
ما وراء حرب ترامب التجارية
نظم حزب العيش والحرية وموقع «صفر» ندوة بعنوان «ما وراء حرب ترامب التجارية» لمناقشة تأثيرات الإجراءات التجارية التي اتخذها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وشارك فيه كل من أسامة دياب، باحث في اقتصاديات التنمية وزميل جامعة لوفان في بلجيكا، ووائل جمال، الباحث المتخصص في الاقتصاد السياسي. هدف اللقاء للإجابة على مجموعة من الأسئلة المتعلقة بالتغيرات في النظام التجاري العالمي، ودور الولايات المتحدة في إعادة تشكيل هذا النظام، والتحديات والفرص التي قد تنشأ جراء هذه السياسات بالنسبة إلى المنطقة العربية عموماً ومصر خصوصاً، فضلاً عن الإطار التفسيري الذي يمكننا أن نعتمد عليه لفهم ما يجري.
التأميم ليس خياراً أيديولوجياً فحسب بل ضرورة عملية
أسامة دياب
أُفضّل دائماً الانطلاق من نظرة تاريخية، لأن فهم ما يجري اليوم يقتضي الرجوع إلى ما وقع منذ منتصف الستينيات،، وخصوصاً في الولايات المتحدة الأميركية، وإن انسحب ذلك على العالم بأسره. احتلت الولايات المتحدة موقع المركز في النظام الرأسمالي العالمي، وشهدت منذ تلك المرحلة أزمة ربحية ممتدة. تفاقمت هذه الأزمة في خلال السبعينيات والثمانينيات، وبدأت السياسات تتعامل معها جزئياً في أواخر الثمانينيات والتسعينيات.
العلاقة بين زيادة الأرباح والتعريفات
واجهت الرأسمالية هذه الأزمة ـ أو بالأحرى تحايلت عليها ـ بثلاث مقاربات رئيسة هدفت إلى تعزيز الربحية أو توسيع حصة الأرباح.
ركّزت المقاربة الأولى على زيادة حصة الأرباح من الناتج المحلي الإجمالي على حساب الأجور. تراجع النمو الاقتصادي عن مستوياته السابقة، ولم يحقق حتى في أفضل حالاته ما بلغته العقود الثلاثة التي تلت الحرب العالمية الثانية. بدلاً من توسيع «كعكة» الناتج المحلي، اقتطع رأس المال حصة أكبر من الحجم نفسه، فارتفعت الأرباح وتراجعت الأجور. فيما اعتمدت المقاربة الثانية على التوسّع في الائتمان في خلال التسعينيات لمعالجة ضعف الطلب، وهو ضعف نتج بدوره عن تراجع الأجور أو تجمّدها. ضخّت المصارف القروض بشكل واسع، وشمل ذلك قروض السيارات وبطاقات الائتمان، وهي أدوات عُرفت بها الولايات المتحدة. حتى التعليم الجامعي هناك ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالاقتراض. أما المقاربة الثالثة فقد شكّلت محاولة لتعزيز الطابع الاحتكاري للاقتصاد، إذ فرضت الاحتكارات سيطرة متزايدة في خلال تلك المرحلة. وارتبط هذا التوجه بالدفاع الشرس عن قوانين الملكية الفكرية، خصوصاً في القطاعات التكنولوجية التي تحوّلت إلى أدوات رئيسة لتجاوز أزمة الربحية.
حققت هذه المقاربات الثلاث انتعاشاً نسبياً في معدلات الربحية في خلال التسعينيات، وربما أيضاً في مطلع الألفية الجديدة. لكن تراجعت هذه المعدلات لاحقاً، حتى بلغت ذروتها مع الأزمة المالية العالمية وتداعياتها. دخل الاقتصاد مرة أخرى في أزمة ربحية، بعد أن استُنزفت أدوات التحايل السابقة، ولم يعد بالإمكان استعادتها بالفعالية نفسها.
فرضت إدارة ترامب هذه التعريفات بالتزامن مع اقتطاع أجزاء واسعة من الإنفاق العام، ووقف أغلب أشكال الدعم الخارجي. ويكشف هذا السلوك عن هدف أعمق: تعويض أزمة الربحية من خلال الاستيلاء على المال العام
استُنفد قمع الأجور إلى أقصى الحدود، وبلغ التوسّع في الائتمان ذروته. قفز الدين الخاص بشكل حاد في خلال العقود الثلاثة الماضية، ولم يتبقّ هامش كبير لتوسيعه. وبلغت الاحتكارات بدورها حدودها القصوى، سواء في الصناعات الدوائية أو في قطاعات التكنولوجيا ذات الطابع الاحتكاري المسبق، فضلاً عن مجالات أخرى. وعليه، لم تعد هذه الأدوات قادرة على توليد النتائج السابقة.
سجّلت معدلات الربحية ارتفاعاً في خلال السنوات الأخيرة، وخصوصاً بعد أزمة كوفيد، غير أن هذا الارتفاع لم يأتِ نتيجة تعافٍ اقتصادي حقيقي، بل عكس طبيعة الأزمة ذاتها. فقد أدى الانهيار الحاد في بدايات الجائحة إلى انتعاش لاحق في بعض القطاعات، وارتفعت الربحية في بعض المجالات نتيجة هذا التقلّب.
تظهر علاقة مباشرة بين هذه السياسات والتعريفات الجمركية. فرضت إدارة ترامب هذه التعريفات بالتزامن مع اقتطاع أجزاء واسعة من الإنفاق العام، ووقف أغلب أشكال الدعم الخارجي. ويكشف هذا السلوك عن هدف أعمق: تعويض أزمة الربحية من خلال الاستيلاء على المال العام.
شهدنا في السابق استيلاءً على الأجور، لكن هذا المسار بلغ حدوده، وبدأت المرحلة التالية: الاستيلاء على المال العام. في هذا السياق، يبرز الاقتصادي الأميركي روبرت رايش، الذي يعتبر من أبرز الأصوات في هذا المجال. قدّم رايش تحليلات دقيقة ومستمرة توضّح كيف تتصل اقتطاعات الإنفاق العام وإغلاق الوكالات الحكومية بمنح عقود ضخمة لرأس المال الكبير، وخصوصاً شركات مثل تيسلا، التي مثّل مالكها إيلون ماسك نموذجاً لرأس المال المرتبط بإدارة ترامب.
تطرح العلاقة بالتعريفات الجمركية فرضيات تستحق التمحيص. وأول تفسير لهذه الإجراءات هو اعتبارها استجابة للخطاب الشعبوي الذي يُحمّل الأجانب مسؤولية الأزمات. فبدلاً من الاعتراف بأن الأزمة الراهنة تعبّر عن تناقضات داخلية في النظام الرأسمالي العالمي، تُوجّه التهمة إلى الصين أو إلى الأجانب أو إلى المهاجرين.
تعكس هذه الإجراءات نمطاً متكرراً: استخدام التعريفات كوسيلة لابتزاز دول أخرى من أجل تحقيق مصالح أميركية أوسع، سواء كانت عسكرية، أو مرتبطة بصفقات سلاح، أو بحماية شركات التكنولوجيا الأميركية
تبدو أهداف التعريفات سياسية بالدرجة الأولى، لا اقتصادية محضة. تُستخدم كأداة لابتزاز دول أخرى بهدف تحقيق مكاسب اقتصادية. على سبيل المثال، حاول الاتحاد الأوروبي لسنوات فرض قيود على نقل البيانات إلى شركات التكنولوجيا الأميركية. وبواسطة التعريفات الجمركية، تمكّنت الولايات المتحدة من ممارسة ضغوط على الأوروبيين، وفرضت عليهم ربط دخولهم إلى السوق الأميركية ـ الأكبر في العالم ـ بتقليص تلك القيود على حركة البيانات. وعندما حاولت فرنسا فرض ضرائب على شركات التكنولوجيا مثل فايسبوك وتويتر، ردّت إدارة ترامب بالتهديد بفرض ضرائب على المنتجات الفرنسية، وعلى رأسها النبيذ، في خطوة مقابلة. تعكس هذه الإجراءات نمطاً متكرراً: استخدام التعريفات كوسيلة لابتزاز دول أخرى من أجل تحقيق مصالح أميركية أوسع، سواء كانت عسكرية، أو مرتبطة بصفقات سلاح، أو بحماية شركات التكنولوجيا الأميركية من القيود الخارجية. لذلك، لا تكمن الغاية في فرض التعريفات الجمركية بحد ذاتها، بل في توظيفها كأداة لانتزاع مكاسب غير مباشرة.
أثارت هذه السياسة ردود فعل سريعة، كما حدث في بريطانيا التي سارعت إلى التفاوض مع الولايات المتحدة بشأن صناعة الحديد، أحد أكثر القطاعات حساسية إلى جانب صناعة السيارات. ونظراً إلى أهمية السوق الأميركية للسيارات البريطانية، أدّى التهديد الجمركي إلى حالة من الذعر داخل بريطانيا. ركّزت الاتفاقية التي أُبرمت مؤخراً بين البلدين على قطاعَي الحديد والسيارات، ما يؤكّد مدى التأثير الذي تمارسه التعريفات الجمركية على السياسات الصناعية.
