
عمَّال السودان: مآلات الحرب وانهيار الدولة
رفض الزبير يوسف عبدالعزيز، المهندس الكهربائي السوداني الذي يعمل في شركة بتروإنرجي الصينية السودانية للبترول، مغادرة منزله بعد اندلاع الحرب في نيسان/أبريل 2023. واستجابة لطلب من إدارة شركته، قام بصيانة عدد من أنابيب النفط المتسرّبة في مناطق خاضعة لسيطرة مليشيا الدعم السريع. وعندما شكرته الإدارة ودعته لتحديد مبلغ مالي مكافأة له، طالب بمبلغ يقل عن مئة دولار أمريكي، هي تكلفة الوقود اللازم لإتمام الصيانة، وأبلغهم بضرورة دفع مبلغ بسيط لأفراد التأمين التابعين للمليشيا الذين رافقوه في خلال المهمة.
برّر الزبير تصرفه بأن ما قام به يدخل ضمن نطاق عمله الذي يتقاضى عليه راتباً شهرياً، ولم يرَ في الأمر مبرراً لتحصيل أي مبالغ إضافية.
لاحقاً، قام الزبير بدفن كميات من مخلفات النفط المتدفقة غرب مدينة أم درمان، من دون أن يطلب مقابلاً مادياً. وعندما ناقشه بعض أصدقائه في قراره، أوضح لهم أن استمرار تدفق النفط قد يؤدي إلى نفوق الماشية، ويلحق أضراراً جسيمة ًبالأراضي الزراعية، ما قد يتسبّب بكارثة بيئية خطيرة.
وفي أواخر آذار/مارس الماضي، بادر الزبير بصيانة مولد مياهٍ في منطقته السكنية، ما مكّن الأهالي من الحصول على الماء بعد انقطاعٍ استمر أشهراً عدة. وبعد يومين فقط من هذا العمل الإنساني، استشهد الزبير بعد أن أطلقت عليه قوة مسلّحة من مليشيا الدعم السريع النار أمام أطفاله، إثر رفضه تسليم سيارته وممتلكاته لهم بالقوة، في ثاني أيام عيد الفطر.
بطولة الشهيد الزبير ليست حالة استثنائية في سِيَر عمّال السودان وعامليه في خلال حروب السودان الطويلة وإن كانت تصلح مثالاً على ما تعيشه الطبقة العاملة السودانية اليوم في واحدة من أكثر الفترات قسوة في تاريخها الطويل من المعاناة والنضال.
منذ استقلال السودان في كانون الثاني/يناير 1956، ظل العمّال في طليعة الفئات المتضرّرة من إخفاقات الحكومات المتعاقبة في القيام بواجباتها الأساسية تجاه الشعب السوداني، وهي تعجز عن توفير الخدمات الأساسية لقطاعات واسعة من المواطنين، وتفشل في احتكار العنف المشروع، أو في بسط سلطتها على كامل التراب الوطني. وقد عانى العمّال من غياب العدالة والتنمية والخدمات في أوقات السلم، وتحت حكومات موسومة بالديمقراطية، كما تحملوا عبء النضال وتعرضوا للقهر والقمع والاستغلال في أزمنة الحرب، وتحت الأنظمة العسكرية الدكتاتورية.
سوق العمل السوداني
يبلغ عدد السكان في السودان حوالي 50 مليون نسمة، تبلغ القوة العاملة منهم (السكان في سن العمل) نحو 25 مليون شخص. وبحسب صندوق النقد الدولي، فقد ارتفع معدل البطالة في العام 2024 إلى 62% كنتيجة مباشرة للحرب، وتوقف عجلة الإنتاج، وانهيار المؤسسات الاقتصادية العامة والخاصة. وكانت نسبة الفقر قبل الحرب تبلغ 65%، ولا شك أن الحرب قد فاقمتها سوءاً.
نسبة العاملين في القطاع غير الرسمي تبلغ حوالي 79% من مجموع العاملين السودانيين، 40% منهم يعملون بأجر فقط
وتظهر تقديرات دراسةٍ نشرها منتدى البحوث الاقتصادية في آب/أغسطس 2023 عن سوق العمل في السودان قبل اندلاع الحرب بعض مظاهر هشاشة هذا السوق. فنسبة العاملين في القطاع غير الرسمي أو غير المنظم (أي العاملين من دون أي ضمان اجتماعي) تبلغ حوالي 79% من مجموع العاملين السودانيين، يعمل 40% منهم بأجر، ويعمل 29% منهم لحسابهم الخاص، ويعمل 10% منهم مع أسرهم من دون أجرٍ. وبحسب الدراسة نفسها فإن 60% من العاملين يعملون خارج أي مؤسسة (أي أنهم ليسوا تابعين لأي شركةٍ أو عمل أو منشأة)، و37% من مجموع العاملين هم عمالة غير منتظمة (أي عمالة موسمية أو متقطعة). ويستوعب القطاع الزراعي حوالي 39% من مجمل العاملين السودانيين.
