Preview من الإبادة المكانية إلي الإبادة الجماعية

الحرب على غزة: من الإبادة المكانية إلى الإبادة الجماعية

  • نحن نرى أنّ الاحتلال الإسرائيلي كان فظيعاً في الضفّة الغربية وكذلك في غزّة السجن المفتوح، فلماذا يتوقّع المرء سوسيولوجياً أن تكون المقاومة جميلة؟ 

  • لم أرَ أيّ مشروع استعماري استيطاني أُجلِيَ من خلال التفاوض وحده قبل إقامة توازن معيّن للقوى، ويجري ذلك في كثير من الأحيان عبر جعل هذا المشروع مكلفاً للغاية. الجزائر نجحت في نيل استقلالها بعد 1.5 مليون شهيد.

أعلم أنه من الصعب، على الصعيدين النفسي والفكري، أن نفكّر وصوت البنادق أعلى من صوت العقل. أنا فلسطيني نشأت في مخيم للاجئين وأعيش مع صدمة الفظائع الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني المتراكمة جيلاً بعد جيل. فكيف يمكننا اليوم أن نرتقي إلى مستوى مسؤوليتنا الأخلاقية والاجتماعية للتفكير في الحرب الحالية؟ يستخدم البعض تاريخ العنف الإسرائيلي في المنطقة لتبرئة حماس، ويعتقد آخرون أنه من المجحف مطالبة الفلسطينيين اليوم بتوخي ميزان «الأخلاق» بينما إنسانيتهم أو «حيوانيَّتِهم الإنسانية» (كما وصفهم وزير الدفاع الإسرائيلي) تحت التهديد، وهذا الميزان نفسه محل شد وجذب. أعتقد أن إحجام البعض منا عن إصدار أحكام أخلاقية على تصرّفات حماس، على الرغم من أنها قد تبدو ظاهرياً خاطئة أو كارثية سياسياً من زاوية المراقب المحايد، يرجع إلى عجزنا عن معرفة كيف سنتصرف ونتفاعل إذا عشنا في سجن مفتوح وعايشنا واقعه المروّع. برأيي، لكي يفكّر المرء في الحرب الفلسطينية-الإسرائيلية، ينبغي له أن يستخدم المقياس نفسه لإدانة أي هجوم لا يميّز بين المدنيين والمقاتلين بغض النظر عن السياق.

مع ذلك، رفضت البدء في التفكير في هذه الحرب من نقطة 7 تشرين الأول/أكتوبر. يمكن قراءة هذه الحرب على أنها إحياء لذكرى حرب 6 تشرين الأول/أكتوبر من العام 1973 حين فاجأت الجيوش العربية إسرائيل، ولكنها بالنسبة لي تأتي بعد 30 عاماً بالضبط من توقيع اتفاقيات «أوسلو» للسلام في العام 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل. سوف أنظر في هذه الاتفاقيات وإرثها المستمر الذي قد يُفسّر، جزئياً على الأقل، في سياق تكثيف إسرائيل قمعها: صعّدت الحكومات المتعاقبة بوحشية مسار استكمال الاستعمار الاستيطاني ومحو الفلسطينيين وتحقيق استقرار نظام الفصل العنصري.

تحقيق مشروع الإبادة المكانية يصبح ممكناً من خلال نظام يطبق ثلاثة مبادئ: مبدأ الاستعمار، ومبدأ الفصل، وحالة الاستثناء التي تتوسّط بين هذين المبدأين المتناقضين ظاهرياً

أسفرت اتفاقية السلام عن إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بهدف تأمين حكم ذاتي مؤقت لمدة خمس سنوات ريثما تحل المفاوضات القضايا الأساسية العالقة في الصراع. واليوم، بعد ثلاثة عقود من الزمن، لا تزال السلطة الوطنية الفلسطينية قائمة ولكنها فاقدة لشرعيتها مع وقوع 60% من الضفة الغربية تحت السيطرة الإسرائيلية وإطباق الحصار على غزة. كانت هذه 30 سنة من الانتهاكات اليومية للقوانين الدولية على يد القوات الإسرائيلية ومستوطنيها المسلّحين.

