معاينة التوسع النووي

كيف تموّل شركتا «رايثيون» و«بوينغ» حملات التوسّع النووي للناتو؟

أكّد المجلس الأطلسي بثقة أنه «يجب على الناتو تكييف برنامجه لتقاسم الأسلحة النووية من أجل مواجهة الابتزاز النووي الروسي». ويشمل ذلك نقل القنابل الذرية B-61 إلى أوروبا الشرقية وبناء شبكة من قواعد الصواريخ متوسطة المدى في مختلف أنحاء القارة. وأشاد مركز الأبحاث بقرار واشنطن الأخير بإرسال صواريخ توماهوك وإس إم-6 إلى ألمانيا ووصفها بأنها «بداية جيدة» لكنه أصرّ على أنها «لا تفرض ما يكفي من أعباء» على روسيا.

ما لا يكشفه المجلس الأطلسي هو أن هذا لن يؤدّي إلى زيادة احتمالات اندلاع حرب نووية كارثية فحسب، بل أن الأسلحة الموصى بها تأتي مباشرة من الشركات المُصنّعة التي تموّله في المقام الأول.

يتم تجميع قنابل بي-61 في شركة بوينغ، التي قدمت، وفقاً لتقاريرها المالية الأخيرة، عشرات الآلاف من الدولارات إلى المؤسّسة. ويتم إنتاج توماهوك وإس إم-6 في شركة رايثيون، التي زوّدت مجلس الأطلسي مؤخراً بمبلغ مكون من 6 أرقام. وبالتالي، فإن لا تعرّض توصياتهم العالم للخطر فحسب، بل تفيد مموليها بشكل مباشر أيضاً.

ومن المؤسف أن صراع المصالح الهائل الذي يؤثّر علينا جميعاً هو أمر طبيعي بين مراكز الأبحاث المعنية بالسياسة الخارجية. فقد توصّل تحقيق أجرته صحيفة MintPress في مصادر تمويل مراكز الأبحاث المعنية بالسياسة الخارجية الأميركية إلى أن هذه المراكز تتلقى تمويلاً بملايين الدولارات كل عام من شركات تصنيع الأسلحة. تبرّعت شركات تصنيع الأسلحة بما لا يقل عن 7.8 مليون دولار العام الماضي لأكبر 50 مركز أبحاث أميركي، التي بدورها تنشر تقارير تطالب بمزيد من الحرب وزيادة الإنفاق العسكري، ما يزيد بشكل كبير من أرباح رعاتها. والخاسر الوحيد في هذا النظام الدائري المغلق هو الجمهور الأميركي الذي يتحمّل المزيد من ضرائب، وكذلك عشرات الملايين من الناس في جميع أنحاء العالم ضحايا آلة الحرب الأميركية.

يعد مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية من بين أكثر المؤيدين لتسليح أوكرانيا وتايوان وإسرائيل حتى في خضم تنفيذ الأخيرة إبادة جماعية في فلسطين

أما مراكز الأبحاث التي تلقت أكبر قدر من الأموال الملوّثة فهي بالترتيب: المجلس الأطلسي، ومركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، ومركز الأمن القومي الأميركي، ومعهد هدسون، ومجلس العلاقات الخارجية، في حين كانت شركات تصنيع الأسلحة الأكثر نشاطاً في شارع كاي هي: Northrop Grumman, Lockheed Martin, General Atomics.

تؤثّر هذه المراكز البحثية بشكل مباشر على الصراعات في جميع أنحاء العالم. على سبيل المثال، يعد مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) من بين أكثر المؤيدين لتسليح أوكرانيا وتايوان وإسرائيل، حتى في خضم تنفيذ الأخيرة إبادة جماعية في فلسطين. يعرض تقرير حديث قائمة تسوّق من الأسلحة الأميركية التي من شأنها أن تساعد الجيش الإسرائيلي، وتتضمّن قذائف المدفعية Excalibur، وأنظمة توجيه القنابل JDAM، وصواريخ Javelin. تُصنّع هذه الأسلحة في شركات رايثيون وبوينغ ولوكهيد مارتن، وتعدّ جميعها من أكبر ممولي مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية.