توضح الورقة التي أُعِدت بطلبٍ من الحكومة الانتقالية قبل انقلاب العسكر عليها في تشرين الأول/أكتوبر 2021، أن نسبة العاملين بأجر تبلغ حوالي 55%، مقابل 45% يعملون من دون أجرٍ. وأن نسبة من يعملون بأجر ويحصلون على تأمين اجتماعي يبلغ 15%، غالبهم يعملون في القطاع العام ومؤسساته (14%) بينما يعمل 1% فقط في مؤسسات في القطاع الخاص توفر لهم أجوراً وضماناً اجتماعياً. وتكشف الدراسة أن 63% من السكان تبلغ أعمارهم أقل من 25 عاماً تأكيداً للتركيبة الفتية للشعب السوداني. إلا أن نسبة مشاركة النساء في سوق العمل تتراوح بين 14% و29% بحسب تضييق أو توسعة تعريف سوق العمل، في مقابل نسبة مشاركةٍ للرجال تتراوح بين 63% و77%.
هشاشة مضاعفة في زمن الحرب
حتى في ظل الظروف العادية، كان العمال السودانيون من أكثر فئات الشعب هشاشة. فالغالبية العظمى منهم صاروا عرضة للاستغلال والفقر بسبب الأجور المنخفضة، وغياب التأمين الاجتماعي والخدمات، والمشاكل الهيكلية للقطاع غير المنظم. ومع اندلاع هذه الحرب الطاحنة منذ ما يزيد قليلاً عن عامين، انهارت مؤسسات الدولة بسرعة مفجعة، وأصبح العمّال والعاملات في السودان يواجهون مستويات غير مسبوقة من الفقر والتهميش، ويخوضون معارك يومية من أجل البقاء، من دون سند قانوني أو حماية اجتماعية فعّالة.
فقد توقفت الحكومة بمجرد اشتعال الحرب عن دفع رواتب العاملين لأشهر عديدة، وأغلقت معظم الشركات والمؤسسات والمصانع أبوابها، وسُرّح عشرات الآلاف من العمال قسراً، أو أُجبروا على أخذ إجازاتٍ من دون راتب (بما يخالف قوانين العمل السارية)، وانهار نظام الضمان الاجتماعي بالكامل، مع غياب أي دعم حكومي أو نقابي فعّال.
وبذلك لم يعد العامل السوداني مجرد مهمّش اقتصادي، بل أصبح ضحية مباشرة للحرب والانهيار المؤسسي للدولة السودانية.
توقفت الحكومة بمجرد اشتعال الحرب عن دفع رواتب العاملين لأشهر، وأغلقت معظم الشركات والمصانع أبوابها، وسُرّح عشرات الآلاف من العمال قسراً أو أُجبروا على أخذ إجازات من دون راتب
وفي مقابل ذلك، ظهرت نماذج ملهمة عديدة لعمالٍ – مثل الشهيد عبدالعزيز - يقدمون الخدمات الأساسية للمواطنين، خصوصاً صيانة وتشغيل خدمات المياه والكهرباء والاتصالات، في ظروف أمنية بالغة التعقيد، تطوعاً ومن دون أجر، في موازاة لما قام به متطوعون كثرٌ، من تأسيس غرف الطوارئ والمطابخ والتكايا (دور الضيافة) التي تقدّم الطعام للمحتاجين والجوعى، وتؤمن سبل البقاء أو الخروج من مناطق القتال، وتقدم خدمات الإعاشة والمأوى للنازحين، والخدمات الصحية والطبية والتعليمية للسكان في مناطق النزاع أو النزوح.
تمثّل هذه النماذج أحد أهم ما قدمته ثورة كانون الأول/ديسمبر 2018 السودانية للعالم من استلهام ممارسة النفير الضاربة في تقاليد المجتمعات السودانية (وهي حملاتٌ يتجمع فيها المواطنون بصورة طوعية لتقديم العون الذاتي لا سيما في حالات الطوارئ)، لتطوير أشكال تنظيم العمل القاعدي كلجان المقاومة والأحياء التي أدّت أدواراً كبرى في إسقاط نظام البشير أوائل العام 2019، وفي مقاومة انقلاب تشرين الأول/أكتوبر 2021، ثم تطورت بعد اندلاع الحرب لتكون أحد أهم دعائم صمود الشعب السوداني.