كنت أدعو منذ فترة طويلة إلى حل الدولة الواحدة (العلمانية والديمقراطية)، إلّا أنَّني لستُ ضد عملية السلام في حد ذاتها، ولستُ أزعم أن الحرب وحدها قادرة من حيث المبدأ على استعادة الحقوق الفلسطينية العادلة. وفي مواجهة الرياضة الوطنية المتمثلة في شتم عملية «أوسلو» للسلام التي اعتبرت أنها ولدت ميّتة منذ البداية، فقد شهدت العملية في بدئها إمكانية خلق آلية (دينامية) تساعد على التوصّل إلى تسويات مؤلمة من الجانبين، أقلّه فيما يتعلّق بتقاسم الأراضي. لكنّ هذه الاتفاقيات بالغة السوء في جوانب معيّنة، لدرجة أنّها خلقت أسوأ ديناميات يمكن تصوّرها.

في العام 1998، حين كنتُ أعيش في رام الله، دار نقاش طويل مع صديقي العزيز الراحل إيلان هاليفي، مستشار وزير الخارجية الفلسطيني آنذاك نبيل شعث، عن عدم وجود بند في اتفاقيات «أوسلو» لوقف الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلّة. وطلب مني الانضمام إليه في عشاء مع شعث في الأسبوع التالي. فذهبت إلى اللقاء وانتقاداتي جاهزة، خصوصاً فيما يتعلق بالمستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلّة. لقد اعترف شعث بأنّ هذه القضية كانت حجر العثرة الأكبر في المفاوضات، وبسبب ميزان القوة لم يكن من الممكن أن يقبل الإسرائيليون وقف بناء المستوطنات، لكنه عدَّها «خطأً كبيراً»، وأنّ البند المتفق عليه في اتفاق «أوسلو» والقائل بأنه «لا يجوز لطرف تغيير الجغرافيا من دون موافقة الطرف الآخر»، كان بنداً فضفاضاً مفتوحاً على كل التأويلات. والحقيقة أن المفاوضين الفلسطينيين البؤساء قد عوّلوا على الثقة في المجتمع الدولي لإجبار إسرائيل على وقف بناء مستوطناتها غير القانونية.

تشير إحصاءات الأمم المتّحدة إلى أن عدد المستوطنين تضاعف ثلاث مرّات في العام 2000 (من 110 آلاف إلى 450 ألفاً)، أي بعد 7 سنوات على أوسلو. ونقدِّرُهم اليوم بـ 700 ألف مستوطن. بالإضافة إلى ذلك، تدأب إسرائيل على سحب المياه من طبقات المياه الجوفية الفلسطينية لاستخدامها من المستوطنين، بينما تحرم الفلسطينيين من الوصول إلى مياههم الخاصة.

من الإبادة المكانية إلى الإبادة الجماعية

بين عامي 1999 و2004 عشتُ في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، في خضم الانتفاضة الثانية. آنذاك، كنت منشغلاً بمسألة اللاجئين الفلسطينيين، ولكن أيضاً بعلم الاجتماع السياسي لهذا الصراع، وحينها صِغتُ مفهوم الإبادة المكانية. أزعم أن المشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي مشروع «إبادة مكانية» (Spacio-cide)، على عكس الإبادة الجماعية (Genocide) لأنه يستهدف الأرض لغرض تنفيذ الترانسفير «الطوعي» المحتوم للسكّان الفلسطينيين عن طريق استهداف - في المقام الأول - المكان الذي يعيش عليه الشعب الفلسطيني. إن الإبادة المكانية أيديولوجيا مقصودة ذات سيرورة منطقية موحّدة، وإنْ كانت هذه السيرورة متغيّرة لأنها في تفاعل مستمر مع السياق الناشئ وأعمال المقاومة الفلسطينية. ومن خلال الوصف والتساؤل عن الجوانب المختلفة للأجهزة العسكرية والقضائية والمدنية، بدا واضحاً أنّ تحقيق مشروع الإبادة المكانية يصبح ممكناً من خلال نظام يطبق ثلاثة مبادئ: مبدأ الاستيطان ومبدأ الفصل وحالة الاستثناء التي تتوسّط بين هذين المبدأين المتناقضين ظاهرياً.

