برامج التعديل الهيكلي أو العلاج بالصدمة
لا يوجد رسميًا ما يسمى "برامج التعديل الهيكلي"، ولكن يمكن اعتبارها توصيفًا شائعًا لبرامج صندوق النقد التي تشترط إحداث تغييرات هيكلية وعميقة في الاقتصاد من أجل الحصول على تمويل في وقت الأزمات. تشمل "برامج التعديل الهيكلي" اتفاقيات تمويل صندوق النقد للدول متوسطة الدخل التي تحتوي على مشروطية تطالب الدول المقترضة بتدخلات هيكلية. من أبرز تلك الاتفاقيات هى "تسهيل الصندوق الممدد" و"اتفاقيات الاستعداد الائتماني". بالنسبة لاتفاقيات التمويل الأخرى الطارئة، لا يكون ملحق بها عادة برامج أو مشروطية هيكلية. تعد تلك التمويلات التي حصلت عليها الدول في فترة جائحة كورونا نموذج على هذا التمويل الطارئ.
وفقًا لصندوق النقد الدولي، يعتبر تسهيل الصندوق الممدد مساعدة يقدمها الصندوق للبلدان التي تتعرض ل" لمشكلات خطيرة ومتوسطة الأجل في ميزان المدفوعات بسبب مواطن ضعف هيكلية تتطلب وقتا لعلاجها"، وتتميز ب"تركيز قوي على التصحيح الهيكلي"، وتتراوح مدة البرامج المرتبطة بهذه النوعية من القروض من ثلاث إلى أربع سنوات، وتتراوح فترة سداد القرض بين من ثلاث سنوات ونصف إلى خمس سنوات.
يتشابه اتفاق الاستعداد الائتماني مع تسهيل الصندوق الممدد، لكن يمكن اعتباره يتعامل مع مشكلات أقل حدة، وبالتالي شروطه هي كذلك أقل هيكلية، وفترة البرنامج والسداد غالبًا ما تكون أقصر، وتتراوح فترة البرنامج من سنة إلى سنتين، وكذلك تمتاز هذه الآلية بإمكانية إتاحة تمويل لاستخدامه بصورة وقائية أو عند الحاجة فقط، ولذلك سميت ب"الاستعداد الائتماني".
كان هناك نوعية اتفاقيات تسمى "تسهيل التعديل الهيكلي المعزز" Enhanced Structural Adjustment Facility وتم استبداله ب"تسهيل الحد من الفقر والنمو" Poverty Reduction and Growth Facility، والذي بدوره تم استبداله ب"تسهيل الائتمان الممدد" Extended Credit Facility وهو نوع اتفاقات قائم حاليًا تتراوح مدة برنامجه من ثلاث لخمس سنوات، ويقتصر تسهيل الائتمان الممدد على الدول منخفضة الدخل التي تعاني من أزمة طويلة المدى في ميزان المدفوعات.
على ماذا تحتوي أغلب برامج التعديل الهيكلي؟
يشترط صندوق النقد الدولي على الدول المقترضة، والتي تمر بأزمة شديدة إجراء مجموعة كبيرة من الإجراءات الاقتصادية التي يرى صندوق النقد أنها ضرورية للخروج باقتصاد البلد من الأزمة. وعلى رأس هذه الإجراءات هو تحرير سعر الصرف، وخصخصة الشركات العامة وتحرير التجارة، وإلغاء الدعم السلعي (مؤخرا يوصي الصندوق باستبداله بدعم نقدي مباشر)، وزيادة ضرائب الاستهلاك غير المباشرة مثل ضرائب المبيعات والقيمة المضافة، وخفض الإنفاق الحكومي خاصة على برامج الحماية الاجتماعية (ما يسمى بالتقشف). تتفق هذه الروشتة مع ما يسمى بإجماع واشنطن، وهي مجموعة من ١٠ مبادئ اقتصادية طورت في الثمانينات كوسيلة للصندوق في التعامل مع أزمة ديون أمريكا اللاتينية، وأصبحت من بعد ذلك تحدد الملامح الرئيسية للإصلاح الاقتصادي النيوليبرالي في كل مكان في العالم.
يرى صندوق النقد أن هذه الإجراءات كفيلة بتمكين السوق من علاج آثار الأزمة عن طريق عمليات التوازن الاقتصادي الذي يحققها السوق حتمًا إذا ترك دون تدخل. فمثلا علاج اختلالات الميزان التجاري يحدث عند ترك سعر الصرف لتحدده قوى السوق، لأن عندما تكون العملة المحلية مقومة بأعلى من قيمتها، وفقا لصندوق النقد، فهذا يجعل الواردات أرخص من قيمتها الحالية فيشجع الاستيراد، ويجعل الصادرات أغلى من قيمتها الحقيقية فيقلل من التصدير مما يزيد من عجوزات التجارة.