مأساة العمال في القطاع غير المنظّم
يشكل القطاع غير المنظم العمود الفقري لسوق العمل السوداني. هؤلاء العمال – من عمال البناء، وعمال الورش والمهن اليدوية، وعمال التعدين الأهلي، وبائعات «ستات» الشاي والأطعمة، والباعة المتجولين، وعاملات الخدمات المنزلية، والحرفيين، وصغار المزارعين – يعتمدون بالكامل على ما يتحصلون عليه من رزق اليوم باليوم. لا عقود عمل تحميهم، ولا تأميناً اجتماعياً يؤمِّن لهم دخلاً في حالات المرض أو فقدان العمل.
ومع اشتداد الحرب فقد انهارت الأسواق التي كانت توفر لهم مصادر قوتهم اليومي، وتقطعت سبل المواصلات داخل المدن وخارجها بفعل الحصار والاشتباكات، ما جعل التنقل للعمل شبه مستحيلٍ، وفُقد الأمن الشخصي، وأصبح العمل في الأسواق أو الورش محفوفاً بالمخاطر المباشرة من القصف أو الاعتداءات، وتدمرت أحياءٌ بأكملها كانوا يعيشون فيها، ما أدى إلى نزوحهم جماعياً وانفصالهم عن سبل عيشهم.
ولأن خيارات النجاة محدودة، فقد اضطُر الكثير من العمال إلى الانخراط في اقتصاد الحرب، مثل الانضمام لأيٍّ من الأطراف المقاتلة كمجندين، أو العمل مع المليشيات المسلحة في مهام مساعدةٍ مقابل الطعام أو الوعود برواتب زهيدةٍ أو بإمكانية الحصول على غنائم من ممتلكات المواطنين أو المؤسسات المنهوبة. كما اضطُر بعضهم لممارسة أنشطة هامشية محفوفة بالمخاطر، كالتسول أو البيع العشوائي في ظروفٍ بالغة الخطورة، لا سيما ستات الشاي، أو العمل بأجور مجحفة. وقد اضطُر بعضهم للانخراط في أعمال السرقة والنهب بدافع البقاء على قيد الحياة. ولم ينج كثيرٌ ممن اضطُروا لممارسة كثير من هذه الأنشطة من تهم التعاون مع هذا الطرف أو ذاك من المقاتلين، وما تبع ذلك من حالات انتقام قاسية بتغير الأوضاع العسكرية على الأرض.
اضطُر الكثير من العمال إلى الانخراط في اقتصاد الحرب، مثل الانضمام لأيٍّ من الأطراف المقاتلة كمجندين، أو العمل مع المليشيات المسلحة مقابل الطعام
ومع غياب الحماية الرسمية، وغياب النقابات الفاعلة، ومع تفكك آليات الرقابة المجتمعية التقليدية، أصبحت حياة العمال اليومية معركة شرسة ضد الجوع والعنف والإذلال.
في واقع كهذا، يفقد العامل السوداني في القطاع غير المنظم أكثر من مجرد لقمة العيش؛ إنه يفقد أمنه، وكرامته، وانتماءه لمجتمعٍ مدني منظم، ويتحول إلى مجرد فرد في دوامة البقاء العشوائي، بلا حماية ولا أمل واضح في استعادة استقراره.
قوانين عاجزة عن حماية العمال
وما أسهم في تعقيد أوضاع العمال أكثر أن القوانين السودانية، وعلى رأسها قانون العمل لسنة 1997، تفتقر إلى أي آلياتٍ تنظم أو تحمي العمل في ظل النزاعات المسلحة. ولم تضع تشريعات السودان تصورات لحماية العاملين في حالات الطوارئ أو الكوارث أو الحروب، على الرغم من مصادقة البلاد على عدد من الاتفاقيات الدولية ذات الصلة، مثل اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 87 (حرية التنظيم النقابي) ورقم 98 (الحق في التنظيم والمفاوضة الجماعية).