وعلى المستوى الداخلي، تُستخدم هذه الإجراءات لدعم الصناعات والشركات الأميركية، وخصوصاً تلك التي تنتمي إلى القطاعات الاحتكارية. تواجه هذه القطاعات تآكلاً في هوامش الربح، لكنها تستعيد ربحيتها عندما تنجح في تقليص المنافسة. وفي هذه الحالة، يرتفع معدل التراكم الرأسمالي. لذلك، تهدف بعض هذه الإجراءات إلى دعم صناعات احتكارية محددة داخل الولايات المتحدة.
هذا ما تجلّى في السياسات المتخبطة لإدارة ترامب، التي أعلنت فرض تعريفات على الصين، لكنها استثنت بعض المكوّنات الدقيقة، مثل أشباه الموصلات (الترانزستورات)، نظراً إلى أهميتها الخاصة. ويُفسَّر هذا الاستثناء بكون بعض القطاعات تُعامل كأولويات استراتيجية ويجري تحصينها من القيود.
على سبيل المثال، أدّى فرض تعريفات على المنتجات الكهربائية إلى دعم مباشر لصناعة السيارات في الولايات المتحدة، وفي مقدّمتها شركة «تسلا»، التي تعمل في قطاع شبه احتكاري، نظراً إلى ارتفاع كلفة الدخول إليه. لا تنافس في هذا المجال سوى 3 أو 4 شركات كبرى، ما يجعل السياسات الجمركية دعماً موجّهاً لتلك الصناعات تحديداً.
باختصار، لا يمكن فهم هذه الإجراءات من دون الرجوع إلى أزمة الربحية التاريخية، التي تقف في صلب الأزمة البنيوية الممتدة للنظام الرأسمالي، وهي أزمة يجري التحايل عليها منذ عقود. قد يبدو هذا التفسير في ظاهره تحليلاً ماركسياً يعتمد على مفهوم ميل معدل الربح إلى الانخفاض، لكن المدرسة النيوكلاسيكية بدورها تطرح فكرة مشابهة. إذ تفترض أن السوق الحرة، بوجود عدد كبير من اللاعبين، تدفع الأسعار نحو الانخفاض، ما يصبّ في مصلحة المستهلك. غير أن هذا الانخفاض في الأسعار يعني ببساطة تراجعاً في معدل الربح. نعيش اليوم حالة من الوفرة في السلع والمنتجات، ما يعكس أحد أوجه الأزمة البنيوية للنظام الرأسمالي، وتحديداً أزمة الربحية.
السيطرة على قطاع التكنولوجيا
بالطبع هناك الكثير من الفوضى في المشهد، والمسألة تشبه الحرب بالفعل: لا يمكن التنبؤ بتصرفات الطرف الآخر، وهذا بالضبط جزء من سبب تسميتها بـ«حرب تجارية».
نعيش اليوم حالة من الوفرة في السلع والمنتجات، ما يعكس أحد أوجه الأزمة البنيوية للنظام الرأسمالي، وتحديداً أزمة الربحية
يتحدّد المستقبل بشكل كبير من خلال السيطرة على قطاع التكنولوجيا، والمنافس الأساسي للولايات المتحدة فيه هو الصين، التي راكمت في خلال عقود قدراً كبيراً من الخبرات التكنولوجية، وهناك بالفعل انتقال واضح للتكنولوجيا نحوها. لهذا هي المرشح الأبرز لمنافسة عمالقة التكنولوجيا الأميركيين. لكن هذا لا يعني أن قطاع التكنولوجيا لا يعاني من أزمة ربحية. على العكس، أنا أرى أن هناك أزمة ربحية واضحة في هذا القطاع أيضاً. فأرباح شركات مثل فايسبوك وتويتر تراجعت بشكل كبير، وأوبر لم تحقق أرباحاً منذ تأسيسها حتى الآن، وتعاني تيسلا كذلك من مشكلات في الربحية.
الذي يحدث هنا أن قطاع التكنولوجيا لا يقوم في جوهره على الربح التشغيلي المباشر، بل يقوم على منطق مختلف تماماً وهو الاعتماد على النمو. النمو في عدد المستخدمين، في الانتشار، في حصة السوق. والربح الذي يسعى إليه هنا هو ربح رأسمالي من خلال التقييمات السوقية والاستثمار وليس ربحاً تشغيلياً يومياً. ومن هنا تأتي أهمية العلاقة بين سوق المال وقطاع التكنولوجيا: التمويل، والمضاربة، وقيم الأسهم، كلها تؤدّي دوراً أساسياً في إبقاء هذه الشركات واقفة على قدميها، حتى في ظل غياب أرباح حقيقية.
لنأخذ مثالاً بسيطاً للغاية: لماذا يُعتبر إيلون ماسك اليوم أغنى رجل في العالم؟ لم يصل ماسك إلى هذا التصنيف بسبب الأرباح الخيالية التي تحققها شركة «سبايس إكس»، أو لأن «تيسلا» حققت له أرباحاً تشغيلية تصل إلى مئات المليارات. السبب الأساسي هو الارتفاع الضخم في قيمة أسهم شركاته — فأسهم «تيسلا» وغيرها من شركاته قد تضاعفت بنسب تتراوح بين 1,000% و2,000%. الأمر ذاته ينطبق على جيف بيزوس. لو اشتريت سهماً واحداً من أمازون في العام 2000 بدولار واحد، لكان لديك اليوم أكثر من 200 ألف دولار. هذه أرقام استثنائية يصعب الوصول إليها عبر الأرباح التشغيلية العادية، حتى لو كانت الشركات تحقق أرباحاً ضخمة. هذا النوع من التراكم الرأسمالي لا يُمكن تحقّقه إلا من خلال المضاربات والجنون السائد في أسواق المال.
أسهم شركات التكنولوجيا هي الأكثر قدرة على توليد هذه الأرباح الرأسمالية الهائلة، ليس عبر عمليات البيع والشراء اليومية، بل من خلال الارتفاع المتسارع في قيمتها السوقية، أي من خلال الربح الرأسمالي البحت. وهذه نقطة حاسمة لفهم طبيعة المرحلة الحالية من الرأسمالية: هنالك انفصال شبه تام بين الربح التشغيلي والربح الرأسمالي. قد تجد شركة تخسر على مدار 20 عاماً، لكن سهمها يرتفع بشكل غير مسبوق بسبب استثماراتها المتجددة والنمو الهائل الذي تحققه في حصص السوق.
النمو هو المحرك الرئيس. طالما أن الشركة في توسع مستمر، وتتمتع بحضور قوي في السوق، فإن سعر سهمها سيواصل الارتفاع. في النهاية، أصبح إيلون ماسك أغنى رجل في العالم بسبب هذا النمو الهائل في قيمة أسهم شركاته، وكذلك الحال بالنسبة إلى مارك زوكربيرغ. هؤلاء لم يبنوا ثرواتهم من خلال الأرباح التشغيلية، بل من خلال تراكم الأرباح الرأسمالية.
وفي عالم الشركات الناشئة، يُعد هذا المنطق هو القاعدة السائدة: رائد الأعمال يدخل المشروع وهو يعلم أن الربح التشغيلي لن يتحقق، لكنه يراهن على النمو. بعد 5 سنوات، يبيع الشركة بعشرة أضعاف ما أنفقه على تأسيسها. الهدف ليس إنشاء شركة تحقق أرباحاً سنوية مستدامة، بل بناء شركة قابلة للبيع لاحقاً بسعر أعلى.
إعادة تشكيل دور الدولة
فهل يمكن القول أن النيوليبرالية انتهت؟ كلا، النيوليبرالية لم تنتهِ، بل تجسّد هويتها الحقيقية في هذه اللحظة. لفترة طويلة، عشنا تحت وهم «السوق الحر»، مع ادعاءات التنافس والتراجع المزعوم لدور الدولة في الاقتصاد. لكن جوهر النيوليبرالية ليس انسحاباً للدولة، بل هو إعادة تشكيل دورها لخدمة مشروع تسليعي احتكاري. فالسوق، كما تُقدمه النيوليبرالية، ليس حراً كما يُروّج له. النيوليبرالية لا تعني بالضرورة الخصخصة الكاملة أو انسحاب الدولة، بل تعني أن كل شيء قابل للتسليع، أي أن كل شيء يمكن أن يتحوّل إلى سلعة تُشترى وتُباع — سواء كانت التعليم، الصحة، الطرق، أو حتى المرافق العامة. بل وحتى الملكية العامة قد تتحول إلى نيوليبرالية عندما تتبنى منطق السوق، وتتنازل عن دعم الخدمات الأساسية وتسعى إلى الربح. على سبيل المثال، لو قررت هيئة النقل بيع التذاكر بأسعار تغطي التكلفة وتحقق ربحاً، بدلاً من الحصول على دعم من الموازنة، فإنها بذلك تُحوّل خدمة عامة إلى سلعة — وهو مثال واضح للتسليع النيوليبرالي. وهذا ينطبق أيضاً على الكهرباء أو المياه، حتى لو كانت مملوكة للدولة، طالما تُدار بمنطق السوق وتسعّر لتحقيق الربح.
قطاع التكنولوجيا لا يقوم في جوهره على الربح التشغيلي المباشر، بل يقوم على منطق مختلف تماماً وهو الاعتماد على النمو. النمو في عدد المستخدمين، في الانتشار، في حصة السوق. والربح الذي يسعى إليه هنا هو ربح رأسمالي من خلال التقييمات السوقية والاستثمار وليس ربحاً تشغيلياً يومياً
لكن التسليع لا يعني دائماً وجود منافسة. على العكس، النيوليبرالية غالباً ما ترتبط بالاحتكار. كما أشار مؤرخ الرأسمالية الفرنسي الشهير فرنان بروديل: «الرأسمالية ضد السوق»، بمعنى أنها ضد السوق التنافسية. لا تنتج السوق التنافسية القاسية تراكماً رأسمالياً ضخماً؛ فالمنافسة الشديدة تضغط على الأسعار والأرباح، وهو ما يتناقض مع ما تسعى إليه الرأسمالية النيوليبرالية.