تُستخدم الأسلحة الأميركية يومياً لتنفيذ هجمات غير قانونية وقاتلة ضد السكان المدنيين في فلسطين ولبنان وسوريا، ما يجعل مصنعي الأسلحة متواطئين بشكل مباشر في جرائم الحرب.

ومن الأمثلة على ذلك القصف الإسرائيلي الأخير لمنطقة المواصي الإنسانية في غزة. ألقت إسرائيل على المخيم 3 قنابل من طراز MK-84 تزن الواحدة منها طناً، ما أسفر عن مقتل 19 شخصاً على الأقل. وما زال العشرات في عداد المفقودين.

ووفقاً للأمم المتحدة يؤدّي انفجار قنابل MK-84 إلى تمزّق الرئتين، وتطاير الأطراف وانفصال الرؤوس عن الأجساد، فضلاً عن تفجّر تجاويف الجيوب الأنفية على بعد مئات الأمتار.

أنتجت شركة جنرال ديناميكس قنابل MK-84 في الولايات المتّحدة وأرسلتها إلى إسرائيل بمباركة واشنطن. وقد حقّقت شركة جنرال ديناميكس أرباحاً ضخمة من المذبحة: قفز سعر سهم شركة الأسلحة التي تتخذ من واشنطن مقراً لها بنسبة 42% منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر.

الصراعات وتضارب المصالح

تعتبر مراكز الفكر جزءاً أساسياً من شارع كاي، وهو المصطلح الجماعي الذي يشير إلى تجمّع جماعات الضغط والجمعيات التجارية والمنظّمات الأخرى التي تحاول تغيير سياسة الحكومة. ومراكز الفكر هي مجموعات من المثقّفين الذين يجتمعون لمناقشة السياسات والدعوة إليها على أمل التأثير على سياسة الحكومة والنقاش العام. وهم يعدّون وينشرون أبحاثاً متعمقة بشأن السياسات الحكومية، ويساعدون في صياغة القوانين، ويعملون كخبراء يلجأ إليهم الإعلاميون. ويعمل الكثير من المتحدثين على قنوات الأخبار التلفزيونية أو يكتبون مقالات رأي في الصحف. وعلى هذا النحو، يشكلون محركاً رئيساً للخطاب السياسي في جميع أنحاء البلاد.

كما يعملون كمصدر للإدارات السياسية التي تسعى إلى ملء المناصب الحكومية. عندما يفقد أحد الأحزاب السلطة، غالباً ما يتولّى المسؤولون الحكوميون السابقون البارزون وظائف في مراكز الفكر لمساعدتهم على الصمود حتى يستعيد حزبهم السلطة. وعلى هذا النحو، فإنهم موجودون كحكومة خاصة في انتظار تسلّم مهام عامة، فيضعون توصيات سياسية ويأملون أن يتمكنوا ذات يوم من امتلاك القدرة على تنفيذها بأنفسهم.

ولكن كل هؤلاء الموظفين ومكاتبهم الفاخرة في نيويورك أو واشنطن العاصمة لا يأتون بثمن بخس، وهناك مصدران للتمويل إلى حد كبير: العقود الحكومية أو الشركات الأميركية. ولكن تأتي هذه الأموال مصحوبة بشروط. تتوقّع الشركات الأميركية التي ترعى مراكز الأبحاث أن ترى مصالحها الخاصة تتقدّم. وتدفع جماعات الضغط التجارية لمراكز الأبحاث التي تدعو إلى خفض الضرائب وتقليل القيود التنظيمية، في حين تقدّم صناعة الدفاع الأموال للمجموعات الأكثر تشدداً التي تدعو إلى زيادة الإنفاق العسكري والمزيد من الحروب.لقد قاموا بتطبيع فكرة وجود حل واحد فقط لجميع المشاكل، حتى المشاكل التي يخلقها هذا الحل الواحد، ألا وهو الحرب

وعلى هذا النحو، زعم البعض أن مراكز الأبحاث ليست جهة محايدة تمتلك أفكار جيدة، بل هي جهات مدعومة من الشركات والحكومات تدفع بأجندات، في حين تحاول الحفاظ على قشرة من الموضوعية والاحترام.

