تضميد الجراح
منذ أُجبِر الدكتور غسان أبو ستة على مغادرة غزّة في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، كنت أتابع أخباره، وأستمع إليه يحاضر في لندن والدوحة، ومؤخّراً في بيروت، عن تجربته كجرّاح حرب متفانٍ ومخضرم، وشاهد على حرب الإبادة الجماعية المستمرّة التي تشنّها إسرائيل على غزة. أُعِدُّ نفسي تلميذة للدكتور أبو ستة، لا بالمعنى التقليدي إذ لم يسبق لي حضور محاضراته، ولكن بمعنى وجوب استماعنا إليه بعناية والتعلّم من تجاربه. واستخدامي هنا لضمير الجمع، أقصد به الجمهور الواسع، وربّما المتباين المشارب، التي تتعامل مع الدكتور أبو ستة عبر الإنترنت وشخصياً، مع حرصها على التعرّف إلى أشياء عديدة، بدءاً من التقنيات الجراحية المُطوّرة تحت وطأة القصف ونقص المواد الحادّ، وصولاً إلى إعادة تسييس العمل الإنساني لتجاوز حدود السلطة والعنف بفعالية أكبر.
البُعد الزمني لآلة القتل الإسرائيلية، والدور المشهدي للعنف والإرهاب، وأساليب إعادة إنتاج رأس المال وتراكمه، هي ثلاثُ أفكار تتكرّر في شهادات الدكتور أبو ستة
قُيّضَ لنا الاطلاع على العديد من أعمال الدكتور أبو ستة على مرّ السنين. وأركّز هنا على عمله التحليلي الذي نتعلّم من خلاله معنى الربط بين النظرية والممارسة. ففي حين وقف العديد من المفكِّرين والكتّاب والأكاديميين، ممن ساهمت أعمالهم في تشكيل موقفي السياسي الشخصي، عاجزين عن الكتابة إزاء العنف الإسرائيلي، واصل الدكتور أبو ستة، ومنذ بداية هذه الجولة من إرهاب الإبادة الجماعية، مشاركتنا أفكاره التحليلية المتبصِّرة، سواء من خلال التعليقات المقتضبة على وسائل التواصل الاجتماعي بينما كان لا يزال في غزّة يعالج الجرحى أو من خلال المداخلات الإعلامية أو الأكاديمية التي عرضها من خارج غزة. إن أنثروبولوجيّته الطبّية، (أو الطبّ التحرّري أو الاجتماعي أو حتّى طبّ النزاعات وفق مصطلحات برنامج البحث والتدريب الذي شارك الدكتور أبو ستة في تأسيسه في بيروت)، تزوِّدنا بعدسةٍ محفّزة يمكن من خلالها إعادة التفكير في العلاقات المشحونة بين العنف ورأس المال والطبّ. إن التفكير مع الدكتور أبو ستة يساعدنا في رسم الخطوط العريضة للممارسة التحرّرية في مجال الصحّة والرعاية، فضلاً عن أخلاقيات العمل الإنساني الذي لا تعيقه الأسئلة السياسية الصعبة.
حين أستمع إلى الدكتور أبو ستة وهو يصف اضطراره، والطاقم الطبّي في غزة، على تضميد جروح المصابين وتنظيفها بالخل ومن دون أي مخدّر، تراني أسمعُ نحيب هؤلاء الجرحى أيضاً. فهو بنقله «سرديات الجرح» الخاصة بمرضاه، كان يعالج أيضاً جرحنا الجماعي ويساعدنا جميعاً على التفكير في عمليّات التضميد السياسي المختلفة اللازمة للشفاء. إن البُعد الزمني لآلة القتل الإسرائيلية، والدور المشهدي للعنف والإرهاب، وأساليب إعادة إنتاج رأس المال وتراكمه، هي ثلاثُ أفكار تتكرّر في شهادات الدكتور أبو ستة. وإذ تسلِّط هذه الأفكار الضوء على الطبيعة الإجرامية للمشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني، فإن إدراكها وتسميتها بمسمّياتها يمضي بنا قدماً في طريق توسيع إمكانيات المقاومة القادرة من الناحية المادية والتخيّلية والرمزية على التعامل مع كلّ عقدة إجرامية.