أحد السمات الأساسية للنيوليبرالية هي التقسيم الدولي العمل. في خلال النصف قرن الأخير، شهدنا تعميقاً غير مسبوق لهذا النمط، حيث أُعيد تشكيل سلاسل الإنتاج والتوزيع عالمياً، وتوسّع نطاق التسليع إلى مستويات لم نرَها من قبل. الخاصيتان الأساسيتان للنيوليبرالية — التسليع الاحتكاري وتقسيم العمل الدولي — لا تزالان حاضرتين بقوة.
لكن النقاشات الأخيرة عن القيود التجارية والتعريفات الجمركية تفتح سؤالاً مهماً: هل سيظل تقسيم العمل الدولي كما هو؟ هل ستبدأ الدول، خصوصاً بعد الأزمات الأخيرة، في استعادة جزء من سيادتها الاقتصادية؟ هل ستقلل اعتمادها المفرط على الخارج؟ باختصار، لا أرى أن الرأسمالية تتراجع، بل أعتقد أن الخطأ كان في الاعتقاد بأن الرأسمالية تعني سوقاً مفتوحاً وتنافساً حراً يعزز الجودة ويخفض الأسعار. تجربتي الشخصية كمستهلك، على العكس، تشير إلى انخفاض واضح في الجودة. هناك دائماً سعي لخفض التكلفة، وهو ما ينعكس سلباً على المنتج النهائي. وإن كان يُقال إن النيوليبرالية أضرت بالعمال لكنها أنصفت المستهلكين، فأنا أرى أن هذا وعد كاذب. النيوليبرالية لم تُنصفنا لا كعمال ولا كمستهلكين.
وأضيف، إن ربط الاحتكار بالتقسيم الدولي للعمل يكشف بوضوح أن الاحتكارات تتركز في المركز، بينما يُفرض التنافس على الأطراف والبلدان الأقل تطوراً، خصوصاً في القطاعات التصديرية. ومن هنا ينشأ التبادل غير المتكافئ. النيوليبرالية، على الرغم من دعواها العامة للمنافسة، تدفع بها أساساً نحو الأطراف، فتجعلها مسرحاً لتنافس مُنهِك بلا قدرة على فرض الشروط أو تراكم القيمة.
التبعية وفك الارتباط
أعتقد أن مسألة التبعية تشرح الوضع الحالي للاقتصاد العالمي أكثر من أي وقت مضى. في الستينيات، كانت التجارة العالمية تمثل حوالي 20% فقط من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وكان ذلك في وقت انطلقت فيه نظرية التبعية بسبب تعميق التجارة العالمية وسلاسل الإنتاج. اليوم، التجارة العالمية تشكل حوالي 60-70% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، حيث كل ما يُصنع على مستوى العالم يُنتج بغرض التصدير والبيع عبر الحدود. هذه المرحلة من الاندماج العالمي تتخطى بكثير ما كان يحدث في الماضي.
أسهم شركات التكنولوجيا هي الأكثر قدرة على توليد هذه الأرباح الرأسمالية الهائلة، ليس عبر عمليات البيع والشراء اليومية، بل من خلال الارتفاع المتسارع في قيمتها السوقية، أي من خلال الربح الرأسمالي البحت
أما بالنسبة إلى إمكان التقدم عبر الاندماج من الطرف، فسمير أمين كان لديه نظرية عن التاريخ، ولست متأكداً إذا كنت متفقاً معها، لكنه كان يقول إن التغيير يأتي دائماً من الطرف. وعندما حدث التقدم الرأسمالي في أوروبا الغربية، كانت هذه المنطقة في ذلك الوقت تعتبر الطرف في النظام العالمي. شخصياً، لا أرى تعارضاً بين كونك طرفاً وبين التقدم، وأعتقد أن الصين ما زالت في مرحلة طرفية، لكنها قد تقود التحول نحو نظام عالمي جديد في المستقبل. ولكن أعتقد أن هذا لن يحدث من خلال فكر الارتباط النسبي. فالصين اليوم لن تصل فعلياً إلى معدلات تراكم أو نمو على المستوى القاعدي، ليس فقط على مستوى رأس المال. الصينيون أنفسهم يعترفون بهذا، وهم بالفعل بدأوا في توجيه سياستهم نحو دعم السوق المحلي وزيادة الطلب الداخلي وفك الارتباط. هم يرون أن هذه هي الطريقة التي يمكن أن تحقق لهم النمو المستدام.
أعتقد أن هوس العالم بالتصدير له جانب سلبي في بعض الأحيان. بعض أفقر دول العالم هي الأكثر تصديراً كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي. مثلاً، في غينيا الاستوائية، تشكل الصادرات 70% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما في دول مثل أميركا واليابان، النسب أقل بكثير. لذلك، إذا لم يكن لديك اقتصاد يعتمد على السوق الداخلي وعلى زيادة الأجور، ستكون هذه الدول دائماً في وضع اقتصادي غير مستقر.
وأعتقد أنه لا يوجد تعارض بين كونك طرفياً، وبين كونك مقرض، وبين كونك تسعى للتنمية. فعلى سبيل المثال، مصر في فترات من تاريخها كانت تقرض بريطانيا خلال الحروب العالمية، وكانت دولة محتلة في ذلك الوقت. كان اقتصادها تابعاً، مثلما كان في فترة القطن حين كانت مصر «مزرعة قطن» للغرب. هذا الوضع لم يكن يتعارض مع وجود تراكمات اقتصادية في بعض الفترات، لكن في النهاية كان هذا التراكم يحدث في إطار نظام اقتصادي تابع.
من منظور عملي بحت، فتح السوق أمام الاقتصادين الأميركي والأوروبي وتلبية متطلباتهما قد يُحدث أزمات محلية حقيقية. فحين تُربط الاقتصادات بتجارة حرة تعتمد على تلبية طلبات خارجية، تصبح الصناعات المحلية هشّة أمام تقلبات هذه الأسواق. وإذا قرر الشركاء التجاريون وقف استيراد منتجات معينة، تجد الدول نفسها أمام سؤال مصيري: كيف تُعيد هيكلة اقتصادها لتغذية الطلب المحلي بدلاً من الاعتماد على التصدير؟ هذا التحدي يبرز بشدة في دول مثل مصر، التي تفتقر في الغالب إلى أدوات فعالة لإعادة توجيه سياساتها المالية والنقدية والتنموية نحو الداخل.
أما عن إعادة توطين الصناعات الأميركية، فالمعادلة ليست بسيطة. على الرغم من استفادة الولايات المتحدة من التقسيم الدولي للعمل، فإن صناعاتها تعتمد على خفض التكاليف عبر الإنتاج في دول ذات أجور منخفضة كالصين وفيتنام. وحتى في حال فرضت واشنطن تعريفات جمركية مرتفعة، تظل كلفة الإنتاج في الخارج أقل بكثير مما ستكون عليه داخل البلاد. وهذا يُبرز مسألة جوهرية في الشركات الكبرى مثل آبل، التي لا تنتج أجهزتها بنفسها، بل تركز على البحث والتطوير والتوزيع. الإنتاج يُنفذ غالباً عبر شركات مثل فوكسكون في الصين. حتى مع فرض تعريفة جمركية بنسبة 100%، يبقى الهاتف المنتج في الصين أرخص من إنتاجه داخل أميركا.
الأولويات تنطلق من الحاجات المحلية
في المقابل، تسعى بعض الدول، مثل الصين، إلى حماية صناعاتها الاستراتيجية عبر فرض قيود على استيراد منتجات أجنبية مثل السيارات الكهربائية أو العلامات الأوروبية كـ BMW. لكن من غير المرجح أن تقوم شركات أميركية مثل آبل أو تيسلا بنقل عملياتها التصنيعية بالكامل إلى داخل الولايات المتحدة بسبب التكلفة الباهظة. وعليه لن يكتمل التحوّل في النموذج الاقتصادي الصيني من دون فك جزئي أو تدريجي للارتباط مع الاقتصاد العالمي، وتحديداً مع الاعتماد المفرط على التصدير. لا شك أن الاندماج في المنظومة الرأسمالية العالمية أحدث طفرة كبيرة في الصين، سواء على مستوى تراكم رأس المال أو النمو الاقتصادي، بل وحتى في تقليص نسب الفقر وظهور طبقة وسطى متنامية. لكن أظن أن لحظة التحوّل الجوهري لم تأتِ بعد، وإن كانت بوادرها قد بدأت، والحزب الشيوعي الصيني يبدو مدركاً لذلك منذ سنوات. ما يُسمّى رسمياً بدعم السوق المحلية أو تعزيز الطلب الداخلي، هو في حقيقته محاولة للحد من الاعتماد على القطاعات التصديرية.
