كل من يقف اليوم معنا ضدّ اسرائيل علناً هو بالضرورة حليف.

وعلى المستوى العالمي، يجب محاولة تجنّب اندلاع حرب عالمية ثالثة، فأهم مصلحة أميركية راهنة هي نشوء حرب كبيرة، وليس بالضرورة نووية، لأن إعادة خلط الأوراق تدمّر كلّ القوى الجماهيرية التي لن تتمكّن من المشاركة في إعادة اقتسام العالم الذي يحصل من خلال الجيوش وليس الأشخاص.