
المساعدات الخارجية للبنان: صورة عن رداءة الدولة
منذ بداية العام 2024 وحتى 16 كانون الأول/ديسمبر منه، حصل لبنان على 1.4 مليار دولار من المساعدات الإنسانية بحسب بيانات مكتب الأمم المتّحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، وذلك من أصل 3.1 مليار دولار طلبها من «المجتمع الدولي»، لمساعدته على التصدّي للأزمات المتعدّدة التي يواجهها. وهذا يعني أنه لبنان لم يتلقَ سوى 45% من مجمل «طلباته»، وهي بطبيعة الحال لم تكن كافية لتلبية الحاجات الإنسانية والاجتماعية المُتزايدة في ظل العدوان الإسرائيلي واستمرار الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسات التقشفية المُجحفة للدولة اللبنانية.
في خلال العام الماضي، شهد لبنان عدواناً إسرائيلياً قد يكون الأعنف في تاريخ الصراع مع إسرائيل، نتجت عنه تداعيات كثيرة على الاقتصاد والمجتمع في لبنان، تضاف إلى التداعيات الناتجة عن الانهيارين الاقتصادي والمالي في العام 2019. ولمواجهة هذه الآثار وتدارك مفاعليها الاجتماعية، لجأت الحكومة اللبنانية، كما العادة، إلى تسوّل المساعدات من الخارج. واللافت هو أن هذه المساعدات تساوي نحو 42.4% من مجمل النفقات العامة المقدّرة في موازنة العام 2024 (3.3 مليار دولار)، أي أقل بقليل من نصف ما تنفقه الدولة اللبنانية لتأدية وظائفها الاجتماعية والاقتصادية والخدمية.
تتلطّى الدولة اللبنانية بالإفلاس والانهيارين المالي والاقتصادي للتملّص من تلبية حاجات سكّانها. فتغيب الرؤى السياسية والمشاريع الاقتصادية لصالح وصفة بائدة: تسوّل المساعدات من الخارج للقيام بأقل المُمكن. إلا أن نجاعة هذه الوصفة تتضاءل تدرّجياً، لا سيما أن عدد الأشخاص الذين يكافحون للاستمرار آخذٌ في الارتفاع في لبنان، كما في جميع أنحاء العالم، في حين أن مقدار الأموال التي تساهم فيها الدول الغنية والمُهيمنة، أو ما يصطلح على تسميته «مجتمعاً دولياً»، آخذ في الانخفاض سنوياً، مما يجعل هذه المساعدات غير كافية لسدّ الحاجات المحلّية الأساسية.
وفي حين استمرّت بسياساتها التقشّفية المُجحفة اجتماعياً واقتصادياً، وجّهت الدولة اللبنانية «ندائين» إلى «المجتمع الدولي» لمساعدته في مواجهة أزماته: النداء الأول بقيمة 2,72 مليار دولار، وقد وجّه بموجب «خطة الاستجابة الطارئة للبنان» التي أُطلِقت في آب/أغسطس 2021 بهدف تلبية احتياجات الفئات الأكثر ضعفاً بين اللبنانيين والمهاجرين واللاجئين السوريين والفلسطينيين المتضرّرين من الأزمات المتعدّدة. وفي حين كان يفترض أن تكون هذه المساعدة استثنائية ومُحدّدة زمنياً بـ12 شهراً إلا أنها تجدّد سنوياً من حينها. أما النداء الثاني فقد كان بقيمة 425.8 مليون دولار، وهو «نداء عاجل» وجّهته الحكومة اللبنانية في تشرين الأول/أكتوبر 2024 إلى «المجتمع الإنساني والشركاء الإنسانيين لتقديم المساعدات والدعم والحماية بسرعة وفعالية أكبر للفئات السكانية المتضرّرة على خلفية توسّع العدوان الإسرائيلي على لبنان»، ومن ثمّ جُدّد في كانون الثاني/يناير الحالي لمدّة ثلاثة أشهر إضافية. وعليه حصل لبنان على 1,17 مليار دولار بموجب النداء الأول، أي 43% من مجمل المبلغ المطلوب لتلبية حاجاته، و245 مليون دولار بموجب النداء الثاني أي 58% من مجمل المبلغ المطلوب، وهو ما يساوي ككل نحو 1,4 مليار دولار، علماً أنه لا يشمل مبلغ 298 مليون دولار تمّ التعهّد بتقديمه، ولكن لم تكن الإدارات المعنية قد استلمته بحلول منتصف كانون الأول/ديسمبر 2024.
يعدّ الأمن الغذائي «الحاجة» التي استحوذت على النسبة الأكبر من المساعدات في العام 2024 (19.8% من مجمل المساعدات). ومع ذلك، لم تكن هذه الأموال كافية سوى لتلبية 30.8% من الحاجات التي أعلنت عنها الدولة اللبنانية. يشهد لبنان تضخّماً في أسعار الغذاء منذ سنوات، إذ ارتفعت بنسبة 27,235% بين تشرين الأول/أكتوبر 2019 وكانون الأول/ديسمبر 2024، فيما أدّى العدوان الإسرائيلي إلى تعطيل سلاسل توريد الكثير من السلع وتعطيل حصاد الكثير من المنتجات وزراعة المواسم الجديدة. وحالياً تفيد منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) عن وجود ما لا يقل عن 1,65 مليون شخص في لبنان يعانون من انعدام الأمن الغذائي، بما فيهم 526 ألف طفلاً بحسب منظّمة إنقاذ الطفولة.
يأتي التعليم في المرتبة الثانية بين الحاجات التي تلقّت دعماً مالياً خارجياً، إذ استحوذ هذا القطاع على 12.9% من مجمل المساعدات الخارجية، وقد ساهمت هذه الأموال بتلبية 61% فقط من مجمل الحاجات، فيما بقي أكثر من ثلث الحاجات التعليمية غير مغطّى. أما الصحة فقد حصلت على 11.3% من مجمل المساعدات الخارجية التي وصلت إلى لبنان، ولكنها لم تكن كافية لتلبية سوى 49.6% من الحاجات، ويأتي ذلك في ظل تدهور خدمات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وفي ظل استمرار سطوة المستشفيات الخاصة وشركات الأدوية على هذا القطاع الأساسي، ما يرفع كلفة الطبابة والاستشفاء بشكل مستمر ويحرم شرائح كبيرة منها.
لا تعبّر هذه الأوضاع عن بؤس الأوضاع الاجتماعية في لبنان في ظل تنحي الدولة عن القيام بأدنى واجباتها، بل ترسم أيضاً صورة عن رداءة ما تبقى من دولة. فعلى الرغم من احتلال «خطاب السيادة» وهاجس الدفاع عنها مكانة متقدّمة في الحديث السياسي وتصريحات المسؤولين والأحزاب كافة، تعبّر الممارسات المُتبعة بما فيها سياسة الاعتماد المساعدات عن النقيض تماماً، وتفسّر، بجزء ما، الحرص اللبناني المستميت على نيل رضا الخارج.
يقال إن «من يعطي يأمر»، وبالنسبة إلى المساعدات، تبيّن الإحصاءات أن 61% من مجمل المساعدات التي حصل عليها لبنان في العام 2025، تأتي من ثلاث جهات رئيسة، تتصدّرها الولايات المتحدة بنسبة 22%، ويليها الاتحاد الأوروبي بنسبة 21%، ومن ثمّ ألمانيا بنسبة 18%.