النيوليبرالية لا تعني بالضرورة الخصخصة الكاملة أو انسحاب الدولة، بل تعني أن كل شيء قابل للتسليع، أي أن كل شيء يمكن أن يتحوّل إلى سلعة تُشترى وتُباع
هذا التوجه ليس موقفاً أيديولوجياً أو ترديداً لما قرأناه في الكتب، بل له أسباب عملية واضحة: لا شيء يُعطى مجاناً. كل ما يُصدَّر، يُقابَله بالضرورة استيرادٌ لشيء آخر. في مصر مثلاً، حين نوجه طاقاتنا ومواردنا المائية والبشرية لإنتاج الفراولة والحوامض لتصديرها إلى أوروبا، فإننا في المقابل نضطر لاستيراد القمح. الأرض تُخصّص لهذا الغرض، والمياه تُستنزَف، والعمالة تُوجَّه، ثم نستورد ما نحتاجه فعلاً للغذاء الأساسي. وبالتالي، تصدير المنتجات لا يخلو من تكلفة، ويطرح دائماً مسألة «تكلفة الفرصة البديلة». هل نصدر ما هو عالي القيمة وقليل التكاليف البيئية، أم نُصدّر ما يستهلك مواردنا الحيوية بأثمان زهيدة؟
وهنا تأتي أهمية التمييز في طبيعة التصدير: هل هو كثيف الموارد؟ منخفض القيمة المضافة؟ أم العكس؟ هذا النقاش يرتبط أيضاً بمسألة التجارة البينية. فعلاً، أغلب التجارة العالمية اليوم تحصل بين دول الشمال أو بين دول الجنوب، لكن حين نتأمل في تجارة الشمال مع الشمال، مثل أوروبا مع أميركا، نرى تبادلاً لسلع ذات طبيعة متشابهة، لا يرافقه استنزاف هائل للموارد أو انتقال عنيف للقيمة.
أما التجارة بين الشمال والجنوب، فهي الموقع الأساسي لانتزاع القيمة ونهب الموارد الطبيعية. حتى لو كانت نسبتها من التجارة العالمية أقل، إلا أنها تظل المصدر الرئيس للاختلال في توزيع الثروة. ولذلك، فإن أي تنمية حقيقية في الصين لا بد أن تُعاد صياغتها داخلياً، من خلال إعادة توجيه الموارد نحو السوق المحلي وتقليص الاعتماد على الطلب الخارجي.
في السابق، كانت الدول الطرفية غير قادرة على فك الارتباط لأنها كانت تفتقر إلى التكنولوجيا اللازمة. لم يكن بوسعها الاعتماد على ذاتها أو توجيه مواردها نحو تنمية السوق المحلية أو تطوير صناعات كثيفة رأس المال. أما اليوم، فالصين تمتلك ما يكفي من التكنولوجيا، وما تبقى أمامها هو اتخاذ القرار السياسي بفك هذا الارتباط.
لكن يجب التوضيح: فك الارتباط لا يعني نهاية التجارة الدولية. ستظل هناك تجارة بين الدول بفعل تباين الموارد الطبيعية، كأن تملك دولة البترول بينما تفتقر إليه أخرى. المقصود بفك الارتباط، كما صاغه سمير أمين، هو أن تُخضع الدولة الطرفية عملية التراكم الرأسمالي لاحتياجاتها المحلية، لا لاحتياجات السوق الدولية أو مراكز النظام الرأسمالي. أي أن تحدد أولوياتها بناءً على متطلباتها الداخلية، لا على حاجات المستهلك الأميركي أو الأوروبي. وبالتالي، الحديث عن فك الارتباط لا يتنافى مع وجود تجارة دولية، بل يعيد تعريف علاقة هذه التجارة بالاقتصاد المحلي.
أما بخصوص مسألة التعاون بين بلدان الجنوب أو دور الصين ضمن تجمعات مثل «بريكس»، فالحقيقة أن الصورة ما زالت غير واضحة. لا يمكن الجزم الآن إن كانت الصين ستنخرط فعلاً في مشروع تضامن جنوبي، أم ستكتفي بتوسيع نفوذها ضمن إطار رأسمالي تقليدي. لكن ما هو مؤكد في رأيي، أن بلدان الجنوب تحتاج إلى التكاتف، من أجل تصحيح الخلل البنيوي في التجارة العالمية. ولا يهم إن كنا سنسمي هذا الخلل «تبادلاً غير متكافئ» أم لا.
أنا مقتنع بأن فائض القيمة يُنتج في موقع العمل، لكن يُعاد توزيعه على المستوى الدولي. فلا يمكن القول مثلاً إن صاحب شركة آبل في أميركا لا ينتزع هذا الفائض لمجرد أن المصنع موجود في الصين. بالعكس، طبيعة التقسيم الدولي للعمل وسلاسل القيمة العالمية الحالية تُظهر أن رأس المال قد يكون في مركز النظام، بينما العمل والإنتاج يحصلان في أطرافه، ومع ذلك تُنتزع القيمة باتجاه المركز. وهنا يتدخل منطق الاحتكار والتنافس. ففي حين تحتكر الشركات الكبرى في الدول المتقدمة أدوات التوزيع والتسويق والتكنولوجيا، يُترك للدول الطرفية أن تتنافس على تصدير المواد الخام بأسعار متدنية.
فك الارتباط لا يعني نهاية التجارة الدولية. ستظل هناك تجارة بين الدول بفعل تباين الموارد الطبيعية، كأن تملك دولة البترول بينما تفتقر إليه أخرى. المقصود بفك الارتباط، كما صاغه سمير أمين، هو أن تُخضع الدولة الطرفية عملية التراكم الرأسمالي لاحتياجاتها المحلية
آلية عمل النظام العالمي اليوم تقوم على وضع بلدان الجنوب المنتجة للموارد الأولية منخفضة القيمة وكثيفة الموارد في حالة تنافس دائم مع بعضها البعض. فمثلاً، إذا قررت مصر رفع سعر تصدير البرتقال، سيبحث المستورد ببساطة عن مصدر بديل، كالمغرب أو إسبانيا. هذا النمط من التنافس أشبه بنظام كارتيلات مقلوب، حيث يستخدم فائض العرض للضغط على الأسعار نحو الأسفل، وليس لتنظيم السوق لصالح المنتجين.
من هنا، أرى أن تجربة «أوبك» مثال ناجح – على الرغم مما قد ننتقده فيها من نتائج أو ما أدى إليه من أنماط رأسمالية غير مرضية – لكنها على الأقل قدمت نموذجاً فعّالاً في إدارة سلعة استراتيجية، وهي البترول، من خلال تنسيق الإنتاج بين مجموعة من الدول المنتجة. عبر تقليص الإنتاج مثلاً، كانت هذه الدول قادرة على التأثير في الأسعار العالمية والتحول من موقع الخضوع إلى موقع الفاعلية. ولذلك، أرى أن ما تحتاجه بلدان الجنوب اليوم ليس فقط توسيع التجارة البينية، بل ما هو أعمق: تعاون على مستوى الإنتاج. كيف؟ بأن تتحالف الدول المنتجة للسلع الأساسية – كالبن، الكاكاو، المنسوجات، المعادن – بحيث تصبح مجتمعة محددة للأسعار (price setters)، لا مجرد متلقية للأسعار (price takers) كما هو الحال اليوم. فحالياً، لا تملك هذه الدول أي قدرة على التأثير في أسعار منتجاتها، لأن البورصات العالمية التي تحدد الأسعار تتركز في الشمال، وتخضع لمصالحه.
هل يعني هذا الدعوة إلى تحالف بين رأسماليات الجنوب؟ ليس بالضرورة، بل على العكس: تجارب التاريخ أظهرت أن التحالفات بين الشركات الخاصة تفشل في أغلب الأحيان، لأنها تتفكك عند أول فرصة ربح فردي. لذلك، لا يمكن لتلك التحالفات أن تنجح ما لم تكن قائمة على تأميم الموارد الأساسية. وهنا نعود مرة أخرى إلى تجربة «أوبك»: أحد أسباب نجاحها أن أغلب الدول الأعضاء فيها تمتلك قطاع النفط تحت سيطرة الدولة. حتى في تشيلي، التي عرفت واحدة من أعنف تجارب النيوليبرالية في عهد بينوشيه، لم تخصخص صناعة النحاس، وبقيت مؤممة. تشيلي اليوم من أكبر منتجي النحاس في العالم، وهذه السيطرة على قطاع استراتيجي منحتها قدرة نسبية على إدارة مواردها.
بالتالي، التأميم ليس خياراً أيديولوجياً فقط، بل ضرورة عملية لبناء كارتيلات إنتاجية فاعلة. فعندما تتحالف 5 أو 6 حكومات تسيطر على مواردها، يصبح التنسيق بينها ممكناً وفعّالاً، خلافاً لتحالف بين مئات الشركات الخاصة التي يمكن لأي واحدة منها أن تكسر الاتفاق من أجل ربح إضافي. حتى شركة «أرامكو» السعودية، وهي من أضخم شركات النفط في العالم، تبقى شركة مملوكة للدولة، وتلعب دوراً رئيساً في تنظيم الأسعار ضمن «أوبك».
التأميم ليس خياراً أيديولوجياً فقط، بل ضرورة عملية لبناء كارتيلات إنتاجية فاعلة. فعندما تتحالف 5 أو 6 حكومات تسيطر على مواردها، يصبح التنسيق بينها ممكناً وفعّالاً
أرى أن الدول التي تشترك في ظروف مشابهة وتضررت من النظام العالمي، سواء في شكله المالي أو في تقسيم العمل الدولي، بحاجة إلى التحالف والتعاون بشكل أو بآخر. وللأسف، هذا أمر نادر، حتى في مناطق مثل أفريقيا أو أميركا اللاتينية، حيث نرى أحياناً محاولات محدودة، ولكن في منطقتنا العربية، الغياب يكاد يكون كاملاً.