اعتادت إسرائيل أن تحدّد سعر صرف الإنسان الإسرائيلي مقابل «الحيوان» الفلسطيني بأكثر من 21 ضعفاً

بيد أنه منذ العام 2005، أصبح العنف الإسرائيلي يتحدّى بوحشية جميع القوانين الدولية والإنسانية وقوانين حقوق الإنسان. مع كل الاحترام لجورجيو أغامبين يمكن وصف مكثّف لنظام الاحتلال على أنه تعليق القانون وإهدار الحياة لا يتداخلان تماماً. إنّ الحرمان من المواطنة الفلسطينية ونسخ سيادة القانون بنسيج من الأنظمة والإجراءات والمراسيم هو ما ميّز نظام الاحتلال منذ بدايته، ومهّد الطريق لتخلّيه الأسرع والأعنف عن الحياة الفلسطينية في السنوات الأخيرة (Ophir, Givoni, and Hanafi 2009). ولإعطاء مثال على هذه الوحشية الإسرائيلية ومن واقع إحصائيات الأمم المتّحدة، فمنذ العام 2008 وحتى نهاية آب/أغسطس 2023، قُتِل 6,407 فلسطيني على يد الآلة العسكرية الإسرائيلية والمستوطنين، في مقابل 308 إسرائيليين (نسبة 21 مقابل 1) والنسبة نفسها للجرحى (152,560 فلسطينياً في مقابل 7,307 إسرائيلياً). ومنذ كانون الثاني/يناير وحتى أيلول/سبتمبر 2023، قُتِل أكثر من 223 فلسطينياً وحوالى 30 إسرائيلياً من دون تغطية جدية من وسائل الإعلام الغربية. منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، قُتل 1,400 إسرائيلي (منهم 22 طفلاً) مقابل أكثر من 9,000 فلسطيني (منهم 2,670 طفلاً) في غزّة. اعتادت إسرائيل أن تحدّد سعر صرف الإنسان الإسرائيلي مقابل «الحيوان» الفلسطيني بأكثر من 21 ضعفاً. وحتى اليوم توصي بعض الوزارات الإسرائيلية بطرد جميع الفلسطينيين من غزة. اليأس يولّد العدمية: دعونا نتذكّر المثل القائل: «احذر مَن ليس لديه ما يخسره». فسوف يقاوم بينما تشنّ إسرائيل النكبة الثانية والإبادة ضدّ المدنيين في غزّة. ولا يمكن عَدُّ كل هذه الخسائر أضراراً جانبية كما أعلن الجيش الإسرائيلي في كثير من الأحيان. إنّها بالفعل إبادة جماعية من الناحية القانونية لأنّها محاولة متعمّدة للقضاء على جماعة عرقية موجودة في غزّة. يقع هذا الغيتو تحت الحصار الإسرائيلي، وبتواطؤ مصري، منذ العام 2007. ولا يوجد ملاذ آمن في هذه المساحة الصغيرة من الأرض، التي يبلغ طولها 40 كيلومتراً وعرضها حوالى 8 كيلومترات فحسب. وفي الوقت الحالي، قامت إسرائيل بقطع الغذاء والوقود والمياه والكهرباء، الأمر الذي تسبّب بأزمة إنسانية فظيعة.

لم فعلتها حماس؟

نحن نرى أنّ الاحتلال الإسرائيلي كان فظيعاً في الضفّة الغربية وكذلك في غزّة السجن المفتوح، فلماذا يتوقّع المرء سوسيولوجياً أن تكون المقاومة جميلة؟ لدينا في التاريخ أمثلة مماثلة. يذكِّرنا نورمان فنكلشتاين بمدى فظاعة ثورات العبيد في الولايات المتّحدة، وكيف أنّ عالم الاجتماع الأميركي الأسود دبليو.إي.بي. دو بويز والمصلح الاجتماعي الأميركي والمناهِض للعبودية فريدريك دوغلاس لم يتطرّقا لفظاعتها ولو بانتقادٍ يتيم. كما يُشبِّه ديفيد روفيكس ما حدث في 7 تشرين الأول/أكتوبر بانتفاضة غيتو وارسو في ربيع العام 1943، حين أجبَرت منظّمة القتال اليهودية الجيشَ الألماني على سحب قواته بعيداً من خطّ المواجهة في الحرب مع الاتحاد السوفياتي التي كانوا يخسرونها، من أجل التعامل مع هذه المجموعة من المدنيين الجوعى وأسلحتهم محلية الصنع، حيث لم يتوقع أحد أن تهزم حفنةٌ من اليهود الجيشَ الألماني. وبالتالي، حتى لو تبيّن أن الفلسطينيين الذين دفعوا الثمن الثقيل سيموتون بسرعة لا ببطء، فإنهم يفضّلون القتال واقفين من أجل العدالة والحرية على الموت راكعين أذلاء.