ومن الواضح أن هناك تضارباً هائلاً في المصالح إذا كانت المجموعات التي تقدم المشورة للحكومة الأميركية بشأن السياسة العسكرية غارقة في الأموال التي تحصل عليها من صناعة الأسلحة. وتحاول هذه الدراسة تحديد هذا التضارب في المصالح. فقد حلّلت أفضل 50 مركزاً بحثياً في مجال السياسة الخارجية الأكثر نفوذاً في الولايات المتحدة، وفقاً لمؤشر جامعة بنسلفانيا العالمي لمراكز الأبحاث، وتتبعت تمويل هذه المنظّمات للتأكد من حجم الأموال التي تلقتها كل منها من صناعة الأسلحة. ويمكن العثور هنا على جدول بيانات تمويل شامل يحتوي على جميع الأرقام المُستخدمة في هذه الدراسة.

تم أخذ الأرقام من مواقع كل مجموعة على شبكة الإنترنت، وقوائم التمويل، والإقرارات المالية للسنة المالية الأخيرة المتاحة. وفي المجموع، تبرّعت صناعة الأسلحة بما لا يقل عن 7.8 مليون دولار لهذه المراكز البحثية.

ومع ذلك، فإن هذا بالتأكيد أقل بكثير من التقديرات الحقيقية لأسباب عدّة. أولاً، لا يتعين على مراكز الأبحاث الكشف عن مصادر تمويلها بموجب القانون الأميركي، والكثير منها لا يفعل ذلك، وهذا يعني أن مجموعة البيانات غير مكتملة. أمّا من يفصح عن بياناته، فغالباً ما يقوم بذلك بطريقة غامضة. على سبيل المثال، يلاحظ مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية أن مجموعات مثل ليوناردو إس بي آي، ولوكهيد مارتن، وهانتغتن إنغالز إندستريز، ونورثروب غرومان، تبرعت له جميعها بمبلغ 250 ألف دولار على الأقل في السنة المالية الماضية. ومع ذلك، لا يوجد لدى مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية حد أعلى للتبرعات، ما يعني أن «250 ألف دولار وما فوق» قد يعني 251 ألف دولار، أو مليون دولار، أو 100 مليون دولار. ومع ذلك، أحصت هذه الدراسة كل هذه التبرعات على أنها 250 ألف دولار فقط. 

الدبابات ومراكز الفكر

كانت النتائج مقلقة وغير مفاجئة، إذ وجدت هذه الدراسة أن شركات تصنيع الأسلحة العملاقة موّلت بهدوء الكثير من أكبر وأكثر المجموعات نفوذاً التي تقدم المشورة للحكومة الأميركية بشأن سياستها الخارجية. يتم تمويل المجلس الأطلسي وحده من قبل 22 شركة أسلحة، بإجمالي لا يقل عن 2.69 مليون دولار في العام الماضي. حتى مجموعة مثل مؤسسة كارنيغي للسلام، التي تأسّست في العام 1910 كمنظمة مكرسة للحد من الصراعات العالمية، ترعاها شركات أسلحة تصنع الحروب، بما في ذلك بوينغ وليوناردو، اللتان تتبرعان بعشرات الآلاف من الدولارات سنوياً.

وكانت مراكز الأبحاث الخمس التي تلقت أكبر قدر من التمويل من صناعة الأسلحة هي: المجلس الأطلسي بقيمة 2.69 مليون دولار؛ ومركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بقيمة 2.46 مليون دولار؛ مركز الأمن الأميركي الجديد بمبلغ 950 ألف دولار؛ معهد هدسون بنحو 635 ألف دولار؛ ومجلس العلاقات الخارجية بنحو 300 ألف دولار.