نحن في لحظة عبثية لا عقلانية
وائل جمال
لا يمكن فصل اللحظة الراهنة عن مسار تاريخي طويل؛ فما نعيشه اليوم امتداد مباشر لأزمة عميقة في النظام الرأسمالي العالمي، وليست هذه الأزمة حكراً على الولايات المتحدة، وهذه مسألة ينبغي التشديد عليها. فالصين أيضاً تواجه مظاهر متعددة للأزمة، سواء من جهة معدل الربح، أو على صعيد آليات انتزاع القيمة واستنزاف الموارد العامة، التي تُستخدم اليوم كوسيلة لشراء الوقت في مواجهة أزمة الربحية البنيوية. هذا الوضع ليس جديداً، بل يعود إلى عقود طويلة. فاستعمال التجارة كسلاح يُعد من الأدوات الأساسية في مسار الرأسمالية. إذ لطالما استخدمت القوى المهيمنة عالمياً خطاب «حرية التجارة» حين يناسب مصالحها، وأهملته أو انقلبت عليه حين تقتضي الضرورة.
عرقلة الصعود التكنولوجي الصيني
بدأ هذا الاتجاه حتى قبل إدارة بايدن، وتحديداً في خلال ولاية أوباما، مع صعود مبادرة «الحزام والطريق»، التي أثارت قلقاً أميركياً متزايداً. وتواصل هذا القلق في خلال عهد ترامب، مدفوعاً بتعاظم حضور الصين في الاقتصاد العالمي.
لكن من المهم هنا توضيح أن الحديث عن صعود الصين لا يعني أنها تجاوزت الولايات المتحدة. فالفجوة لا تزال واسعة، سواء من حيث قوة الدولار أو من حيث الحجم الإجمالي للاقتصاد. فعلى الرغم من أن الناتج المحلي الإجمالي الصيني يبدو مهدداً للهيمنة الأميركية من حيث الحجم المطلق، فإن نصيب الفرد من هذا الناتج يظل أقل بكثير مقارنة بالولايات المتحدة.
في خلال العقود الثلاثة الأخيرة، شهدنا تحولات كبرى في بنية الاقتصاد العالمي، ارتكزت على ترتيب معين بين الولايات المتحدة والصين: فتحت واشنطن سوقها أمام السلع الصينية الرخيصة، في مقابل امتصاصها للفوائض المالية الهائلة التي راكمها الاقتصاد الصيني نتيجة معدلات نمو وصلت إلى 15% أو حتى 20%. وبذلك، أمكن الحفاظ على قدر معيّن من ضعف القوة الشرائية للدولار، بما يتماشى مع أنماط الهيمنة العالمية الأخرى. غير أن الإشكالية تكمن في أزمة تعصف بربحية رأس المال في مختلف قطاعاته، ما دفع هذه القطاعات إلى البحث عن هوامش جديدة لإنعاش الربحية مستقبلاً، وهو ما فرض ضرورة إعادة ترتيب الأوراق.
استعمال التجارة كسلاح يُعد من الأدوات الأساسية في مسار الرأسمالية. إذ لطالما استخدمت القوى المهيمنة عالمياً خطاب «حرية التجارة» حين يناسب مصالحها، وأهملته أو انقلبت عليه حين تقتضي الضرورة
تشعر الولايات المتحدة بقلق متزايد إزاء صعود الصين، لا سيما في قطاع التكنولوجيا، الذي أصبح يشكّل نحو ربع الناتج المحلي الصيني. لقد تحوّلت الصين إلى مصنع العالم، وهو ما كان مقبولاً من حيث إمكان انتزاع فائض قيمة بفعل انخفاض الأجور، الأمر الذي استفادت منه السلطة الصينية كما استفادت منه الشركات الأميركية. لكنّ الطرفين باتا يدركان أن المستقبل، على صعيد الربحية، يتمركز في قطاع التكنولوجيا، الذي يُعد بطبيعته قطاعاً احتكارياً. وهنا تبرز الصين بوصفها الخصم الرئيس المحتمل للولايات المتحدة. أما الأوروبيون، فهم خارج هذه المعركة إلى حدّ كبير. ولا أرغب في تبنّي وصف يانيس فاروفاكيس بـ«الإقطاعيات التكنولوجية المعاصرة»، لكن من الواضح أن أوروبا تمتلك احتكارات تكنولوجية معينة. فقد استطاعت السيطرة على عدد من الشركات الأميركية سابقاً، ما منحها قدرة محدودة على الوصول إلى البيانات والمعلومات والتعامل معها، على الرغم من الفجوات التكنولوجية الواسعة التي ما زالت تفصلها عن الولايات المتحدة. وعليه، فإن الصين تمثّل التهديد الأول للشركات الأميركية على المستوى العالمي، نظراً لامتلاكها قاعدة ضخمة من المستخدمين النشطين على منصات بديلة لفايسبوك وغوغل وتويتر وأمازون، وهو ما يُحدث حالة من الخلخلة في السوق العالمية.
الدوافع الأساسية لكل ما نشهده حالياً هي محاولة لعرقلة صعود الصين، بعد أن بدأت الصين تتحوّل إلى نِدّ حقيقي في هذه المعركة. ثانياً، هناك صراع على الأرباح العالمية المتوقّعة. وثالثاً، هناك مغازلة لرأس المال الصناعي عبر خطاب استعادة الوظائف الصناعية في الولايات المتحدة.
وعلى الرغم مما أُثير حول احتمال أن يكون ذلك مضرّاً بالقطاع المالي الأميركي، فإن العلاقة بين القطاع المالي وقطاع التكنولوجيا في الولايات المتحدة علاقة متشابكة وعميقة. نرى هذا التداخل في حادثة ديب سيك، حين انهارت السوق المالية بشكل جنوني، نتيجة التفاعل العميق بين القطاعين.
لكن النقطة الجوهرية في لحظة مثل هذه، من تصاعد الأزمات التجارية والسياسية الكبرى على المستوى الدولي، هي أنه يجب عدم فهم هذه الأزمات بشكل معزول، بل يجب قراءتها دائماً بوصفها مترسّخة في طبيعة النظام الرأسمالي. وفي لحظات الأزمة، غالباً لا يكون هناك خطة متقنة أو مسار واضح. الأمر أشبه بحرب، تُتّخذ في خلالها خطوات متسارعة قد تخلق نوعاً من الارتباك أو الخلخلة. حتى إيلون ماسك، مثلاً، هناك حديث عن خلافات بينه وبين ترامب في بعض القضايا، مثل العملات الرقمية دوچ كوين، أو مسائل أخرى. وعندما حدثت المشكلة المتعلقة بأمازون، بسبب وسم بعض المنتجات بملاحظات تتعلق بزيادة الأسعار الناتجة عن الرسوم الجمركية، أصدرت المتحدثة باسم الشركة تصريحاً غاضباً انتقدت فيه الحكومة بسبب تلك السياسات. لكن أمازون تراجعت عن موقفها بعد ربع ساعة، وأعلنت أنها لن تضع مثل هذه الوسوم مجدداً.
ما يعنيه ذلك هو أن هذا النوع من الخلخلة يؤثّر بعمق على قطاعات مختلفة من رأس المال. فهناك عقول استراتيجية داخل هذه القطاعات ترى أن الأولوية يجب أن تكون هنا أو هناك، وأنه لا بد من خوض المعركة مبكراً، وإلا فإنها ستتعرض لخسائر كبرى.
لكن في الوقت نفسه، تُنتج هذه الديناميات ارتباكاً حتى داخل هذه القطاعات نفسها، لأن لا أحد يستطيع التنبؤ برد فعل الخصم، ولا حتى برد فعل السوق نفسه. ولهذا السبب، هناك دوماً مخاوف كبيرة من العواقب غير المقصودة التي قد تُحدثها مثل هذه السياسات. خصوصاً أن جذور الأزمة لدى الطرفين الأميركي والصيني عميقة للغاية، وتشمل مستويات هائلة من اللامساواة في الثروة والدخل داخل كلا المجتمعين، أزمة بيئية خانقة تضغط على الجميع، وأزمات ديون، سواء كانت ديوناً خاصة أو عامة. الدين الخاص هو بالفعل أزمة كبرى في الولايات المتحدة ولا يعلق عليها كثيراً. لكن الصين أيضاً لديها دين خاص يعادل حوالي 194% من الناتج المحلي الإجمالي. والطرفان لديهما مستويات مرتفعة للغاية من الدين العام، ما يفرض قيوداً كبيرة على قدرتهما في المستقبل على تمويل حزم الدعم وغيرها من أدوات التدخل المالي.
هل يعني كل ما يحدث الآن أن النمط النيوليبرالي قد انتهى؟ هل انتهى الحديث عن حرية الأسواق؟ إذا فكّرنا بالأمر بطريقة «نقية»، فسنجد من يقول: «ما نحن فيه ليس نيوليبرالية، لأن هناك احتكارات، وبالتالي لا توجد سوق حرة»، أو «هذا ليس رأسمالية، لأن هناك احتكارات»، لكن الحقيقة أن الرأسمالية لطالما احتوت على احتكارات، والنيوليبرالية كذلك لطالما كانت مصحوبة بقيود تجارية وانتقائية.
