Preview صندوق النقد ولبنان

وصفة صندوق النقد للبنان
داوني بالَّتي كانت هي الداء

منذ الانهيار الاقتصادي والمالي في لبنان في العام 2019، لم تخفتْ الأصوات الداعية إلى ضرورة الاتفاق مع صندوق النقد الدولي على برنامج «إصلاحي» لانتشال لبنان من الأزمة. لم تنحصرْ الدعوات بذوي الاتجاهات الاقتصاديّة اليمينيّة، بل شملت مروحة كبيرة من الأطراف والاتجاهات الأيديولوجيّة ضمّت النوّاب «التغيريين» ومختلف الكتل النيابيّة واقتصاديين على اليمين واليسار، كما العديد من منظّمات المجتمع المدني والمجموعات التي شاركت بالانتفاضة. وارتفعت هذه الأصوات أكثر بعد أن وصلت الحكومة إلى اتفاقٍ مع الصندوق على مستوى الموظّفين في نيسان/أبريل من العام 2022. ومع مرور أكثر من سنة على توقيع الاتفاقية، لم تنفّذ الحكومة الشروط المُسبقة التي وضعها الصندوق من أجل بدء تنفيذ البرنامج وتحرير أول دفعة من الثلاثة مليارات دولار التي سوف يقرضها إلى لبنان، ممّا أشعل دعوات اللجوء إلى الصندوق من جديد، مرفقة بتحذيرات من مغبة تبديد «بارق الأمل» الذي يأتي مع برنامج الصندوق. 

اللافت أن غالبيّة التحليلات التي تدقُّ ناقوس الخطر من إدارة الصندوق ظهره للبنان، تنحصر بالتشديد على أهمّية الشروط المُسبقة من دون التعليق على البرنامج نفسه، أي السياسات التي يشترطها الصندوق، وسوف يشعر الناس بتأثيرها المباشر وتحدِّد شكل الاقتصاد اللبنانياللافت أن غالبيّة التحليلات التي تدقُّ ناقوس الخطر من إدارة الصندوق ظهره للبنان، نتيجة تباطؤ الحكومة بتنفيذ ما التزمت به في نيسان/أبريل 2022، تنحصر بالتشديد على أهمّية الشروط المُسبقة من دون التعليق على البرنامج نفسه الذي سوف يمتدّ على 46 شهراً، أي السياسات التي يشترطها الصندوق، وسوف يشعر الناس بتأثيرها المباشر وتحدِّد شكل الاقتصاد اللبناني. ويزيد الاستغراب أكثر حيال هذا الصمت المُطبق نظراً لكون برنامج «الإصلاحات» مُتاحاً للعموم بعد تسريبه السنة الماضية. وهذه نعمةٌ غير مُتاحة لغالبيّة الشعوب التي ترزح تحت وزر برامج الصندوق التقشّفية، لا سيّما أن البرنامج، أو ما يسمّيه الصندوق «المذكرة حول السياسات الاقتصادية والمالية» لا يُنشر إلّا بعد موافقة مجلس إدارة الصندوق عليه، بحيث تُحرم المجتمعات من أي فرصة لتغيير التزامات حكوماتها تجاه المؤسّسة الماليّة الدوليّة. وفي حين أن هذه الإمكانيّة مُتاحة في الحالة اللبنانيّة إلّا أن النقاش معدومٌ حولها، ممّا يُعزِّز الأساطير المتداولة محلّياً حول صندوق النقد وخلاص لبنان.

في الواقع، تتعدِّد الأساطير المتداولة في لبنان، ومنها أنّ الصندوق هو فوق السياسة ولذلك هو قادرٌ على ضبط «الطبقة السياسيّة» اللبنانية، وأنّ البرنامج هو عبارة عن تدخّلٍ قصير الأمد وأن علينا تقديم التضحيات لمدّة 3 سنوات كي نعيد تقييم الأوضاع، في حين أثبتت التجارب العالميّة أن الدخول ببرنامج مع الصندوق ليس كالخروج منه، إذ يفضي إلى تجديد الديون ببرنامجٍ تلو الآخر. أمّا أخطر الأساطير المحيطة بصندوق النقد فتدّعي أنّ برنامجه سوف يعيد بناء القطاع العام بطريقة أكثر فعالية بعيداً من التقشّف القاسي، لأنّ الصندوق تغيّر ولم يعد «صندوق جدّك» كما قالت مديرته السابقة كريستين لاغارد، أي لم يعدْ تلك الأداة التي لا ترحم، والتي رُعِبت منها شعوب بلاد الجنوب في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي.

