Preview الصندوق في مراكش

صندوق النقد في مراكش
الشريك في الأزمة لا المخلِّص منها

بعد شهر من الآن، بين 9 و15 تشرين الأول/أكتوبر المقبل، سوف يعقد صندوق النقد الدولي والبنك الدولي اجتماعاتهما السنوية خارج واشنطن، في مدينة مراكش المغربية. تأتي هذه الاجتماعات متأخّرة ثلاث سنوات، فقد كان من المُفترض حصولها في العام 2020، ولكنّها تأجلت مرّتين بسبب تفشّي جائحة كوفيد-19. ومن المرجّح أن تُعقَد الاجتماعات على الرغم من الزلزال الكارثي الذي ضرب المغرب يوم الجمعة الفائت.

هناك العديد من القضايا الأساسية المُدرجة على أجندة الاجتماعات، من معالجة أزمة الديون التي تستفحل في دول الجنوب العالمي، والأزمة المناخية المصيرية التي تهدِّد الحياة على كوكب الأرض، والحرب الروسية المستمرّة على أوكرانيا وما صاحبها من تغيّرات جيوسياسية من ضمنها إعادة بروز منظّمة البريكس التي قد تخلط الأوراق على المدى البعيد، إلى «الإصلاحات» التي يُقدِم عليها البنك الدولي من ناحية أهدافه وتمويله، وغيرها من الأمور. 

في خلال الاجتماعات التي تُعقّد بعيداً من واشنطن، يتصاعد حماس الحركات الاجتماعية المُناهضة لسياسات صندوق النقد والبنك الدوليين، والتي تسعى إلى التعبئة ضد المؤسّستين في ظل استنفار أمني

وعلى هامش هذه الاجتماعات يتمّ التحضير للعديد من الأنشطة التي تنظّمها حركات اجتماعية ومنظّمات المجتمع المدني المناهضة للتوجّهات الاقتصادية المُهيمنة التي تدفع بها مؤسّستي «بريتون وودز»، مثل الحملة العالمية لإنهاء التقشّف والقمّة المُضادة التي تنظّمها الحركات اليسارية الراديكالية في المنطقة والعالم.

تأخذ الاجتماعات السنوية نكهة مختلفة حين تُعقَد خارج مدينة واشنطن كونها تُنظّم في بلدان الجنوب العالمي، وتتّخذ طابعاً احتفالياً من الدولة المُنظِّمة وصندوق النقد والبنك الدوليين على حدّ سواء. فالدولة التي تحتضن الاجتماعات - هذه السنة المغرب - تعتبرها تتويجاً لنجاحها على المستوى الاقتصادي وفرصة لعرض «إنجازاتها» أمام العالم. أمّا منظّمتي «بريتون وودز» فتلبسان ثوباً جميلاً وتُظهِرا نفسيهما كمؤسّستين حميدتين عبر احتفالهما بالدولة المضيفة، وحريصتين على صيانة حرّية المجتمع المدني. على سبيل المثال، على الرغم من الاستنفار الأمني الذي يصاحب الاجتماع، حَرص صندوق النقد والبنك الدوليين على تأمين دائرة - أطلق عليها دائرة أمان - يمكن لمنظّمات المجتمع المدني المُشارِكة في الاجتماعات التظاهر فيها. في خلال الاجتماعات التي تُعقّد بعيداً من واشنطن، يتصاعد حماس الحركات الاجتماعية المُناهضة لسياسات صندوق النقد والبنك الدوليين، والتي تسعى إلى التعبئة ضد المؤسّستين في ظل درجة عالية من الاستنفار الأمني، كما حصل في بالي في العام 2018، حيث أوقفت الشرطة القمّة المُضادّة في اليوم الأوّل من انعقادها.

بعيداً من كلّ ذلك، إن انعقاد الاجتماعات في المغرب، يعني أن صندوق النقد والبنك الدوليين سوف يسلّطان الضوء على المنطقة العربية. وفي هذا الإطار، نشر مدير الشرق الأوسط في صندوق النقد الدولي، جهاد أزعور، مقالاً في مجلّة «التمويل والتنمية» التي تصدر عن الصندوق بعنوان «الإصلاح الشامل لاقتصاديات الدول العربية»، يدعو فيه إلى «صفقة جديدة» تحقِّق لشعوب المنطقة «وظائف أكثر، تعليم أفضل، كرامة أكبر، حوكمة أفضل وتوزيع أكثر عدالة للفرص والموارد الاقتصادية». عظيمٌ! من لا يريد هذه المكاسب أصلاً لشعوب المنطقة؟ ويُشدِّد أزعور أنه آن الأوان لإدخال إصلاحات جدِّية وبنيوية من أجل تحقيق آمال شعوب العالم العربي. منذ بداية المقال، يُهيَّأ للقارئ أن أزعور سوف يقترح سياسات تلائم الوضع الراهن وتمثِّل إضافة أو ابتكاراً بالمقارنة مع السياسات التي سوَّق لها الصندوق في المنطقة عبر العقود الماضية. ولكنّه بالطبع يعيد تكرار الوصفات نفسها التي أوصلت إلى الحال الراهنة: ضبط المالية العامّة، ورفع الدعم، وتقليص فاتورة الأجور في القطاع العام، والخصخصة، واستبدال الحماية الاجتماعية الشاملة بسياسات استهداف الأكثر فقراً، وفسح المجال أمام القطاع الخاص لقيادة الاقتصاد. أمّا القطاع العام فعليه تأمين البيئة المُمكنة للاستثمارات.