التواطؤ الغربي السياسي والعسكري

بعد عقود من الصمت العربي والدولي تجاه المشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي المستمر والفصل العنصري، يضطلع الفلسطينيون بمهمة تغيير قواعد اللعبة. لقد دارت دوائر الغطرسة أخيراً على إسرائيل وبعض الدول العربية وقادتها المتغطرسين. فقد خالَ القادة الإسرائيليون لفترة طويلة أنّهم لا يقهرون، واستخفوا مراراً وتكراراً بأعدائهم. بوسعنا الحديث بشكل تقريبي عن انقسام في المجتمع الدولي: فالشمال العالمي تقريباً يؤيّد الانتقام غير المتناسب من جانب إسرائيل، بينما يؤيّد الجنوب العالمي بثقله المتمثّل في إيران وروسيا والصين وقف إطلاق النار وعملية السلام. وكانت المظاهرات، على الرغم من بعض حالات الحظر، حاشدة في جميع المدن الكبرى تقريباً في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك الغرب. وفي الواقع، خلَّف القصف الإسرائيلي للمستشفى الأهلي العربي في غزة، الذي تأسّس في العام 1882 وتديره الكنيسة الأنجيلية، زهاء 500 ضحية فلسطينية، ليتسبّب بغضب عالمي من هذه المذبحة البشرية التي راح ضحيتها أناسٌ كان الكثير منهم يحتمون من القصف الإسرائيلي المتواصل للقطاع المحاصر.

حتى لو تبيّن أن الفلسطينيين الذين دفعوا الثمن الثقيل سيموتون بسرعة لا ببطء، فإنهم يفضّلون القتال واقفين من أجل العدالة والحرية على الموت راكعين أذلاء

وعلى الرغم من التحقق المستقل، تبنَّت بعض وسائل الإعلام والسياسيين الغربيين الادعاء الإسرائيلي بأنّ هذا المستشفى طاله القصف ببساطة. لقد حان الوقت لكي ينتبه الإسرائيليون/الأميركيون/البريطانيون/الفرنسيون/الألمان إلى دروس التاريخ. فطريقتهم في إخفاء هوية الجناة تجعلهم متواطئين. ورفضهم المستمر للحزن على الضحايا الفلسطينيين من أطفال ومدنيين ينتهك القيم الليبرالية المحضة التي دافعوا عنها. كم مرة سمعنا أنّ حماس تريد تدمير إسرائيل من دون أن نطرح السؤال نفسه: كيف تُدمِّر إسرائيل فعلياً الأراضي الفلسطينية المحتلة؟

بعض هذه الدول، وخصوصاً ألمانيا وفرنسا، لا تدعم المشروع الاستعماري الإسرائيلي فحسب، بل تحظر أيضاً أي مظاهرة أو حمل العلم الفلسطيني أو الكوفية. وتزعمُ بأنّه من المعادي للسامية أن تخضع إسرائيل لمعايير القانون الإنساني الدولي التي نستخدمها لتقييم سلوك حماس. وتقبَل أنّ حق إسرائيل في الوجود يساوي حق إسرائيل في إبادة الشعب الفلسطيني، إما جماعياً كما في غزة، أو ببطء كما في الضفة الغربية. تظل غزّة منطقة محتلة بموجب اتفاقية جنيف الرابعة، ما يضع على إسرائيل المسؤولية الأساسية لحماية السكان المدنيين الخاضعين للاحتلال. وهذا التأطير يُبطِلُ خطاب «الحرب» الإسرائيلي و«حق الدفاع عن النفس». وهذا لا يخص السياسيين فحسب، ممن يهتمون بمجموعات المصالح الضرورية لإعادة انتخابهم، بل يشمل أيضاً العديد من الأكاديميين. بوسعنا اليوم أن نقرأ في صحيفة هآرتس الإسرائيلية انتقادات بحق التصرفات الإسرائيلية في غزّة أكثر مما نقرأه في العديد من الصحف الأوروبية. وحتى جمعية علم الاجتماع الإسرائيلية تنتقد الانتهاك الإسرائيلي للقوانين الدولية أكثر من الجمعيات الوطنية الأخرى في أوروبا. وجميعنا يذكر كيف أصدر روبرت بادانتير قرار إلغاء عقوبة الإعدام في فرنسا في العام 1981، لكن ها هي الآن زوجته إليزابيث بادانتير، الفيلسوفة والناشطة النسوية، أصدرت بتصريحاتها عقوبة الإعدام الجماعية على شعب غزة. وغني عن البيان أنّ في الغرب علماء صادقين ومدافعين عن حقوق الإنسان من أمثال كريغ مخيبر، مدير مكتب نيويورك لمفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان. فقد استقال في 31 تشرين الأول/أكتوبر بخطاب استقالة لاذع انتقد فيه تواطؤ الأمم المتحدة والغرب في الانتهاكات الإسرائيلية. إلّا أنّنا نشهد ظاهرة جديدة، فهذه المرة الأولى التي تُبدي الجامعات الأميركية دعماً قوياً لنضال الشعب الفلسطيني، والدعم نفسه شهدته أوروبا. وظهرت الكثير من الالتماسات وقّعها المئات، بل الآلاف، من الأكاديميين الغربيين ضد الحرب على غزة وتطالب بإنهاء احتلال الأراضي الفلسطينية المحتلة، على الرغم من ملاحقة الأساتذة والباحثين في المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا لأنهم ببساطة ينشرون تدوينات على منصتَيْ فايسبوك وإكس توصَف بأنّها «تبرّر الإرهاب».