من أجل فهم طبيعة البرنامج و«إصلاحاته»، سوف أركّز على السياسات الماليّة التي تُعنى بالإيرادات والنفقات العامّة، لأنّها الأكثر تعبيراً عن موازين القوى، وبنتيجتها يُحدِّد الرابحون والخاسرون. إذ تتحكّم الحكومة، بالمبدأ، بالسياسات الماليّة التي تنتُج عن قرارات سياسيّة بشكلٍ أساسي، بمعزل عن مزاج السوق، وتقرّر من خلالها من يجب أن يدفع الضرائب ومن يستفيد من الإنفاق العام

تلتزم الحكومة بمجموعة من الإجراءات الضريبيّة أهمّها زيادة الرسوم على الكحول والتبغ والمشروبات السكّر، وزيادة الضريبة على القيمة المُضافة من 11% إلى 15% في خلال سنتينفي الإيرادات: يهدف البرنامج إلى إعادة تكوين العائدات الضريبيّة التي انهارت من 15.6% من الناتج المحلّي إلى 4.7% بين العامين 2019 و2022. ولتحقيق ذلك، تلتزم الحكومة بمجموعة من الإجراءات الضريبيّة أهمّها زيادة الرسوم على الكحول والتبغ والمشروبات، وزيادة الضريبة على القيمة المُضافة من 11% إلى 15% في خلال سنتين (كان الصندوق قد أوصى سابقاً بزيادتها على مرحلتين، الأولى إلى 15%، والثانية إلى 20%)، بالإضافة إلى تحسين الضريبة على العقارات وإصلاح سياسة التعرفة الجمركية. وهناك إجراءات أخرى يمكن الاطلاع عليها في تقرير المساعدة التقنيّة حول الضرائب الذي نشره الصندوق السنة الماضية، والذي لا يتضمّن أية إصلاحات عميقة فيما يتعلّق بالضريبة على الدخل والأرباح، باستثناء بعض الإصلاحات الطفيفة مثل إلغاء نظام الأوفشور وربط الشرائح الضريبيّة بالتضخّم. إذاً، تقتصر غالبيّة الإجراءات على زيادة الضرائب غير المباشرة، التي تطال الشرائح الفقيرة والمتوسّطة، وتريح الأغنياء الذين يستنزفون نسبة قليلة جدّاً من مداخيلهم وأرباحهم على الاستهلاك. 

إنّ عدم إدخال أي تعديل جوهري على النظام الضريبي، وخصوصاً فيما يتعلّق بالضرائب المباشرة على الدخل والأرباح والثروة، في مقابل زيادة ضرائب الاستهلاك، لا يعني عدم التدخّل من أجل تخفيف الاختلال التوزيعي واللامساواة الحادّة فحسب، بل يشير أيضاً إلى تدخّلٍ يفاقمهما ويعيد إنتاج النظام الضريبي الذي ساد قبل الانهيار. وهذا ما يظهر من خلال توقّعات الصندوق حول عائدات هذه «الإصلاحات». فوفق تقرير المادة الرابعة الصادر الأسبوع الماضي، إذا بدأ لبنان بتطبيق شروط البرنامج من حيث السياسة الضريبيّة، فسوف تبقى عائدات الضريبة على الدخل والأرباح في نهاية البرنامج في العام 2027 بحدود 3.5% من الناتج المحلّي الإجمالي، أي أقلّ ممّا كانت عليه في العام 2019 (بلغت نحو 6.8% من الناتج المحلّي الإجمالي). في المقابل، سوف ترتفع عائدات ضرائب الاستهلاك كنسبة من الناتج المحلّي الإجمالي إلى 5.2% في العام 2027، بالمقارنة مع 4.9% في العام 2019. أمّا مجموع العائدات الضريبيّة فسوف يصل إلى 12.8% من الناتج المحلّي الإجمالي في العام 2027، بالمقارنة مع 15.6% في العام 2019. يأتي ذلك، على الرغم من افتراض الصندوق تسجيل معدّلات نموّ أكبر مع بدء تنفيذ البرنامج، بحيث يتوقّع أن يصل النموّ الحقيقي إلى 3% في العام 2027، بالمقارنة مع انكماش بنسبة 6.9% في العام 2019. بعبارة أخرى، على الرغم من العودة المُفترضة للنموّ المُستدام (3.9% في 2024، ونحو 4.5% في 2025، ومن ثمّ 3.2% في 2026)، سوف تعيد الدولة تكوين إيراداتها من جيوب معظم الناس عبر ضرائب الاستهلاك وليس من خلال مساهمات ضريبيّة أعلى من الشركات وذوي الدخل المرتفع والأغنياء. تُعدُّ هذه الإجراءات والنتائج المُترتبة عنها إحدى الركائز الأساسيّة للإصلاح التقشّفي، وعودة إلى نظام ما قبل العام 2019، حيث يقع عبء إصلاح الاقتصاد على الشرائح الأكثر تضرّراً من الانهيار.