ومن خلال استهداف الأشكال كافّة للبنية التحتية الحيوية في غزّة وقتل الأشخاص الذين يعتمدون عليها، يقول الدكتور أبو ستة إن إسرائيل خلقت الظروف الملائمة لـ«صناعة كارثة»، تدوم بعد خمود أصوات الرصاص والقنابل. وهذا المقصد من البعد الزمني لآلة القتل الإسرائيلية: فمن خلال قصف غزّة في الوقت الراهن، تستهدف إسرائيل قتل الفلسطينيين حاضراً ومستقبلاًَ. وبالإضافة إلى تحويل غزة إلى مكان غير صالح للعيش، تضمن هذه الكارثة عدم حصول عشرات الآلاف من الجرحى الفلسطينيين على الرعاية المناسبة، وتتركهم يواجهون الموت البطيء. وهذا الواقع يبيّن استخدام إسرائيل سياسة «تكسير العظام» مرّة أخرى، تأكيداً على «حقّها في التنكيل» (right to maim) بالفلسطينيين وإيذائهم، لا وبل تكبيدهم قدراً أعظم من الأذى. وصفت جاسبير بوار هذا التكتيك الاستعماري للأذى بأنه «إبادة جماعية بالتنكيل الدائم»، حيث بدلاً من قتل الفلسطينين، يتمّ القضاء على حياتهم من خلال إصابتهم بإعاقات دائمة ومن ثمّ التنصّل من الظروف البنيوية التي أدّت إلى هذه الإعاقات وفاقمتها. وهذا ما يقتل المقاومة نفسها، وفق بوار، وليس الأجساد وحدها. وقد فهمنا بالفعل ما يعنيه «حقّ إسرائيل في التنكيل» في خلال مسيرات العودة، حينما استهدفت قنّاصتها الأجزاء السفلية من أجساد المتظاهرين؛ أفخاذهم والأجزاء الخلفية من ركبهم حيث يمزّق الرصاص الأعصاب والأوعية الدموية والعضلات والمفاصل والغضاريف في آنٍ معاً. واليوم، نفهم هذه الأساليب بشكل أفضل بعد، مع استخدام إسرائيل سياسة تكسير العظام بشكل منهجي، بما يشبه التفكير النظمي حيث أن تداخل مجموعة من العوامل التي تشكل نظاماً واحداً يجعلها مؤثرة ببعضها البعض. وبما أن الممارسة التي تتقصّد الإمعان بالتنكيل تزيد حكماً حجم الأذى، فهذا يعني أن هذه السياسات تضع عبئاً ثلاثي الأضعاف على مجتمع غزّة وتفاقم الآثار الناجمة عن اضطراباته: من خلال إصابة الناس أولاً، وتدمير البنية التحتية الصحّية ثانياً عبر قصف المستشفيات وقتل العاملين في المجال الصحّي وإعادة تشكيل الروابط الاجتماعية والديموغرافية، وأيضاً من خلال منع إعادة بناء القدرات المادية والاجتماعية والتكنولوجية لمواصلة الحياة وتقديم الرعاية. عند الحديث عن التفكير النظمي، لن يكون مفاجئاً إذا علمنا لاحقاً أن إسرائيل لجأت إلى بعض نماذج الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بعدد الضحايا التي يستطيع جيشها إسقاطهم.