وعلى الرغم من أن العمال أدّوا على الدوام دوراً محورياً في الانتفاضات الشعبية ضد الأنظمة العسكرية الدكتاتورية في التاريخ السوداني الحديث، من ثورة تشرين الأول/أكتوبر 1964 إلى انتفاضة نيسان/أبريل 1985، وصولاً لثورة كانون الأول/ديسمبر 2018. إلا أنه مع كل انتصار شعبي، كانت الدولة السودانية تفشل في ترسيخ أسس جديدة تضمن للعمّال والمزراعين وعموم المهنيين والفقراء والكادحين حقوقهم، وتتيح لهم الحلم بوطن يوفر حياة حرة كريمة آمنة مستقرة، تحت رايات الحرية والسلام والعدالة والديمقراطية والتنمية.
ولم تكن الحكومة الانتقالية التي وصلت السلطة في آب/أغسطس 2019 على أكتاف الحراك الجماهيري للعمال والمهنيين السودانيين استثناءً في تخليها عن مطالب العمال المشروعة في تهيئة المناخ لقيام نقابات عمالية ومهنية تضمن حماية حقوق العمال. فلم تتمكن الحكومة والقوى السياسية المدنية المشكلة لها طوال الفترة الانتقالية من التوافق على خطوات منظمة لتحول نقابي مدروس يتفادى الفراغ النقابي، ويسد الثغرات التي قد تسمح بعودة النقابات التابعة للنظام الشمولي البائد، ريثما يتم الاتفاق على قانون نقابي جديد يضمن استقلالية النقابات، ويعزز الحريات النقابية، ويسمح بإصلاح الهياكل النقابية، ويتوافق مع المعايير والاتفاقيات الدولية.
وفي خلال الحرب الجارية، تخلت الدولة عن التزاماتها تجاه العمال تماماً، تاركة ملايين الأشخاص بلا رواتب أو تعويضات أو أي شبكة أمان اجتماعي.
محاولات تدجين النقابات: عودةٌ إلى المربع الأول
ومع بداية استعادة حكومة الأمر الواقع السيطرة على مناطق واسعةٍ من البلاد كانت قد احتلتها مليشيا الدعم السريع في المراحل الأولى من الحرب، سارعت السلطات إلى إصدار قراراتٍ بإعادة تسجيل وتنظيم النقابات عبر مكتب مسجل تنظيمات العمل بوزارة العدل. وعلى الرغم من تبرير هذه الخطوات بأنها تهدف إلى حماية ممتلكات النقابات وإعادة تنظيم الساحة العمالية، يشير واقع الحال إلى نوايا الحكومة لإضعاف النقابات المستقلة، خصوصاً تلك التي أدّت دوراً كبيراً في الثورة ومقاومة الانقلاب والحرب، ولتمكين النقابات الموالية للنظام القديم أو الحكومة الحالية، عبر هندسة المشهد النقابي لضمان السيطرة على أدوات التنظيم العمالي، وتقويض حرية التنظيم التي انتزعها العمال بنضالاتهم، في مخالفة صارخة للاتفاقيات الدولية التي تحظر تدخل الحكومات في الشؤون النقابية.
لم تكن الحكومة الانتقالية التي وصلت إلى السلطة على أكتاف الحراك الجماهيري للعمال والمهنيين السودانيين استثناءً في تخليها عن مطالب العمال
وتداعيات هذه القرارات الحكومية الأخيرة على العمال والنقابات في ظل الحرب الجارية كارثيةٌ بكل المقاييس، فهي تفكك البنى الاجتماعية والروابط التنظيمية للنقابات والاتحادات المهنية التي كانت تتيح للعمال الدفاع عن حقوقهم، وتضعف التفاوض الجماعي، وتفقد الآلاف لمصادر دخلهم من دون تعويضاتٍ، مع غياب أي أفقٍ لتحسين أوضاع العمل أو الأجور في المستقبل القريب.
وبينما تواجه النقابات تحدياتٍ هائلةً في محاولة إعادة بناء صفوفها وسط الحرب والدمار والنزوح، بات مستقبل الحركة النقابية معلقاً على قدرتها على الصمود والتنظيم الذاتي ومقاومة التدجين.
واليوم أكثر من أي وقتٍ آخر، فإن إعادة بناء حركة نقابية حرة ومستقلة تمثل مهمة استراتيجية ليس لحماية حقوق العمال فقط، بل لضمان بقاء جذوة النضال من أجل الحرية والسلام والعدالة مشتعلةً. كما أن النضال من أجل حرية التنظيم النقابي هو جزءٌ لا يتجزأ من النضال الوطني الأوسع لإنقاذ السودان من حالة التفكك والانهيار. فمعركة العمال اليوم، كما كانت دائماً، هي معركةٌ من أجل الوطن كله.