إنّ عدم إدخال أي تعديل جوهري على النظام الضريبي، وخصوصاً فيما يتعلّق بالضرائب المباشرة على الدخل والأرباح والثروة في مقابل زيادة ضرائب الاستهلاك، لا يعني عدم التدخّل من أجل تخفيف الاختلال التوزيعي واللامساواة الحادّة فحسب، بل يشير إلى تدخّلٍ يفاقمهمافي النفقات: يهدف البرنامج إلى تحقيق الاستدامة الماليّة عبر زيادة الإيرادات وخفض النفقات العامّة. وبالنظر إلى بنود النفقات، يمكن الحصول على فكرةٍ حول مدى عمق النزعة التقشّفية للبرنامج المُرتقب. يتوقّع تقرير المادة الرابعة أن تصل النفقات العامّة الأوّلية (أي من دون خدمة الدَّيْن) إلى 12.5% من الناتج المحلّي الإجمالي في العام 2023. وإذا طبِّق البرنامج بحذافيره، من المتوقّع أن تصل النفقات الأوّلية إلى 12.3% من الناتج المحلّي في العام 2027، أي أقلّ ممّا هي عليه الآن، وأقل بكثير من مستوى الإنفاق في العام 2019 حين وصلت النفقات الأوّلية إلى 20.1% من الناتج المحلّي الإجمالي. وهذا يعني فرض درجات عالية من التقشّف، وتراجع الإنفاق العام بشكلٍ كبيرٍ، وتردّي الإدارة العامّة وتهالك البنية التحتيّة.   فكيف يتعافى الاقتصاد اللبناني في ظلّ هذه المستويات المتدنّية من الإنفاق العام؟ وكيف يمكن النهوض بالقطاع العام، وتجديد البنية التحتية، وزيادة الإنفاق الاجتماعي على الصحّة والتعليم والحماية الاجتماعية؟

يبدو أنّ برنامج صندوق النقد الدولي للبنان يهدف إلى إرساء مستوى متدنٍّ للغاية من النفقات العامّة، سواء بمقياس الأزمة التي نعيشها أو بالمقاييس التاريخيّة، ممّا سيمنع أي تحوّل في الاقتصاد قد يمثّل قطيعة مع النموذج الحالي. حسناً، سوف يقول خبراء الصندوق وداعموه أنّ الإنفاق سيكون مرتفعاً جدّاً في السنة الأولى من البرنامج نتيجة تصحيح أجور القطاع العام، والاستثمارات العامّة، وإعادة تفعيل مشاريع سيدر. صحيح، سيصل الإنفاق الأوّلي في العام الأوّل إلى 27.9% من الناتج المحلّي الإجمالي، ولكنّه سيعاود الانخفاض بشكلٍ دراماتيكي في العام الثاني وصولاً إلى 13.6%. وهو ما يُعدُّ انكماشاً كبيراً في الإنفاق الذي سوف يستمرّ بالانخفاض، ممّا يعني إعادة إنتاج نمط نموّ غير عادل تستفيد منه القلّة، خصوصاً في ظلّ غياب أي تعديل جوهري في النظام الضريبي، بالإضافة إلى استمرار تردّي الخدمات والمرافق العامّة مثل الصحّة والتعليم وغيرها.