لقد قدمت 36 شركة على الأقل من شركات تصنيع الأسلحة التمويل لمراكز الأبحاث الأميركية الكبرى. وكانت أكثر هذه الشركات «سخاءً» شركة نورثروب غرومان، التي قدّمت 1.07 مليون دولار؛ من ثمّ شركة لوكهيد مارتن التي قدمت 838 ألف دولار؛ وشركة جنرال أتوميكس، التي قدمت 510 آلاف دولار؛ وشركة ليوناردو التي قدمت 485 ألف دولار؛ وشركة ميتسوبيشي التي قدمت 443 ألف دولار.

وعندما عُرِضَت هذه النتائج على ناشط السلام ديفيد سوانسون، مؤلف كتاب «الحرب كذبة»، بدا عليه الاشمئزاز ولكنه لم يكن مندهشاً. وصف سوانسون دور مراكز الأبحاث المموّلة من صناعة الأسلحة على النحو التالي:

«يتعيّن عليهم من خلال التكرار اللامتناهي ومن خلال المناقشات التي تظل ضمن معاييرها الغريبة أن يبنوا فكرة مفادها أن الحروب تُكْسَب، وأن الحروب دفاعية، وأن الأسلحة النووية تردع الحروب، وأن الأعداء لا يمكن التحدث إليهم، وأن الإنفاق على الأسلحة هو خدمة عامة ينبغي للدول أن تؤديها إلى أقصى حدّ ممكن ولو على حساب تمويل الاحتياجات الإنسانية».

من يدفع الثمن

ليس من قبيل الصدفة أن المجموعات التي تتلقى معظم أموال صناعة الأسلحة هي موطن لبعض الأصوات الأكثر تشدّداً والمؤيدة للحرب. صناعة الأسلحة، مثل جميع الشركات، لا تتبرّع عن طيب خاطر بل تبحث عن عائد على استثماراتها.

من المؤكد أن مراكز الفكر المؤثرة مثل مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية تقدم للمتبرعين قيمة مقابل أموالهم، وتحرّض باستمرار على المزيد من الإنفاق العسكري والمزيد من الحروب حول العالم، مهما كانت العواقب.

في العام 2022، جادل مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بأن الغزو الروسي لأوكرانيا يشكّل فرصة فريدة «لتحويل» الدفاع الأوروبي و«عقلنته»، أي دفع زيادات ضخمة في الإنفاق العسكري. وحث على ذلك بسرعة، لأن لحظة القيام بذلك قد تكون «قصيرة الأجل»، وأن أوروبا يجب أن «تتجنّب نهجاً مجزأ» لجيشها ويجب ألا «تستمر في الاعتماد على الولايات المتحدة للدفاع عنها». في العام التالي، جادل المركز بأن هدف 2% من الناتج المحلي الإجمالي لدول الناتو للإنفاق على جيوشها كان منخفضاً للغاية. وبدلاً من ذلك، نصحت بمضاعفة الإنفاق العسكري في جميع أنحاء أوروبا إلى 4%. ولم يُذكر أن هذا سيكون نعمة هائلة لمؤيدي شركات الأسلحة.

كما أصرّ مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية على أنه يجب على الدول الأوروبية أن «تتحمّل ثقلها» في الناتو، وتحويل مجتمعاتها إلى مجتمعات عسكرية مثل الولايات المتحدة، من أجل «الديمقراطية العالمية».