الهدف هو تسليع كل شيء
المسألة الجوهرية هي: لصالح من تعمل الدولة؟ وما الهدف من تدخلها؟ الهدف هو تسليع كل شي بأي وسيلة ممكنة. ومن هذه الزاوية، النمط النيوليبرالي لم ينتهِ بعد. فلننظر مثلاً إلى رد فعل مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي: فهو لا يزال يتّبع العقيدة النيوليبرالية التقليدية التي تقول إن مواجهة التضخّم تكون برفع سعر الفائدة. هذه السياسة تُنتج في كثير من الأحيان نتائج عكسية، إذ تزيد من الضغوط التضخمية، خصوصاً في سياقات تعاني أصلاً من اختناقات سعرية وأزمات عرض. ومع ذلك، هذا يعكس استمراراً للعقيدة النيوليبرالية في المؤسسات الاقتصادية الكبرى.
في لحظات الأزمة، غالباً لا يكون هناك خطة متقنة أو مسار واضح. الأمر أشبه بحرب، تُتّخذ في خلالها خطوات متسارعة قد تخلق نوعاً من الارتباك أو الخلخلة
أضف إلى ذلك أننا ما زلنا نشهد في أجزاء واسعة من العالم ممارسات رفع القيود التنظيمية (deregulation)، وهي من المبادئ الأساسية للنيوليبرالية. إذ تٌقلّص الضوابط والقيود، خصوصاً على المشاعات العامة والثروات الجماعية، لفتح المجال أمام رأس المال الخاص، خصوصاً الكبير منه، للدخول والاستثمار والاستحواذ. وما نراه اليوم ليس خروجاً من النيوليبرالية، بل أزمة عميقة ومتجددة داخلها، نابعة من تطورات أزمة الرأسمالية نفسها.
لا تزال الولايات المتحدة قوة مهيمنة في السوق العالمية، لكنها تواجه الآن تهديداً حقيقياً بسبب صعود طرف آخر ــ الصين ــ بوتيرة أسرع بكثير من المتوقع، بينما تتراجع عناصر القوة الأميركية بشكل ملحوظ.
هذا ما يخلق حالة من القلق الشديد لدى ممثلي رأس المال الأميركي الاستراتيجي، الذين يشعرون أن الوقت قد حان لاتخاذ خطوات مزدوجة: من جهة محاولة كبح جماح الصعود الصيني، ومن جهة أخرى إعادة ترتيب داخلي في النظام الاقتصادي الأميركي لتعزيز السيطرة. والأهم أن التغيّر الجاري في ميزان القوى العالمي هو تطوّر غير مرغوب فيه بالنسبة إلى هؤلاء، لأنه يهدّد مراكز الربح والسيطرة التي تأسّست عبر عقود من التفوّق الأميركي.
الإقطاع المالي والتكنولوجي
هناك جانب كبير يتماشى مع الفكرة المتعلقة بالإقطاع المالي والتكنولوجي، إذ أن هذين القطاعين الريعيين مترابطان بشكل عميق. جزء كبير من تضخم الثروات في هذه القطاعات كان له تأثير كبير على قوة هؤلاء اللاعبين في صناعة القرار في شتى المجالات، وذلك من خلال تواجدهم في القطاع المالي. لم يكن هذا التأثير ناتجاً عن التدفقات الاستثمارية وارتفاع أسعار الأسهم فقط، بل أيضاً من خلال استراتيجيات مثل «باي باكس» (شراء الأسهم من قبل الشركة نفسها)، فتخلق طلباً على هذه الأسهم ما يؤدي إلى ارتفاع سعرها والقيمة المالية العامة وتقييم الشركة. هذه العملية تُعتبر من وسائل تعزيز الاحتكار المالي، حيث يُضمن للشركة مستقبلاً معدلات ربحية أعلى نسبياً مقارنة ببقية القطاعات.
على سبيل المثال، في قطاع التكنولوجيا في الولايات المتحدة، يُظهر معدل الربحية الإجمالية (gross margins) أن هذا القطاع يأتي في المرتبة الخامسة من حيث الربحية، ولكن في صافي الربحية (net margins)، نجد أن هذا القطاع يحتل المرتبة الأولى. تعكس هذه المعدلات المرتفعة تأثير الاحتكارات السائدة في هذا القطاع، والتي استفادت بشكل كبير من الأزمة العالمية مثل فترة كوفيد-19، حين ساهمت سيطرة شركات مثل أمازون على التجارة الإلكترونية في تعميق هذه الفوارق.
لكن تصبح المقارنة أكثر إثارة للاهتمام عندما نعود إلى الصين. تمثل الصين اليوم القوة الاقتصادية الوحيدة التي تمتلك احتكارات مقابلة، من خلال شركات مثل «علي بابا» التي تواجه «أمازون»، و«تنسانت» التي تمثل منافساً لشركات كبرى مثل «غوغل». ومن المهم أن نلاحظ أن الصين تتمتع بميزة إضافية هي حجم سكانها الضخم، ما يتيح لها جمع بيانات ضخمة (Big Data)، وهو ما يمكنها من التنبؤ بشكل دقيق بأنماط الاستهلاك، وبالتالي منحها القدرة على التأثير في جميع جوانب قطاع التكنولوجيا.
يُساهم هذا التراكم الهائل للبيانات في تعزيز التطور الصناعي عبر قطاعات متعددة، حتى وإن ظلت الصين متأخرة نسبياً في بعض مجالات الابتكار التكنولوجي. ويُعزى جانب من نجاح التجربة الصينية في العقود الأخيرة إلى تبنّيها أساليب غير تقليدية للإبداع، من بينها أحياناً تجاوز قوانين الملكية الفكرية، وهي ممارسة شائعة في بعض بلدان جنوب شرق آسيا، أو اعتماد حلول أكثر كفاءة وأقل تكلفة، كما هو الحال في نموذج «ديب سيك». وقد أشار الاقتصادي ها-جون تشانغ إلى أن المرحلة الأولى في مسار بناء القدرات الصناعية تتمثل في «النسخ» أو «التقليد»، أي محاكاة النماذج الصناعية القائمة قبل بلوغ مرحلة التصنيع المستقل.
التبعية كجوهر تقسيم العمل الدولي
المسألة الأهم هنا هي أن الصين خلقت احتكارات مضادة عبر دعم الدولة القوي لرأس المال المحلي. وهذه نقطة محورية: كثيراً ما يُقال أن الدولة لا تتدخل في الاقتصاد النيوليبرالي، لكن الحقيقة هي أن الدولة تتدخل لصالح رأس المال. منذ الأزمة المالية العالمية في 2008، أصبح من الواضح تماماً كيف كسرت الدولة الكثير من القواعد التي كانت تُروج للبقاء للأقوى، وأظهرت كيف تتدخل ليس لإنقاذ الشركات الكبرى فحسب، بل أيضاً لتصحيح الأوضاع الاقتصادية ودفع الاقتصاد الوطني نحو مسارات جديدة. وكما شهدنا، كانت هناك بعض من أكبر حزم التدخل المالي في العالم، التي مُوّلت إما عبر الاقتراض أو من أموال المواطنين لدعم الشركات الكبرى والقطاعات البنكية. هذا الوضع ما زال مستمراً حتى اليوم. وهناك أيضاً نظرية متكاملة حول فكرة التقشف، حيث يُعتبر التقشف سياسة انتقائية. نرى هذا بوضوح في بلدان مثل مصر، وكذلك في أماكن أخرى، بما في ذلك الولايات المتحدة. تميل الدولة إلى أن تكون سخية جداً تجاه مصالح معينة، بينما تطبق تقشفاً عميقاً وقاسياً في مجالات الخدمات الاجتماعية مثل الصحة والتعليم. وعلى الرغم من سنوات من الإصرار على سياسات التقشف والانضباط المالي، فإن أزمة الدين العام في الكثير من البلدان، بما في ذلك الدول المتقدمة وغير المتقدمة، وصلت إلى أسوأ مستوياتها.
كثيراً ما يُقال أن الدولة لا تتدخل في الاقتصاد النيوليبرالي، لكن الحقيقة هي أن الدولة تتدخل لصالح رأس المال
وحتى الآن، إذا أردنا التحدث عن وضع الصين وخصوصيتها، أعتقد أن أبرز ما تقدمه الصين، هو قدرتها على تجاوز القيود المرتبطة بفكرة المركز والأطراف في ظل الظروف الملائمة. في غضون 30 عاماً فقط، تحولت الصين إلى أكبر مصنع في العالم وأكبر مصدّر عالمي تقريباً. وإذا لم يكن هذا قد تحقق بالفعل، فهو على وشك الحدوث في السنوات القليلة القادمة، ومن المتوقع أن تصبح أكبر اقتصاد في العالم، على الرغم من أنها كانت تاريخياً في موقع طرفي. الصين، التي كانت دولة زراعية منذ 30 أو 40 عاماً، أصبحت الآن أكبر مصنع في العالم. وقد تبنت أساليب ترتبط بالاندماج المكثف في النظام التجاري العالمي وتقسيم العمل الدولي، وليس العكس. فتحت الصين الباب أمام رأس المال المحلي والأجنبي للاستفادة من العمالة الصينية، وبالتالي استفاد الجميع، سواء رأس المال المحلي أو الأجنبي.