يُهيَّأ للقارئ أن أزعور سوف يقترح سياسات تلائم الوضع الراهن بعيداً من التدابير التي سوَّق لها عبر العقود الماضية، ولكنّه بالطبع يعيد تكرار الوصفات نفسها التي أوصلت إلى الحال الراهنة

لن أخوض في تفاصيل هذه السياسات ونقدها، فقد كرَّستُ مقالات عديدة عن هذه المواضيع. لكن مقال أزعور وانعقاد الاجتماعات السنوية في المغرب هو فرصة للتفكير بدور الصندوق في المنطقة، ومناسبة للعديد من الحركات الاجتماعية والاقتصاديين والناشطين لكي يضعوا الصندوق في صلب اهتماماتهم. فالصندوق ليس مؤسّسة دولية كغيرها فيما يخصّ المنطقة، بل هو لاعب أساسي ومحوري في صنع السياسات الاقتصادية والنقدية التي اعتمدتها الحكومات في خلال العقود الماضية وأدّت إلى زيادة إفقار الغالبية العظمى من شعوبها.

أن يأتي الصندوق إلى المنطقة في هيئة احتفالية، وفي الوقت نفسه كمؤسّسة تدقّ ناقوس الخطر وتعبِّر عن حرصها على شعوب المنطقة، فيه شيء من السوريالية والخطورة في آنٍ معاً، خصوصاً في ظلّ الإضاءة الضعيفة على الدور الفعلي للصندوق في المنطقة. وإذا كنّا لا نريد العودة بالتاريخ كثيراً إلى فترة برامج التكييف الهيكلي الكارثية في ثمانينيات القرن الماضي، يمكننا البدء في مرحلة ما بعد انتفاضات الربيع العربي، حين دخل الصندوق مُجدّداً وبقوّة إلى المنطقة. فبعد عشرة أعوام من تنفيذ آخر برنامج في الأردن في العام 2002، حصلت المملكة في العام 2012 على برنامجٍ جديدٍ مع الصندوق. واليوم، مع مرور 11 عاماً، ما زالت الأردن تنفِّذ برامج الصندوق، وقد بلغت ثلاثة منذ اندلاع الانتفاضات، وتجري محادثات من أجل الخوض في برنامجٍ جديدٍ. تُعدُّ الأردن أحد الطلّاب النجباء بالنسبة للصندوق، وغالباً ما تحصل على ثناء في بياناته وتنال المديح لالتزامها بـ«الإصلاحات» التي يوصي بها. وهنا يجب السؤال: بما أن السلطات الأردنية تنفِّذ غالبية «الإصلاحات»، لماذا تخضع لبرامج مُتتالية منذ أكثر من 10 سنوات؟

أمّا تونس، فآخر برنامج لها قبل الثورة كان في العام 1988. من ثمّ غاب الصندوق طويلاً قبل أن يعود في العام 2013 مع برنامج تمويلي، تلاه برنامج آخر في العام 2016 وانتهى بعد ثلاث سنوات. والآن تُجري تونس مفاوضات جديدة مع الصندوق بشأن برنامج ثالث. في خلال هذه السنوات عرفت تونس سياسات تقشّفية قاسية استهدفت القطاع العام، وكان الاتحاد العام التونسي للشغل المُتصدّي الأوّل لها. وقد قضى أحد الأهداف الأساسية غير المُعلنة لبرامج الصندوق في تونس بعزل المسار الاقتصادي عن مسار التغيير الديمقراطي، أي السماح للتونسيين بدمقرطة النظام السياسي، وفي الوقت نفسه الإبقاء على السياسات الاقتصادية نفسها التي اتبعها بن علي وكان الصندوق من أشدّ داعميها.