المقصد من البعد الزمني لآلة القتل الإسرائيلية: فمن خلال قصف غزّة في الوقت الراهن، تستهدف إسرائيل قتل الفلسطينيين حاضراً ومستقبلاًَ
تحدّث الدكتور أبو ستة، مراراً وتكراراً، عن جراح مرضاه بوصفها أدلة جنائية أسوة بكل جراح الحرب. وبالطبع هذه الأدلة هي إدانة ومؤشّر على جرائم الحرب المروعة التي ارتُكِبَت. لكن يبدو أن الإصابات، التي وصفها الدكتور أبو ستة بحرقَة، تخدم غرضاً آخر. فهو يُطلِق عليها مسمى «الموت الأدائي»، وهو ما أفهمه على أنه عنف استعراضي تتقصّد إسرائيل إظهاره ونشره. منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، تنهال علينا صور العنف والموت الآتية من غزّة، فأعود معها إلى فكرة أبو ستة عن الإرهاب الاستعماري الموجود في ذاته ولذاته. كان الرعب العبثي، ولا يزال، جوهر المشروعات الاستعمارية، ويعجّ التاريخ بالعديد من الأمثلة المشابهة. وأصفه بالعبثي لأنه غير عقلاني حتّى بالمعايير الاستعمارية. على سبيل المثال، إبّان «طفرة المطاط» في القرن التاسع عشر في أميركا اللاتينية، أقدمت شركة «مطاط الأمازون» الأنغلو-بيروفية على تعذيب العمّال من السكّان الأصليين ومعاملتهم بوحشية، وقتلهم، إلى حدّ إبادتهم بالكامل. لقد أرهب المستعمرون اليد العاملة الأصلية بطرق تجاوزت متطلّبات الإنتاجية. وفي محاولته تفسير سبب إقدام شركة المطاط على إبادة جيشها الاحتياطي من العمّال، بيّن عالم الأنثروبولوجيا مايكل توسيغ أن العنف لم يرهب السكّان الأصليين فحسب، بل غذّى فوق كلّ شيء نزعات المستعمرين ورغباتهم. وفي الصهيونية، كما في الأشكال الأخرى من المشروعات الاستعمارية، عقيدةٌ ميسيانية تعدُّ تابعيها بالخلاص شرط إبادتهم السكّان الأصليين بأفظع الطرق. ولا أستطيع التفكير بإحلال أكثر عنفاً، ولا بأزمة أكثر ضرراً لذاتها.
العديد ممن يشاهدون أو يقرأون أو يكتبون عن الإرهاب الاستعماري من بعد، سواء كان بعداً جسدياً أو تحليلياً، يشعرون بالرعب منه والانهبار به في آنٍ معاً. ولهذا السبب لا يمكنهم النظر في الأهوال التي يرتكبها، ولا التغاضي عنها. والوحشية ذات شقين: فهي تشمل رغبة المستعمر في الحصول على جمهور يشهد على أعمال الإرهاب الاستعماري، وفي الوقت نفسه ينبهر به. يسير أداء الجيش الإسرائيلي على هدى التصريحات الفظيعة لقادته عن الفلسطينيين وأكثرها تجريداً من الإنسانية. وللمفارقة، فإن الرعب الذي ينشره الجيش يؤكّد صحة تلك الصور التي أُسقِطت على الفلسطينيين. أتعلّم من الدكتور أبو ستة كيفية التحدّث عن الرعب، وأنه من الممكن إيقافه. وليس بالضرورة عن طريق قوة أكبر. فقد انتصر داود على غالوت باستغلال قوّة الأخير ضدّه.
على عكس شركة المطاط أو نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، لا تعتمد إسرائيل، إلى حدّ ما، على السكّان الفلسطينيين في غزّة كجيش احتياطي من العمّال. بل على العكس. ومن هذه الزاوية، ربّما، يُنظر إلى الفلسطينيين كفائض سكاني. تركّز «سرديات الجرح» الخاصة بمرضى الدكتور أبو ستة، بمعنى كيف أصيبوا ومتى وأين وبأي أسلحة، على الوظائف الأخرى لهذا الإرهاب الاستعماري، وبتحديدٍ أكبر، يخبرنا عن تشابك هذا الإرهاب مع العلاقات الرأسمالية. لقد سمعنا وقرأنا الكثير عن استخدام إسرائيل لفلسطين كمختبر وحقل تجارب لعدد لا يحصى من تقنيّات العنف