يبدو أنّ برنامج صندوق النقد الدولي للبنان يهدف إلى إرساء مستوى متدنٍّ للغاية من النفقات العامّة، سواء بمقياس الأزمة التي نعيشها أو بالمقاييس التاريخيّة، ممّا سيمنع أي تحوّل في الاقتصاد قد يمثّل قطيعة مع النموذج الحاليإلى ذلك، يعترف برنامج الصندوق مع لبنان الذي سُرِّب في العام الماضي بأنّ القطاع العام على وشك الانهيار، لذلك يجب زيادة أجور العاملين فيه في المرحلة الأولى. وهذا أمرٌ إيجابي. لكن المذكرة نفسها، تذكر في الشقّ المُتعلّق بالاستدامة المالية، أن الحكومة ستجري تعداداً لوظائف الخدمة العامّة لتحديد المكامن المُتاحة لتخفيض النفقات بما يتوافق مع توفير فعّال للخدمة، وهذا ما تم ذكره في تقرير المادة الرابعة أيضاً. لا شكّ أن إصلاح الإدارة العامّة أمرٌ جيّدٌ وضروريٌ للتصدّي للفساد وعدم فعالية الخدمات، لكن الإصلاح لا يعني بالضرورة بتر القطاع العام، خصوصاً أنّ ملاك الإدارة العامّة يعاني من شغورٍ بنسبة 71%، فيما العدد الأكبر مركّزٌ في السلك العسكري (حوالي 80 ألف) والتعليم (نحو 50 ألف)، فمن أين سيكون الاقتطاع؟ عدا أن تحسين الإدارة العامّة يتطلّب تطوير قدراتها وبنيتها التحتية واستخدام موظّفين ذوي مهارات عالية وكفوءة، ممّا يستوجب زيادة الأجور لجذب تلك الكفاءات إلى القطاع العام.

كل هذا لا يلحظه برنامج صندوق النقد الدولي الذي يهدف بشكلٍ أساسي إلى خفض الإنفاق. والموظّفون العموميون هم الهدف الأسهل والأسرع. ففي حين تشير حسابات الصندوق إلى أنّ حصّة الإنفاق على كتلة الأجور في القطاع العام سوف ترتفع من 6.9% من الناتج المحلّي الإجمالي إلى 8% بين العامين 2023 و2027 مع تطبيق البرنامج، إلّا أن ذلك يمثّل انخفاضاً بنحو 5% من الناتج المحلّي الإجمالي بالمقارنة مع العام 2019 حيث كان الإنفاق على الأجور يشكّل 12.7% من الناتج المحلّي. مرّة أخرى،   يبدو أن كلفة إصلاح الاقتصاد ستقوم على عاتق المجتمع، أي الطبقات الفقيرة والمتوسّطة، وتعيد إنتاج النظام نفسه الذي أدّى إلى الانهيار.

تبيِّن هذه القراءة السريعة لبرنامج الصندوق المُرتقب مع لبنان عمق النزعة التقشّفية الخطيرة في «الإصلاحات» المُرتقبة، التي يُهلِّل لها معظم المُعلِّقين. تشير التجارب في أماكن عديدة في العالم أنّ النهوض بالاقتصاد عبر التقشّف لا يفشل فقط، بل يأسر الدول بحلقةٍ من الإنفاق العام المنخفض الذي يفشل في تحفيز النمو ويزيد فجوة اللامساواة. وما يطرحه الصندوق للبنان ليس استثنائياً للحالة اللبنانية العجيبة، بل هي وصفة مُجربة، لا في بلدان عديدة فحسب، بل في لبنان أيضاً طوال العقود المُنصرمة؛ حيث تجبي الحكومة الإيرادات من ذوي الدخل المنخفض والمتوسّط ولا تنفق هذه العائدات عليهم، ضاربة عرض الحائط أي وظيفة توزيعيّة للدولة، ممّا يفتح المجال لتعمّق الزبائنية كإحدى أدوات إعادة التوزيع الأساسيّة في لبنان. أيضاً، تظهر هذه القراءة أنّ مقولة الصندوق حول «التوزيع العادل للخسائر» قد تسري على الفجوة المالية في القطاع المصرفي، ولكنّها حتماً لا تنطبق على الإجراءات المطلوبة من لبنان، بل على العكس، تضع الخسائر بشكل شبه حصري على كاهل المجتمع.