هذه التحولات تثير بعض التحديات. كما كان الحال مع دول جنوب شرق آسيا والنمور الآسيوية في مرحلة سابقة، فإن الأمر لا يتعلق فقط بالاندماج في التجارة العالمية، بل في النظام المالي العالمي أيضاً. الصين هي إحدى أكبر مستثمري الخزانة الأميركية، وتمتلك 4 شركات حكومية صينية تريليونات الدولارات، وهذه الشركات مسجلة في البورصات الأميركية ومفتوحة للتداول، حيث يتداول جزء من أسهمها في الأسواق الأميركية. إما الجانب الثالث من هذا التحول فهو تصنيف الصين كأحد أكبر المقرضين الدوليين. الآن، تعتبر الصين ثالث أكبر مقرض في العالم بعد البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
الطريقة التي اختارتها الصين هي خلق احتكارات مقابلة من خلال الاندماج في السوق العالمي. وعلى مدار السنوات، كان هذا مفيداً للطرفين. ففي فترة كانت الولايات المتحدة تعاني من عجز موازنة وتجاري هائل ومخاوف من تدهور مستويات المعيشة للمواطن الأميركي، خصوصاً في ظل تراجع الأجور الحقيقية، كان هذا يسمح بتأجيل المشكلة الكبيرة التي كانت تواجهها، وذلك بفضل وجود الصين كقوة اقتصادية صاعدة. استوعب الأميركيون الفوائض الصينية لتغطية العجوزات لديهم، بينما استفادت الصين من استغلال عمالتها. وهذه نقطة هامة جداً عندما نتحدث عن الصراع التجاري والإمبريالي، فالمعركة ليست مجرد مواجهة بين دولتين، بل تشمل أيضاً أطرافاً أخرى داخل البلدين. في الكثير من الحالات، الأطراف هم من يدفعون الثمن، حتى لو كانت دولهم قد خرجت منتصرة في هذه المعركة التجارية.
ببساطة، في عملية توزيع السلطة والثروة، هناك مشكلة واضحة. كما أشار البنك الدولي إلى أن الصين قد قضت على الفقر المدقع، لكن على مستوى آخر، هناك مشكلة جوهرية في الاقتصاد الصيني والرأسمالية الصينية في هذه المرحلة. عندما تراجع حجم التجارة العالمية قبل المعركة الأخيرة، وحدث تراجع في الطلب العالمي، أصبح من الضروري للصين تحفيز الطلب المحلي. وهذا يتطلب زيادة القدرة الشرائية للأفراد داخل الصين. لكن، حتى الآن، توازن القوة وسيطرة الاحتكارات الداخلية المدعومة من الحزب، الذي يشارك في هذه العملية، يعوق تحقيق هذا الهدف.
وعلى الرغم من وجود نضالات نسوية وعمالية، وحركات تدافع عن الهوية الثقافية والوجود في الصين، فإن هذه الحركات لم تنجح حتى الآن في خلق طلب محلي قوي يعوض التراجع في الطلب العالمي. ولكن أرى أن الصين نفسها تمثل نموذجاً يعارض المقولات التي تربط الاندماج في السوق العالمية بالتخلف. هذا في حد ذاته قضية مثيرة للجدل. والخروج من التخلف لا يعني بالضرورة بناء مجتمع عادل حيث يستفيد الجميع. هذه مسألة أخرى تحتاج إلى مناقشة.
بالإضافة إلى ذلك، أعتقد أن نظرية التبعية ليست نظرية قابلة للانتهاء بسهولة، على الأقل في اللحظة التي نعيشها الآن. على الرغم من عيوبها، تضيء هذه النظرية نقاطاً هامة تتعلق بالمساواة في التعامل مع القضايا العالمية، مثل دور الاحتكارات المالية والإنتاجية العالمية. هذه الاحتكارات تحول جزءاً من الفائض إلى ربحية الشركات الكبرى، ومنها بالطبع الفوارق الكبيرة في الأجور التي تقسم بين رأس المال المحلي ورأس المال المتعدد الجنسيات في المراكز الرأسمالية المتقدمة.
كما كان يشير جون سميث، فإن هذا التوزيع غير العادل من الفائض يظل قائماً، إذ تستخدم الدول المتقدمة هذه الفوائض لتمويل مشاريع أخرى، مثل فرض ضرائب على المنتجات من دول مثل بنغلاديش لتمويل مساعدات لها، وهو ما يظهر بوضوح استغلال العمال في هذه البلدان. هذه العملية ليست هامشية أو صغيرة، بل هي جوهر تقسيم العمل الدولي.
تحديات إعادة التصنيع
تُطرح هنا نقطة مهمة حول التحديات التي تواجه عملية إعادة التصنيع، سواء في الولايات المتحدة أو في بلدان أخرى. والتحدي الأكبر هو الأجور لأن تكلفة العمل في بعض الدول منخفضة بشكل يجعل المنافسة شبه مستحيلة. مع ذلك، هناك حديث عن بعض الدول التي بدأت في التفكير في استعادة بعض الصناعات التي نقلت إلى الخارج، لكن هذا يظل مسعى معقداً.
أما بالنسبة إلى الصين فهي ليست «رأسمالية متخلفة» كما قد يعتقد البعض. الحقيقة أن الصين، من خلال قوتها الاقتصادية، أصبحت جزءاً أساسياً من النظام الرأسمالي العالمي، وتعد واحدة من أكبر الاقتصاديات على مستوى العالم، ومن غير المعقول اعتبارها اقتصاداً متخلفاً. وهي في الواقع منافس رئيس للولايات المتحدة، بل خصم اقتصادي قوي في الكثير من المجالات، سواء في القطاع الصناعي أو في قطاع التكنولوجيا، وتشكل حوالي 25% من ناتجها المحلي الإجمالي.
في الكثير من الحالات، الأطراف هم من يدفعون الثمن، حتى لو كانت دولهم قد خرجت منتصرة في هذه المعركة التجارية
فيما يتعلق بالقوة السياسية للصين، فقوتها الاقتصادية تفوق قوتها السياسية. الصين غالباً ما تفضل أن تكون أكثر تحفظاً سياسياً، وهو ما يظهر بوضوح في مواقفها في قضايا كبرى مثل الحرب الأوكرانية أو الصراع في غزة. الصين لا تتدخل بشكل مباشر في هذه القضايا، وتفضل الحفاظ على الحياد السياسي، على الرغم من أنها تمتلك علاقات اقتصادية واسعة في المنطقة وتستثمر في مشاريع استراتيجية في الخليج وإسرائيل، على سبيل المثال. هذا الحياد السياسي يسمح لها بالتركيز على تعظيم قوتها الاقتصادية من دون أن تتورط في التزامات سياسية قد تؤثر على مصالحها الاقتصادية.
استراتيجية الاقتصاد الصيني الأساسية هي «الحزام والطريق»، التي تهدف إلى استعادة وتعزيز الدور الصيني في سلاسل الإنتاج العالمية. الصين لا تسعى للقطع مع هذه السلاسل أو تحديها، بل تسعى للمنافسة من خلالها للحصول على مكانة أفضل. واليوم، الصين أصبحت جزءاً من الصراع الرأسمالي الإمبريالي، ليس فقط على المستوى التجاري، بل على جميع الأصعدة التي تحدد تعريف الإمبريالية. الصين ليست إمبريالية هامشية أو فرعية مثل بعض البلدان الأخرى، مثل إيران وتركيا. بل هي جزء فاعل في الصراع الإمبريالي وتستخدم أدواتها لاستثمار الفوائض، سواء كان ذلك في أميركا أو من خلال استغلال الدول المتخلفة مثل الكثير من الدول الإمبريالية الأخرى التي تراجعت في المنافسة العالمية.
تدور معركة حقيقية في الكونغو حول احتياجات السيارات الكهربائية والتقدم التكنولوجي، حيث يتعلق الصراع بالسيطرة على المناجم، وتسيطر الصين بشكل كامل على عمليات التعدين في البلاد. مع وصول الرئيس الجديد، الذي يرى ضرورة التفاوض مع الأميركيين، بدأت الصين تمول رواندا، التي تدعم مجموعات المتمردين مثل حركة 23 مارس (M23) في الكونغو. هذه الحرب الأهلية، التي أسفرت عن مقتل حوالي 6 ملايين شخص حتى الآن، هي جزء من الصراع الإمبريالي على الموارد في الكونغو.
بكل الأشكال، لا أستطيع إلا أن أقول إن الصين أصبحت جزءاً من نظام الهيمنة الرأسمالي العالمي، وهي تتصارع من موقع أقل أمام قائد تاريخي للرأسمالية العالمية، لكنها تظل جزءاً من هذا النظام.
هناك أمر آخر يتعلق بالتجارة العالمية. الاتجاهات في التجارة العالمية تغيرت بشكل كبير منذ الستينيات، وشهدت تغييرات أخرى في السنوات الأخيرة. أهم مصدر للمواد المصنعة لم يعد الشمال نحو الجنوب، بل أصبح الجنوب هو المصدر الرئيس لهذه المواد نحو الشمال. على سبيل المثال، مصانع العالم في جنوب شرق آسيا الآن تقوم بتصدير المواد المصنعة، بما في ذلك السيارات الكهربائية، إلى بقية العالم.