تعتمد السلطات السياسية الغربية اليوم على ما يُسمّى بالقادة العرب المعتدلين لتهدئة الفلسطينيين بينما يستمر هذا المشروع الاستعماري الاستيطاني اليومي. لقد اعتمدوا على الصفقة السعودية-الإسرائيلية التي كان من شأنها أن تجفّف التمويل الذي يأتي من القطاعين العام والخاص السعودي وتضغط على الفلسطينيين لقبول حل أقل عدالة لمحنتهم. وفي الشهر الماضي فحسب قال مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان بثقة: «الشرق الأوسط اليوم أهدأ مما كان عليه منذ عقدين من الزمن». أحد الدروس الصعبة لأحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر كان الشعور بالاستقرار الزائف في الشرق الأوسط وفشل الخيال بأنّ عدم التوصّل إلى حل للقضية الفلسطينية يمكن أن يدفع المنطقة إلى حافة الهاوية.

لقد رأى سكان منطقتي في طوفان الأقصى استعادةً لكرامة الفلسطينيين وللمؤمنين بالعدالة. هذا الجانب العاطفي-النفسي مهم جداً لمَن يدافع عن العدالة

وقد يتساءل المرء لماذا الغرب متواطئ إلى هذا الحد مع المشروع الاستعماري الإسرائيلي. بالطبع، لدينا ذكرى المحرقة، ولكن لدينا أيضاً ذلك الضرب من الاعتقاد بأنّ إسرائيل دولة علمانية لا يمكنها أن ترتكب أي خطأ. وإذا نظرنا إلى أحد مؤشرات توسّع الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فسنجد أنّ القادة الإسرائيليين اليساريين قد توسّعوا أكثر من اليمينيين (Hanafi 2013). أتذكّر كلمة ألقاها آلان تورين في كلّية الدراسات المتقدّمة في العلوم الاجتماعية (EHESS) في باريس في العام 1993، حيث استذكر «المعجزة» الإسرائيلية المتمثلة في استيعاب 150 ألف يهودي روسي في غضون عام واحد. وحين اعترضتُ على هذه المعجزة بأنّ بعض هؤلاء المهاجرين قد أقاموا بطريقة غير قانونية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، أجاب: «هؤلاء المهاجرون سيغيرون المعادلة، فقد نشأوا في الاتحاد السوفياتي، وهم علمانيون، لذا سيدعمون عملية السلام». وهو لا يعلم أنّهم أسّسوا الحزب السياسي اليميني المتطرف «إسرائيل بيتنا»، وتحالفوا مع حركة المستوطنين المتدينين في الضفة الغربية. لا تزال تهيمن على قراءة الصراع العربي-الإسرائيلي علمانية معادية للإسلام لا يسعها إلّا أن تكون ضد حماس. ومن خلال مساواتها بداعش، تصبح حماس إنساناً حراماً (Agamben 1998)، يمكن أن يُقتل سكّان غزة من دون محاسبة قاتليهم على قتلهم.