العسكري التي تُصدَّر بعد ذلك إلى بقية العالم. تتناول «سرديّات الجرح» أهوال الأنواع الجديدة من القنابل الفسفورية، وطائرات القنص المسيّرة، وصواريخ هيلفاير. وتظهر كيف يستخرج الاستعمار الاستيطاني القيمة، جنباً إلى جنب مع الرأسمالية العالمية المأمولة، من احتلال الأراضي الفلسطينية ومن ساكنيها، ولا يقتصر ذلك على استغلال الجسد العامل للسكّان الأصليين فحسب. وإذا ابتعدنا عن العلاقات الرأسمالية لاستغلال العمل، يغدو استخدام الأسلحة والتقنيات العسكرية، والجدران والأسيجة الرقمية، والمراقبة المادية للمناطق والأشخاص، والتنكيل بالأجساد وإصابتها وإردائها قتلى، الوسيلة الأساسية لخلق القيمة واستخراجها. وهذه القيمة تدفع المبيعات إلى التحليق، ويُسبَغ عليها لاحقاً الطابع المالي أيضاً، لتتحوّل إلى أداة مالية تُباع وتُبادل ويُعاد ربطها بالقروض والأوراق المالية والضمانات في الأسواق العالمية، بما يخلق المزيد من القيمة والمزيد من المال للمتداولين ومديري صناديق التحوّط والاستثمار. لا بد من وجود اسم لهذا الشكل من الاستخراج ونظرية استعمار القيمة في القرن الحادي والعشرين. إن جميع أشكال العلاقات الرأسمالية ملطّخة بالعَرَق والدموع والدماء، وبعضها أكثر من غيرها.
لا تعتمد إسرائيل، إلى حدّ ما، على السكّان الفلسطينيين في غزّة كجيش احتياطي من العمّال. بل على العكس. ومن هذه الزاوية، ربّما، يُنظر إلى الفلسطينيين كفائض سكاني
في مطلع كانون الأول/ديسمبر الحالي، شاركت بمحاضرة نظّمتها إحدى الجامعات في مونتريال، تناولت سعي إسرائيل لمحو جميع أشكال البنية التحتية المدنية في غزة، بما فيها الأنفاق واقتصاداتها الحيوية وغير الرسمية. وخلص المتحدّثون الثلاثة، الذين قدّموا مداخلاتهم عبر تطبيق زوم، بالتشديد على ضرورة البدء في التفكير في إعادة الإعمار، والعمل من أجله، وحثّ المجتمع الدولي على بذل كلّ ما في وسعه لدعم سكّان غزّة ومواصلة الحياة فيها ضدّ نظام الفصل العنصري الإسرائيلي. استفزّت مقترحاتهم رجلاً من جنوب أفريقيا كان حاضراً، فانبرى قائلاً: «لماذا تقولون عنه فصلاً عنصرياً؟ أنا لا أفهم». ثمّ أردف:
«لقد كبرت الآن، ولكني عشت في ظل نظام الفصل العنصري ردحاً من الزمن، وتحمّلت سياساته غير المتكافئة، وحاربته. ما يعنيه نظام الفصل العنصري هو أن ثمّة جرّافة جاهزة دائماً لهدم منازلنا للاقتصاص منا، ولكنّنا لم نختبر يوماً مستوى القتل المنهجي وتدمير البنية التحتية كالذي نشهد عليه الآن في غزة. وأكثر من ذلك، كيف يمكن الحديث بكلّ هذه الثقة عن إعادة الإعمار والمساعدات الدولية التي ستأتي بعد أن تمحي إسرائيل غزّة، في حين أن هذه الدول نفسها تشرِّع القتل والدمار وتمكِّن إسرائيل منهما. أين هو مستقبلك اليوتوبي ذاك؟ إذا لم يكن الوقت الحالي مناسباً لطرح هذا السؤال الصعب، فمتى يكون؟».
لقد سمعت الدكتور أبو ستة يتحدّث مراراً وتكراراً عن نوعية العلاقات التي أقامها مع مرضاه في غزة. وأتذكّر قوله في مقابلة مع إحدى القنوات التلفزيونية البريطانية: «إنهم مرضاي، ومن الصعب جدّاً أن أتركهم. في خلال فترة تدريبنا في هيئة الخدمات الصحّية الوطنية (NHS)، نتعلّم عن هذا الشيء الذي يُسمّى ملكية». لا أستطيع التفكير في مفهوم أكثر ملاءمة لبدء التفكير في المستقبل. فهو حتماً سيكون لنا.