أمر آخر هو أن الاتجاه المسيطر لم يعد التجارة بين العالم المتقدم والعالم النامي أو المتخلف أو الجنوب. الاتجاهان الرئيسان الآن واللذان في نمو مستمر هما: التجارة البينية بين الشمال والشمال، والتجارة البينية بين الجنوب والجنوب. وهذا يشمل جزءاً من علاقة الصين التي لا تزال تُصنف في بعض الأحيان من قبل مؤسسات مثل الأونكتاد كدولة من دول الجنوب، وليست من دول الشمال. ولو استثنينا الصين، سنجد أنها تقريباً الدولة الوحيدة التي تحافظ على نمط يشبه انتزاع الفائض عبر التجارة مع الدول الفقيرة، على الرغم من أنه لم يعد هذا هو الشكل الوحيد أو الأكثر أهمية لانتزاع الفائض.
نظام الهيمنة الرأسمالي العالمي
لا بد من الإشارة إلى أن نظرية التبعية تركز كثيراً على التبادل التجاري وتغفل الكثير من العوامل الأخرى. إحدى القضايا المهمة هنا هي الفوائض المالية وإعادة استثمارها، وهذه مسألة بالغة الأهمية وتظهر بوضوح في حالة الصين. على سبيل المثال، عمل جيسون هيكل لفترة طويلة على دراسة التدفقات المالية الخارجة من دول الجنوب إلى الشمال وكيف أنها تغذي رأس المال المالي في الدول المتقدمة. أما فيما يتعلق بعملية الإنتاج، فإن الاستغلال الذي يحدث للعامل الصيني يظهر في انخفاض إنتاجيته بشكل عام، لكنه يختلف في بعض القطاعات مثل التكنولوجيا والسيارات الكهربائية، حيث إنتاجيته مرتفعة جداً مقارنة بنظيراتها في الغرب.
هناك أهمية كبيرة، خصوصاً في حالة بلادنا، في الانتباه إلى العواقب السياسية التي تترتب على استنتاجات نظرية التبعية. فإذا فكرنا بمنطق الاقتصاد الوطني، الذي أعتقد أنه يظهر بوضوح في حالة الصين، سنجد أن هذا النجاح الكبير لم ينعكس على مستويات المساواة أو الديمقراطية أو تحسين كبير في مستويات معيشة الناس. لأن توزيع الثروة لا يزال غير متوازن، وتبقى الثروة موجهة نحو التراكم الرأسمالي.
فإن الاستغلال الذي يحدث للعامل الصيني يظهر في انخفاض إنتاجيته بشكل عام، لكنه يختلف في بعض القطاعات مثل التكنولوجيا والسيارات الكهربائية، حيث إنتاجيته مرتفعة جداً مقارنة بنظيراتها في الغرب
وإذا انتقلنا إلى الإطار الأوسع، فإن نظرية التبعية، وفقاً لمدارسها المختلفة، ترى أن نزح الفائض عبر آليات التبادل التجاري غير المتكافئ هو جوهر الربح الرأسمالي في النظام العالمي. ومع تطور النيوليبرالية، توسعت التجارة لتشمل كل بقعة في العالم، ما جعل الاستفادة من مزاياها النسبية وظروف عمالتها الرخيصة أوسع. ومع ذلك، عندما نلاحظ أن جزءاً متزايداً من التجارة بات بين دول الشمال نفسها، يتضح أن هذه التجارة لم تعد تؤدي الدور ذاته في نزح الفائض كما كانت تفعل سابقاً حين كانت الدول تصدّر المواد الخام وتستورد السلع المصنعة.
ما أقصده هو أن آلية نزح الفائض عبر التجارة لا تزال قائمة، لكنها لم تعد الآلية الوحيدة، ولذلك نحن بحاجة إلى توسيع منظورنا التحليلي. أنا لا أقول إن هذه الظواهر اختفت، لكنها تطورت، ويجب أن نفهمها في ضوء هذا التطور.
المهم هنا هو وضع جميع هذه العمليات – من نزح الفائض عبر التجارة، إلى السيطرة على الإنتاج، إلى الاستدانة وتحويلات رؤوس الأموال – ضمن إطار أوسع: النظام المالي العالمي. هذا النظام لا يعمل فقط من خلال تبادل السلع، بل أيضاً عبر آليات الدين، وتدفقات رؤوس الأموال العابرة للحدود، وتصدير واستيراد الرساميل، وهي جميعها وسائل فعّالة في استغلال شعوب الجنوب.
الشيء نفسه ينطبق على الإنتاج. إحدى مشكلات الاقتصاد الأميركي اليوم هي أن رأس المال الأميركي – مثل شركة أبل – لم يعد يعتمد فقط على التبادل غير المتكافئ، بل أصبح يمتلك مصانع فعلية في الصين. بمعنى أن فائض القيمة يُنتزع الآن مباشرة من العامل الصيني داخل منشآت إنتاج ثابتة على الأرض الصينية، وبالتعاون مع رأس المال الصيني، الذي تمثله الدولة نفسها في هذه الحالة.
ومن هنا تأتي أهمية طرح مسألة التأميم. قد يبدو أن التأميم خطوة إيجابية، حتى في الدول الرأسمالية، لأنه على الأقل يعطي الدولة قدرة تنظيمية وتحكمية أفضل من حالة السوق المنفلت. لكن من الضروري أن نسأل: التأميم لمصلحة من؟ في الصين، على سبيل المثال، على الرغم من وجود قطاع دولة قوي، فإن القطاع الخاص يمثل نحو 60% من الناتج المحلي الإجمالي، ما يعني أنها ليست دولة اشتراكية بالمعنى الكلاسيكي، ولا هي شبيهة بالاتحاد السوفياتي في ثلاثينياته.
الصين دولة رأسمالية، تُدار فيها عملية التراكم ضمن منطق رأس المال، سواء عبر شركات الدولة أو القطاع الخاص أو المؤسسات المختلطة. الشكل القانوني للملكية لا يغيّر من جوهر المسألة: القرارات الكبرى تُتخذ بناءً على مصالح التراكم، لا بناءً على حاجات المجتمع أو البيئة أو العدالة الاجتماعية.
أما الحديث عن أدوات مقاومة النظام الحالي مثل العملة البديلة أو البريكس، فأنا متشكك فيه. ببساطة لأن التناقضات بين الدول التي تشكّل معسكر البريكس عميقة. هذه دول ذات أنماط اقتصادية مختلفة، ورأسمالياتها لها مصالح مشتركة في بعض الملفات، لكنها لا تمتلك القدرة على تشكيل كتلة متجانسة تواجه الكتل التجارية القديمة والمهيمنة. وفوق ذلك، لا تزال هذه الدول، بما فيها الصين نفسها، تتعامل بالدولار وتعتمد عليه في أغلب معاملاتها الدولية، ما يدل على استمرار ارتباطها العميق بالبنية المالية للنظام العالمي القائم.
طبعاً، هناك محاولات لإعادة تشكيل العلاقات التجارية أو كسر بعض التبعيات، لكن المهم أن ندرك أن من يدير التجارة الدولية اليوم ليس الدول بالمعنى التقليدي فقط، بل رأس المال العابر للجنسيات، الذي أصبح المتحكم الأساسي في سلاسل التجارة والتوريد.
الرأسمال العابر للحدود يحتاج دائماً إلى عملة مستقرة ومعترف بها لكي يستطيع عقد صفقاته. ومن هنا يظهر سبب استمرار الدولار كعملة محورية. أي محاولة لكسر هذه الوضعية مرهونة بتغيير حقيقي في بنية النظام المالي الدولي، وأنا لا أرى أن هذه اللحظة قريبة. هذا لا يعني أنها مستحيلة، لكنها ما زالت بعيدة.
هناك محاولات لإعادة تشكيل العلاقات التجارية أو كسر بعض التبعيات، لكن المهم أن ندرك أن من يدير التجارة الدولية اليوم ليس الدول بالمعنى التقليدي فقط، بل رأس المال العابر للجنسيات
صحيح أن الصين خلال السنوات الأخيرة عملت على تنويع احتياطاتها، خفّضت من اعتمادها على الدولار، وزادت من نسبة العملات الأخرى، لكن رغم ذلك، لا يزال الدولار يمثل حوالي 60% من الاحتياطيات العالمية – وهو رقم كبير، حتى وإن كان أقل من السابق، لأنه يقلل من مرونة الحركة الاقتصادية والسياسية.
وهذا يقودنا إلى السؤال الذي طُرح: هل هناك إمكانية لتسوية بين الصين والولايات المتحدة؟ الإجابة، في تقديري، ستعتمد على حجم الأزمة في ربحية رأس المال، وهي كانت نقطة انطلاق مهمة في المناقشة هذه. بمعنى أنه إذا ضغطت الأزمة بما فيه الكفاية، وكان هناك مرونة سياسية واستراتيجية لدى القيادة الحاكمة في الولايات المتحدة، قد تفتح هذه المساحة لتسوية مع الصين، بشرط أن تقنع القطاعات المتضررة من هذه التسوية بأنها ستكون في مصلحتها.
لكن الواقع الحالي يعطينا إحساساً بلحظة عبثية، لحظة لا عقلانية، حالة ضبابية، فيها المجهول أكبر بكثير من المعلوم. وعليه، فإن حالة التوتر وعدم اليقين ستستمر، ومثل أي صراع كبير، أحياناً تنشب الحروب ليس بسبب نية مسبقة، بل لأن سلسلة من الأحداث والتعثرات وقلة المرونة تدفع الأمور إلى نقطة اللاعودة.