مجموعة مثل مؤسسة كارنيغي للسلام تأسّست في العام 1910 كمنظّمة مكرّسة للحدّ من الصراعات العالمية، ترعاها شركات أسلحة تصنع الحروب

وفي الوقت نفسه، طالب إليوت أ. كوهين، رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية أرلي أ. بيرك، في مقال كتبه في مجلة «ذا أتلانتيك»، بتصعيد تورّط الغرب في أوكرانيا. وكتب: «نحن بحاجة إلى رؤية حشود من الروس يفرون، أو ينشقون، أو يطلقون النار على ضباطهم، أو يؤسرون، أو يقتلون. يجب أن تكون الهزيمة الروسية فوضى دموية كبيرة لا لبس فيها»، مضيفاً أنه «لتحقيق هذه الغاية، وبأقصى قدر من الإلحاح، يجب على الغرب أن يقدّم كل ما يمكن لأوكرانيا أن تستخدمه». وقد شمل ذلك صواريخ بعيدة المدى وطائرات مقاتلة من طراز إف-16 وإف-35.

ولكن ما لم يلاحظه كوهين أو أتلانتيك هو أن الأسلحة التي طالب بشرائها وإرسالها إلى أوكرانيا من صنع شركتي جنرال ديناميكس ولوكهيد مارتن، وهما المجموعتان اللتان تموّلان مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بشكل مباشر.

ومن غير المستغرب أن يدعو مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، مثله كمثل المجلس الأطلسي، إلى الاحتفاظ بالأسلحة النووية الأميركية في مختلف أنحاء أوروبا، خشية أن تكون هناك حاجة إلى استخدامها بسرعة.

إن الأصوات الحذرة في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية قليلة ومتباعدة في أحسن الأحوال. والواقع لم تجد دراسة أجرتها مجموعة مراقبة وسائل الإعلام، «الإنصاف والدقة في إعداد التقارير»، على مدى عام كامل من مقالات الرأي والاقتباسات الصادرة عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية والمنشورة في صحيفة «نيويورك تايمز»، أي أمثلة على دعوة المنظمة إلى تقليص أو توخّي الحذر في السياسة العسكرية الأميركية.

ومع ذلك، فإن الأصوات المؤيدة للحرب بلا هوادة لم تقتصر على مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية. والواقع أن كل مركز دراسات يحصل على أموال طائلة من صناعة الأسلحة حافظ على موقف متشدّد بشكل ملحوظ. على سبيل المثال، قام المجلس الأطلسي بمراقبة إنفاق الدول الأوروبية على حلف شمال الأطلسي (الناتو) في محاولة للضغط عليها لشراء المزيد من الأسلحة، ودعا الولايات المتحدة إلى إنشاء «تحالف استخباراتي جديد في منطقة المحيطين الهندي والهادئ» من شأنه أن يزيد من حدة التوترات مع الصين. وفي الوقت نفسه، زعم المجلس أن الاستجابة الخافتة للولايات المتحدة تجاه «للاستفزازات الصينية» أدت إلى تآكل «مصداقيتها» على الساحة العالمية.

وفي حديثه عما حققته مراكز الفكر، قال سوانسون لـ MintPress: «لقد قاموا بتطبيع فكرة قياس الإنفاق الحربي كنسبة مئوية من الاقتصاد. لقد قاموا بتطبيع فكرة وجود حل واحد فقط لجميع المشاكل، حتى المشاكل التي يخلقها هذا الحل الواحد، ألا وهو الحرب. إنهم يقدمون بلا نهاية «تحالف دفاعي لحلف شمال الأطلسي» من دون أن يلاحظ أحد أن حروب حلف شمال الأطلسي كانت كلها عدوانية بشكل صارخ».

الواقع أن الرأي العام الأميركي متشكك عموماً في الحرب. وتُظهِر الاستطلاعات أن ثلثي البلاد يريدون من واشنطن وأوكرانيا أن تنخرطا بشكل مباشر في الدبلوماسية مع روسيا، حتى ولو كان ذلك يعني التنازل عن أراضٍ أوكرانية. وتعارض غالبية الأميركيين إرسال المزيد من القوات الأميركية إلى الشرق الأوسط أيضاً، حتى ولو كان ذلك «للدفاع عن إسرائيل» فقط.