مَن يمثِّل الفلسطينيين؟

يعتبر البعض أنّ حماس لا تمثِّل جزءاً هاماً من الشعب الفلسطيني. برأيي تحظى حماس بدعم كبير جداً من الشعب الفلسطيني في الأراضي الفلسطينية المحتلة وفي الشتات. انتخب الشعب الفلسطيني حماس في العام 2005، وكانت أيديولوجيتها واضحة لمَن انتخبها. ورأيتُ حينها أصدقاء مسيحيين يدلون بأصواتهم لصالحها. ولا تزال حماس تفوز في انتخابات الهيئات الطالبية في الجامعات الفلسطينية في الضفّة الغربية حتى في السنوات الخمس الماضية. وتأتي شعبيتها من حقيقة عدم وجود حل سياسي مع إسرائيل وضرورة جعل المشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي المستمر مكلفاً لإسرائيل. وهذا يترك الفلسطينيين مع حماس بصفتها المجموعة الوحيدة التي تعمل فعلياً من أجل مصالحهم بطريقة جدية. وينبغي لمَن يعترض على تصرفات حماس أن يخبرنا لماذا كانت السلطة الفلسطينية «المعتدلة» غير قادرة على إرغام إسرائيل على التخلّي عن الضفّة الغربية وإنهاء الاحتلال. لم يَعُد بيد هذه السلطة أي أوراق بعدما صار قادتها يعتمدون على نبذهم غير المشروط للعنف ضد إسرائيل، في مقابل الحصول على لقمة عيشهم ومساعدات الدول الغربية والعربية.

العنف والحوار

لم أرَ أيّ مشروع استعماري استيطاني أُجلِيَ من خلال التفاوض وحده قبل إقامة توازن معيّن للقوى، ويجري ذلك في كثير من الأحيان عبر جعل هذا المشروع مكلفاً للغاية. الجزائر نجحت في نيل استقلالها بعد 1.5 مليون شهيد.

لا يمكن النظر إلى التاريخ كأحداث معزولة، بل كصيرورة لها مسارها ولكنها حتمية. تحترم الدول والمجتمعات الجهات الفاعلة القوية، سواء كان وراءها قضية جيّدة أو سيّئة. ونعلم أنّ العديد من الدول اعترفت بإسرائيل بعد حرب حزيران/يونيو 1967. والآن فُرِضَت إيران كطرف جيوسياسي مهم. وحماس شأنها في ذلك شأن إيران. لقد رأى سكان منطقتي في طوفان الأقصى استعادةً لكرامة الفلسطينيين وللمؤمنين بالعدالة. هذا الجانب العاطفي-النفسي مهم جداً لمَن يدافع عن العدالة بينما يرى الكثير من الانتهاكات الإسرائيلية للقوانين الإنسانية وقوانين حقوق الإنسان. إنه تغيير لقواعد اللعبة ولكننا ما زلنا لا نعرف في أي اتجاه. وما زلت آمل أن تجبر هذه الحرب إسرائيل والمجتمع الدولي على الدفع من أجل حلّ سياسي عادل أو على الأقل إجراء حوار بين شركاء متساوين، وهذا يتوافق مع دعوتي الأخيرة لمشروع ليبرالي حواري (حنفي 2023). أخشى مما ينتظر غزة وربما لبنان. وقلبي يعتصر على ما يجري في غزّة.

المراجع

حنفي، ساري (2023) «نحو علم اجتماع حواري: الخطاب الرئاسي - المؤتمر العالمي العشرين لعلم الاجتماع 2023»، مجلة عمران للعلوم الاجتماعية. العدد 46.

Agamben, Giorgio. 1998. Homo Sacer: Sovereign Power and Bare Life. Stanford, CA: Stanford University Press.

Hanafi, Sari. 2013. “Explaining Spacio-Cide in the Palestinian Territory: Colonization, Separation, and State of Exception.” Current Sociology 61 (2): 190–205.

Ophir, Adi, Michal Givoni, and Sari Hanafi. 2009. “Introduction.” In The Power of Inclusive Exclusion : Anatomy of Israeli Rule in the Occupied Palestinian Territories, edited by Adi Ophir, Michal Givoni, and Sari Hanafi, 15–32. New York: Zone Books.

علاء بريك هنيدي

مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.