تحرير سعر الصرف وفقًا لهذا الطرح سيؤدي لحدوث التوازن بين الاستيراد والتصدير إذن، فلو انخفضت قيمة العملة الوطنية فسيزيد الطلب على منتجات تلك الدولة ويقل طلب سكان الدولة نفسها على المنتجات المستوردة فتزيد قيمة العملة المحلية مرة أخرى حتى تصل لسعر التوازن، والعكس صحيح. ينطبق الأمر نفسه على تحرير التجارة جمركيًا، فالتوازن سيحدث في ظل التجارة الحرة، ولا خوف من سيطرة منتجات الدول القوية على أسواق الدول الأضعف، لأنها لو زاد الطلب عليها سيغلى سعرها لحد عزوف الكثيرين عن شرائها ومن ثم سينخفض سعرها مرة أخرى.
يلغي ايضًا تقليل الدعم وخصخصة القطاع العام التشوهات في السوق، وهي التشوهات التي تحول دون حدوث التوازن وقدرة السوق على الاستغلال الأمثل للموارد والتصحيح الذاتي، فمثلا عندما تدعم الدولة منتج معين مثل الطاقة، فهذا يؤدي لإهدار الموارد واستخدامها في غير محلها، ويؤدي لاستهلاك الطاقة بشكل غير كفء بسبب رخص سعرها، والسوق سينحاز بشكل غير "طبيعي" للأنشطة والمنتجات كثيفة استهلاك الطاقة على حساب قطاعات أخرى أكثر كفاءة كانت ستنجح لو ترك السوق لحاله.
احتكار الدولة لبعض الأنشطة ايضا يؤدي لعدم كفاءة الإنتاج بسبب غياب المنافسة مما يؤدي لتقديم الشركات العامة للسلع رديئة مرتفعة التكلفة ومهدرة للموارد، ما كانت ستلقى أي حظ من النجاح في وجود سوق تنافسي. بالطبع أي نظرة سريعة على أي مؤشر مرتبط باستهلاك الموارد سنجد أن دول الشمال الأغنى تستهلك أضعاف أضعاف الموارد التي تستهلكها دول الشمال الأفقر. يرجع هذا بالطبع لارتفاع القوة الشرائية في دول الشمال لكن أيضًا بسبب تطور قوى الإنتاج بشكل كبير مما يجب أن يصاحبه تطور مماثل في قوى الاستهلاك تتخطى بكثير الحد الذي يضمن الحد الأقصى من الرفاه الإنساني.
"في المدى الطويل كلنا أموات"
عودة إلى حجة التحرير الذي يسمح بالتوازن، يبدو هذا الأمر منطقي إلى حد كبير، لكن يوجد مشكلتين رئيسيتين بخصوص هذا الطرح. أولا، أن الأدلة التجريبية من الواقع لا تتوافق مع هذه الفرضيات فمثلا لم يؤثر خفض سعر الصرف كثيرًا في بلدان كثيرة على التصدير، ولم يؤد في الوقت نفسه لاستقرار سعر العملة، ولم يؤثر إلغاء دعم الطاقة في مصر مثلا على التحول لأنشطة منخفضة الطاقة كما يظهر معدل الانبعاثات الكربونية في الاقتصاد الآخذ في الازدياد منذ إلغاء دعم الطاقة. تهدف أيضًا برامج التعديل الهيكلي إلى ضبط اختلالات ميزان المدفوعات من خلال فرض إصلاحات هيكلية تعزز من التنافسية العالمية للاقتصاد، لكن تتجاهل تلك البرامج مغالطة التكوين وهو أن إجمالي موازين المدفوعات في العالم هو بالتعريف معادلة صفرية.
يعد أيضًا العامل الزمني في مسألة التوازن شديد المحورية، فحتى لو اعتبرنا جدلًا أن التوازن يتحقق في مدى زمني غير محدد، فطول المدى الزمني يفرغ الوصول للتوازن من مضمونه لو كان الأمر يستغرق بضعة أجيال مثلًا. هذا هو السياق الذي عارض فيه الاقتصادي البريطاني الشهير جون مينارد كينز فكرة التوازن التلقائي والسوق المصحح لذاته من خلال مقولته الشهيرة "في المدى الطويل كلنا أموات".
باختصار، تأتي برامج التعديل الهيكلي بتكلفة اجتماعية باهظة بحجة زيادة معدلات الكفاءة والنمو في الاقتصاد، ولكن حتى هذه الوعود التي نضحي بكل مكتسباتنا الاجتماعية من أجلها، عادة ما لا تتحقق بالصورة المثالية والبسيطة الموجودة في كتب ومناهج رواد الاقتصاد الشائع من النيوكلاسيكيين والنيوليبراليين.