من ناحيتها، آخر برنامج أبرمته مصر مع صندوق النقد قبل الثورة كان في العام 1996. ثمّ عاد الصندوق إلى مصر ببرنامج تقشّفي قاسٍ بعدها بعشرين عاماً في العام 2016، وقد تخلّله إدخال الضريبة على القيمة المضافة، وزيادة هشاشة التوظيف في القطاع العام، ورفع الدعم، وغيرها من السياسات التي عمَّقت الفقر في مصر. بعد ثلاث سنوات من البرنامج، عبَّر الصندوق عن إعجابه بالتزام مصر في تنفيذ «الإصلاحات» بشكلٍ حازمٍ، على الرغم من الصعوبات والمصالح الخاصّة التي حاولت التصدّي لهذه التدابير. وتلا هذا البرنامج قرضين، واحد في العام 2020 وآخر في العام 2022، وقد أتيا في سياق أزمة اقتصادية حادّة تعاني منها مصر وضعتها على شفير الانهيار، بحيث أصبحت مصر ثاني أكبر مقترض من الصندوق بعد الأرجنتين.

الصندوق هو لاعب أساسي ومحوري في صنع السياسات الاقتصادية والنقدية التي اعتمدتها حكومات المنطقة في خلال العقود الماضية وأدّت إلى زيادة إفقار الغالبية العظمى من شعوبها

هذه لمحة موجزة عن بعض البلدان التي سلَّمت سياساتها المالية لصندوق النقد الدولي طوال عقدٍ تلا الانتفاضات العربية، وهي مُستمرّة بتطبيق توصياته ولو ليس بحذافيرها. وهذا أمرٌ عادي ومألوف، إذ لا توجد دولة تطبّق برامج الصندوق كما هي. وهذه إحدى ذرائع الصندوق لتبرير فشل سياساته وتدخّلاته، ولكنّها حجّة غير مُقنعة لأنها تأخذنا إلى استنتاجين لا ثالث لهما: إمّا أن الصندوق كان راضياً عن تنفيذ البرامج فكافأ هذه الدول ببرنامجٍ جديدٍ أو أن اعتبارات الصندوق سياسية وليست اقتصادية ومالية بحيث يُقرِض هذه الدول نظراً لموقعها الجيوسياسي وقربها من أعضاء الصندوق الأكثر قوّة كالاتحاد الأوروبي والولايات المتّحدة والسعودية. وبالتالي، يدلّ الاستنتاج الأوّل على عدم كفاءة الصندوق كمرجع دولي أول للسياسات المالية، فيما يدلّ الثاني على أن الصندوق ليس المنظّمة التكنوقراطية التي تأخذ قراراتها بناءً على مؤشِّرات اقتصادية ومالية كما يدّعي. ولكن الأخطر في ذلك هو الضرر غير الملحوظ لهذه البرامج المُتتالية. فالصندوق مؤسّسة مُصمّمة للتدخّل من أجل معالجة أزمات حادّة تمرّ بها البلدان، من خلال سياسات قصيرة الأمد تطبِّقها البلدان المعنيّة، وليس سياسات تنموية تهدف للبناء التدرّجي على المدى الطويل. وبذلك نجد أنفسنا أمام تناقضٍ مؤذٍ: من خلال هذه البرامج المُتكرِّرة، يرسم الصندوق السياسات المالية لهذه البلدان منذ عقدٍ وأكثر، أي منذ فترة طويلة، ولكنّه يُصمِّم هذه السياسات للتوافق مع عمر البرنامج الذي لا يتجاوز معدّل ثلاث سنوات. بالتالي يصبح تدخُّل الصندوق طويل الأمد ولكن عبر سياسات قصيرة الأمد. وهذا ما ينطوي على تأثيرات كبيرة على المسار التنموي لهذه البلدان، ويمكن أن تعيقه، عبر إرساء نمط من صنع السياسات المالية والاقتصادية يركِّز على المدى القصير حصراً.

بناءً على ما استعرضته أعلاه، لا يمكن النظر إلى اقتراحات الصندوق وتوصياته للمنطقة إلاّ من خلال هذه المعطيات ودوره التاريخي في البلدان العربية، ولاسيّما منذ انتفاضات الربيع العربي، ومن خلال تقييم المقترحات السياساتية من ناحية نجاعتها الاقتصادية. وهذا أمرٌ بالغ الأهمّية لأن من المرجّح أن يتعمّق دور الصندوق في المنطقة مع استفحال الأزمات التي تمرّ بها العديد من الدول. 

عبر السنين، لم يُعِد الصندوق النظر في سياساته للمنطقة على الرغم من فشل برامجه والخضّات التي مرّت بها الدول من الانتفاضات إلى جائحة كوفيد، وأزمات الديون والتضخّم وغيرها. صندوق النقد الدولي كان ولا يزال شريكاً أساسياً في وصول العديد من البلدان العربية، وخصوصاً تلك التي يقرضها من دون توقّف منذ سنين، إلى الهوة التي تقبع فيها من دون أفق منظور للخروج منها.