وهم يتمسكون بهذه المواقف على الرغم مما يقال لهم باستمرار في وسائل الإعلام. فقد وجدت دراسة أجراها معهد كوينسي أنه عند مناقشة أوكرانيا، تلقى 85% من جميع مراكز الفكر التي اقتبست عنها وسائل الإعلام الرئيسة مثل نيويورك تايمز وواشنطن بوست وول ستريت جورنال تمويلاً من المجمع الصناعي العسكري. وكان أبرز هذه المؤسسات مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية والمجلس الأطلسي.

كسب المال من القتل

ولكن الحرب كانت أيضاً بمثابة خبر ممتاز لمقاولي الأسلحة. في السنوات الخمس الماضية، قفز سعر سهم جنرال ديناميكس بنسبة 103%، ولوكهيد مارتن بنسبة 107%، و نورثروب غرومان بنسبة 110%. لقد شهد مساهمو صناعة الأسلحة عوائد ضخمة على الاستثمار، وذلك بفضل تصرفات دولة مدمنة على الصراع. انخرطت الولايات المتحدة في الحرب لمدة 231 عاماً من أصل 248 عاماً من عمرها كدولة مستقلة. وفقاً لتقرير صادر عن دائرة أبحاث الكونغرس، وهي مؤسسة حكومية أميركية، شنّت الولايات المتحدة الأميركية 469 تدخلاً عسكرياً أجنبياً بين عامي 1798 و2022، و251 منذ العام 1991 وحده. وقد شمل ذلك العمليات الخاصة والاغتيالات المستهدفة لقادة أجانب والانقلابات العسكرية والغزوات والاحتلالات الصريحة لدول أخرى.

إن أكثر من نصف الإنفاق الفيدرالي التقديري يذهب إلى المؤسّسة العسكرية، التي تقترب ميزانيتها من تريليون دولار سنوياً. وينافس الإنفاق العسكري الأميركي إنفاق جميع الدول الأخرى مجتمعة. كما تحتفظ الولايات المتحدة بشبكة تضم نحو ألف قاعدة حول العالم، بما في ذلك ما يقرب من 400 قاعدة في حلقة تحيط بالصين.

وهذا يغذي شهية مصنّعي الأسلحة التي لا تشبع، والذين لديهم بالتالي المزيد من المال لإنفاقه على شراء النفوذ والضغط على الحكومة من أجل المزيد من الحرب والسياسات العدائية التي تعود بالنفع عليهم. وجزء من استراتيجيتهم هو تمويل مراكز الفكر في واشنطن العاصمة. وبالنسبة إلى أمثال لوكهيد مارتن ورايثيون، فإن هذا أمر بديهي، وهو استثمار تجاري ذكي. إن إنفاق بضع مئات الآلاف من الدولارات سنوياً على تمويل مراكز الفكر مثل مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، أو مركز الأمن القومي الأميركي، أو المجلس الأطلسي يترجم إلى مليارات الدولارات من الطلبات الإضافية على الدبابات والسفن والطائرات.

وبحلول العام 2016، كانت الولايات المتحدة تقصف 7 دول في وقت واحد. ومع ذلك، فإن العسكرة والخطر على الكوكب لم يزداد إلا منذ ذلك الحين. تستعد الولايات المتحدة حالياً لخوض حربين محتملتين ضد روسيا والصين - اثنتان من أكبر الدول لناحية عدد السكان على كوكب الأرض، وكل منهما تمتلك مخزونات ضخمة من الأسلحة النووية. والحرب مع أي منهما من شأنها أن تؤدي إلى كارثة. ولكن كل هذا يشكل نبأً عظيماً بالنسبة إلى المجمع الصناعي العسكري، الذي يجني أرباحاً طائلة. ولهذا السبب من الضروري أن يتوقف هذا؛ فهو في واقع الأمر قضية حياة أو موت بالنسبة لنا جميعاً.

نُشِر هذا المقال في Mint Press في 18 أيلول/سبتمبر بموجب رخصة المشاع الإبداعي.